سُمُوُّ الحُبِّ

صاحَ المنادي في موسم الحج: «لا يُفتي الناسَ إلا عطاءُ بن أبي رباح.» وكذلك كان يفعل خلفاء بني أمية؛ يأمرون صائحهم في الموسم أن يدلَّ الناس على مفتي مكة وإمامها وعالمها؛ لِيَلْقَوْهُ بمسائلهم في الدين، ثم ليُمْسِكَ غيرُه عن الفتوى؛ إذ هو الحجَّة القاطعة لا ينبغي أن يكون معها غيرها مما يختلف عليها أو يعارضها، وليس للحُجج إلا أن تظاهرها وتترادف على معناها.

وجلس عطاءٌ يتحيَّن الصلاة في المسجد الحرام، فوقف عليه رجل وقال: يا أبا محمد، أنت أفتيتَ كما قال الشاعر:

سَلِ المفتيَ المكيَّ: هل في تزاورٍ
وضمَّةِ مشتاقِ الفؤادِ جُنَاحُ؟١
فقال: معاذَ الله أن يُذهِب التُّقى
تلاصقُ أكبادٍ بهنَّ جِراحُ!

فرفع الشيخ رأسه وقال: والله ما قلتُ شيئًا من هذا، ولكن الشاعر هو نحلني هذا الرأي الذي نفثه الشيطانُ على لسانه، وإني لأخاف أن تشيع القالةُ في الناس، فإذا كان غدٌ وجلستُ في حلقتي فاغدُ عليَّ، فإني قائلٌ شيئًا.

وذهب الخبر يؤُجُّ كما تَؤجُّ النار،٢ وتعالَمَ الناسُ أن عطاءً سيتكلم في الحب، وعَجِبوا كيف يدري الحبَّ أو يُحسِن أن يقول فيه مَن غَبَر عشرين سنة فراشُه المسجدُ، وقد سمع من عائشة أم المؤمنين، وأبي هريرة صاحب رسول الله ، وابن عباس بحر العلم!

وقال جماعة منهم: هذا رجلٌ صامت أكثر وقته، وما تكلَّم إلا خُيِّل إلى الناس أنه يُؤيَّد بمثل الوحي، فكأنما هو نَجِيُّ ملائكةٍ يسمع ويقول، فلعلَّ السماء موحيةٌ إلى الأرض بلسانه وحيًا في هذه الضلالة التي عمَّت الناس وفتنتهم بالنساء والغناء.

ولمَّا كان غدٌ جاء الناس أرسالًا٣ إلى المسجد، حتى اجتمع منهم الجمع الكثير. قال عبد الرحمن بن عبد الله أبي عمَّار: وكنتُ رجلًا شابًّا من فتيان المدينة، وفي نفسي من الدنيا ومن هوى الشباب، فغدوتُ مع الناس، وجئتُ وقد تكلَّم أبو محمد وأفاض، ولم أكن رأيتُهُ من قبلُ، فنظرتُ إليه فإذا هو في مجلسه كأنه غراب أسود؛ إذ كان ابنَ أَمَةٍ سوداء تُسمَّى «بَرَكة»، ورأيتُهُ مع سواده أعور أفطس أشلَّ أعرج مفلفل الشعر، لا يتأمل المرءُ منه طائلًا، ولكنك تسمعه يتكلم فتظن منه ومن سواده — والله — أن هذه قطعة ليل تسطع فيها النجوم، وتصعد من حولها الملائكة وتنزل.

قال: وكان مجلسه في قصة يوسف — عليه السلام، ووافقته وهو يتكلم في تأويل قوله تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ.

قال عبد الرحمن: فسمعتُ كلامًا قدسيًّا تضع له الملائكةُ أجنحتها من رضًى وإعجابٍ بفقيه الحجاز، حفظتُ منه قوله:
عجبًا للحب! هذه مَلِكةٌ تعشق فتاها الذي ابتاعه زوجها بثمن بخس؛٤ ولكن أين مُلْكها وسطوةُ مُلْكها في تصوير الآية الكريمة؟ لم تَزِد الآية على أن قالت: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي و«الَّتِي» هذه كلمة تدل على كل امرأة كائنة من كانت؛ فلم يبقَ على الحب مُلكٌ ولا منزلة؛ وزالت الملكة من الأنثى!
وأعجب من هذا كلمة «رَاوَدَتْهُ»،٥ وهي بصيغتها المفردة حكايةٌ طويلةٌ تشير إلى أن هذه المرأة جعلتْ تعترض يوسف بألوان من أنوثتها؛ لونٍ بعد لونٍ؛ ذاهبةً إلى فنٍّ، راجعةً من فنٍّ؛ لأن الكلمة مأخوذة من رَوَدَان الإبل في مِشيتها؛ تذهب وتجيء في رفق. وهذا يصوِّر حيرة المرأة العاشقة، واضطرابها في حبها، ومحاولتها أن تَنفُذ إلى غايتها، كما يصور كبرياء الأنثى إذ تختال وتترفَّق في عرض ضعفها الطبيعي كأنما الكبرياء شيء آخر غير طبيعتها؛ فمهما تتهالك على من تحب وجب أن يكون لهذا «الشيء الآخر» مظهرُ امتناعٍ، أو مظهرُ تحيُّرٍ، أو مظهرُ اضطرابٍ، وإن كانت الطبيعة من وراء ذلك مندفعة ماضية مصممة.
ثم قال: عَن نَّفْسِهِ؛ ليدلَّ على أنها لا تطمع فيه، ولكن في طبيعته البشرية؛ فهي تعرض ما تعرض لهذه الطبيعة وحدها، وكأن الآية مصرِّحة في أدب سامٍ كل السمو، منزَّه٦ غاية التنزيه بما معناه: «إن المرأة بذلت كل ما تستطيع في إغرائه وتصبيته، مقبلةً عليه ومتدلِّلة ومتبذِّلة ومنصبَّة من كل جهة، بما في جسمها وجمالها على طبيعته البشرية، وعارضةً كل ذلك عَرْضَ امرأةٍ خلعت — أول ما خلعت — أمام عينيه ثوبَ المُلك.»

ثم قال: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ ولم يقل: «أغلقت»، وهذا يُشعر أنها لما يئست، ورأت منه محاولة الانصراف، أسرعت في ثورة نفسها مهتاجةً تتخيَّل القُفْلَ الواحد أقفالًا عدة، وتجري من باب إلى باب، وتضطرب يدها في الإغلاق، كأنما تحاول سدَّ الأبواب لا إغلاقها فقط.

وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ،٧ ومعناها في هذا الموقف أن اليأس قد دفع بهذه المرأة إلى آخر حدوده، فانتهت إلى حالة من الجنون بفكرتها الشهوانية، ولم تعد لا ملكةً ولا امرأةً، بل أنوثة حيوانية صِرْفَة، متكشِّفة مصرِّحة، كما تكون أنثى الحيوان في أشد اهتياجها وغليانها.
هذه ثلاثة أطوار يترقَّى بعضها من بعض، وفيها طبيعة الأنوثة نازلةً من أعلاها إلى أسفلها، فإذا انتهت المرأة إلى نهايتها، ولم يبقَ وراء ذلك شيء تستطيعه أو تعرضه، بدأت مِن ثَمَّ عظمةُ الرجولة السامية المتمكنة في معانيها، فقال يوسف: مَعَاذَ اللهِ، ثم قال: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ،٨ ثم قال: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، وهذه أسمى طريقة إلى تنبيه ضمير المرأة في المرأة؛ إذ كان أساس ضميرها في كل عصر هو اليقين بالله، ومعرفة الجميل، وكراهة الظلم. ولكن هذا التنبيه المترادف ثلاث مرات لم يكسر من نَزْوَتِها، ولم يَفْثَأ تلك الحِدَّةَ، فإن حبَّها كان قد انحصر في فكرة واحدة اجتمعت بكل أسبابها في زمن، في مكان، في رجل؛ فهي فكرة محتبسة كأن الأبواب مغلَّقة عليها أيضًا؛ ولذا بقيت المرأة ثائرة ثورة نفسها. وهنا يعود الأدب الإلهي السامي إلى تعبيره المعجِز فيقول: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ كأنما يومئ بهذه العبارة إلى أنها ترامت عليه، وتعلَّقت به، والتجأت إلى وسيلتها الأخيرة، وهي لمس الطبيعة بالطبيعة؛ لإلقاء الجمرة في الهشيم …!

جاءت العاشقة في قضيتها ببرهان الشيطان يقذف به في آخر محاولته، وهنا يقع ليوسف — عليه السلام — برهان ربه، كما وقع لها هي برهان شيطانها، فلولا برهان ربه لكان رجلًا من البشر في ضعفه الطبيعي.

قال أبو محمد: وها هنا، ها هنا المعجزة الكبرى؛ لأن الآية الكريمة تريد ألا تنفي عن يوسف — عليه السلام — فحولة الرجولة، حتى لا يُظَنَّ به، ثم هي تريد من ذلك أن يتعلَّم الرجال، وخاصة الشبَّان منهم، كيف يتسامَوْن٩ بهذه الرجولة فوق الشهوات، حتى في الحالة التي هي نهاية قدرة الطبيعة؛ حالة ملكةٍ مُطاعة فاتنة عاشقة مختلية متعرِّضة متكشِّفة متهالكة. هنا لا ينبغي أن ييأس الرجل؛ فإن الوسيلة التي تجعله لا يرى شيئًا من هذا هي أن يرى برهان ربه.
وهذا البرهان يُئوِّله١٠ كلُّ إنسان بما شاء؛ فهو كالمفتاح الذي يوضع في الأقفال كلها فيفُضُّها كلها؛ فإذا مثل الرجلُ لنفسه في تلك الساعة أنه هو وهذه المرأة منتصبان أمام الله يراهما، وأن أمانيَّ القلب التي تهجس١١ فيه ويظنها خافية إنما هي صوت عالٍ يسمعه الله؛ وإذا تذكَّر أنه سيموت ويُقبَر، وفكَّر فيما يصنع الثرى١٢ في جسمه هذا، أو فكَّر في موقفه يوم تشهد عليه أعضاؤه بما كان يعمل، أو فكَّر في أن هذا الإثم الذي يقترفه الآن سيكون مرجعه عليه في أخته أو بنته؛ إذا فكَّر في هذا ونحوه رأى برهانَ ربِّه يطالعه فجأة، كما يكون السائر في الطريق غافلًا مندفعًا إلى هاوية، ثم ينظر فجأة فيرى برهان عينه؛ أترونه يتردَّى في الهاوية١٣ حينئذ، أم يقف دونها وينجو؟ احفظوا هذه الكلمة الواحدة التي فيها أكثر الكلام، وأكثر الموعظة، وأكثر التربية، والتي هي كالدرع في المعركة بين الرجل والمرأة والشيطان؛ كلمة رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ.

•••

قال عبد الرحمن بن عبد الله وهو يتحدث إلى صاحبه سهيل بن عبد الرحمن: ولزمتُ الإمام بعد ذلك، وأجمعتُ أن أتشبَّه به، وأسلُك في طريقه من الزهد والمعرفة؛ ثم رجعتُ إلى المدينة وقد حفظتُ الرجلَ في نفسي كما أحفظ الكلام، وجعلتُ شعاري في كل نزعة من نزعات النفس هذه الكلمة العظيمة: رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ، فما ألممتُ بإثم١٤ قط، ولا دانيتُ معصيةً، ولا رَهِقني١٥ مطلب من مطالب النفس إلى يوم الناس هذا، وأرجو أن يعصمني١٦ الله فيما بقي؛ فإن هذه الكلمة ليست كلمة، وإنما هي كأمر من السماء تحمله، تمرُّ به آمنًا على كل معاصي الأرض، فما يعترضك شيءٌ منها، كأن معك خاتم المَلِك تجوز به.
قال سهيل: فلهذا لقَّبك أهل المدينة «بالقَسِّ» لعبادتك وزهدك وعزوفك عن النساء،١٧ وقليل لك — والله — يا أبا عبد الله، فلو قالوا: ما هذا بَشَرًا إن هذا إلا ملكٌ، لصدقوا.

•••

قالت سَلَّامة جارية سهيل بن عبد الرحمن المغنية، الحاذقة الظريفة، الجميلة الفاتنة، الشاعرة القارئة، المؤرِّخة المتحدِّثة، التي لم يجتمع في امرأة مثلها حُسن وجهها، وحُسن غنائها، وحُسن شعرها؛ قالت: واشتراني أمير المؤمنين يزيدُ بن عبد الملك بعشرين ألف دينار (عشرة آلاف جنيه) وكان يقول: ما يُقِرُّ عيني ما أوتيتُ من الخلافة حتى أشتري سلَّامة. ثم قال حين ملكني: ما شاء بعدُ من أمر الدنيا فَلْيَفُتْنِي! قالت: فلما عُرِضْتُ عليه أمرني أن أغنيه، وكنت كالمخبولة من حب عبد الرحمن القَس، حبًّا أراه فالقًا كَبِدي، آتيًا على حُشاشتي، فذهب عني — والله — كل ما أحفظه من أصوات الغناء، كما يُمسح اللوح مما كُتب فيه، وأُنسيت الخليفة وأنا بين يديه، ولم أرَ إلا عبد الرحمن ومجلسه مني يوم سألني أن أغنيه بشعره فيَّ، وقولي له يومئذ: حبًّا وكرامة وعزاةً لوجهك الجميل. وتناولتُ العود وجِسْتُهُ بقلبي قبل يدي، وضربتُ عليه كأني أضرب لعبد الرحمن، بيدٍ أرى فيها عقلًا يحتال حيلة امرأة عاشقة، ثم اندفعتُ أغني بشعر حبيبي:

إنَّ التي طرقتْكَ١٨ بين ركائب
تمشي بمِزْهَرِها وأنت حرام١٩
لِتصيدَ قلبَكَ، أو جزاء مودةٍ
إن الرفيق له عليكَ ذِمام
باتت تعللنا وتحسِبُ أننا
في ذاك أيقاظٌ، ونحن نيامُ
وغنَّيتُهُ — والله — غناءَ والهةٍ ذاهبةِ العقلِ كاسفةِ البالِ،٢٠ وردَّدتُه كما ردَّدتُه لعبد الرحمن، وأنا إذ ذاك بين يديه كالوردة أول ما تتفتح، وأنا أنظر إليه وأتبيَّن لصوتي في مسمعيه صوتًا آخر … وقطَّعتُهُ ذلك التقطيع، ومدَّدته ذلك التمديد، وصحتُ فيه صيحة قلبي وجوارحي كلها كما غنيتُ عبدَ الرحمن؛ لكيما أؤدي إلى قلبه المعنى الذي في اللفظ والمعنى الذي في النفس جميعًا، ولكيما أُسْكِره — وهو الزاهد العابد — سُكْرَ الخمر بشيء غير الخمر!

وما أفقتُ من هذه إلا حين قطعتُ الصوت، فإذا الخليفة كأنما يسمع من قلبي لا من فمي وقد زلزله الطرب، وما خَفِيَ عليَّ أنه رجل قد أَلَمَّ بشأن امرأة، وخشيتُ أن أكون قد افتضحتُ عنده؛ ولكن غلبتْهُ شهوتُهُ، وكان جسدًا بما فيه يريد جسدًا لما فيه، فمن ثَمَّ لم ينكر ولم يتغير.

واشتراني وصرت إليه، فلما خلونا سألني أن أغنِّي، فلم أشعر إلا وأنا أغنِّيه بشعر عبد الرحمن:

ألا قلْ لهذا القلب: هل أنت مُبصر
وهل أنت عن سلَّامة اليوم مقصرُ
إذا أخذتْ في الصوت كاد جليسُها
يطير إليها قلبُهُ حين تنظرُ
وأديتُهُ على ما كان يستحسنه عبد الرحمن ويطرب له؛ إذ يسمع فيه همسًا من بكائي، ولهفة مما أجد به، وحسرة على أنه ينسكب في قلبٍ، وهو يصد عني ويتحاماني،٢١ وما غنَّيت: «وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر» إلا في صوت تنوح به سلَّامة على نفسها، وتندب وتتفجَّع!

فقال لي يزيد، وقد فضحتُ نفسي عنده فضيحةً مكشوفة: يا حبيبتي، من قائل هذا الشعر؟

قلت: أحدِّثك بالقصة يا أمير المؤمنين؟

قال: حدِّثيني.

قلت: هو عبد الرحمن بن أبي عمَّار الذي يلقِّبونه بالقَس؛ لعبادته ونسكه، وهو في المدينة يُشبه عطاء بن أبي رباح، وكان صديقًا لمولاي سهيل، فمرَّ بدارنا يومًا وأنا أغني فوقف يسمع، ودخل علينا «الأحوص»، فقال: ويحكم! لكأن الملائكة — والله — تتلو مزاميرها بحَلْق سلَّامة، فهذا عبد الرحمن القس قد شُغل بما يسمع منها، وهو واقف خارج الدار. فتسارع مولاي فخرج إليه ودعاه إلى أن يدخل فيسمع مني، فأبى! فقال له: أما علمتَ أن عبد الله بن جعفر، وهو مَنْ هو في محله وبيته وعلمه قد مشى إلى جميلة أستاذة سلَّامة حين علم أنها آلت ألِيَّةً ألا تغني أحدًا إلا في منزلها؛ فجاءها فسمع منها، وقد هيَّأت له مجلسها، وجعلت على رءوس جواريها شعورًا مُسدلة كالعناقيد، وألبستهنَّ أنواع الثياب المصبَّغة، ووضعت فوق الشعور التيجان، وزيَّنتهن بأنواع الحِلَى، وقامت هي على رأسه، وقام الجواري صَفَّين بين يديه، حتى أقسم عليها فجلست غير بعيد، وأمرتِ الجواري فجلسن، ومع كل جارية عودها؛ ثم ضربن جميعًا وغنَّت عليهن، وغنَّى الجواري على غنائها؟! فقال عبد الله: ما ظننتُ أن مثل هذا يكون؟!

وأنا أُقعدك في مكانٍ تسمع من سلَّامة ولا تراها، إن كنتَ عند نفسك بالمنزلة التي لم يبلغها عبد الله بن جعفر!

قالت سلَّامة: وكانت هذه والله — يا أمير المؤمنين — رُقية من رُقَى إبليس؛ فقال عبد الرحمن: أما هذا فنِعْمَ. ودخل الدار وجلس حيث يسمع، ثم أمرني مولاي فخرجت إليه خروج القمر مشبوبًا من سحابة كانت تغطيه؛ فأما هو فما رآني حتى عَلِقْتُ بقلبه،٢٢ وسبَّح طويلًا طويلًا؛ وأما أنا فما رأيتُهُ حتى رأيت الجنة والملائكة، ومُتُّ عن الدنيا وانتقلتُ إليه وحده …

•••

قالت سلَّامة: وافتضحتُ مرة أخرى، فتنحنح يزيد … فضحكتُ وقلت: يا أمير المؤمنين، أحدِّثك أم حسبُك؟ قال: حدثيني ويحك! فوالله لو كنتِ في الجنة كما أنتِ لأعدتِ قصة آدم مع واحدٍ واحدٍ من أهلها حتى يُطردوا جميعًا من حُسنها إلى حُسنك! فما فعل القَسُّ ويحك؟

قلت: يا أمير المؤمنين، إنه يدعى القَس قبل أن يهواني.

فقال يزيد: وهل عجبٌ وقد فتنتِه أن يطرده «البطريق»؟

قلت: بل العجب وقد فتنتُه أن يصير هو البطريق …!

فضحك يزيد وقال: إيه، ما أحسب الرجل إلا قد دُهِيَ منكِ بداهية!٢٣ فحدثيني فقد رفعتُ الغَيْرَةَ؛ إني — والله — ما أرى هذا الرجل في أمره وأمرك إلا كالفحل من الإبل، قد تُرك من الركوب والعمل، ونُعِّمَ وسُمِّنَ للفحلة فَنَدَّ يومًا، فذهب على وجهه، فأقحم في مفازة،٢٤ وأصاب مَرْتَعًا٢٥ فتوحَّش واستأسد،٢٦ وتبيَّن عليه أثر وحشيته، وأقبل قُبَالَ الجن من قوة ونشاط وبأس شديد؛ فلما طال انفراده وتأبُّده عرضتْ له في البَرِّ ناقةٌ كانت قد ندَّت٢٧ من عَطنها، وكانت فارهة جسيمة قد انتهت سِمْنًا، وغطاها الشحم واللحم، فرآها البازل الصئول،٢٨ فهاج وصال وهدر، يخبط بيده ورجله، ويُسمَع لجوفه دَوِيٌّ من الغليان، وإذا هي قد ألقت نفسها بين يديه!

أما — والله — لو جعل الشيطان في يمينه رجلًا فحلًا قويًّا جميلًا، وفي شماله امرأة جميلة عاشقة تهواه؛ ثم تمطَّى متدافعًا ومدَّ ذراعيه فابتعدا؛ ثم تراجع متداخلًا وضم ذراعيه فالتقيا؛ لكان هذا شأن ما بينك وبين القس!

قلت: لا — والله — يا أمير المؤمنين؛ ما كان صاحبي في الرجال خَلًّا ولا خمرًا، وما كان الفحل إلا الناقة …! وما أحسب الشيطان يعرف هذا الرجل، وهل كان للشيطان عملٌ مع رجل يقول: إني أعرف دائمًا فكرتي وهي دائمًا فكرتي لا تتغير، ذاك رجل أساسه كما يقول: بُرْهَانَ رَبِّهِ، ولقد تصنَّعتُ له مرةً يا أمير المؤمنين، وتشكَّلت وتحلَّيت وتبرَّجت،٢٩ وحدَّثت نفسي منه بكثير، وقلت إنه رجل قد غَبَر شبابه في وجود فارغ من المرأة، ثم وجد المرأة فيَّ وحدي، وغنَّيته يا أمير المؤمنين غناء جوارحي كلها، وكنت له كأني حريرٌ ناعم يترجرج ويُنشَر أمامه ويُطوى … وجلست كالنائمة في فراشها وقد خلا المجلس، وكنت من كل ذلك بين يديه كالفاكهة الناضجة الحُلوة تقول لمن يراها: «كلني …!»

قال يزيد: ويحك ويحك! وبعد هذا؟

قلت: بعد هذا يا أمير المؤمنين، وهو يهواني الهوى البَرْح،٣٠ ويعشقني العشق المضني، لم يرَ في جمالي وفتنتي واستسلامي إلا أن الشيطان قد جاء يرشوه بالذهب … الذي يتعامل به!

فضحك يزيد وقال: لا — والله — لقد عرض الشيطان منك ذهبه ولؤلؤه وجواهره كلها، فكيف لعمري لم يفلح؛ وهو لو رشاني من هذا كله بدرهم لوجد أمير المؤمنين شاهدَ زور …!

قلت: ولكني لم أيأس يا أمير المؤمنين، وقد أردتُ أن أظهر امرأةً فلم أُفلح، وعملتُ أن أظهر شيطانةً فانخذلتُ،٣١ وجهدتُ أن يرى طبيعتي فلم يرني إلا بغير طبيعة، وكلما حاولتُ أن أنزل به عن سكينته ووقاره رأيت في عينيه ما لا يتغير كنور النجم، وكانت بعض نظراته — والله — كأنها عصا المؤدِّب، وكأنه يرى في جمالي حقيقةً من العبادة، ويرى في جسمي خرافة الصنم، فهو مُقبلٌ عليَّ جميلةً، ولكنه منصرفٌ عني امرأةً.
لم أيأس على كل ذلك يا أمير المؤمنين، فإن أول الحبِّ يطلبُ آخره أبدًا إلى أن يموت. وكان يُكثر من زيارتي، بل كانت إليَّ الغَدْوَةُ والرَّوْحَةُ، من حبِّه إياي وتعلُّقه بي؛ فواعدتُهُ يومًا أن يجيء متي وارى الليلُ أهلَهُ لأغنِّيه: «ألا قل لهذا القلب …» وكنتُ لحَّنته ولم يسمعه بعد، ولبثت نهاري كله أستروح٣٢ في الهواء رائحة هذا الرجل مما أتلهف عليه، وأتمثَّل ظلام الليل كالطريق الممتد إلى شيء مخبوء أعلِّل النفس به، وبلغتُ ما أقدر عليه في زينة نفسي وإصلاح شأني، وتشكَّلت في صنوف من الزهر، وقلت لأجملهنَّ وهي الوردة التي وضعتُها بين نهديَّ: يا أختي، اجذبي عينه إليك، حتى إذا وقف نظره عليكِ فانزلي به قليلًا أو اصعدي به قليلًا …

قال يزيد وهو كالمحموم: ثُمَّ ثُمَّ ثُمَّ؟!

قلت: يا أمير المؤمنين، ثم جاء مع الليل، وإن المجلس لخالٍ ما فيه غيري وغيره، بما أُكابد منه، وما يعاني مني، فغنَّيتُهُ أحرَّ غناء وأشجاه،٣٣ وكان العاشق فيه يَطرب لصوتي، ثم يَطرب الزاهد فيه من أنه استطاع أن يَطرب، كما يطيش الطفل ساعة ينطلق من حبس المؤدِّب.
وما كان يسوءُني إلا أنه يمارس فيَّ الزهدَ ممارسةً، كأنما أنا صعوبةٌ إنسانيةٌ فهو يريد أن يغلبها، وهو يجرِّب قُوى نفسه وطبيعته عليها؛ أو كأنه يراني خيال امرأة في مرآة، لا امرأة مائلة له بهواها وشبابها وحسنها وفتنتها، أو أنا عنده كالحورية من حُور الجنة في خيالِ مَنْ هي ثوابه، تكون معه، وإن بينها وبينه من البعد ما بين الدنيا والآخرة؛ فأجمعتُ أن أحطِّم المرآة ليراني أنا نفسي لا خيالي، واستنجدتُ٣٤ كلَّ فتنتي أن تجعله يفرُّ إليَّ كلما حاول أن يفرَّ مني.
فلما ظننتُني ملأتُ عينيه وأذنيه ونفسه وانصببت إليه من كل جوارحه، وهِجْتُ التيارَ الذي في دمه ودفعتُهُ دفعًا، قلت له: «أنت يا خليلي٣٥ شيء لا يُعرف، أنت شيء مُتَلَفِّفٌ بإنسان، ومَن التي تعشق ثوب رجل ليس فيه لابسه؟!»

ورأيته — والله — يطوِّف عند ذلك بفكره، كما أُطوِّف أنا بفكري حول المعنى الذي أردتُه، فملت إليه وقلت: «أنا — والله — أحبُّك!»

فقال: «وأنا — والله — الذي لا إله إلا هو …»

قلت: «وأشتهي أن أعانقَكَ وأقبِّلَك!»

قال: «وأنا والله!»

قلت: «فما يمنعك؟ فوالله، إن الموضع لخالٍ!»

قال: «يمنعني قول الله عز وجل: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ٣٦ فأكره أن تحوَّلَ مودتي٣٧ لكِ عداوةً يوم القيامة.
إني أرى «بُرْهَانَ رَبِّي» يا حبيبتي، وهو يمنعني أن أكون من سيئاتك، وأن تكوني من سيئاتي، ولو أحببتُ الأنثى لوجدتُكِ في كل أنثى، ولكني أحب ما فيك أنت بخاصتك، وهو الذي لا أعرفه ولا أنت تعرفينه، هو معناكِ يا سلَّامة لا شخصُك.»٣٨

ثم قام وهو يبكي، فما عاد بعد ذلك يا أمير المؤمنين، ما عاد بعد ذلك، وترك لي ندامتي وكلام دموعه! وليتني لم أفعل، ليتني لم أفعل؛ فقد رأى أن المرأة — في بعض حالاتها — تكشف وجهها للرجل، وكأنها لم تُلْقِ حجابَها، بل ألقتْ ثيابَها.

١  جُناح: إثم.
٢  تؤج النار: تضطرم وتلتهب.
٣  أرسالًا: جماعات جماعات.
٤  ثمن بخس: ثمن منقوص لم يقدَّر بقيمته الحقيقية، زهيد.
٥  راودته: عملت على إغرائه.
٦  منزَّه: مترفِّع.
٧  هَيْتَ لك: تهيَّئتُ لك واستعددتُ لقضاء وطري منك.
٨  مثواي: عقباي.
٩  يتسامون: يترفَّعون.
١٠  يُئوِّله: يفسره.
١١  تهجس فيه: تثير فيه الخواطر.
١٢  الثرى: التراب.
١٣  يتردى في الهاوية: يقع فيها.
١٤  ألمَّ بالإثم: وقع فيه.
١٥  رهقني: أتعبني.
١٦  يعصمني: يمنعني.
١٧  عزوفك عن النساء: امتناعك عنهن.
١٨  طرقتْك: زارتْكَ ليلًا.
١٩  وأنت حرام: وأنت تصلي.
٢٠  كاسفة البال: خجل على شيء من الخبل.
٢١  يصد عني ويتحاماني: يمتنع عني.
٢٢  علقتُ بقلبه: عشقني وتملَّك حبه لي قلبه.
٢٣  الداهية: المصيبة.
٢٤  المفازة: الطريق الضيقة بحيث يصعب المرور فيها.
٢٥  المرتع: المرعى.
٢٦  فتوحَّش واستأسد: أي أصبح أسدًا متوحشًا.
٢٧  ندَّت: أفلتت.
٢٨  البازل الصَّئول: الفحل الشديد القوة من الجمال.
٢٩  تبرَّجت: تزيَّنت وتجمَّلت.
٣٠  الهوى البرح: الحب الشديد بحيث يجرفه في كل اتجاه فيشتت عقله وروحه.
٣١  انخذلت: انهزمت.
٣٢  أستروح: أشمُّ رائحة.
٣٣  أحرُّ غناء وأشجاه: أجمل الغناء المصحوب ببحة حزن.
٣٤  استنجدت: طلبت المعونة.
٣٥  الخليل: الصديق الودود.
٣٦  سورة الزخرف، الآية ٦٧.
٣٧  المودة: الصداقة.
٣٨  ورد نص هذا الحوار في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني حتى قوله لها: «يوم القيامة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤