البؤساء

تَرْجَمَ حافظٌ هذا الجزء الثاني من البؤساء فطوى به الأول، وكانوا يحسبون الأول قد عَقِمَتْ بمثله البلاغة فلا ثاني له. وبين الجزئين زمنٌ لو اتسع به أديب في قراءة كتب الأدب لاستوعبها كلها، فكأن ارتفاع السن بحافظ في هذه المدة جعل منه في قوة الأدب حافظين يترجمان معًا.

وما البؤساء في ترجمته إلا فكر فيلسوف تعلَّق في قلم شاعر فانعطفتْ عليه حواشي البيان من كل نواحيه، وجاء ما تدري أَشِعْرًا من النثر أم نثرًا من الشعر؟! وخرجت به الكتابة في لون من الصفاء والإشراق كأنما تنحلُّ عليه أشعة الضحى.

ترجم حافظ فوضع اللغة بين فكره ولسانه، ووقف تحت سحابة من السحب التي خفق عليها جناح جبريل، فما تخلو كتابتُه من ظلٍّ يتنفَّس عليك برائحة الإعجاز؛ وتراه يتحدَّر مع الكلام ويتناول منه ويدع، فما نزعَ به الكلامُ منزعًا إلا وجده متمكِّنًا منه وأصابه حيث أصابه كالتيار جملة واحدة تلفُّ أول النهر وآخره على مدِّ ما يجري؛ فهو حيث كان في السهْل وفي الصعْب، غير أنه يستسِرُّ في موضع ويستعلن في موضع، ويجيشُ ويهدِر ويترامى في العمق فيدوِّي دويًّا.

ومن هنا يحسبه بعضهم يجنح إلى ما يستجفي من الكلام، وإلى استكراه بعض الألفاظ والتكلُّف لبعضها؛ وإنما ذاك وضعٌ من أوضاع اللغة ومذهبٌ من مذاهب البلاغة، ولا بد أن يشتدَّ القولُ ويَلِين، وأن يكون في أجراس الحروف ما في نغم الإيقاع؛ وما أشبهَ هندسةَ البيان بهندسة الطبيعة التي تعمز النهر وترمي بالبحر وتقذف بالجبل الأشم، وما الجبلُ لو حققتَ في وجوه التناسب الطبيعي إلا بحر قد تحجَّر فانتثرتْ أمواجُه من صخوره، وكلا اثنيهما على ما بين الصلابة واللين تعبير في أساليب القوة عن القوة، وتوضيح لأقوى ما لا يمكن أن يظهر، بأقوى ما لا يمكن أن يخفى.

يخطئ الضِّعافُ مِن الكُتَّاب — وبخاصة في أيامنا هذه — إذا حسبوا الفصاحة العربية قبيلًا واحدًا من اللفظ الرقيق المأنوس؛ ولقد تجد بعض هؤلاء الضعفاء وإنه لَيرى في الكلام الجزل المتفصِّح ما يرى في جمجمة الأعاجم إذا نطقوا فلم يُبِينوا؛ وإنما هي العربية، وإنما فصاحتها في مجموع ما يطَّرد به القول؛ والفصاحة في جملتها وتفصيلها إحكام التناسب بين الألفاظ والمعاني، والغرض الذي يتَّجِه إليه كلاهما؛ فمتى فُصِّل الكلام على هذا الوجه وأُحكِم على هذه الطريقة، رأيتَ جماله واضحًا بيِّنًا في كل لفظ تقوم به العبارة، من النسج المهلهَل الرقيق، إلى الحبك المحكم الدقيق، إلى الأسلوب المندمج الموثَّق الذي يُسرَد في قوة الحديد؛ إذ يكون كل حرف لموضعه، ويكون كل موضع لحرفه، ويكون كل ذلك بمقدار لا يُسرف، وقياس لا يُخطئ، ووزن لا يَختلف؛ وهذه هي طبيعة الفصاحة العربية دون سائر اللغات، وبها أمكن الإعجاز في هذه اللغة ولم يُمكن في سواها.

ومترجم البؤساء أحدُ الأفراد المعدودين الذين أحكموا هذه الطريقة ونفذوا إلى أسرارها، ففي كل موضع من كتابته موضع رَوْعة، حتى ما تدري أيكتب أم يصوغ أم يصور، وكأنه لا ينقل من لسان إلى لسان، بل من فكر إلى فكر، فترى أكثر جملة كأنها تضيء فيها المصابيح.

ومن الخواص التي انفرد بها حافظ أنه ظاهرٌ في صنعة ألفاظه ظهورَ هيجو في صنعة معانيه؛ إذ لا تجد غيرَه من المترجمين يتَّسع لهذا الأسلوب أو يُطيقه؛ وأكثر الكتب المترجمة إلى العربية إنما تَطمِس على اسم المترجم قبل أن تَكشِف عن اسم المؤلف، فلا يحيا الميتُ إلا بموت الحيِّ؛ وهم في أكثر ما يصنعون لا يَعْدُون أن يُصحِّحوا العامية أو يُفْصِحوا بها قليلًا، فيستوي في صنعة البيان أن يكون ناقل الكتاب هذا أو ذاك أو ذلك؛ لأنهم سواسية، ولا تُؤتيك كتبُهم أكثر مما يؤتيك الاسم المعلَّق على مسماه.

غير أنك في البؤساء ترى مع الترجمة صنعة غير الترجمة، وكأنما ألَّف هيجو هذا الكتاب مرة وألَّفه حافظ مرتين، إذ ينقل عن الفرنسية؛ ثم يفتنُّ في التعبير عما ينقل، ثم يُحكِم الصنعة فيما يفتنُّ، ثم يبالغ فيما يحكم؛ فأنت من كتابه في لغة الترجمة، ثم في بيان اللغة، ثم في قوة البيان؛ وبهذا خرج الكتاب وإن مترجمه لأحقُّ به في العربية من مؤلِّفه، وجاء وما يستطيع أحد أن ينسى أنه لحافظ دون سواه.

وتلك طريقة في الكتابة لا يُستعان عليها إلا بالأدب العزيز، والذوق الناضج، والبيان المطبوع؛ ثم بالصبر على مطاولة التعب ومعاناة الكدِّ في تخيُّر اللفظ وتجويد الأسلوب وتصفية العبارة؛ فلقد يُنفِق الكاتب وقتًا في عمر الليل ليُخرِج من آخره سطرًا في نور الفجر، وبهذا الصنيع جاءت صفحات البؤساء على قِلَّتها كشباب الهَوَى؛ لكل يوم منه فجره وشمسه، ولكل ليلة قمرها ونجومها.

•••

والذي نغتمزه١ في هذه الترجمة أن الضَّجَر يستبِدُّ أحيانًا بصاحبنا فيستكرهه على غير طبعه، ويردُّه إلى غير مألوفه؛ ومن ثَمَّ يضطرب ذوقه وسليقته أو يذهب به عنهما، فيعدِل بالمعنى عن لفظه المعروف الذي استعمله الأدباء فيه، كاستعماله: قَارِنْ بيْنَ كذا وكذا، وإنما يستعملون: مَثِّل بينهما، أو يُخِلُّ بوزن الكلمة في ميزان الذوق، فترى العبارة اليابسة في الجملة الخضراء التي ترِفُّ؛ وذلك ما لا مطمع لأحد أن يَسلَم منه؛ لأنه أثر الضعف الإنساني فيمن ارتهنوا أنفسهم بملابسة القوة العليا في هذه الإنسانية.

ولم يَتَنَزَّه عنه كتابٌ إلا ذلك الكتاب العزيز الذي اهتزَّت له السموات السبع والأرض ومن فيهن.

١  نغتمزه: نجده مغمزًا للانتقاص من قدره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤