العجوزان (٢)

قال محدثي: ولما قلت لهما: أيها العجوزان، أريد أن أسافر إلى سنة ١٨٩٥ نظر إلي العجوز الظريف «ن»، وقال: يا بني، أحسب رؤيتك إياي قد دنت بك من الآخرة … فتريد أن نلوذ بأخبار شبابنا؛ لتنظر إلينا وفينا روح الدنيا.

قال الأستاذ «م»: وكيف لا تريه الآخرة وأكثرك الآن في «المجهول»؟

قال: ويحك يا «م»! لا تزال على وجهك مسحة من الشيطان هنا وهنا؛ كأن الشيطان هو الذي يصلح في داخلك ما اختل من قوانين الطبيعة، فلا تستبينُ فيك السنُّ وقد نيَّفت١ على السبعين، وما أحسب الشيطان في تنظيفك إلا كالذي يكنس بيته …

قال «م»: فأنت أيها العجوز الصالح بيت قد تركه الشيطان وعلَّق عليه كلمة «للإيجار» … فضحك «ن»، وقال: تالله إن الهرم لهو إعادة درس الدنيا، وفهمها مرة أخرى فهمًا لا خطأ فيه؛ إذ ينظر الشيخ بالعين الطاهرة، ويسمع بالأذن الطاهرة، ويلمس باليد الطاهرة … وتالله إن الشيطان لا معنى له إلا أنه وقاحة الأعصاب.

قال «م»: فأنت أيها العجوز الصالح إنما أصبحتَ بلا شيطان؛ لأن الهرم قد أدَّب أعصابك …

قال العجوز الظريف: وعند مَن غيرنا — نحن الشيوخ — تُطاع الأوامر والنواهي الأدبية حقَّ طاعتها؟ عند من غير الشيوخ تُقدَّس مثل هذه الحكم العالية: لا تعتدِ على أحد … لا تُفسد امرأة على زوجها …

•••

قال المحدث: وضحكنا جميعًا، وكان العجوز «ن» من الآيات في الظرف والنكتة، فقال: تظنني يا بني في السبعين؟ فوالله ما أنا بجملتي في السبعين، والله والله.

قال «م»: لقد أُهتر الشيخ يا بني؛ فإن هذا من خَرفه فلا تصدِّقْه.

قال «ن»: والله ما خَرِفتُ وما قلت إلا حقًّا، فها هنا ما عمره خمس سنوات فقط، وهو أسناني …

قلت: «ورينا وريت» وسنة ١٨٩٥؟

قال الأستاذ «م»: أنت يا بني من المجددين، فما هواك في القديم وما شأنك به؟

وما كاد العجوز «ن» يسمع هذا حتى طَرَف بعينيه وحدَّد بصره إليَّ وقال: أئنك لأنت هو؟ لَعَمري إن في عينيك لضجيجًا وكذبًا وجدالًا واختيالًا وزعمًا ودعوى وكفرًا وإلحادًا؛ ولعمري …

فقطعت عليه وقلت: «لَعَمرُك إنهم لفي سكرتهم يعمهون»، لقد وقع التجديد في كل شيء إلا في الشيوخ أجسامًا والشيوخ عقولًا؛ فهؤلاء وهؤلاء عند النهاية، وغير مستنكر من ضعفهم أن يَدِينوا بالماضي، فإن حياتهم لا تلمس الحاضر إلا بضعف!

قال العجوز: رحم الله الشيخ «ع»؛ كان هذا يا بني رجلًا ينسخ للعلماء في زمننا القديم، وكان يأخذ عشرة قروش أجرًا على الكراسة٢ الواحدة، وهو رديء الخط، فإذا ورَّق لأديب، ولم يُعجِبه خطه فكلَّمه في ذلك تعلق الشيخ به وطالبه بعشرين قرشًا عن الكراسة؛ منها عشرة للكتابة، وعشرة غرامة لإهانة الكتابة …

نعم يا بني، إن للماضي في قلوبنا مواقع ينزل فيها فيتمكَّن، ولكن قاعدة «اثنان واثنان أربعة»، لا تُعدُّ في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، والحقيقة بنفسها لا باسمها؛ وليست تحتاج النار إلى ثوب المرأة إلا في رأي المغفل.

قال الأستاذ «م»: وكيف ذلك؟

قال العجوز: زعموا أن مُغفَّلًا كان يرى امرأته تُضرِم الحطب فتنفخ فيه حتى يشتعل، فاحتاج يومًا في بعض شأنه إلى نار، ولم تكن امرأته في دارها فجاء بالحطب وأضرم فيه وجعل ينفخ، وكان الحطب رَطْبًا فدخَّن ولم يشتعل، ففكَّر المغفل قليلًا ثم ذهب فلبس ثوب امرأته وعاد إلى النار، وكان الحطب قد جفَّ فلم يكد ينفخ حتى اشتعل وتضرم؛ فأيقن المغفل أن النار تخاف امرأته … وأنها لا تتضرم إلا إذا رأت ثوبها!

•••

قال الأستاذ «م»: إن الكلام في القديم والجديد أصبح عندنا كفنون الحرب تُبدع ما تُبدع لتغيير ما لا يتغيَّر في ذات نفسه، وعلى ما بلغت وسائل الموت في القديم والجديد فإنها لم تستطع أن تُميت أحدًا مرتين.

لقد قرأت يا بني كثيرًا فلم أرَ إلى الآن من آثار المجددين عندنا شيئًا ذا قيمة؛ ما كان من هُراء وتقليد فهو من عندهم، وما كان جيدًا فهو كالنفائس في مِلك اللص: لها اعتباران، إن كان أحدهما عند مقتنيها … فالآخر عند القاضي.

كلَّا أيها اللص، لن تُسمَّى مالكًا بهذا الأسلوب؛ إنما هي كلمة تسخر بها من الناس ومن الحق ومن نفسك.

يقولون: العلم والفن والغريزة والشهوة والعاطفة والمرأة وحرية الفكر واستقلال الرأي ونبذ التقاليد وكسر القيود، إلى آخره وإلى آخرها … فهذا كله حسن مقبول سائغ٣ في الورق إن كان في مقالة أو قصة، وهو سائغ كذلك حين ينحصر في حدوده التي تصلح له من ثياب الممثلين أو من بعض النفوس التي يُمثِّل بها القدَرُ فصوله الساخرة أو فصوله المُبكِية، ولكنهم حين يُخرجون هذا كله للحياة على أنه من قوته الموجبة، تردُّه الحياة عليهم بالقوة السالبة؛ إذ لا تزال تخلق خلقها وتعمل أعمالها بهم وبغيرهم، وإذا كان في الإنسانية هذا القانون الذي يجعل الفكر المريض حين يهدم من صاحبه — يهدم في الكون بصاحبه؛ ففيها أيضًا القانون الآخر الذي يجعل الفكر الصحيح السامي حين يبني من أهله — يبنى في الكون بأهله.

•••

قال العجوز «ن»: زعموا أن أحد سِلْكَي الكهرباء كان فيلسوفًا مجددًا، فقال للآخر: ما أراك إلا رجعيًا؛ إذ كنتَ لا تتبعني أبدًا ولا تتصل بي ولا تجري في طريقتي؛ ولن تفلح٤ أبدًا إلا أن تأخذ مأخذي وتترك مذهبك إلى مذهبي. فقال له صاحبه: أيها الفيلسوف العظيم، لو أني اتبعتك لبطلنا معًا فما أذهب فيك ولا تذهب فيَّ؛ وما علمتُك تشتمني في رأيك إلا بما تمدحني به في رأيي.

قال العجوز: وهذا هو جوابنا إذا كنا رجعيين عندهم من أجل الدين أو الفضيلة أو الحياة أو العفة إلى آخرها وإلى آخره؛ ونحن لا نرى هؤلاء المجددين عند التحقيق إلا ضرورات من مذاهب الحياة وشهواتها وحماقاتها تلبَّست بعض العقول كما يتلبَّس أمثالها بعض الطباع فتزيغ بها؛ وللحياة في لغتها العملية مترادفات كالمترادفات اللفظية: تكون الكلمتان والكلمات بمعنًى واحد، فالمخرِّب والمخرِّف والمجدِّد بمعنًى!

كل مجدد يريد أن يضع في كل شيء قاعدة نفسه هو، فلو أطعْناهم لم تبقَ لشيء قاعدة.

قال الأستاذ «م» إن هذه الحياة الواحدة على هذه الأرض يجب أن تكون على سُنَّتها وما تصلح به من الضبط والإحكام، والجلب لها والدفع عنها والمحافظة عليها بوسائلها الدقيقة الموزونة المقدَّرة، والسهلة في عملها الصعبة في تدبيرها؛ فعلى نحو مما كانت الحياة في بطن الأم يجب أن نعيش في بطن الكون بحدود مرسومة وقواعد مهيأة وحيِّز معروف؛ وإلا بقيت حركات هذا الإنسان في معناها كحركات الجنين؛ يرتكض ليخرج عن قانونه، فإن استمر عمله أُلقِيَ به مسخًا مشوَّهًا من جسد كان يعمل في تنظيمه، أو قُذِفَ به ميتًا من جسم كان كل ما فيه يعمل لحياته وصيانته.

هذا الجسم كله يشرع للجنين ما دام فيه، وهذا الاجتماع كله يشرع للفرد ما دام فيه؛ فكيف يكون أمر من أمر إذا كان الجنين مجدِّدًا لا يعجبه مثلًا وضع القلب ولا يرضيه عمل الدم، ولا يريد أن يكون مقيدًا؛ لأنه حُرٌّ.

انظر إلى هذا الشرطي في هذا الشارع يضرب مقبلًا ليُدبِر، ومدبرًا ليقبل، وقد ألبسته الحكومة ثيابًا يتميز بها، وهي تتكلم لغة غير لغة الثياب، وكأنها تقول: أيها الناس، إن ها هنا الإنسان الذي هو قانون دائمًا، والذي هو قوة أبدًا، والذي هو سجن حينًا، والذي هو الموت إذا اقتضى الحال.

أتحسب يا بني هذا الشرطي قائمًا في هذا الشارع كجدران هذه المنازل؟ كلَّا يا بني؛ إنه واقف أيضًا في الإرادة الإنسانية وفي الحس البشري وفي العاطفة الحية؛ فكيف لا يمحوه المجدِّدون مع أنه في ذاته إرغام بمعنًى، وإكراه بمعنًى غيره، وقيد في حالة، وبلاء في حالة أخرى؟

لكنه إرغام ليقع به التيسير، وإكراهٌ لتنطلق به الرغبة، وقد لتتمجَّد به الحرية؛ وكان هو نفسه بلاء من ناحية؛ ليكون هو نفسه عصمة من الناحية التي تقابلها.

يا بني، كل دين صالح، وكل فضيلة كريمة، وكل خلق طيب — كل شيء من ذلك إنما هو على طريق المصالح الإنسانية كهذا الشرطي بعينه: فإما تخريب العالم أيها المجددون، وإما تخريب مذهبكم …

•••

قال العجوز «ن»: أنبحث عما نتسلط به أم نبحث عما يتسلط علينا؟ وهل نريد أن تكون غرائزنا أقوى منا وأشد، أو نكون نحن أشد منها وأقوى؟ هذه هي المسألة لا مسألة الجديد والقديم.

فإن لم يكن هناك المثل الأعلى الذي يعظُم بنا ونعظُم به، فسد الحس وفسدت الحياة؛ وكل الأديان الصحيحة والأخلاق الفاضلة إن هي إلا وسائل هذا المثل الأعلى للسمو بالحياة في آمالها وغاياتها عن الحياة نفسها في وقائعها ومعانيها.

•••

قال المحدث: ورأيتُني بين العجوزين كأني بين نابين؛ ولم أكن مجددًا على مذهب إبليس الذي ردَّ على الله والملائكة وظن لحمقه أن قوة المنطق تغيِّر ما لا يتغير؛ فسكتُّ، حتى إذا فرغا من هذه الفلسفة قلت: والرحلة إلى سنة ١٨٩٥؟

١  نيفت: زادت.
٢  الكراسة: الدفتر.
٣  سائغ: مقبول.
٤  تفلح: تنجح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤