فلسفة القصة ولماذا لا أكتب فيها …؟

لم أكتب في القصة إلا قليلًا، إذا أنت أردت الطريقة الكتابية المصطلح على تسميتها بهذا الاسم، ولكني مع ذلك لا أراني وضعت كل كتبي ومقالاتي إلا في قصة بعينها، هي قصة هذا العقل الذي في رأسي، وهذا القلب الذي بين جنبيَّ …

أنا لا أعبأ بالمظاهر والأعراض التي يأتي بها يوم وينسخها يوم آخر، والقِبْلة التي أتجه إليها في الأدب إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها، فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويمكِّن لفضائلها وخصائصها في الحياة؛ ولذا لا أمسُّ من الآداب كلها إلا نواحيها العليا؛ ثم إنه يخيَّل إلي دائمًا أني رسولٌ لُغَويٌّ بُعثتُ للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه، فأنا أبدًا في موقف الجيش «تحت السلاح»: له ما يُعانيه وما يُكلَّفه وما يحاوله ويفي به، وما يتحاماه١ ويتحفَّظ فيه، وتاريخ نصره وهزيمته في أعماله دون سواها؛ وكيف اعترضتَ الجيش رأيتَه فنَّ نفسه، لا فنَّك أنت ولا فنَّ سواك؛ إذ هو لطريقته وغايته وما يتأدَّى به للحياة والتاريخ.

ألا ترى أن تلك الروايات تُوضع قصصًا، ثم تُقرأ فتبقَى قصصًا؟ وإن هي صَنعتْ شيئًا في قرائها لم تزد على ما تفعل المخدِّرات؛ تكون مُسكِّنات عصبية إلى حين، ثم تنقلب هي بنفسها بعد قليل إلى مهيِّجات عصبية؟

وأنا لا أُنكِر أن في القصة أدبًا عاليًا، ولكن هذا الأدب العالي في رأيي لا يكون إلا بأخذ الحوادث وتربيتها في الرواية كما يُربَّى الأطفال على أسلوب سواء في العلم والفضيلة؛ فالقصة من هذه الناحية مدرسة لها قانون مسنون، وطريقة ممحِّصة، وغاية معينة؛ ولا ينبغي أن يتناولها غير الأفذاذ٢ من فلاسفة الفكر الذين تُنصِّبهم مواهبهم لإلقاء الكلمة الحاسمة في المشكلة التي تثير الحياة أو تثيرها الحياة؛ والأعلام من فلاسفة البيان الذين رُزقوا من أدبهم قوة الترجمة عما بين النفس الإنسانية والحياة، وما بين الحياة موادها النفسية في هؤلاء وهؤلاء، تتخيل الحياة فتبدع أجمل شعرها، وتتأمل فتُخرِج أسمى حكمتها، وتُشرِّع فتضع أصحَّ قوانينها.

وأما مَن عداهم ممن يحترفون كتابة القصص، فهم في الأدب رِعاع وهَمَج، كان من أثر قصصهم ما يتخبَّط فيه العالم اليوم من فوضى الغرائز، هذه الفوضى الممقوتة التي لو حقَّقْتَها في النفوس لما رأيتَها إلا عامية روحانية منحطة تتسكَّع فيها النفس مشرَّدة في طرق رذائلها.

إذا قرأتَ الرواية الزائفة أحسستَ في نفسك بأشياء بدأت تسفُل، وإذا قرأتَ الرواية الصحيحة أدركتَ من نفسك أشياء بدأتْ تعلو، تنتهي الأولى فيك بأثرها السيِّئ، وتبدأ الثانية منك بأثرها الطيِّب؛ وهذا عندي هو فرق ما بين فن القصة وفن التلفيق القصصي!

١  يتحاماه: يتحاشاه.
٢  الأفذاذ: النوابغ المتفوقون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤