نقد الشعر وفلسفته

الشاعر في رأينا هو ذاك الذي يرى الطبيعة كلها بعينين لهما عشق خاص وفيهما غزل على حِدَة، وقد خُلقتا مهيأتين بمجموعة النفس العصبية لرؤية السِّحْر الذي لا يُرى إلا بهما، بل الذي لا وجود له في الطبيعة الحية لولا عينا الشاعر، كما لا وجود له في الجمال الحي لولا عينا العاشق.

فإذا كان الشاعر العظيم أعمى كهوميروس ومِلْتون وبَشَّار والمَعَرِّي وأضرابهم، انبعث البصر الشعري من وراء كل حاسة فيه، وأبصر من خواطره المنبثَّة في كل معنى، فأدَّى بالنفس في الوجود المظلم أكثر ما كان يؤدِّيه بهذه النفس في الوجود المضيء، وقصَّر عن المبصرين في معانٍ وأربى عليهم في معانٍ أخرى، فيجتمع الشعر من هؤلاء وأولئك مدُّ النفس الملهَمة مما بين أطراف النور إلى أغوار الظلمة.

والشعر في أسرار الأشياء لا في الأشياء ذاتها، ولهذا تمتاز قريحة الشاعر بقدرتها على خَلْق الألوان النفسية التي تصبغ كل شيء وتلوِّنه لإظهار حقائقه ودقائقه حتى يجري مجراه في النفس ويجوز مجازه فيها؛ فكل شيء تعاوَره الناس من أشياء هذه الدنيا فهو إنما يعطيهم مادته في هيئته الصامتة، حتى إذا انتهى إلى الشاعر أعطاه هذه المادة في صورتها المكتملة، فأبانت عن نفسها في شعره الجميل بخصائص ودقائق لم يكن يراها الناس كأنها ليست فيها.

فبالشعر تتكلم الطبيعة في النفس وتتكلم النفس للحقيقة وتأتي الحقيقة في أظرف أشكالها وأجمل معارضها، أي في البيان الذي تصنعه هذه النفس الملهَمة حين تتلقَّى النور من كل ما حولها وتعكسه في صناعة نورانية متموِّجة بالألوان في المعاني والكلمات والأنغام.

والإنسان من الناس يعيش في عُمرٍ واحد، ولكن الشاعر يبدو كأنه في أعمار كثيرة من عواطفه، وكأنما ينطوي على نفوس مختلفة تجمع الإنسانية من أطرافها، وبذلك خُلق ليُفيض من هذه الحياة على الدنيا، كأنما هو نبع إنساني للإحساس يغترف الناس منه ليزيد كل إنسان معاني وجوده المحدود ما دام هذا الوجود لا يزيد في مُدَّته، ثم ليُرهِف١ الإنسان بذلك أعصابَه فتدرك شيئًا مما فوق المحسوس، وتَكْنُنَه٢ طرفًا من أطراف الحقيقة الخالدة التي تتسع بالنفس وتخرجها من حدود الضرورات الضيقة التي تعيش فيها لتصلها بلذات المعاني الحرة الجميلة الكاملة؛ وكأن الشعر لم يجئ في أوزان إلا ليحمل فيها نفس قارئه إلى تلك اللذات على اهتزازات النغم؛ وما يُطرب الشعرُ إلا إذا أحسسته كأنما أخذ النفس لحظة وردَّها.

والشاعر الحقيق بهذا الاسم — أي: الذي يغلُب على الشعر ويفتَتِح معانيَه ويهتدي إلى أسراره ويأخذ بغاية الصنعة فيه — تراه يضع نفسه في مكان ما يعانيه من الأشياء وما يتعاطى وصفه منها، ثم يفكر بعقله على أنه عقل هذا الشيء مضافًا إليه الإنسانية العالية، وبهذا تنطوي نفسه على الوجود فتخرج الأشياء في خِلْقة جميلة من معانيها وتصبح هذه النفس خليقة أخرى لكل معنًى داخَلَها أو اتَّصَل بها؛ ومن ثَمَّ فلا ريب أن نفس الشاعر العظيم تكاد تكون حاسة من حواس الكون.

ولو سُئلتْ أزمان الدنيا كيف فهم أهلها معاني الحياة السامية وكيف رأوها في آثار الألوهية عليها، لقدَّم كل جيل في الجواب على ذلك معانيَ الدين ومعانيَ الشعر.

وليست الفكرة شعرًا إذا جاءت كما هي في العلم والمعرفة، فهي في ذلك علم وفلسفة، وإنما الشعر في تصوير خصائص الجمال الكامنة في هذه الفكرة على دقةٍ ولطافة كما تتحول في ذهن الشاعر الذي يُلوِّنها بعمل نفسه فيها ويتناولها من ناحية أسرارها.

فالأفكار مما تعانيه الأذهان كلها ويتواطأ٣ فيه قلب كل إنسان ولسانه، بَيْدَ أن فن الشاعر هو فن خصائصها الجميلة المؤثِّرة، وكأن الخيال الشعري نِحْلَةٌ من النِّحَل تُلِمُّ بالأشياء لتبدع فيها المادة الحلوة للذوق والشعور، والأشياء باقية بعُد كما هي لم يغيرها الخيال، وجاء منها بما لا تحسبه منها؛ وهذه القوة وحدها هي الشاعرية.

فالشاعر العظيم لا يرسل الفكرة لإيجاد العلم في نفس قارئها حسب، وإنما هو يصنعها ويحذو الكلام فيها بعضه على بعض، ويتصرف بها ذلك التصرف ليوجِد بها العلمَ والذوقَ معًا؛ وعبقرية الأدب لا تكون في تقرير الأفكار تقريرًا علميًّا بحتًا، ولكن في إرسالها على وجه من التسديد لا يكون بينه وبين أن يُقرَّها في مكانها من النفس الإنسانية حائل. وكثيرًا ما تكون الأفكار الأدبية العالية التي يُلهَمها أفذاذُ الشعر والكُتَّاب هي أفكار عقل التاريخ الإنساني، فلا تنفصل عنهم الفكرة في أسلوبها البياني الجميل حتى تتخذ وضعها التاريخي في الدنيا، وتقوم على أساسها في أعمال الناس، فتتحقق في الوجود ويُعمل بها؛ وهذا طَرَف مما بين الأدب العالي وبين الأديان من المشابهة.

ومتى نُزِّلت الحقائق في الشعر وجب أن تكون موزونة في شكلها كوزنه، فلا تأتي على سَرْدها٤ ولا تؤخذ هونًا كالكلام بلا عمل ولا صناعة، فإنها إن لم يجعل لها الشاعر جمالًا ونسقًا من البيان يكون لها شبيهًا بالوزن، ويضع فيها روحًا موسيقية بحيث يجيء الشعر بها وله وزنان في شكله وروحه — فتلك حقائق مكسورة تلوح في الذوق كالنظم الذي دخلته العلل فجاء مختلًا قد زاغ أو فسد.
والخيال هو الوزن الشعري للحقيقة المرسلة، وتخيُّل الشاعر إنما هو إلقاء النور في طبيعة المعنى ليشِفَّ٥ به، فهو بهذا يرفع الطبيعة درجة إنسانية، ويرفع الإنسانية درجة سماوية؛ وكل بدائع العلماء والمخترعين هي منه بهذا المعنى، فهو في أصله ذكاء العلم، ثم يسمو فيكون هو بصيرة الفلسفة، ثم يزيد سموُّه فيكون روح الشعر؛ وإذا قلبتَ هذا النسق فانحدرتَ به نازلًا كما صعدتَ به، حصل معك أن الخيال روح الشعر، ثم ينحطُّ شيئًا فيكون بصيرة الفلسفة، ثم يزيد انحطاطًا فيكون ذكاء العلم، فالشاعر كما ترى هو الأول إن ارتقتِ الدنيا، وهو الأول إن انحطت الدنيا؛ وكأنما إنسانية الإنسان تبدأ منه.

إذا قرَّرنا للشعر هذا المعنى وعرفنا أنه فن النفس الكبيرة الحساسة الملهَمة حين تتناول الوجود من فوق وجوده في لُطْف روحاني ظاهر في المعنى واللغة والأداء — وجبَ أن نعتبر نقد الشعر باعتبارٍ مما قررناه، وأن نُقيِّمه على هذه الأصول؛ فإن النقد الأدبي في أيامنا هذه — وخاصة نقد الشعر — أصبح أكثرُه مما لا قيمة له، وساء التصرُّف به، ووقع الخلط فيه، وتناوله أكثر أهله بعلم ناقص، وطبع ضعيف، وذوق فاسد، وطمع فيه مَن لا يُحصِّل مذهبًا صحيحًا، ولا يتَّجِه لرأي جيد، حتى جاء كلامهم وإن في اللغو والتخليط ما هو خير منه وأخفُّ مَحْمَلًا، فإنك من هذين في حقيقة مكشوفة تعرفها تخليطًا ولغوًا، ولكنك من نقد أولئك في أدب مزوَّر ودعوى فارغة وزوائد من الفضول والتعسُّف يتزيَّدون بها للنفخ والصَّوْلة وإيهام الناس أن الكاتب لا يرى أحدًا إلا هو تحت قدرته … على أن جهد عمله إذا فتَّشتَه واعتبرت عليه ما يخلط فيه، أنه يكتب حيث يريد النقد أن يُحقِّق، ويملأ فراغًا من الورق حيث يقتضيه البحث أن يملأ فراغًا من المعرفة.

وقد قلنا في كتابنا «تحت راية القرآن»: إن أستاذ الآداب يجب أن يجمع إلى الإحاطة بتاريخها وتقصِّي موادِّها — ذوقًا فنِّيًّا مهذَّبًا مصقولًا، وليس يُمكن أن يأتي له هذا الذوق إلا من إبداع في صناعتي الشعر والنثر، ثم يجمع إلى هذين — أي: الإحاطة والذوق — تلك الموهبة الغريبة التي تلفُّ بين العلم والفكر والمُخيِّلة فتبدع من المؤرخ الفيلسوف الشاعر العالم شخصًا من هؤلاء جميعًا هو الذي نسميه الناقد الأدبي.

هذه هي صفات الناقد في رأينا؛ فانظر أين تجده بين هؤلاء الأساتذة المُختصَرين … في أدبهم، المطوَّلين … في ألقابهم، وإنهم ليتعاطَوْن النقد وليس لهم وسائله إلا ما كان ضعفةً وقلَّةً وإدبارًا، وقد فاتَهم ما لا تحمله أقدارهم ولا تبلُغه قُواهم، وجهلوا أن الناقد الأدبي إنما يُلقي درسًا عاليًا لا يَدُلُّ فيه على العيوب الفنية إلا بإظهار المحاسن التي تُقابِلها في أسمى ما انتهى إليه الفن من آثار تاريخه، فيكون النقد تهذيبًا وتلخيصًا لفنون الأدب كلها؛ وهو بهذه الطريقة يجلوها على الناس ويُبدع فيها ويزيد في مادتها ويُسهلها على القراء ويحصِّلها لهم تحصيلًا لا يبلغونه بأنفسهم، ويعطيهم من كل ضعيف ما هو قوي، ومن كل قوي ما هو أقوى.

ورأيناهم في نقد الشعر لا يزيدون على أن يُعلِّقوا على كلام الشاعر، فيجيء عملهم في الجملة كأنه تصنيف من هذا الشعر وشرح له وتصفُّح على بعض معانيه؛ وبهذا يرجع الشاعر وإنه هو المتصرف في ناقده يُديره كيف شاء، ويجيء هذا الناقد زائدًا متطفِّلًا، فتأتي كتابته وإنها لَضَرب من سخرية المنقود بناقده، ويصبح وضع الكلام على العكس، فالشاعر المنقود لم يتكلم ولكنه أبان قصور الناقد وجهله، فهو الناقد وإن سكت، وذاك هو المنقود وإن تكلم.

وهذا المتعلق على أخبار الشاعر وشعره كتعلُّق التلخيص على أصله المطوَّل والشرح على مَتْنِه الموجز، إنما هو كاتب يجد من ذلك مادة إنشائية فيتصرف بها ليكتب؛ ولا يراد من النقد أن يكون الشاعر وشعره مادة إنشاء، بل مادة حساب مُقدَّر بحقائق معينة لا بد منها؛ فنقد الشعر هو في الحقيقة علم حساب الشعر، وقواعده الأربع التي تُقابِل الجمع والطرح والضرب والقسمة: هي الاطِّلاع والذوق والخيال والقريحة الملهَمة.

وثَمَّ ضربٌ آخر من تعلُّق الضعفاء، يتناول الشاعرَ باعتباره رجلًا له موضعه من الناس ومنزلُه من الحياة، ثم لا يعدو ذلك وهو تزوير للمؤرخ بجعله ناقدًا، وتزوير للناقد بردِّه مؤرخًا؛ على أن هذا لا بد منه في النقد الصحيح، ولكنه لا يقوم بنفسه ولا تنفُذ به بصيرة النقد؛ إذ الشاعر لم يكن شاعرًا بأنه رجل من الناس وحيٌّ في الأحياء وعمر من الحوادث المؤرخة، ولكن بموضوعه من أسرار الحياة وصِلَةُ نفسِه بها وقدرة هذه النفس على أن تنفذ إلى حقائق الطبيعة في كائناتها عامة، وفي إنسانها خاصة، ثم بقدرةٍ مثل هذه في النفاذ إلى أسرار اللغة الشعرية التي هي الوجود المعنوي لكل ذلك، والتصرف بها على طبقات معانيه حتى لا تُقصِّر عن الغاية ولا تقع دون القصد، فإن الشعر إن هو إلا ظهور عظمة النفس الشاعرة بمظهرها اللغوي، ولئن كان في نقد الشعر تاريخ لا يتم النقد إلا به، فهو تاريخ الشعر في نفس قائله، ثم تاريخ هذه النفس في معاني الشعر من عصرها، ثم أدب هذا الشاعر من الوجود الأدبي للغة التي نظم بها؛ وذلك لا بد أن يقع فيه تاريخ الشاعر نفسه مُحصَّلًا من نواحيه في جهات الحياة، متعمِّقًا فيه بالاستقصاء، متغلغلًا إليه بالنقد …

•••

وإن لنا رأيًا بَسَطْنَاه٦ مرارًا، وهو أنه لا ينبغي أن يَعرِض لنقد الشاعر والكلام عنه إلا شاعر كبير يكون ذا طبيعة في النقد، أو كاتب عظيم يكون ذا طبيعة في الشعر؛ أي: لا بد من الأدب والشعر معًا لنقد الشعر وحده، فيأتي الكلام فيه من العلم والذوق والإحساس والإلهام جميعًا، فيتبين الناقد وجوه النقص الفني، ويعرف بمَ نقصَتْ وماذا كان ينبغي لها وما وجهُ تمامها؟ ثم يعرف من الكمال الفني مثل ذلك، ويُحس على الحالتين بالمعاني التي أحسها الشاعر حين انتزع شعره منها، وما كان يتخالَجه٧ وقتئذٍ من الفكر ويتمثَّل له من الصور المعنوية التي ألهمتْه إلهامَها؛ فإن المعاني المكتوبة هي شعر الشاعر، ولكن تلك المعاني المحسوسة هي شعر الشعر، وإنما يوقف عليها بالتوهُّم والاسترسال إلى ما وراء الشعر من بواعثه، وما تموَّجت به روح الشاعر عند عمله، وما عرضتْ لها به طبائع المعاني؛ وهذا كله لا يحسه الناقد إن لم يكن شاعرًا في قوة مَن ينقده أو أقوى منه طبيعةَ شعر.

والنقد إنما هو إعطاء الكلام لسانًا يتكلم به عن نفسه كلام مُتَّهم في محكمة ليُقِيم أو يُزيح شبهة أو يُقرَّ حقيقة أو يبسط معنى أو يوجِّه علة أو يكشف خافيًا أو يُثبت نقيصة أو يُظهر إحسانًا؛ وبالجملة فهو نَفْضُ السيئة والحسنة، ووقوع أدلة العلم والفن والذوق مواقعها، وتكلُّم الكلام بذات نفسه ما تنكر منه وما تستجيد؛ والشاعر والناقد يلتقيان جميعًا في القارئ فوجب من ثَمَّ أن يكون الناقد قوة تكشف قوة مثلها أو دونها؛ ليُصحِّح فنٌّ فنًّا مثله أو يُقرَّه أو يَزيد عليه فضل بيان ومزية فكر؛ وبهذا يصبح القارئ كالسائح الذي معه الدليل وأمامه المنظر، أي: معه التاريخ الناطق وبإزائه التاريخ الصامت. وإذا كان الشاعر وشعره إنما هما النفس الممتازة وحوادثها ومعاني الحياة فيها، فليس يتجه أن يكون الناقد تامًّا إلا بنفس من نوعها في دقة الحس ولطف النظر والاستشفاف وقوة التأثُّر بمعاني الحياة وسموِّ الإلهام والعبقرية، وبذلك يجيء النقد الصحيح بيانًا خالصًا منخولًا كأنه شرح نفس لنفس مثلها.

وليس الأنفُ هو الذي ينقد الوردةَ العطرة الفيَّاحة، وإنما تنقدها الحاسة التي في الأنف، وناقد الشعر إن لم يكن شاعرًا فهو أنفٌ صحيح التركيب، ولكن بالجِلْد والعظم دون تلك الحاسة التي هي روح العصب المنبثِّ في هذا التركيب والمتصل بما وراءه من أعصاب الدماغ، فهذا الأنف … يستطيع أن يتناول الوردة، ولكن بحسٍّ غليظ مَحَقَتْه٨ الآفةُ كما يتناول حجرًا أو حديدًا أو خشبًا أيَّها كان، فالوردة عنده شيء من الأشياء يمتاز باللين ويختص بالنعومة ويسطع بالرونق ويزهو باللون، ويذهب يتكلم في هذا كله، وهذا كله في الوردة، ولكنه ليس الوردة.

ومتى كان البحث هو البحث في السماء وأفلاكها وأجرامها فلا يستقلُّ به إلا الناظر المركَّب أي: الذي معه عينه وتلسكوبه وعِلْمه جميعًا، إن نقص من ذلك فبقدر نقصانه يكون ضعفه، وإن تمَّ فبقدر تمامه يكون وفاؤه؛ ولو أمكن أن ينفصل الشاعر من شعره فيقطع ما بينه وبين المعاني من نسب نفسه، ويبتعد عن الشعر ليراه جديدًا عليه ويُميِّزه من كل جهاته — لكان هو الناقد؛ فناقد الشعر هو الشاعر نفسه، ولكن في وضع أتمَّ وأوفى، وحالةٍ أبينَ وأبصرَ، أي: كأنه الشاعر نفسه مُنقَّحًا تامًّا بغير ضعف ولا نقص.

ومن أجل ذلك ترى من آية النقد البديع المحكَم إذا قرأته ما يُخيِّل إليك أن الشعر يعرض نفسه عليك عرضًا ويُحصِّل لك أمرَه ويُبيِّن حالته في ذهن شاعره.

وكيف توافَى وائتلفَ، وكيف انتزعَه الشاعر من الحياة، وما وقع فيه من قَدْر الإلهام، وما أصابه من تأثير الإنسان وما اتفق له من حظ الطبيعة والأشياء، وبالجملة يُورِد النقد عليك ما ترى معه كأن حركة الدم والأعصاب قد عادت مرة أخرى إلى الشعر.

•••

ألَا وإن شعرنا العربي الجميل قد أصبح اليوم في أشد الحاجة إلى مَن يُعلِّم القارئ كيف يَذُوقه ويتبيَّنه ويخلص إلى سرِّ التأثير فيه، ويخرجه مخرجًا سَرِيًّا في أنغامه وألحانه ويأتي به من نفس شاعره ومن نفسه جميعًا؛ فقوة التمييز في هذا كله على تسديد وصواب هي التي يعطيها الناقد لقُرَّائه؛ والشعر فكرٌ وقراءته فكرٌ آخر، فإن قصَّر هذا عن أن يبلغ ذاك ليتصل به ويتغلغل فيه فلابد للفكْرَيْن من صلة فكرية هي كتابة الناقد الذي هو من ناحية كمال للطبيعة الناقصة، ومن ناحية أخرى شرح للطبيعة الكاملة، ومن ناحية ثالثة هو بذوقه وفنه قانون الانتظام الدقيق الذي يَبِين به ما استقام في الكلام وما اعوجَّ.

وطريقتنا نحن في نقد الشعر تقوم على ركنين: البحث في موهبة الشاعر، وهذا يتناول نفسه وإلهامه وحوادثه؛ والبحث في فنه البياني، وهو يتناول ألفاظه وسَبْكه وطريقته، وسنقول فيهما معًا:

فأما الكلام في فن الشعر، فالمراد بالشعر — أي: نظم الكلام — هو في رأينا التأثير في النفس لا غير، والفن كله إنما هو هذا التأثير، والاحتيال على رجَّة النفس له واهتزازها بألفاظ الشعر ووزنه وإدارة معانيه وطريقة تأديتها إلى النفس، وتأليف مادة الشعور من كل ذلك تأليفًا متلائمًا مستويًا في نسجه لا يقع فيه تفاوُت ولا اختلال، ولا يَحمِل عليه تعسُّف ولا استكراه؛ فيأتي الشعر من دقته وتركيبه الحي ونسقه الطبيعي كأنما يُقرَع به على القلب الإنساني ليفتح لمعانيه إلى الروح؛ والشعرُ العربي إذا تمَّتْ له في صناعته وسائل التأثير وأُحكِم من كل جهاته، كان أسمى شعر إنساني؛ فتراه يطَّرد بألفاظه الجميلة السائغة وكأنه لا يحمل فيها معاني، بل يحمل حركات عصبية ليس بينها وبين أن تنساب في الدم حائل، فما يكون إلا أن يغمرك بالطرب ويهزك من أعماق النفس ويُورد عليك من نفحة الروح ما إنْ تدبَّرتَه في نفسك وأفصحتَ عنه شعورك رأيتَه في حقيقته وجهًا من نسيان الحياة الأرضية وانتقال إلى حياة أخرى من السرور والاهتياج والألم والشجْو يحياها الدم الثائر وحده غير مشارَك فيها إلا من القلب.

والذين يجهلون ذلك من أمر الشعر العربي في مزاجه الخاص — فلا يعتبرونه حيًّا ذا طباع وخصائص لابد من مراعاتها والنزول على حكمها وتلقِّيها بما يوافقها كما لا بد من أشباه ذلك لامرأة جميلة — تراهم يُخِلُّون بقوانين صناعته البيانية ويُنزِلون ألفاظه دون منازلها ويرسلون معانيه على غير طريقتها الشعرية ويبتلونه بفضول كثيرة هي كالآفات والأمراض، فيأتون بنظم تقرؤه إذا قرأته وأنت تتلوَّى كأنما يقرع على قلبك بقبضة يدٍ أو يدقَّ عليه بحجر … وقد فشا هذا النوع من الشعر في هذه الأيام وأصبح لما فسد من ذوق الأدب وما الْتَاثَ٩ من أمر اللغة وما اعوجَّ من طرق الفلسفة وما عمت به البلوى من التقليد الأوروبي، وكثيرًا ما رأيت القصيدة من هذا الشعر كامرأةٍ سُلِخَ وجهُها ووُضعتْ لها جلدة وجه ميت … والناظم من هؤلاء لا يُصرِّف الشعر على حدوده النفسية ولا يُحكِمه فيها، بل تُصرِّفه الألفاظُ كيف اتفقت له على وجوهها الملتوية، وتسوسه المعاني سياسة عمياء فقدتْ باصرتيها١٠ معًا، ويحسبون كلامهم من النور العقلي، ولكنه النور في قطعه ثمانين ألف ميل في الثانية، فلا يكاد يُقال في هذا العالم، حتى يخرج منه ويُنسَى ويلحق باللانهاية …

وهذا الضرب من الصناعة الفاسدة هو بعينه ذلك النوع الصناعي الذي أفسد الشعر منذ القرن الخامس، غير أن القديم كان فسادًا في الألفاظ يجعلها كلها أو أكثرها مُحالًا من الصنعة، والحديث جاء فسادًا في المعاني يجعلها كلها أو أكثرها مُحالًا من البيان.

ويزعم أصحاب هذا الشعر أنهم فلاسفة، ولكنهم كذلك في سرقة الفلاسفة لا غير … ولو علموا لعلموا أن ألفاظ الشعر هي ألفاظ من الكلام يضع الشعرُ فيها الكلامَ والموسيقى معًا، فتخرج بذلك من طبيعة اللغة القائمة على تأدية المعنى بالدلالة وحدها إلى طبيعة لغة خاصة أرقى منها تؤدي المعنى بالدلالة والنغم والذوق، فكل كلمة في الشعر تُجتَلَب لمعناها من تركيبه، ثم لموضعها من نفسه، ثم لجَرْسها في ألحانه؛ وذلك كله هو الذي يجعل للكلمة لونَها المعنوي في جملة التصوير بالشعر؛ وما يمر الشاعر العظيم بلفظة من اللغة إلا وهي كأنها تُكلِّمه تقول: دعني أو خذني.

وكما أنه لا بد للأزهار من جو الأشعة، كذلك لابد للمعاني الشعرية من جو اللغة البيانية، فالبيان إنما هو أشعة معاني القصيدة؛ وقد يحسبون أن الصناعة البيانية صناعة متكلَّفة لا شأن لها في جمال الشعر ودقة التعبير، وما نُنكِر أن من البيان الجميل أشياء متكلَّفة، ولكنها تنزل من أساليب البلاغة العالية منزلةً كمنزلة الظرْف والدَّلِّ والخلاعة في الحبيبة الجميلة.

إن هذه الفنون ليست من جمال الخلقة والتركيب في المرأة، ولكنها متى ظهرت في الجمال الفاتن أصبح بدونها — وهو جميل دائمًا — كأنه غير جميل أحيانًا.

هنا صناعة هي روح الحسن في الحياة، وصناعة مثلها هي روح الحسن أحيانًا في البلاغة، وما التراكيب البيانية في مواضعها من الشعر الحي إلا كالملامح والتقاسيم في مواضعها من الجمال الحي؛ وكثيرًا ما يخيَّل إليَّ حين أتأمل بلاغة اللفظ الرشيق إلى جانب لفظ جميل في شعر محكَم السبك، أن هذه الكلمة من هذه الكلمة كحُبِّ رجلٍ مُتأنِّق يتقرَّب من حُبِّ امرأة جميلة، وعطف أمومة على طفولة، وحنين عاطفة لعاطفة، إلى أشباهٍ ونظائر من هذا النسق الرقيق الحسَّاس؛ فإذا قرأت في شعر أصحابنا أولئك رأيت من لفظٍ كالشرطي أَخَذ بتلابيب لفظٍ كالمجرم … إلى كلمتين هما معًا كالضارب والمضروب … إلى هَمَجٍ ورِعاع وهرجٍ ومرجٍ وهيجٍ وفتنة؛ أما القافية فكثيرًا ما تكون في شعرهم لفظًا ملاكمًا … ليس أمامه إلا رأس القارئ.

وكما يهملون اختيار اللفظ والقافية يتسهلون في اختيار الوزن الملائم لموسيقية الموضوع فإن من الأوزان ما يستمر في غرض من المعاني ولا يستمر في غيره؛ كما أن من القوافي ما يطَّرد في موضوع ولا يطرد في سواه، وإنما الوزن من الكلام كزيادة اللحن على الصوت؛ يُراد منه إضافة صناعة من طرب النفس إلى صناعة من طرب الفكر، فالذين يُهملون كل ذلك لا يدركون شيئًا من فلسفة الشعر ولا يعلمون أنهم إنما يفسدون أقوى الطبيعتين في صناعته؛ إذ المعنى قد يأتي نثرًا فلا يُنقِصه ذلك عن الشعر من حيث هو معنى، بل ربما زاده النثر إحكامًا وتفصيلًا وقوة بما يتهيأ فيه من البسط والشرح والتسلسل، ولكنه في الشعر يأتي غناء، وهذا ما لا يستطيعه النثر بحال من الأحوال.

فإذا لم يستطع الشاعر أن يأتي في نظمه بالروِيِّ المونَق والنسج المتلائم والحَبْك المستوي والمعاني الجيدة التي تخلُص إلى النفس خلوص طبيعة إلى طبيعة تمازجها، ورأيتَه يأتي بالشعر الجافي الغليظ والألفاظ المستوخَمة١١ الرديئة والقافية القلِقة النافرة والمجازات المتفاوتة المضطربة والاستعارات البعيدة الممسوخة — فاعلم أنه رجل قد باعده الله من الشعر وابتلاه مع ذلك بزيغ الطبيعة وسرف التقليد، فما يجيء الشعر على لسانه في بيت إلا بعد أن يجيء اللغو على لسانه في مائة بيت أو أكثر أو أقل.

ذلك قولنا في فن الشاعر، أما الكلام في موهبته التي بها صار شاعرًا وعلى مقدارها يكون مقداره واتصال أسبابه أو انقطاعها من الشعر، فذلك باب لا يُمكن بسطُ المعنى فيه ولا تحصيل دقائقه إلا إذا صُوِّرتْ روحُ الشاعر في تركيبها الدقيق المعجز ووُزِنتْ في ميزانها الإلهي وعُرف نقصُها إن نقصتْ وتمامُها إن تمَّتْ، وأمكن تتبُّع مواقعها من أسرار الأشياء ومساقطها من منازل الإلهام، وهذا ما لا سبيل إليه إلا بالتوهُّم النفسي، فإن الأرواح القوية يلمح بعضُها بعضًا، وقد تكون لمحة الروح الشاعرة لروح مثلها هي تدبُّرها ووزنها وإدراك ما تنطوي عليه كما ترى من وضع النور بإزاء النور، فإن هذا الوضع هو نفسه وزن لكليهما في ميزان البصر دون أن يكون ثمة موازنة إلا في التألُّق والشعاع؛ فهما في هذه الحالة نوران يضيئان، ولكنهما أيضًا كلمتان يُبيِّنان عما فيهما من الأكثر والأقل.

لهذا قلنا: الشاعر لا يستع لنقده ولايحيط به إلَّا مَن كانت له روح شعرية تُكافئه في وزنها أو تَرْبَى على مقداره؛ فإن هناك قوًى روحية لإدراك الجمال وخَلْقه في الأشياء خلقًا هو روح الشعر وروح فنِّه، وقوًى أخرى لصلة العواطف بالفكر صلة هي سر الشعر وسر فنه، وقوى غير هذه وتلك لتحويل ما يُخالِج١٢ النفسَ الشاعرة تحويلَ المبالغة التي هي قوة الشعر وقوة فنه؛ وبمجموع هذه القوى كلها تمتاز روح الشاعر من غير الشاعر، أما ما تمتاز به هذه الروح من روح شاعرة مثلها فهو ما يكون من تفاوُت المقادير التي يهبها الله وحده، فيخص شاعرًا بالزيادة وآخر بالنقص، ويهب أسبابها التي تكون عنها فيوسِّع لواحد ويضيِّق على الآخر؛ وإذا تمت تلك القوى واستحكمت تهيأ منها للشاعر جهاز عصبي خالص هو جهاز التوليد لا يمر به معنًى إلا تجسَّد فيه بصورة غير صورته.

وقد استوفينا الكلام على ذلك في مقالنا «سر النبوغ في الأدب». وهو لا غيره سر العبقرية.

فأمْثَلُ الطرق في نقد موهبة الشاعر إدراكها بالروح الشعرية القوية من ناحية إحساسها والنفاذ إلى بصيرتها، واكتناهِ١٣ مقادير الإلهام فيها، وتأمُّل آثارها في الجمال، وتدبُّر طبيعتها الموسيقية في الحِسِّ والفهم والتعبير، وتبيُّن قدرتها على الفرح والحزن بأشجى وأرقِّ ما تهتاج في النفس الحساسة، ومعرفة قوة التحويل في عواطفها للمعاني الإنسانية والطبيعية تحويلًا يجعل القوة أقوى مما تبلغ، والحقيقة أكبر مما تظهر، وتأتي بكل شيء ومعه شيء؛ وليس ينتهي الناقد إلى ذلك إلا بالبحث في الأغراض أي: «المواضيع» التي نظم فيها الشاعر وما يصله بها من أمور عيشه وأحوال زمنه وكيف تناولها من ناحيته ومن ناحيتها وماذا أبدع، ثم في أيِّ المنازل يقع شعره من شعر غيره في تاريخ لغته وآدابها، ثم نظرته الفلسفية إلى الحياة ومسائلها واتساعه لأفراحها وآلامها وقوة أمواجه الروحية في هذا البحر الإنساني الرجَّاف١٤ المتضرِّب الذي يبلغ في نفوس بعض الشعراء أن يكون كالأقيانوس١٥ وفي بعضها أن يكون كالمستنقع … ثم دقة فهمه عن وحي الطبيعة والإشراف على جلية معناها بالهمسة واللمسة، وتسقُّط إلهام الغيب منها بالإيماءة واللحظة؛ وهذا كله لا يستوسق للناقد العظيم إلا إذا كان مع روحه الشعرية التي اختص بها محيطًا بآثار الشعراء في لغته، بصيرًا بمآخذها؛ محكِمًا لأسباب الموازنة بينها، متصرِّفًا مع ذلك بأداة قوية من صناعة اللغة والبيان وفنون الأدب.

وإذا كان من نقد الشعر عِلْم فهو علم تشريح الأفكار، وإذا كان منه فَنٌّ فهو فن درس العاطفة، وإذا كان منه صناعة فهي صناعة إظهار الجمال البياني في اللغة …

١  يرهف: يُرقِّق ويُلطِّف.
٢  تَكْنُنه: تُقِرُّه.
٣  يتواطأ: يجتمع.
٤  سردها: روايتها.
٥  ليشف: ليَظهَر ويرِقَّ.
٦  بسطناه: أظهرناه وأوضحناه.
٧  يتخالجه: يعْتَمِل في نفسه ويُحسُّه.
٨  محقته: مَحَتْه.
٩  التاث: شُوِّه وتلوَّث وفَسَد.
١٠  باصرتيها: نظرها.
١١  المستوخمة: المستكرَهة.
١٢  يخالج النفس: يُداخِلها ويوحى لها.
١٣  اكتناه: اكتشاف.
١٤  الرجاف: المضطرِب.
١٥  الأقيانوس: المحيط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤