القلب المسكين (٢)

… أما صاحب القلب المسكين فرأى الضحكة التي ألقتْ بها صاحبته وهي ترقص حين عرَفَتْه — غير ما رأيتُها أنا وغير ما رأى الناس: كانت لنا نحن ابتسامًا عذبًا من فم جميل يتِمُّ جماله بهذه الصورة، وكانت له هو لغة من هذا الفم الجميل يتمُّ بها حديثًا قديمًا كان بينهما؛ واعترانا منها الطرب واعتراه منها الفكر، ووصفَتْ لنا نوعًا من الحسن ووصفت له نوعًا من الشوق، ومرَّت علينا شُعاعًا في الضوء ووقعت في يده هو كبطاقة الزيارة عليها اسم مكتوب …

وقوي إحساس الراقصة الجميلة بعد ذلك فانبعث يدلُّ على نفسه ضروبًا من الدلالة الخفية، ورجعت بهذا الإحساس كالحقيقة الشعرية الغامضة المملوءة بفنون الرمز والإيماء، وكأنها زادت بهذا الغموض زيادة ظاهرة؛ وللمرأة لحظات تكون فيها بفكرين حينما يكون أحد الفكرين ماثلًا أمامها في رجل تهواه؛ ففي هذه الساعة تتحدث المرأة بكلام فيه صمت يشرح ويُفسِّر، وتضطرب بحركة فيها استرخاء يميل ويَعتنِق، وتنظر بألحاظ فيها انكسار يأمر ويتوسل؛ وكانت هي في هذه الساعة … فغلبت — والله — على صاحبها المسكين وتركت نفسه كأنها تتقطَّع فيه من أسف وحسرة؛ ثم كانت له كالزهرة العبقة: بينه وبينها جمالها وعطرها هواؤها والحاسة التي فيه.

وجعل يستشفها من خلال أعضائها، ثم قال لي: انظر — ويحك — لكأن ثيابها تضُمُّها وتلتصق بها ضم ذي الهوى لمَن يهوى.

قلت: ما هي إلا كهاتين اللتين ترقصان معها: امرأة بين امرأتين وإن كانت أحسن الثلاث.

قال: كلَّا، هذه وحدها قصيدة من أروع الشعر، تتحرَّك بدلًا من أن تُقرأ وتُرى بدلًا من أن تُسمع؛ قصيدة بلا ألفاظ، ولكن مَن شاء وضَعَ لها ألفاظًا من دمه إذا هو فهمها بحواسه وفكره وشعوره.

قلت: والأخريان؟

قال: كلَّا كلَّا، هذا فن آخر، فالواحدة من هؤلاء المسكينات إنما ترقص بمعدتها … ترقص للخبز لا غير؛ أما «تلك» فرقصها الطرب مصنوعًا على جسمها ومصنوعًا من جسمها؛ إنها كالطاووس يتبختر في أصباغه. في ريشه، في خُيَلائه، بخترة يُضاعِفها الحُسن ثلاث مرات؛ ولو خلق الله جسمين أحدهما من الجواهر أحمرها وأخضرها وأصفرها وأزرقها، والآخر من الأزهار في ألوانها ووشيها، ثم اختال الطاووس بينهما ناشرًا ذيله في كبرياء روحه الملوَّنة — لظهر فيه وحده اللون الملك بين ألوان هي رعيته الخاضعة.

•••

وانتهى رقص الحسناء الفاتنة وغابت وراء الستارة بعد أن أرسلت قبلة في الهواء … فقال صاحبنا: آه! لو أن هذه الحسناء تصدَّقت بدرهم على فقير، لجعلته لمسة يدها درهمًا وقبلة …

قلت: يا عدوَّ نفسه! هذه قبلة مُحرَّرة مسددة وقد رأيتها وقعت هنا … ولكنك دائمًا في خصام بين نفسك وبين حقائق الحياة؛ تعشق القبلة وتخاصم الفم الذي يلقيها، وتبني العُشَّ وتتركه فارغًا من طيره؛ إن امرأة تُحِبُّك لابد منتهية إلى الجنون ما دامت معك في غير المفهوم وغير المعقول وغير الممكن.

ثم بدأ فصل آخر على المسرح، وظهر رجال ونساء وقصة؛ وكان من هؤلاء الرجال شيخ يمثِّل فقيهًا، وآخر يمثل شرطيًا؛ فقال صاحبنا الفيلسوف: لقد جاءت هذه الثياب فارغة وكأنها الآن تنطق أن صحة أكثر الأشياء في هذه الحياة صحة الظاهر فقط، ما دام الظاهر يُخلع ويُلبس بهذه السهولة؛ فكم في هذه الدنيا من شرفاء لو حقَّقتَ أمرهم وبلوت١ الباطن منهم — إنما يشرِّفون الرذائل لأنهم يرتكبونها بشرف ظاهر … وكم من أغنياء ليس بينهم وبين اللصوص إلا أنهم يسرقون بقانون … وكم من فُقهاء ليس بينهم وبين الفَجَرة إلا أنهم يفجرون بمنطق وحجة … ليست الإنسانية بهذه السهولة التي يظنها من يظن، وإلا ففيم كان تعبُ الأنبياء وشقاء الحكماء وجهاد أهل النفوس؟

العُقْدة السماوية في هذه الأرض أن الله — سبحانه وتعالى — لم يخلق الإنسان إلا حيوانًا مُلطَّفًا تلطيفًا إنسانيًا، ثم أراه الخير والشر وقال له: اجعل نفسك بنفسك إنسانًا وجئني.

قلت: يا عدو نفسه! فما تقول في حُبِّك هذه الراقصة وأنت حيوان ملطَّف تلطيفًا إنسانيًا؟

قال: ويحك! وهل العقدة إلا هنا؟ فهذه مبذولة ممكنة، ثم هي لي كالضرورة القاهرة، فلا يكون حُبُّها إلا إغراء بنيلها، ولا تكون سهولة نيلها إلا إغراء لذلك الإغراء؛ فأنا منها لست في امرأة وحب، ولكني في امتحان شديد عَسِر؛ أغالب ناموسًا من نواميس الكون، وأُدافِع قانونًا من قوانين الغريزة وأُظهر قوَّتي على قوة الضرورة المُيسَّرة بأسبابها، وهي أشد الضرورات عنفًا وإلحاحًا وقهرًا للنفس، من قِبَل أنها ضرورة لازمة، وأنها مُهيَّأة سهلة؛ فلو أن هذه المرأة المحبوبة كانت مُمنَّعة بعيدة المنال، لما كانت لي فضيلة في هذا الحب العنيف، ولكنها دانية ميسرة على الشغف٢ والهوى؛ فهذا هو الامتحان لأصنع أنا بنفسي فضيلة نفسي!

•••

ومرَّ الفصلُ الذي مثَّلوه وما نشعر منه بتمثيل، فقد كان كالصورة العقلية المعترضة للعقل وهو يفكِّر في غيرها، وكانت «الحقيقة» في شيء آخر غير هذا؛ ومتى لم يتعلق الشعور بالفن لم يكن فيه فن؛ وهذا هو سر كل امرأة محبوبة، فهي وحدها التي تثير المحب في نفسه فيشعر من حسنها بحقيقة الحسن المطلق، ويجد في معانيها جواب معانيه، وتأتيه كأنها صُنعت له وحده، وتجعل له في الزمان زمنًا قلبيًّا يحصر وجوده في وجودها.

وليس فن الحب شيئًا إلا استطاعة الحبيب أن يجعل شهوات المحب شاعرة به ممتلئة منه متعلقة عليه، كأن به وحده ظهور جسدية هذا الجسد وروحانية هذا الروح؛ وكل ما يتزين به المحبوب للمحب، فإنما هو وسائل من المبالغة لإظهار تلك المعاني التي فيه، كيما تكبُر فيدركها المحب بدقة، وتثور فيُحسَّها العاشق بعنف وتستبدَّ فيخضع لها المسكين بقوة.

والشهوات كالطبيعة الواحدة في أعصاب الإنسان، وهي تتبع فكره وخياله؛ ولا تفاوت بينهما إلا بالقوة والضعف، أو التنبُّه والخمود،٣ أو الحِدَّة والسكون، غير أنها في الحب تجد لها فكرًا وخيالًا من المحبوب، فتكون كأنها قد غيَّرت طبيعتها بسرٍّ مجهول من أسرار الألوهية؛ ومن هنا يتألَّه الحبيب وهو هو لم يزِدْ ولم ينقُصْ ولم يتغيَّر ولم يتبدَّل، وتراه في وهم محبه يفرِض فروضًا ويشرع شريعة من حيث لا قيمة لفروضه وشريعته إلا في الشهوة المؤمنة به وحدها.

ومن ثَمَّ لا عصمة على المحب إلا إذا وُجِد بين إيمانين، أقواهما الإيمان بالحلال والحرام؛ وبين خوفين، أشدهما الخوف من الله؛ وبين رغبتين، أعظمهما الرغبة في السمو.

فإن لم يكن العاشق ذا دِين وفضيلة فلا عصمة على الحب إلا أن يكون أقوى الإيمانين الحرص على مكانة المحبوب في الناس، وأشد الخوفين الخوف من القانون … وأعظم الرغبتين الرغبة في نتيجة مشروعة كالزواج.

فإن لم يكن شيء من هذا أو ذاك فقلَّما تجد الحب إلا وهو في جراءة كُفْرَين، وحماقة جنونين، وانحطاط سفالتين؛ وبهذا لا يكون في الإنسانين إلا دون ما هو في بهيمتين!

•••

ثم جاء الفصل الثالث وظهرت هي على المسرح، ظهرت هذه المرة في ثوب مركيزة أوروبية تُخاصِر٤ عشيقًا لها، فيرقصان في أدب أوروبي مُتمدِّن … متمدن بنصف وقاحة؛ متأدِّب … متأدب بنصف تسفُّل؛ مشروع … مشروع بنصف كُفْر؛ هو على النصف في كل شيء، حتى ليجعل العذراء نصف عذراء والزوجة نصف زوجة …!
وكان الذي يمثل دور العشيق فتاة أخرى غُلامية مُجَمَّمة الشعر٥ ممسوخة بين المرأة والرجل؛ فلما رآها صاحبنا قال: هذا أفضل …
وهشَّت٦ الحسناء وتبسَّمت وأخذت في رقصها البديع، فانفصل عني الصديق، وأهملني وأقبل عليها بالنظرة بعد النظرة بعد النظرة، كأنه يكرر غير المفهوم ليفهمه ورجع وإياها كأنه في عالم من غير زمننا تُقدِّمه عن عالمنا ساعة أو تؤخره ساعة؛ وكانت جملة حاله كأنها تقول لي: إن الدنيا الآن امرأة! وكان من السرور كأنما نقله الحب إلى رتبة آدم، ونقل صاحبته إلى رتبة حوَّاء، ونقل المسرح إلى رتبة الجنة!

والعجيب أن القمر طلع في هذه الساعة وأفاض نورًا جديدًا على المسرح المكشوف في الحديقة، فكأنه فعل هذا ليُتِمَّ الحُسن والحب؛ وأخذ شعاع القمر السماوي يرقص حول هذا القمر الأرضي، فكانت الصلة تامة وثيقة بين نفس صاحبنا وبين الأرض والسماء والقمرين.

ما هذا الوجه لهذه المرأة؟ إنه بين اللحظة واللحظة يُعبِّر تعبيرًا جديدًا بقَسَماته وملامحه الفتَّانة؛ كل البياض الخاطف في نجوم السماء يجول في أديمه المشرق، وكل السواد الذي في عيون المَهَا يجتمع في عينيه، وكل الحمرة التي في الورد هي في حمرة هاتين الشفتين.

ما هذا الجسم المتَّزن المتموِّج المُفرَغ كأنه يندفِق هنا وهنا؟ إنه جسم كامل الأنوثة، إنه صارخ صارخ، إنه عالم جمال كما تقول الفلسفة حين تصف العالم: فيه «جهة فوق» و«جهة تحت»؛ لو امتدَّت له يد عاشقه لجعل في خمس أصابعها خمس حواس …

ما هذا؟ لقد خُتِم الرقص بقبلة ألقاها الخليل على شفتي الخليلة، وكانت تركت خصرها في يديه وانفلتت تميل بأعلاها راجعة برأسها إلى خلف، نازلة به رويدًا رويدًا إلى الأرض، هاربة بشفتيها من الفم المُطِلِّ عليها وكان هذا الفم يتَنَزَّل رُويدًا رُويدًا؛ ليُدرك الهارب …

وقبل أن تقع القبلة التفتتْ لفتة إلى … ثم تلقَّت القبلة، أما هو، أما مجنوننا، أما صاحب القلب المسكين؟ …

١  بلوت: اختبرت.
٢  الشغف: شدة الحب.
٣  الخمود: السكون.
٤  تخاصر: تمسك بخصره.
٥  مجممة الشعر: أي قاصَّة شعرها تشبُّهًا بالرجال.
٦  هشت: ابتسمت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤