الجمال البائس (٤)

قلتُ لها: إن قلبي وقلبك يتجاليان١ في هذه الساعة ويتباكيان؛ أتدرين ماذا يقول لك قلبي؟
إنه ليقول عني: أَعْزِزْ عليَّ بأن تكوني ها هنا، وأن تتألف منكِ هذه القصة التي تبدأ بالوَصْمة٢ وتنتهي بالاستخذاء، فتنطلق المرأة في متالفها٣ ومهاويها ليبلغ بها القدر ما هو بالغ؛ وليس إلا الضرورة وسطوتها بها، والإذلال ومهانته لها، والاجتماع وتهكُّمه عليها، والابتذال واستعباده إياها؛ ومهما يأتِ في القصة من معنى فليس فيها معنى الشرف؛ ومهما يكن من موقفٍ فليس فيها موقف الحياء؛ ومهما يَجْرِ من كلام فليس فيها كلمة الزوجة، وأعزِز عليَّ بأن أرى المصباح الجميل المشبوب٤ الذي وُضع ليضيء ما حوله، قد انقلب فجعل يُحرق ما حوله؛ وكان يتلألأ ويتوقَّد، فارتدَّ يتسعَّر ويتضرَّم ويجني ما يتصل به، وسقط بذلك سقطة حمراء …

أفتدرين ماذا يقول لي قلبك؟

إنه يقول عنك: يا بؤسنا من نساء! لقد وُضِعنا وضعًا مقلوبًا، فلا تستقيم الإنسانية معنا أبدًا، وكلُّ شيء منقلب لنا متنكِّر؛ والشفقة علينا تنقلب من تلقاء نفسها تهكُّمًا بنا؛ فنبكي من شفقة بعض الناس، كما نبكي من ازدراء بعض الناس. يا بؤسنا من نساء!

•••

قالت: صدقتَ، وكذلك تنقلبُ أسباب الحياة معنا أسبابًا للمرض والموت؛ فاليقظة ليس لها عندنا النهار بل الليل، والصَّحْو لا يكون فينا بالوعي بل بالسُّكْرِ، والراحة لا تكون لنا في السكون والانفراد، بل في الاجتماع والتبذُّل؛ وماذا يرد على امرأة من واجباتها السهرُ والسكرُ والعربدة، والتبذل، وتدريب الطباع بالوقاحة، وتَضْرِيَةُ النفس على الاستغواء، والتصدي بالجمال للكسب من رذائل الفسَّاق وأمراضهم، والتعرض لمعروفهم بأساليبَ آخرُها الهوان٥ والمذلة، واستماحتهم٦ بأساليبَ٧ أولها الخداع والمكر؟

إن حياةً هذه هي واجباتُها، لا يكون البكاء والهمُّ إلا من طبيعة من يحياها، وكثيرًا ما نعالج الضحك لنفتح لأنفسنا طُرُقًا تتهارب فيها معاني البكاء؛ فإذا أثقلَنَا الهمُّ وَجَلَّ عن الضحك وعجزنا عن تكلُّف السرور، خَتَلْنَا العقلَ نفسَه بالخمر؛ فما تسكر المرأة منا للسكر أو النشوة، بل للنسيان، وللقدرة على المرح والضحك، ولإمداد محاسنها بالأخلاق الفاجرة، من الطيش والخلاعة والسفه وهَذَيان الجمال الذي هو شعره البليغ … عند بلغاء الفساق.

قال الأستاذ «ح»: أهذا وحاضرُ الغادة٨ منكنَّ هو الشباب والصبى والجمال وإقبال العيش، فكيف بها فيما تستقبل؟!
قالت: إن المستقبل هو أخوف ما نخافه على أنفسنا، وليس من امرأةٍ في هذه الصناعة إلا وهي معدَّة لمستقبلها: إما نوعًا من الانتحار، وإما ضربًا من ضروب الاحتمال للذل والخسف؛٩ وليس مستقبلنا هذا كمستقبل الثمار النضرة إذا بقيت بعد أوانها، فهو الأيام العفنة بطبيعةِ ما مضى … بلى إن مستقبل المرأة البغيِّ هو عقابُ الشر.

•••

قال «ح»: هذا كلام ينبغي أن تعلمه الزوجات؛ فالمرأة منهن قد تَتَبَرَّمُ١٠ بزوجها وتضْجَرُ وتغتمُّ، وتزعمُ أنها مُعَذَّبَةٌ؛ فتتسخَّطُ الحياةَ، وتندُبُ نفسَها؛ ثم لا تعلم أنه عذابٌ واحد برجلٍ واحد، تألفُهُ، فتعتادُه، فتُرزَقُ من اعتياده الصبرَ عليه، فيسكن بهذا نِفَارُها؛ وتلك نعمة واجبها أن تحمدَ اللهَ عليها، ما دام في النساء مثل الشهيدات، تتعذَّب الواحدة منهن فنونًا من العذاب بمائة رجل، وبألف رجل، وهم مع ذلك يبتلون روحَها بعددهم من الذنوب والآثام.

وقد تستثقلُ الزوجةُ واجباتِها بين الزوج والنسل والدار، فتغتاظ وتشكو من هذه الرَّجْرَجَةِ اليومية في الحياة؛ ثم لا تعلم أن نساءً غيرَها قد انقلبتْ بهن الحياةُ في مثل الخسف بالأرض.

وقد تجزع١١ للمستقبل وتنسى أنها في أمان شَرَفِها، ثم لا تعلم أن نساءً يترقَّبْنَ١٢ هذا الآتي كما يترقَّب المجرمُ غَدَ الجريمةِ، من يومٍ فيه الشرطة والنيابة والمحكمة وما وراء هذا كله.

فقلت: وهناك حقيقة أخرى فيها العزاء كل العزاء للزوجات، وهي أن الزوجة امرأة شاعرة بوجود ذاتها، والأخرى لا تشعر إلا بضياع ذاتها.

والزوجة امرأة تجد الأشياء التي تتوزَّع حبَّها وحنان قلبها، فلا يزال قلبُها إنسانيًّا على طبيعته، يفيض بالحب، ويستمد من الحب؛ والأخرى لا تجد في هذا شيئًا، فتنقلب وحشيةَ القلب،١٣ يفيض قلبها برذائلَ، ويستمد من رذائل؛ إذ كان لا يجد شيئًا مما هيَّأته الطبيعة ليتعلَّق به من الزوج والدار والنسل.

والزوجة امرأةٌ هي امرأةٌ خالصة الإنسانية، أما الأخرى فمن امرأة ومن حيوان ومن مادة مهلكة.

وتمام السعادة أن النسلَ لا يكونُ طبيعيًّا مستقرًّا في قانونه إلا للزوجات وحدَهَنَّ؛ فهو نعمتهن الكبرى، وثواب مستقبلهن وماضيهن، وبركتهن على الدنيا؛ ومهما تكن الزوجة شقية بزوجها، فإن زوجها قد أولدَها سعادتَها، وهذه وحدها مزية ونعمة؛ أما أولئك فليس لهن عاقبة؛١٤ إذ النسل قلبٌ لحالتهن كلها؛ وهو غِنًى إنسانيٌّ، ولكنه عندهن لا يكون إلا فقرًا؛ وهو رحمة، ولكنها لا تكون إلا لعنة عليهن وعلى ماضيهن. وقد وُضعَتِ الطبيعةُ في موضع حب الولد الجديد من قلوبهن، حبَّ الرجل الجديد، فكانت هذه نقمة أخرى.

قال «ح»: أتريد من الرجل الجديد مَن يكون عندهنَّ الثاني بعد الأول، أو الثالث بعد الثاني، أو الرابع بعد الثالث؟

قلت: ليس الجديد عليهن هو الواحد بعد الواحد إلى آخر العدد، ولكنه الرجل الذي يكون وحدَه بالعدد جميعًا؛ إذ هو عندهنَّ يشبه الزوج في الاختصاص وفي شرف الحب، فهو الحبيب الشريف الذي تتعلَّقه إحداهن وتريد أن تكون معه شريفة، ولكن من نقمة الطبيعة أنَّ مَن وجدته منهن لا تجده إلا لتعاني ألمَ فقدِه.

يا عجبًا! كل شيء في الحياة يلقي شيئًا من الهم أو النكد أو البؤس على هؤلاء المسكينات، كأن الطبيعة كلها ترجمُهنَّ بالحجارة …

قالت هي: وليست الحجارة هي الحجارة فقط، بل منها ألفاظٌ تُرْجَمُ بها المسكينةُ كألفاظكَ هذه … وكتسمية الناس لها «بالساقطة»؛ فهذه الكلمةُ وحدَها صخرةٌ لا حجر.

•••

ثم تنهدتْ وقالت: من عسى يعرف خطر الأسرة والنسل والفضيلة كما تعرفها المرأة التي فقدَتْها؟ إننا نُحِسُّها بطبيعة المرأة، ثم بالحنين إليها، ثم بالحسرة على فقدها، ثم برؤيتها في غيرنا؛ نعرفها أربعة أنواع من المعرفة إذا عرفَتْها الزوجة نوعًا واحدًا، ولكن هل ينصفنا١٥ الرجال وهم يتدافعوننا؟ هل يرضَوْن أن يتزوجوا منا؟
قُلْتُ: ولكنَّ الأسرةَ لا تقوم على سواد عينَي المرأةِ وحُمْرَةِ خدَّيها، بل على أخلاقها وطِباعها؛ فهذا هو السبب في بقاء المرأة الساقطة حيث ارتطمت؛١٦ وهي متى سقطت كان أولُ أعدائها قانونَ النسل.
ومن ثم كانت الزَّلَّة١٧ الأولى ممتدة متسحِّبة إلى الآخر؛ إذ الفتاة ليست شخصًا إلا في اعتبارها هي، أما في اعتبار غيرها فهي تاريخٌ للنسل، إن وقعت فيه غلطةٌ فسد كلُّه وكذب كلُّه فلا يُوثَقُ به.

وهذه الزلة الأولى هي بدءُ الانهيار في طباع رقيقة متداخلة متساندة، لا يُقيمهما إلا تماسكها جملة؛ وما لم يتماسك إلا بجملته فأول السقوط فيه هو استمرار السقوط فيه؛ ولهذا لا يعرف الناس جريمة واحدة تُعدُّ سلسلةَ جرائم لا تنتهي، إلا سقطة المرأة؛ فهي جريمةٌ مجنونةٌ كالإعصار الثائر يلُفُّها لفًّا؛ إذا تتناول المرأة في ذاتها، وترجع على أهلها وذويها، وترعى إلى مستقبلها ونسلها؛ فَيَهْتِكُهَا الناسُ هي وسائرَ أهلها من جاءت منهم ومن جاءوا منها.

والمرأة التي لا يحميها الشرف لا يحميها شيء، وكلُّ شريفة تعرف أن لها حياتين إحداهما العفة، وكما تُدافع عن حياتها الهلاكَ، تُدافع السقوطَ عن عفتها؛ إذ هو هلاك حقيقتها الاجتماعية؛ وكلُّ عاقلة تعرف أن لها عقلين تحتمي بأحدهما من نَزَوات الآخر، وما عقلها الثاني إلا شَرَفُ عِرْضِهَا.

قال الأستاذ «ح»: إن هذه هي الحقيقة، فما تسامَحَ الرجال في شرف العرض إلا جعلوا المرأة كأنها بنصف عقل، فاندفعت إلى الطيش والفجور والخلاعة، أرادوا ذلك أم لم يريدوه.

قلتُ: وهذا هو معنى الحديث: «عِفُّوا١٨ تَعِفَّ نساؤكم.» فإن عفافَ المرأةِ لا تحفظه المرأةُ بنفسِها، ما لم تتهيأ لها الوسائل والأحوال التي تُعين نفسها على ذلك؛ وأهم وسائلها وأقواها وأعظمها، تشدُّدُ الرجال في قانون العِرْضِ والشرف.
فإذا تراخى١٩ الرجالُ ضَعُفَتِ الوسائل، ومن بين هذا التراخي وهذا الضعف تنبثقُ حريةُ المرأةِ متوجِّهة بالمرأة إلى الخير أو الشر، على ما تكون أحوالها وأسبابها في الحياة. وهذه الحرية في المدنية الأوروبية قد عوَّدتِ الرجال أن يغضُّوا ويتسمَّحوا، فتهافتَ النساءُ عندهم، تنال كلٌّ منهن حكم قلبها ويخضع الرجل …

على أن هذا الذي يسميه القوم حرية المرأة، ليس حرية إلا في التسمية، أما في المعنى فهو كما ترى:

إمَّا شرودُ٢٠ المرأةِ في التماسِ الرزقِ حينَ لم تجد الزوجَ الذي يعولها٢١ أو يكفيها ويقيم لها ما تحتاج إليه، فمثلُ هذه هي حرةٌ حريةَ النكد في عيشها؛ وليس بها الحرية، بل هي مستعبَدةٌ للعمل شرَّ ما تُسْتَعْبَدُ امرأة.

وإمَّا طلاقُ المرأة في عَبَثَاتها وشهواتها، مستجيبةً بذلك إلى انطلاق حرية الاستمتاع في الرجال، بمقدار ما يشتريه المال، أو تُعين عليه القوة، أو يسوِّغه الطيش، أو يجلُبُهُ التهتُّك، أو تدعو إليه الفنون؛ فمثلُ هذه هي حرةٌ حريةَ سقوطها؛ وما بها الحرية، بل يستعبِدُها التمتُّع.

والثالثة حريةُ المرأة في انسلاخها من الدين وفضائله، فإنَّ هذه المدنية قد نسخت حرامَ الأديان وحلالَها بحرام قانوني وحلال قانوني، فلا مَسْقَطَة للمرأة ولا غَضَاضة٢٢ عليها قانونًا … فيما كان يُعَدُّ من قبلُ خِزْيًا أقبحَ الخِزْي وعارًا أشد العار؛ فمثلُ هذه هي حرةٌ حريةَ فسادها، وليس بها الحرية، ولكن تستعبِدُها الفوضى.
والرابعة غَطْرَسةُ٢٣ المرأة المتعلمة، وكبرياؤها على الأنوثة والذكورة معًا؛ فترى أن الرجل لم يبلغ بعدُ أن يكون الزوجَ الناعمَ كقفَّاز الحرير في يدها، ولا الزوج المؤنث الذي يقول لها: نحن امرأتان … فهي من أجل ذلك مطلَّقة مُخلاة؛ كيلا يكون عليها سلطان ولا إِمْرة؛ فمثلُ هذه حرةٌ بانقلاب طبيعتها وزيغها، وهي مستعبَدةٌ لهوسها وشذوذها وضلالتها.

حريةُ المرأة في هذه المدنية أوَّلُها ما شئتَ من أوصاف وأسماء، ولكنَّ آخرَها دائمًا إما ضياع المرأة، وإما فساد المرأة.

والدليل على التواء الطبيعة في المدنية، استواءُ الطبيعة في البادية؛ فالرجال هناك قوَّامون على النساء، والنساء بهذا قوَّامات على أنفسهن؛ إذ ينتقمون للمنكر انتقامًا يفور دمًا؛ وبهذه الوحشية يقررون شرف العِرض في الطبيعة الإنسانية، ويجعلونه فيها كالغريزة، فيُحَاجِزُونَ٢٤ بين الرجال والنساء أول شيء بالضمير الشريف الذي يجد وسائلَه قائمة من حوله.

•••

قال الراوي: وغَطَّتْ وجهَها بيديها، وقالت: إنك لا تزال ترجم بالحجارة … إنَّ فيك متوحِّشًا.

قلت: بل متوحشة …

إنكِ أنتِ قد تكلَّمتِ فيَّ، فجمالك الذي يضع الإنسان في ساعةٍ مجنونة ليمتعه بطيشها، قد وضَعَنا نحن في ساعة مفكرة وأمتعنا بعقلها؛ وإذا قلتُ جمالُك، فقد قلتُ وحيُك؛ إذ لا جمال عندي إلا ما فيه وحي.

أَمَا قلتِ إنكِ لو خُيرتِ في وجودك لما اخترتِ إلا أن تكوني رجلًا نابغة يكتب ويفكر ويتلقَّى الوحي من الوجوه الجميلة؟

فدقَّتْ صدرها بيدها وقالت: أنا؟ أنا لم أقلْ هذا. ثم أفْكَرَتْ لحظةً وقالت: إذا كنتَ أنتَ تزعم أنني قلتُهُ، فأظن أنني قلتُهُ …

قال «ح»: رجلٌ، ويكتب، ويفكر؛ ولم تقل هي شيئًا من هذا؟ أربع غلطاتٍ شنيعة من فساد الذوق.

قالت: بل قُلْ أربع غلطات جميلة من فن الذوق؛ إن الرجل الظريف القوي الرجولة، يجب عليه أن يغلط إذا حدَّثَ المرأة …

قال «ح»: لتضحك منه؟

قالت: لا، بل لتضحك له …

قلتُ: فلي إليك رجاء.

قالت: إن صوتك يأمر، فقُلْ.

•••

فماذا قلْتُ لها وماذا قالت؟ …

١  يتجاليان: يتكاشفان، كل منهما يوضح ويجلو وجهة نظره للآخر.
٢  الوصمة: العلامة، الميسم.
٣  متالفها: مهاويها، مهالكها.
٤  المشبوب: المشتعل.
٥  الهوان: المذلة.
٦  استماحتهم: طلبُ المغفرة لهم.
٧  أساليب: مفرده أسلوب، وهو الطريقة.
٨  الغادة: المرأة الجميلة.
٩  الخسف: الذل والهوان.
١٠  تتبرَّم: تتأفَّف.
١١  تجزع: تخاف.
١٢  يترقبن: ينتظرن.
١٣  تنقلب وحشية القلب: قاسية كوحش مفترس.
١٤  يقصد بالعاقبة: النسل والولد.
١٥  ينصفنا: يقر بحقوقنا بعدل.
١٦  ارتطمت: اصطدمت بالأرض.
١٧  الزلة: السقطة.
١٨  عِفُّوا: تساموا عن الوقوع في وهدة الرذيلة.
١٩  تراخي: ضعف.
٢٠  الشرود: الخروج عن جادة الصواب في كل شيء.
٢١  يعولها: يقوم بمتطلباتها من كل شيء.
٢٢  غضاضة: حرج.
٢٣  غطرسة: تكبُّر وتعجرف.
٢٤  يحاجزون: يضعون الحواجز للتفريق بين الرجال والنساء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤