القتل أنفى للقتل (٢)

ليست جاهلية

وبعد كلمتنا تلك عن الترجمة نشرَ أديبٌ في البلاغ أن الكلمة جاهلية، فتعقَّبناه بهذا التعليق:

•••

أثبتَ الأستاذ عبد العزيز الأزهري فيما نشره في «البلاغ» أن هذه الكلمة عربية في دعواه، واحتج لذلك بحُجَج، أقواها زعمه: «أنها وردتْ بين ثنايا عهد القضاء الذي بعث به سيدنا عمر إلى أبي موسى الأشعري؛ ولا ندري أين وَجد الكاتب كلمة: «القتل»، فضلًا عن: «القتل أنفى للقتل» — في ذلك العهد المشهور المحفوظ، وقد رواه الجاحظ في «البيان والتبيين»، وجاء به المُبرِّد في «الكامل»، ونقله ابن قتيبة في «عيون الأخبار». وأورده ابنُ عبدِ ربه في «العقد الفريد»، وساقه القاضي الباقلاني في «الإعجاز»؛ وفي كل هذه الروايات الموثَّقة لم تأتِ الكلمة في قول عمر، بل لا محلَّ لها في سياقه، وإنما جاء قوله: «فإن أحضرَ بيِّنةً أخذتَ له بحقِّه وإلَّا وجَّهتَ عليه القضاء؛ فإن ذلك أنفى للشَّكِّ.»

أما سائر حجج الكاتب فلا وزن لها في باب الرواية التاريخية وقد أصبح عَالِيها سافلَها كما رأيتَ.

والذي أنا واثق منه أن الكلمة لم تُعرف في العربية إلى أواخر القرن الثالث من الهجرة، وهذا الإمام الجاحظ يقول في موضع من كتابه «البيان والتبيين»، في شرح قول علي — كرَّم الله وجهه: «بقية السيف أنمى عددًا وأكثر ولدًا.» ما نصه:

ووجد الناس ذلك بالعيان للذي صار إليه ولده من نهك السيف وكثرة الذرءِ وكرم النجل؛ قال الله — تبارك وتعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ وقال بعض الحكماء: «قتل البعض إحياء للجميع.

ولم يزد الجاحظ على هذا، ولو كانتِ الكلمة معروفة يومئذٍ لما فاتتْه كما هو صنيعه في كتبه، خصوصًا وهي أوجز وأعذب مما نسبه لبعض الحكماء؛ وهذه العبارة الأخيرة «قتل البعض …» هي التي زعم الرازي في تفسيره أنها للعرب … فلا عبرة في هذا الباب بكلام المفسرين ولا المتأخرين من علماء البلاغة، وإنما الشأن للتحقيق التاريخي.

ونص الجاحظ في كتاب «حجج النبوة» على أن قومًا منهم ابن أبي العوجاء، وإسحاق بن الموت، والنعمان بن المنذر: «أشباههم من الأرجاس الذين استبدلوا بالعزِّ ذلًّا، وبالإيمان كفرًا، وبالسعادة شِقْوة، وبالحجة شبهة، كانوا يصنعون الآثار، ويولِّدون الأخبار، ويبثُّونها في الأمصار، ويطعنون بها على القرآن»؛ فهذا عندنا من ذاك.

وإن لم ينهض الدليل القاطع على أن الكلمة مترجمة عن الفارسية بظهور أصلها في تلك اللغة ورجوعه إلى ما قبل الإسلام، فهي ولا ريب مما وُضع على طريقة ابن الراوندي الزنديق الملحد الذي كان في منتصف القرن الثالث وألَّف في الطعن على هذه الطريقة: «إنا نجد في كلام العرب شيئًا أبلغ من وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ

وهؤلاء المتطرفون على القرآن الكريم إنما يريدون ما يصنعونه من مثل هذه الكلمة أن يوجِدوا للعامة وأشباههم من الأحداث والأغرار وأهل الزيغ والضعفاء في العلم — سبيلًا إلى القول في نقض الإعجاز، ومساغًا إلى التهمة في أن القرآن تنزيل؛ والخطأ في مثل هذا يتجاوز معنى الخطأ في البيان إلى معنى الكفر في الدين، وذلك ما يَرمُون إليه؛ وهذه بعينها هي طريقة المبشِّرين اليوم، فكأن إبليس من عهد أولئك الزنادقة إلى عهد المبشرين لم يستطع أن يتغيَّر، ولا أن يكون … أن يكون مجدِّدًا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤