القلب المسكين (٥)

أما صاحب القلب المسكين فتزعزعتْ كبدُه ممَّا رأى؛ وجعل ينظر إلى هذه الفتَّانة تُمثِّل العروس وقد أشرق فيها رَوْنقها وسَطَعَت ولَمَعَت، فبَدَت له مُفسِّرة في هذه الغلائل غلائل العُرْس؛ وما غلائل العُرْس؟

إنها تلك الثياب التي تكسو لابستها إلى ساعة فقط … ثياب أجمل ما فيها أنها تقدِّم الجمال إلى الحب، فأزهى ألوانها اللون المشرق من روح لابستها، وأسطع الأنوار عليها، النور المنبعث من فرح قلبين.

تلك الثياب التي تكون سَكْبًا من خالص الحرير ورفيع الخَزِّ، وحين تلبسها مثل هذه الفاتنة تكاد تنطق أنها ليست من الحرير؛ إذ تعلم أن الحرير ما تحتها.

ثم تنهَّد المسكين وقال: أفهمت؟

قلت: فهمت ماذا؟

قال: هذا هو انتقامها.

قلت: يا عجبا! أتريدها في ثياب راهبة مُكبكِبة فيها كما أُلقِيَتِ البضاعة في غَرارة،١ بين سَوَاد هو شعار الحِدَاد على الأنوثة الهالكة، وبياض هو شعار الكَفَن لهذه الأنوثة؟

قال: أنت لا تعرفها؛ إن الرواية التي تَمثَّل فيها بين الروح والجسم، هي التي احتاجت إلى هذا الفصل يَقوَى به المعنى؛ وكل عاشقة فعشقها هو الرواية التي تُمثِّل فيها، يؤلِّفها هذا المؤلف الذي اسمه الحب، ولا تدري هي ماذا يصنع وماذا يؤلف، غير أنه لا يفتأ يؤلف ويصنع وينقع كما تتنزل به الحال بعد الحال، وكما تعرض به المصادفة بعد المصادفة؛ وعليها هي أن تُمثِّل …

قلت: فهذا؛ ولكن كيف يكون هذا انتقامًا؟

قال: إن الأفكار أشياء حقيقية، ولو كُشف لك الجوُّ هذه الساعةَ لرأيتَه مسطورًا عباراتٍ عباراتٍ كأنه مقالة جريدة.

هذا الفصل حوار طويل في الهموم والآلام ورقة الشوق وتهالك الصبوة، ولو كُتِب له عنوان لكان عنوانه هكذا: ما أشهاها وما أحظاها! إن الهواء بين كل عاشقين متقاتلين يأخذ ويعطي …

قلت: يا عدو نفسه! ما أعجب ما تُدقِّق! لقد أدركتُ الآن أن المرأة تتسلَّح بما شاءت، لا من أجل أن تُدافِع، ولكن لتزيد أسلحتها في سلاح مَن تحبه، فتُريده قوَّة على قَهْرها وإخضاعها …

•••

أما هذه «العروس» فكانت أفكارها لا تجد ألفاظًا تحدُّها فهي تَظهَر كيفما اتَّفق، مُرسَلة إرسالًا في اللَّفتة والحركة والهيئة والقَوْمة والقَعْدة، وهي مَن علمْتَ؛ امرأة تعيش للحقائق، وبين الحقائق، ككل ذي صنعة في صنعته فكانت في تماديها خطرًا أيَّ خطر على صاحب القلب المسكين، تُمثِّل شيئًا لا أدري أهو ظاهر بخفائه أم هو خافٍ بظهوره؛ وقد وقع صاحبنا منها فيما لم يدخل في حسابه، فكانت الخبيثة الماجنة كأنها تُسْكِره بمُسْكِر حقيقي، غير أنه من جسمها لا من زجاجة خمر.

وكانت لذهنه المتخيِّل كالسحابة الممتلئة بالبرق؛ تُومِض كل لحظة بأنوار بعدَ أنوار، وبين الفترة والفترة ترمي الصاعقة.

وظهرت كأنها امرأة مخلوقة من دم ولَهَب؛ فلقد أيقنتُ حينئذٍ أن الحب إن هو إلا الغريزة البهيمية بعينها محاولة أن تكون شيئًا له وجود فني إلى وجوده الطبيعي، فهو مصيبتان في واحدة، وكل عمله أن يجعل اللذة ألذَّ، والألم أشد، والقِلَّة كَثْرة، والكَثْرة أكثرَ، وما هو نهاية كأنه لا نهاية …

هذه «العروس» كانت قبل الآن واقفة على حدود صاحبها، أما الآن فإنها تَقْتَحِم الحدود وتغزو غزْوَها وتَمْتَلِك …

يا لَسِحرِ الحب من سِحر! كل ما في الطبيعة من جمال تظهره الطبيعة لعاشقها في إحدى صور الفهم، أما الحبيب الجميل فهو وحده الذي يَظهَر لعاشقه في كل صور الفهم، وبهذا يكون الوقت معه أوقاتًا مختلفة متناقضة، ففي ساعة يكون العقل وفي ساعة يكون الجنون.

يا لَسِحر الحب! لقد أرادت هذه المرأة أن تَذهب بعقل صاحبها، وأن تنقله إلى وحشية الإنسان الأول الكامن فيه، وأن تقذِف به إلى بعيد بعيد وراء فضائله وعصمته؛ فسَنَحَتْ له كما يسنح الصيدُ للصائد يحمل في جسمه لحمه الشهيَّ … وتركت شعوره جائعًا إلى محاسنها بمثل جوع المعدة … وبرزَتْ له صريحة كما هي، ولِمَا هي؛ ومن حيث إنها هي هي؛ وكل ذلك حين أَلبسَتْ جسمها ثياب الحقيقة المؤنثة.

آه من «هي» إذا امتلأت الهاء والياء من قلب رجل يحب! وآه من «هي» إذا خرجت هذه الكلمة من لغة الناس إلى لغة رجل واحد!

إن في كل امرأة … امرأة يقال لها «هي» باعتبار الضمير للتأنيث فقط، كما يعتبر في الدابة والحشرة والأداة ونحوها مِن هذه المؤنثات التي يرجع عليها هذا الضمير؛ ولكن «هي» المفردة في الكون كله لا تُوجَد في النساء إلا حين يُوجَد لها «هو» …

•••

أنا أنا الذي يقصُّ للقُرَّاء هذه القصة، قد كابَدْتُ٢ من شدة الحب وإفراط الوَجْد٣ ما يُفعِم قلبين مسكينين لا قلبًا واحدًا؛ وكانت لي «هي» من الهِيَات عانيتُ فيها الحب والألم دهرًا طويلًا؛ وقد ذهبتْ بي في هواها كلَّ مذهب إلا مذهبًا يُحلُّ حرامًا، أو مذهبًا يُخِلُّ بمروءة؛ ولقد علمتُ أن الشيء السامي في الحب هو ألَّا يَخرُج من العاشق مُجرِمٌ.

فالشأن كل الشأن أن يستطيع الرجل الفصل بين الحب من أجْلِ جمال الأنثى يَظهَر عليها، وبين الحب من أجل الأنثى تظهر في جمالها؛ فهو في الأولى يشهد الإلهية في إبداعها السامي الجميل، وفي الأخرى لا يرى غير البشرية في حيوانيَّتها المُتجمِّلة …

وقد أدركتُ من فلسفة الحب أن الحقيقة الكبرى لهذا الجمال الأزليِّ الذي يملأ العالم قد جعلَتْ حنين العشق في قلب الإنسان هو أول أمثلتها العملية في تعليمه الحنين إليها إن شاء أن يتعلَّم، فكما يحب إنسان بروح الشهوة يحب إنسان آخر بروح العبادة؛ وهذا هو الذي يُسمِّيه الفلاسفة: «تلطيف السِرِّ»، أي: جعله مستعِدًّا للتوجُّه إلى النور والحق والخير، وقد عدُّوا فيما يُعين عليه، الفكر الدقيق والعشق العنيف.

وكذلك تبيَّنْتُ مما علَّمني الحب أن طرد آدم وحواء من الفردوس، كان معناه ثقل معاني الفردوس وعَرْضَها لكل آدم وحواء يُمثِّلان الرواية … فإذا «قطفا الثمرة» طُرِدا من معاني الجنة، وهبطا بعد ذلك من أخيلة السماء إلى حقائق الأرض.

نعم هو الحب شيء واحد في كل عاشق لكل جميل، غير أن الفرق بين أهله يكون في جمال العمل أو قُبْح العمل؛ وهذه النفوس مصانع مختلفة لهذه المادة الواحدة؛ فالحب في بعضها يكون قوة وفي بعضها يكون ضعفًا؛ وفي نفس يكون الهوى حيوانيًّا يُراكِم الظُّلمة على الظُّلمة في الحياة، وفي أخرى يكون روحانيًّا يكشف الظلام عن الحياة.

والمعجزة في هذا الإنسان الضعيف أنه له مع طبيعة كل شيء طبيعة الإحساس به، فهو مستطيع أن يجد لذة نفسه في الألم، قادرٌ على أن يأخذ هِبَةً من معاني الحرمان؛ وبهذه الطبيعة يسمو مَن يسمو، وهي على أتمِّها وأقواها في عُظَماء النفوس، حتى لكأن الأِشياء تأتي هؤلاء العظماء سائلة: ماذا يريدون منها؟

فمَن أراد أن يسمو بالحب فليَضَعْه في نفسه بين شيئين: الخُلُق الرفيع، والحِكْمة الناضجة؛ فإن لم يستطع فلا أقلَّ من شيئين: الحلال، والحرام.

•••

أنا أنا الذي يقصُّ للقراء هذه القصة، أعرف هذا كله، وبهذا كله فهمتُ قول صاحب القلب المسكين: إن ظهور صاحبته في فصل العروس هو انتقامها، حاصَرَتْ عيناها عينَه، وزَحَفتْ معانيها على معانيه، وقاتَلَتْ قِتَالَ جسم المرأة المحبوبة في معركة حبها، وبكلمة واحدة: كأنما لبست هذه الثياب لتَظهَر له بلا ثياب …

وأردتُ أن أعيبها بما صنعتْ نفسُها له، وأن أعيبه هو بدُخوله فيما لا يُشبِهه، وقلتُ في غير طائل ولا جدوى،٤ فما كنتُ إلا كالذي يعيب الورد بقوله: يا عِطْر الشَّذَى،٥ ويا أحمرَ الخَدَّيْن!
وقد أمسكَ عن جوابي، وكانتْ محاسنُها تجعل كلماتي شَوهاء،٦ وكان وضوحُها يجعل معانيَّ غامضة، وكانت حلاوتُها تجعل أقوالي مُرَّة، وكانت ثياب العروس وهي تُزَفُّ تريد ألفاظي في ثياب العجوز المطلَّقة؛ وكلما غاضَبَتْه مع نفسه أوقعَتْ هي الصلحَ بينه وبين نفسه.

والعجيب العجيب في هذا الحب أن فتح العينين على الجميل المحبوب هو نوع من تغميضهما للنوم ورؤيا الأحلام؛ ليس إلا هذا، ولا يكون أبدًا إلا هذا؛ فمهما أُعطِيتَ من جَدَل فإقناعُك المحبَّ المُستَهَام كإقناعك النائم المُستَثقَل؛ وكيف وله ألفاظ من عقله لا من عقلك، وبينك وبينه نسيانُه إياك، وقد تركك على ظاهر الدنيا وغاص هو في دنيا باطِنِه لا يمْلِك فيها أخذًا ولا ردًّا إلا ما تُعطِي وما تَمنَع.

•••

ثم … ثم غابت «العروس» بعد أن نظرَتْ له وضحكتْ.

ضحكت بحزنٍ حزنِ الذي يسخر من حقيقة؛ لأنه يتألَّم من حقيقة غيرها؛ وكان منظرها الجميل المُنكسِر فلسفة تامة مصوِّرة للخير الذي اعتدى عليه الشر فأحالَه، والإرادة التي أكْرَهَها القدرُ فأخضَعَها، والعِفَّة المسكينة التي أذلَّتْها ضرورة الحياة، والفضيلة المغلوبة التي حِيلَ بينها وبين أن تكون فضيلة!

ويا ما كان أجملَها ناظرةً بمعاني البكاء ضاحكةً بغير معاني الضحك؛ تتنهَّد ملامحُ وجهها وفمُها يبتسم!

كان منظرها ناطقًا بأن قلبها الحزين يسأل سؤالًا أبْدَاه على وجهها بلُطْف ورِقَّة؛ كان يسأل إنسانًا: أَلَا تُحَلُّ هذه العُقْدة؟ …

وانقضى التمثيل وتناهَضَ الناس.

أما صاحب القلب المسكين؟ …

١  غرارة، بالفتح: صار ذا غِرَّة.
٢  كابدت: عانَيْتُ.
٣  الوجد: شدة الحب.
٤  جدوى: فائدة ونتيجة.
٥  الشذى: العبير.
٦  شوهاء: بشعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤