إرادة التغيير

إنَّه لمما توصف به الفاعلية الفلسفية أحيانًا، هو أنها محاولات لتوضيح المفاهيم التي تقع عند الناس بين الجهل التام والعلم التام، بمعنى أنها مفاهيم يتداولها الناس وهم على بعض العلم بها، فلا هم يجهلونها كل الجهل ولا هم يعلمونها كل العلم، فتتناولها الفلسفة بالتحليل والتوضيح لعلها تبلغ من معانيها مبلغ التحديد الدقيق الحاسم، فهذه المفاهيم التي تقع عند الناس وسطًا بين الغموض والوضوح، هي أشبه شيء بمدينة تراها على مبعدة فترى بروزًا ممتدًّا في الأفق، تتبين معالمه الرئيسية من بناء مرتفع هناك ودخان متصاعد هنا، فتكون مما تراه على يقين أنك تقترب من مدينة، أما تفصيلاتها فلست منها على هذه الدرجة من اليقين، لكنك كلما دنوت منها ازدَدْتَ إلمامًا بتلك التفصيلات، فما قد كان يبدو لك من بعيد بقعة كبيرة بيضاء، قد أخذ الآن يتبين في شيء من الوضوح أنه عمارة سكنية ارتفاعها عشرون طابقًا، وتلك التي بدت لك من بعيد لمعة ضوئية ساطعة، قد ظهر لك الآن أنها سطح من زجاج يغطي مصنعًا ضخمًا.

وهكذا قُلْ في كثير جدًّا من المفاهيم التي نتداولها في مجرى حياتنا الفكرية، بل وفي مجرى حياتنا العملية، والتي نشعر أن الحياة — فكرية أو عملية — متعذرة بدونها، ومع ذلك فعلمنا بها لا يكاد يتعدَّى علمنا بأن في الأفق البعيد مدينة كبيرة، وها هنا يكون عمل الفلسفة أن تدنو بنا من تلك المفاهيم لنراها في تفصيلاتها ودقائقها، وكثيرًا ما تأخذنا الدهشة أن نرى من تلك التفصيلات والدقائق ما لم نتوقعه ولم يخطر لنا ببال، وعندئذٍ قد يحدث لمن أخذته الدهشة أن يثور في وجه من أخذ بيده وأطلعه على دقائق ما كان يتصوره في غموض وإبهام، متهمًا إياه بأنه يُعقِّد البسيط، ويُصعِّب السهل، ويُغمِض الواضح، والأمر في هذا شبيه بنا حين نستخدم الورقة والقلم والمنضدة والمقعد في بساطة تُخيِّل إلينا أن هذه أشياء أولية لا تحتاج إلى تحليل، حتى إذا ما جاء عالم الفيزياء ينبئنا أنها في الحقيقة أشياء مركبة معقدة تَنحَلُّ آخر الأمر إلى عناصر قوامها ذرات مؤلفة من كهارب موجبة وكهارب سالبة وكهارب محايدة، إلى آخر هذه القصة التي ترويها الطبيعة النووية؛ أخذتنا الدهشة، لكن العجب هنا هو أن الدهشة لا تنتهي بأصحابها إلى اتهام علماء الطبيعة بأنهم يعقدون البسيط ويصعبون السهل ويغمضون الواضح، بل ترى هؤلاء ينصتون في إعجاب، يريدون أن يعلموا ما لم يكونوا يعلمونه، على خلاف موقفهم في الحالة الأولى، حين جاءهم الفيلسوف بتحليل يفكك لهم أوصال المفاهيم التي يتداولونها، فثاروا في وجهه كأنهم كانوا يجدون النعمة في الفهم المبهم، ويخشون أن يفسد تحليل الفلاسفة عليهم ما كانوا به ينعمون.

ولعل السر في اختلاف الموقفين: موقف الناس بإزاء التحليل الطبيعي الذي يفكك الأشياء المادية إلى عناصرها الأولية، وموقفهم بإزاء التحليل الفلسفي الذي يفكك الأفكار العقلية إلى مقوماتها البسيطة: هو أن النوع الأول من التحليل لا يمس نفوسهم، وإنما يَنصَبُّ على أشياء لا تمت لأنفسهم بصلة إلا صلة الأداة الجامدة بمن يستخدمها، وأما النوع الثاني من التحليل فهو في الأعم الأغلب يَنصَبُّ على جوانب من صميم النفس الإنسانية وقيمها: العقل والروح والذكاء والتفكير والإرادة والعاطفة والانفعال والخير والشر والجمال والقبح والحق والباطل، إلى آخر هذه القائمة الطويلة من التصورات التي يستحيل عليك أن تجد إنسانًا واحدًا يجهلها كل الجهل، بدليل أنه ما من إنسان تكاملت له قدراته إلا وتصبح هذه التصورات جزءًا من اللغة المتداولة المشتركة التي ترد في حديثه دون أن يقف عندها متسائلًا: ماذا تعني؟ إلا أن يكون فيلسوفًا أو سائرًا في طريق الفكر الفلسفي.

و«إرادة التغيير» كلمتان صيغتا على صورة المضاف والمضاف إليه، تمامًا كما نقول «قراءة الكتب» و«كتابة الخطابات» و«رؤية الشمس»، وهما كلمتان قد أصبحتا مما نتداوله في الحديث، لا غناء لنا عنهما؛ لأنهما معًا تكونان أحد المبادئ التي نستهديها في بناء حياتنا الجديدة، وهما — سواء أخذناهما مفردتين أو موصولتين في عبارة واحدة — من ذلك الضرب من المعاني التي أشرنا إليها؛ أعني ذلك الضرب من المفاهيم التي يكون الناس منها على درجة وسطى بين الجهل والعلم، ومن ذا لا يستخدم كلمة «إرادة» وكلمة «تغيير» في حديثه الجاري، وهو على بعض العلم بما تعني هذه الكلمة أو تلك؟ ليس من الناس من يجهلها كل الجهل، ولكننا نزعم أيضًا أن قليلًا جدًّا من الناس هم الذين يعلمونهما كل العلم.

فماذا نعني بالإرادة؟ إنني لا أنوي أن أسوح بالقارئ في متاهات المذاهب المختلفة، وأوثر أن أعرض الأمر من وجهة النظر التي أراني أميل إلى قبولها، فأنا أحد الذين يؤمنون ببطلان نظرية «المَلَكات» التي كان أصحابها يظنون أن داخل الإنسان «قوًى» لكلِّ قوة منها كيان مستقل قائم بذاته، فهذا «عقل» وتلك «نفس»، وهذا «ذكاء» وتلك «إرادة» كأنما هي جمهرة من الأشباح ازدحمت في جوف الإنسان، لكل شبح منها عمله الذي يؤديه، وحتى إذا مرت به ساعة لا يؤدي خلالها ذلك العمل، فهو ما يزال هناك مستريحًا أو معطلًا، ينتظر اللحظة التي ينشط فيها لأداء عمله. كلا، لست من هؤلاء الذين يتصورون قوى الإنسان أشباحًا قائمة بذواتها داخل الإنسان، تؤدي عملها حينًا ولا تؤديه حينًا آخر، إذ إنني ممن يأخذون في فهم الإنسان بالنظرة «السلوكية» التي تترجم أمثال هذه التصورات (عقل، نفس، ذكاء، إرادة … إلخ) إلى نوع السلوك الذي يسلكه البدن في مواقف الحياة المنظورة المشهودة، وبهذا يكون «العقل» نمطًا معينًا من السلوك يسلكه الإنسان في مواقف بذاتها، وتكون «الإرادة» نمطًا معينًا آخر من السلوك، وهلمَّ جرًّا، فلو سألتني: ما العقل؟ أخذتك من يدك إلى إنسان يحاول أن يلتمس الطريق إلى هدف — كائنًا ما كان الهدف، وكائنًا ما كان الطريق — وقلت لك: هذا الذي تراه من محاولة للوصول إلى هدف، هو مثل من الأمثلة الكثيرة التي جاءت كلمة «عقل» لتضمها جميعًا في حزمة واحدة. نعم إن أهداف الناس كثيرة ومنوعة بتنوع الأفراد والمواقف والظروف، وبالتالي فإن المحاولات لتحقيقها تختلف باختلاف تلك الأهداف، فالذي هدفه أن يشكل قطعة الحديد على صورة المفتاح، لا تجيء محاولته شبيهة بمحاولة الذي هدفه أن ينسج من القطن قماشًا، أو شبيهة بمحاولة الذي هدفه أن يقسم تركة بين الوارثين ليعطي كلًّا ما يستحقه منها، لكن هذه كلها أمثلة تجسد ما نعنيه بالعقل؛ لأنها أمثلة لمحاولات يقوم بها أصحابها بغية الوصول إلى هدف مقصود، وبهذا نفهم «العقل» من زاوية السلوك المرئي المشهود وبهذا أيضًا نفهم الصلة الوثيقة بين «الفكر» و«العمل»، فليس فكرًا ما ليس يتجسد في عمل، وليس عملًا موفقًا مسددًا نحو غاية ما ليس يسير على فكرة مرسومة.

وهكذا قُلْ في «الإرادة»، فإذا سألتني ما «الإرادة»؟ أخذتك من يدك إلى إنسان استهدف هدفًا، فلما سار إلى تحقيقه صادفَتْه في الطريق معوقات، فراح يُزيلها ليستأنف السير، إنه لا انفصال بين «الإرادة» و«العمل» حتى ليصبح من اللغو أن تقول عن إنسان إن له «إرادة» لكنها لا تجد العمل الذي تؤديه، وإلا كنت كمن يقول إنه يأكل ولا طعام، أو يشرب ولا ماء! الإرادة هي نفسها العمل الذي يحقق الهدف ويزيل ما قد يحول دون تحقيقه، شريطة أن يكون الهدف هو هدفك أنت، وإلا كنتَ آلةً مُسخَّرةً في يد صاحب الهدف، إنك في العمل الإرادي أنت الآمر وأنت المأمور، بل إنه لتشبيه مضلل أن نجعل منك آمرًا ومأمورًا، كما لو كنت جانبين أحدهما في الداخل — وهو ما يسمى بالإرادة — والآخر في الخارج — وهو ما يوصف بأنه تنفيذ للإرادة — والصواب هو أنك وأنت تعمل العمل الذي تسعى به إلى تحقيق أهدافك فأنت عندئذٍ بجميع سلوكك تجسيد للإرادة وتنفيذها.

ولعلك قد لحظت فيما أسلفناه لك عن «العقل» من أنه هو السلوك الذي يبدأ بفكرة عما نريد تحقيقه وينتهي بتحقيق تلك الفكرة بحيث تصبح كيانًا مجسدًا، وفيما أسلفناه لك عن «الإرادة» من أنها هي كذلك السلوك الذي يبدأ بالصورة الذهنية التي يراد إخراجها وينتهي بتحقيقها بحيث تصبح كيانًا مجسدًا، أقول لعلك قد لحظت في هذا القول عن العقل وعن الإرادة أن كليهما واحد، ففي كلتا الحالتين فكرة وتنفيذها في عملية واحدة متصلة أولها رؤية للهدف قبل وقوعه وآخرها وصول لذلك الهدف بعد أن صيرناه كائنًا قائمًا بين الكائنات.

وهكذا الحياة الإنسانية وحدة عضوية قوامها فعل وحركة، لا فرق في ذلك بين تفكير العقل وإرادته.

إنك إذ تنظر إلى الإنسان وهو ينشط بأي ضرب من ضروب النشاط: إذ تنظر إليه وهو يكتب خطابًا، أو يقرأ كتابًا أو يأكل طعامه، أو يلعب الكرة أو الشطرنج، إذ تنظر إليه وهو يقيم الجدران ويرصف الطرق ويبيع ويشتري ويتكلم ويسمع، إذ تنظر إليه وهو يمشي ويجري ويقف ويجلس ويضحك ويبكي، لا يخطر ببالك أبدًا أنك إزاء شطرين في كل عمل من هذه الأعمال التي تنظر إليها، فتقول لنفسك: هذا شطر «الإرادة» وهذا شطر «تنفيذها»؛ لأنَّك تعلم من خبراتك مع نفسك أن الإرادة هي تنفيذها، وأن الإنسان هو الكل العضوي الواحد الذي ينشط بهذا العمل أو ذاك.

وإذا كانت الإرادة هي نفسها الفعل، فقد أصبح واضحًا أن قولك «إرادة الفعل» لا يزيد شيئًا عن قولك «الإرادة» لأن هذه لا تكون بغير فعل، كما لا يكون الوالد والدًا بغير ولد: ولا يكون اليمين بغير اليسار، ولا يكون البعيد بغير القريب، ولا الأعلى بغير الأدنى … كل هذه متضايقات لا يتم المعنى لأحدها بغير أن تضاف إلى شقها الآخر.

ونخطو خطوة أخرى، فنقول إنه إذا كان لا إرادة بغير فعل، فكذلك لا فعل بدون تغيير، وسواء كان التغيير الحادث ضئيلًا أو جسيمًا فهو تغيير، إنك لا تفعل الفعل في خلاء، بل تفعل الفعل — أي فعل كان — لتحرك به شيئًا فيتغير مكانه ليتغير أداؤه وتتغير صلاته بالأشياء الأخرى: كان الحجر على الجبل فأصبح هناك جزءًا من الجدار، وكان الماء هنا في النهر فأصبح هناك في أنابيب المنازل، كان المداد هنا في الزجاجة، فأصبح في جوف القلم، ثم انتثر على الورق كتابة يقرؤها قارئ إذا وقع عليها بصره، وكانت الأرض يبابًا فزرعت، وكان الحديد خامة من خامات الأرض فصنع قضبانًا … كل إرادة فعل وكل فعل حركة وتغيير.

فقولنا «إرادة التغيير» لا يضيف شيئًا إلى شيء، بل هو قول يوضح معنى الإرادة بإبراز عنصر من عناصرها، وكان يكفي أن تقول عن الإنسان إنه إنسان حي لنفهم من ذلك أنه ذو وحدة عضوية هادفة، وأنه في سيره نحو أهدافه كائن عاقل مريد، وأنه في إرادته فاعل، وأنه في فعله متحرك ومحرك، ومتغير ومغير.

وتسألني: هل تريد أن الإرادة هذه هي حالها دائمًا وتلك هي خصائصها، فلا فرق بين حالة تكون فيها مقيدة وحالة أخرى تكون فيها حرة؟ وأجيبك فأقول إنني أخشى أن يوقعنا وضع المشكلة على هذه الصورة التقليدية القديمة في لجاجة لفظية لا تنفع أحدًا ولا تشفع لأحد، فلكم بحث الباحثون وكتب الكاتبون جوابًا عن السؤال القائل: هل الإرادة حرة أو مقيدة؟ ومتى تكون الإرادة حرة ومتى تكون مقيدة؟ ولذلك فإنني أفضل النظر إلى المشكلة من زاوية الأهداف وتحقيقها لعلها تكون نظرة أجدى؛ فنقول إن الأصل في الإنسان — كما أسلفنا لك القول — هو أن يكون كائنًا عضويًّا هادفًا بجميعه في فعل وحركة، لكن قد ينحرف الأمر إلى أحد احتمالين آخرين، أولهما أن ينشط الكائن العضوي لغير ما هدف، فيخبط في الأرض خبط الأعمى، وعندئذٍ لا إرادة لأنه لا هدف، وعندئذٍ أيضًا ينتفي سؤالنا هل الإرادة حرة أو مقيدة لأنها ليست هناك، والاحتمال الثاني هو أن ينشط الكائن العضوي لهدف استهدفه سواه، وهنا أيضًا لا إرادة؛ لأن الإرادة هنا هي إرادة من استهدف الهدف، فلا إرادة للعبد الرقيق حين ينفذ لمولاه ما يريد، ولا إرادة للبلد المستعمَر (بفتح الميم) إذا أملى عليه المستعمِر (بكسر الميم) ما يفعله وما لا يفعله، فلا إرادة إلا في حالة واحدة، هي أن يكون النشاط مرهونًا بهدف وضعه الناشط لنفسه، أو وافق عليه، وفي هذه الحالة الطبيعية السوية يمتنع السؤال هل الإرادة عندئذٍ حرة أو مقيدة، وإذا فليس التعارض الحقيقي هو بين الحرية والقيد، بل التعارض الحقيقي هو في أن يكون ثمة إرادة أو لا يكون، وهي لا تكون إذا لم يكن هدف أو إذا كان هنالك الهدف لكنه هدف يستهدفه غير القائم بالعمل.

على أن نقطة هنا لا بُدَّ من توضيحها، وهي حين لا يكون الهدف مقصورًا على فرد واحد، إذ قد تشترك جماعة بأسرها في هدف معين، تسعى إليه بكل أفرادها، حتى إن تنوعت الوسائل التي يتخذها كل فرد على حدة، فها هنا تكون الإرادة مكفولة كما لو كانت إرادة فرد واحد، وهذا يذكرنا بالإشكال الذي يتعرض له مؤرخو الفلسفة بالنسبة إلى مذهب إسبينوزا الذي يجعل الوجود كلًّا واحدًا يسير نفسه بنفسه، بحيث لا يملك أي جزء على حدة إلا أن يسير مع الكل في مساره المرسوم، فهنا ينشأ السؤال: أيكون الإنسان في هذا المجموع المتكامل حرًّا أم يكون مجبرًا على السير مع سواه في الخط المرسوم؟ والجواب الأصوب هو أنه حر ما دام جزءًا في الكل الذي رسم الطريق لنفسه بنفسه … وهكذا نقول بالنسبة للفرد الواحد في مجتمع وضع لنفسه بنفسه خطة للعمل تحقيقًا لأهداف محددة، فما دام الهدف قائمًا، وما دام الهدف من وضعه هو — مشتركًا فيه مع غيره — فهو في سعيه نحو الهدف كائن مريد.

إن من أهم ما نريد أن نقرره هنا — تمهيدًا للنتائج التي سنستخرجها في الفقرة التالية من المقال، هو العلاقة بين الفرد والمجموع، تلك العلاقة التي تضمن للفرد حريته، وفي الوقت نفسه تضمن مشاركته للمجموع في رسم الأهداف، فما أكثر ما قاله القائلون بوجود التعارض بين أن يكون الفرد منخرطًا في جهد جماعي يساير فيه مواطنيه، وأن يكون — مع ذلك — حرًّا في التماس الطريق الذي يراه ملائمًا له، والأمثلة كثيرة جدًّا على ألا تعارض بين الجانبين، إذا نحن فرقنا بين شيئين: الإطار الذي يحدد قواعد السير، ثم خطوات السير في حدود ذلك الإطار، فهنالك قواعد مشتركة بين لاعبي الكرة أو لاعبي الشطرنج، لا يسمح لأحد اللاعبين بالخروج عليها، ومع ذلك فلكلِّ لاعبٍ كامل الحرية في أن يحرك الكرة أو قطعة الشطرنج حيث أراد في حدود قواعد اللعب — خذ مثلًا آخر: قواعد اللغة يلتزم بها كل كاتب بها أو قارئ لها، فليس من حق الكاتب العربي أن ينصب فاعلًا أو أن يرفع مفعولًا به، لكن هل يعني هذا حرمان الكاتب من حريته فيما يكتبه وفق تلك القواعد؟ إن لكلِّ كاتب موضوعاته التي يعرضها، وأسلوبه الذي يعبر به عن نفسه، على أن يتم ذلك كله في حدود المبادئ المشتركة … لا، بل إن كل عبارة يخطها الكاتب إنما يلتزم فيها بمبادئ كثيرة، دون أن يحد ذلك من حريته في اختيار مادتها وطريقة صياغتها، ففضلًا عن قواعد اللغة نحوًا وصرفًا، هنالك مبادئ المنطق يلتزمها بحكم طبيعته نفسها، فهو لا يجيز لنفسه — مثلًا — أن يقول إنه إذا أراد مسافر قطع المسافة التي طولها مائتا كيلو متر في ساعتين، فيكفيه قطار يسير بسرعة عشرين كيلومترًا في الساعة، أو أن يقول إنه إذا أرادت البلاد تنفيذ خطة صناعية تكلفها مائتي مليون من الجنيهات، فيكفيها أن تجمع من المواطنين خمسين مليونًا — الكاتب حر فيما يقول، ما دام قوله ملتزمًا لطائفة من مبادئ اللغة والفكر، وهكذا قل في المواطن الفرد بالنسبة للمبادئ والأهداف التي وضعها المجموع، وكان هو أحد أفراد ذلك المجموع، فهو حر في طريقة سيره وأسلوب حياته، على أن تجيء مناشطه ملتزمة للمبادئ المقررة.

فرغنا حتى الآن من فكرتين: الأولى هي أن الإرادة هي نفسها العمل الذي يحقق الهدف المنشود، وأنه حيث لا عمل فلا إرادة، وأن كل عمل إنما هو تغيير لأوضاع الأشياء، وإذن فنحن إذا قررنا لشخص أو لجماعة «إرادة» فقد قررنا بالتالي أن هذا الشخص أو هذه الجماعة تعمل عملًا تغير به من أوضاع الحياة قليلًا أو كثيرًا، والثانية هي أنه لا تعارض بين حرية الفرد الواحد في طريقة حياته، وبين أن يكون ملتزمًا بالأهداف والمبادئ والقواعد التي أقامها المجتمع الذي هو أحد أفراده.

وبقي لنا أن نستنتج النتائج من هذه المقدمات: إنه إذا كانت كل إرادة هي إرادة تغيير، إذن فليس السؤال هو: هل الإرادة التي أطلقت للشعب يوم انتصاره هي إرادة تغيير أو إرادة شيء آخر، بل السؤال هو: ما دامت الإرادة التي أطلقت للشعب يوم انتصاره هي بالضرورة إرادة عمل وتغيير (لأن هذا هو معنى الإرادة كما قدمنا) فما الذي نغيره؟ وما الهدف الذي من أجل تحقيقه نغير ما نغيره؟

إن القائمة لتطول بنا ألف ألف فرسخ، إذا نحن أخذنا نعد التفصيلات الجزئية التي يراد تغييرها، كأن نحصر الأفراد الذين يراد لهم أن يصحوا بعد مرض، وأن يعلموا بعد جهل، وأن يطعموا بعد جوع، وأن يكتسوا بعد عري، وكأن نحصر الطرق التي يراد لها أن ترصف، والحشرات التي لا بُدَّ لها أن تباد، والأرض التي لا بُدَّ أن تزرع والمصانع التي لا بُدَّ أن تقام … تلك تفصيلات جزئية تعد بألوف الألوف، لكنها تندرج كلها تحت مبادئ محدودة العدد، ثم تندرج هذه المبادئ بدورها تحت ما يُسمى بالقيم أو المعايير التي عليها يقاس ما نريده وما لا نريده لحياتنا الجديدة، فإذا أنت غيرت ما لدى القوم من معايير وقيم، تغير لهم بالتالي وجه الحياة بأسرها.

ولا تكون إرادة التغيير قد نالت من حياتنا قيد أنملة إذا نحن لم نوحد في أذهاننا توحيدًا تامًّا بين العام والخاص، فتلك من أولى القيم التي لا بُدَّ من بثها في النفوس وترسيخها في الأذهان، فنحن بما ورثناه من تقليد اجتماعي أحرص ما نكون على الملك الخاص، وأشد ما نكون إهمالًا للملك العام، فالفرق في أنظارنا بعيد بين العناية الواجبة بالابن والعناية الواجبة بالمواطن البعيد، بين العناية بتنظيف الدار من داخل والعناية بتنظيف الطريق، الفرق في أنظارنا بعيد بين المال نملكه والمال تملكه الدولة للجميع، بين العيادة الخاصة يديرها الطبيب الذي يستغلها والمستشفى العام يديره الطبيب نفسه ولكنه يديره باسم الدولة، الفرق في أنظارنا بعيد بين معنى «أنا» و«نحن» وبين «هو» و«هم»، فما زال الذي يشغلنا هو هذه الأنا والنحن اللتان لا تعنيان أكثر من الأسرة وحدودها، وأما هو وهم اللتان تمتدان لتشملا أبناء الوطن جميعًا فما تزالان في أوهامنا تدلان على ما يشبه الأشباح التي لايؤذيها التجويع والتعذيب.

ولا تكون إرادة التغيير قد نالت من حياتنا قيد أنملة إذا نحن لم نغير من معاني «الجاه»، فلمن تكون الصدارة في المجتمع: المكدود المنهوك بالعمل أم صاحب البطالة والفراغ؟ فنحن بما ورثناه من تقليد اجتماعي نرفع من شأن من استطاع العيش الرغد بالعمل القليل، ونخفض من شأن من اضطره أكل الخبز إلى العمل المجهد الشاق، حتى لتخلع على أي رجل شئت منصبًا رفيعًا، فيقترن في ذهنه المنصب الرفيع بكثرة المعاونين والمرءوسين والحجاب … وانظر مليًّا في كلمة «حاجب» لتعلم أن صاحب السلطان بحكم التقليد الاجتماعي يحتاج إلى من يحجبه عن الناس أو يحجب الناس عنه، ولا فرق في الجوهر بين تقليد يرفع الإقطاعي على رءوس أرقاء الأرض، هؤلاء يفلحون الأرض ويحملون الأثقال ويرعون الماشية، وذلك في حصنه المنيع محتجب عن الأنظار لا يدري الناس ماذا يعمل وكيف يعمل، لا فرق بين هذا وبين صاحب المنصب الكبير الذي يقيم الحجاب بينه وبين الناس.

ولا تكون إرادة التغيير قد نالت من حياتنا قيد أنملة إذا لم ننقل مواضع الزهو، فبدل أن يزهى المرء بنفسه لأنه ليس مضطرًّا للخضوع للقانون كما يخضع له عامة السواد، يزهى المرء بنفسه بقدر ما هو خاضع لقانون الدولة سواء جاء خضوعه هذا علانية أمام الملأ أو سرًّا في الخفاء، فنحن بحكم التقليد الاجتماعي الذي ورثناه ما نزال نعلي من مكانة الذين لا تسري عليهم القوانين سريانها على الجماهير، فإذا قيل — مثلًا — يكون اللحم بمقدار أو يكون السكر والزيت بمقدار، رأيت صاحب المكانة الاجتماعية قد ملأ داره ودور أقربائه وأصدقائه لحمًا وسكرًا وزيتًا؛ لأنه لا يكون صاحب جاه — بحكم التقليد — إلا إذا كان في وسعه الإفلات من حكم القانون.

الإرادة هي نفسها إرادة التغيير، ولا يكون التغيير لمجرد تبديل وضع بوضع بغير قيود ولا شروط، بل يكون تبديل وضع أدنى بوضع أعلى، ومقياس التفاوت في العلو، إنما يقاس بعدد المواطنين الذين ينتفعون بالوضع الجديد، «إن السؤال الذي طرح نفسه تلقائيًّا غداة النصر العظيم في السويس هو: لمن هذه الإرادة الحرة التي استخلصها الشعب المصري من قلب المعركة الرهيبة؟ وكان الرد التاريخي الذي لا رد غيره هو: إن هذه الإرادة لا يمكن أن تكون لغير الشعب، ولا يمكن أن تعمل لغير تحقيق أهدافه.»

المهم في إرادة التغيير أن نعرف ماذا نغير من حياتنا وكيف نغيره، والذي نريد له أن يتغير هو القيم التي نقيس بها أوجه الحياة، وكيفية تغييرها هي أن نختار لكلِّ موقف معيارًا من شأنه أن يتحقق أكبر نفع وقوة وكرامة واستنارة وأمن لأكبر عدد من أبناء الشعب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤