المشكلة (٤)

صاحب هذه المشكلة رجلٌ أعور العقل … يرى عقلُهُ من ناحيةٍ واحدةٍ؛ فقد غاب عنه نصف الوجود في مشكلته، ولو أن عقله أبصر من الناحيتين لَمَا رأى المشكلة خالصة في إشكالها، ولوجد في ناحيتها الأخرى حظًّا لنفسه قد أصابه، ومذهبًا في السلامة لم يُخْطِئْهُ؛ وكان في هذه الناحية عذابُ الجنون لو عذَّبه الله به، وكان يصبح أشقى الخلق لو رماه الله في الجهة التي أنقذه منها، فتهيَّأت له المشكلة على وجهها الثاني.

ماذا أنت قائلٌ يا صاحب المشكلة لو أن زوجتك هذه المسكينة المظلومة التي بَنَيْتَ بها، كانت هي التي أُكرهتْ على الرضى بك، وحُملتْ على ذلك من أبيها، ثم كنتَ أنتَ لها عاشقًا، وبها صبًّا،١ وفيها مُتَدَلِّهًا؛ ثم كانت هي تحب رجلًا غيرك، وتصبو إليه، وتفتتن به، وقد احترقتْ عشقًا له؛ فإذا جَلَوْها٢ عليك رأتك البغيض المقيت،٣ ورأتْك الدميم الكريه، وفزعتْ منك فزعها من اللص والقاتل؛ وتمدُّ لها يدك فتتحاماها تحاميها المجذوم أو الأبرص، وتكلمها فتُحَمُّ بردًا من ثقل كلامك، وتفتح لها ذراعيك فتحسبهما حبلَيْن من مشنقتَيْن، وتتحبَّب إليها فإذا أنت أسمج خلق الله عندها؛ إذ تحاول في نذالة أن تحل منها محل حبيبها؛ وتُقبِل عليها بوجهك فتراه من تَقَذُّرها إياك، واشمئزازها منك، وجهَ الذبابة مكبَّرًا بفظاعة وشناعة في قدر صورة وجه الرجل؛ لتتجاوز حدَّ القبح إلى حد الغَثَاثة، إلى حد انقلاب النفس من رؤيته، إلى حد القيء إذا دنا وجهك من وجهها …؟!

ماذا أنت قائل يا صاحب المشكلة لو أن مشكلتك هذه جاءت من أن بينك وبين زوجتك «الرجل الثاني» لا المرأة الثانية؟ ألستَ الآن في رحمة من الله بك، وفي نعمة كفَّت عنك مصيبة، وفي موقف بين الرحمة والنعمة يقتضيك أن ترقُبَ في حكمك على هذه الزوجة المسكينة حكمَ الله عليك؟

•••

تقول: الحب والخيال والفن، وتذهب في مذاهبها، غير أن «المشكلة» قد دلَّت على أنك بعيد من فَهْمِ هذه الحقائق، ولو أنت فهمتها لما كانت لك مشكلة، ولا حَسِبْتَ نفسَك منحوسَ الحظِّ محرومًا، ولا جهلتَ أنَّ في داخل العين من كل ذي فنٍّ عينًا خاصة بالأحلام؛ كيلا تعمى عينه عن الحقائق.

الحبُّ لفظٌ وهمي موضوع على أضداد مختلفة: على بركانٍ وروضة، وعلى سماء وأرض، وعلى بكاء وضحك، وعلى هموم كثيرة كلها هموم، وعلى أفراح قليلة ليست كلها أفراحًا؛ وهو خداع من النفس يضع كل ذكائه في المحبوب، ويجعل كل بلاهته في المحب، فلا يكون المحبوب عند محبِّه إلا شخصًا خياليًّا ذا صفة واحدة هي الكمال المطلق، فكأنه فوق البشرية في وجودٍ تام الجمال ولا عيب فيه، والناس من بعده موجودون في العيوب والمحاسن.

وذلك وهمٌ لا تقوم عليه الحياة ولا تصلح به، فإنما تقوم الحياة على الروح العملية التي تضع في كل شيء معناه الصحيح الثابت؛ فالحب على هذا شيء غير الزواج، وبينهما مثل ما بين الاضطراب والنظام؛ ويجب أن يُفْهَمَ هذا الحبُّ على النحو الذي يجعله حبًّا لا غير؛ فقد يكون أقوى حبٍّ بين اثنين إذا تحابَّا هو أسخف زواج بينهما إذا تزوَّجا.

وذو الفن لا يفيد من هذا الحب فائدته الصحيحة إلا إذا جعله تحتَ عقلٍ لا فوقَ عقلِه، فيكون في حبه عاقلًا بجنون لطيف … ويترك العاطفة تدخل في التفكير وتضع فيه جمالها وثورتها وقوتها؛ ومن ثم يرى مجاهدة اللذة في الحب هي أسمى لذاته الفكرية، ويعرف بها في نفسه ضربًا إلهيًّا من السكينة يُوليه القدرة على أن يقهر الطبيعة الإنسانية ويصرفها ويبدع منها عملَه الفني العجيب.

وهذا الضرب من السموِّ لا يبلغُهُ إلا الفكر القوي الذي فاز على شهواته وكَبَحَها وتحمَّلها تغلي فيه غليانَ الماء في المِرْجَلِ ليخرجَ منها ألطف ما فيها، ويحولها حركة في الروح تنشأ منها حياة هذه المعاني الفنية؛ وما أشبه ذا الفن بالشجرة الحية: إن لم تضبط ما في داخلها أصحَّ الضبط، لم يكن في ظاهرها إلا أضعف عملها.

ومثل هذا الفكر العاشق يحتاج إلى الزوجة حاجته إلى الحبيبة، وهو في قوته يجمع بين كرامة هذه وقدسية هذه؛ لأن إحداهما تُوازن الأخرى، وتعدِّلها في الطبع، وتخفِّف من طغيانها على الغريزة، وتمسك القلب أن يتبدَّد في جوِّه الخيالي.

•••

والرجل الكامل المفكِّر المتخيل إذا كان زوجًا وعَشِق، أو كان عاشقًا وتزوَّجَ بغير مَن يهواها، استطاع أن يبتدع لنفسه فنًّا جميلًا من مسرات الفكر لا يجده العاشق ولا يناله المتزوج؛ وإنه ليرى زوجته من الحبيبة كالتمثال جَمَدَ على هيئة واحدة، غير أنه لا يُغفِل أن هذا هو سرٌّ من أسرار الإبداع في التمثال؛ إذ تلك هيئة استقرار الأسمى في سموه؛ فإن الزوجة أمومة على قاعدتها، وحياة على قاعدتها؛ أما الحبيبة فلا قاعدة لها، وهي معانٍ شاردة لا تستقر، وزائلة لا تثبت، وفنها كله في أن تبقى حيث هي كما هي، فجمالها يحيا كل يوم حياة جديدة ما دامت فنًّا محضًا، وما دام سرُّ أنوثتها في حجابه.

ومتى تزوج الرجل بمن يحبها انهتك له حجاب أنوثتها فبطل أن يكون فيها سرٌّ، وعادت له غير مَن كانت، وعاد لها غير مَن كان؛ وهذا التحول في كلٍّ منهما هو زوال كلٍّ منهما من خيال صاحبه؛ فليس يصلح الحب أساسًا للسعادة في الزواج، بل أَحْرِ به٤ إذا كان وَجْدًا واحتراقًا أن يكون أساسًا للشؤم فيه؛ إذ كان قد وضع بين الزوجين حدًّا يعيِّن لهما درجة من درجة في الشغف والصبابة والخيال، وهما بعد الزواج متراجعان وراء هذا الحد ما من ذلك بدٌّ، فإن لم يكن الزوجُ في هذه الحالة رجلًا تامَّ الرجولةِ، أفسدتِ الحياةَ عليه وعلى زوجته صبيانيةُ روحه؛ فالتمس في الزوجة ما لم يعد فيها، فإذا انكشف فراغها ذهب يلتمسه في غيرها، وكان بلاء عليها وعلى نفسه وعلى أولاده قبلَ أن يولدوا؛ إذ يضع أمام هذه المرأة أسوأ الأمثلة لأبي أولادها، ويفسد إحساسها فيفسد تكوينها النفسي؛ وما المرأة إلا حسها وشعورها.
فالشأن هو في تمام الرجولة وقوتها وشهامتها وفحولتها، إن كان الرجل عاشقًا أو لم يكنه، وما من رجل قوي الرجولة إلا وأساسه ديانته وكرامته؛ وما من ذي دين أو كرامة يقع في مثل هذه المشكلة ثم تُظْلَمُ به الزوجة أو يحيف عليها أو يفسد ما بينه وبينها من المداخلة وحسن العشرة، بَلْه أن يراها٥ كما يقول صاحب المشكلة «مصيبة» فيجافيها٦ ويبالغ في إعناتها٧ ويشفي غيظه بإذلالها واحتقارها.

وأيُّ ذي دين يأمن على دينه أن يهلك في بعض ذلك، فضلًا عن كل ذلك؟ وأيُّ ذي كرامة يرضى لكرامته أن تنقلب خسة ودناءة ونذالة في معاملة امرأة هو لا غيره ذنبُها؟

إن أساس الدين والكرامة ألا يخرج إنسانٌ عن قاعدة الفضيلة الاجتماعية في حل مشكلته إن تورَّط في مشكلة؛ فمَن كان فقيرًا لا يسرق بحجة أنه فقير، بل يكدُّ ويعمل ويصبر على ما يعانيه من ذلك؛ ومَن كان محبًّا لا يَستزِلُّ المرأة فيُسقطها بحجَّة أنه عاشق؛ ومن كان كصاحب المشكلة لا يظلم امرأته فيمقتها بحجة أنه يعشق غيرها؛ وإنما الإنسان مَن أظهر في كل ذلك ونحو ذلك أثره الإنساني لا أثره الوحشي، واعتبر أموره الخاصة بقاعدة الجماعة لا بقاعدة الفرد. وإنما الدين في السمو على أهواء النفس؛ ولا يتسامى امرؤ على نفسه وأهواء نفسه إلا بإنزالها على حكم القاعدة العامة، فمِن هناك يتسامى، ومن هناك يبدو علوُّه فيما يبلغ إليه …

وإذا حلَّ اللصُّ مشكلتَه على قاعدته هو فقد حلَّها، ولكنَّه حلٌّ يجعله هو بجملته مشكلة للناس جميعًا، حتى ليرى الشرع في نظرته إلى إنسانية هذا اللص أنه غير حقيق باليد العاملة التي خُلقت له فيأمر بقطعها.

وعلى هذه القاعدة، فالجنس البشري كله ينزل منزلة الأب في مناصرته لزوجة صاحب المشكلة والاستظهار لها والدفاع عنها، ما دام قد وقع عليها الظلم من صاحبها، وهذا هو حكمها في الضمير الإنساني الأكبر، وإن خالف ضميرَ زوجها العدوِّ الثائر الذي قطعها من مصادر نفسه ومواردها. أما حكم الحبيبة في هذا الضمير الإنساني فهو أنها في هذا الموضع ليست حبيبة، ولكنها شَحَّاذة رجال …

•••

لسنا ننكر أن صاحب هذه المشكلة يتألم منها ويتلذع بها من الوَقْدة التي في قلبه؛ بيد أننا نعرف أن ألمَ العاقل غيرُ ألم المجنون، وحُزنَ الحكيم غيرُ حزن الطائش؛ والقلب الإنساني يكاد يكون آلة مخلوقة مع الإنسان لإصلاح دنياه أو إفسادها؛ فالحكيم من عرف كيف يتصرف بهذا القلب في آلامه وأوجاعه، فلا يصنع من ألمه ألمًا جديدًا يزيده فيه، ولا يُخرِج من الشر شرًّا آخر يجعله أسوأ مما كان. وإذا لم يجد الحكيم ما يشتهي، أو أصاب ما لا يشتهي، استطاع أن يخلق من قلبه خلقًا معنويًّا يُوجده الغِنَى عن ذلك المحبوب المعدوم، أو يُوجده الصبر عن هذا الموجود المكروه؛ فتتوازن الأحوال في نفسه وتعتدل المعاني على فكره وقلبه؛ وبهذا الخلق المعنوي يستطيع ذو الفن أن يجعل آلامه كلها بدائع فن. وما هو فكر الحكماء إلا أن يكون مصنعًا تُرسَل إليه المعاني بصورة فيها الفوضى والنقص والألم؛ لتخرج منه في صورة فيها النظام والحكمة واللذة الروحية.

يعشق الرجل العامي المتزوج، فإذا الساعة التي أوبقتْهُ في المشكلة قد جاءته معها بطريقة حلها: فإما ضَرَبَ امرأته بالطلاق، وإما أهلكها باتخاذ الضرَّة عليها، وإما عذَّبها بالخيانة والفجور؛ لأن بعض العبث من الطبيعة في نفس هذا الجاهل هو بعينه عبثُ الطبيعة بهذا الجاهل في غيره، كأن هذه الطبيعة تُطلق مدافعَها الضخمة على الإنسانية من هذه النفوس الفارغة …

وليس أسهل على الذكر من الحيوان أن يحلَّ مشكلة الأنثى حلًّا حيوانيًّا كحلِّ هذا العامي، فهو ظافر بالأنثى أو مقتولٌ دونها ما دام مطلقًا مخلًّى بينه وبينها؛ والحقيقة هنا حقيقته هو، والكون كله ليس إلا منفعة شهوانية؛ وأسمى فضائله ألا يعجز عن نيل هذه المنفعة.

ثم يعشق الرجل الحكيم المتزوج فإذا لمشكلته وجهٌ آخر؛ إذ كان من أصعب الصعب وجود رجلٍ يحلُّ هذه المشكلة برجولة، فإن فيها كرامة الزوجة وواجب الدين وفيها حق المروءة، وفيها مع ذلك عبثُ الطبيعة وخداعها وهَزْلها الذي هو أشد الجد بينها وبين الغريزة؛ وبهذا كله تنقلب المشكلة إلى معركة نفسية لا يحسمها إلا الظفر، ولا يعين عليها إلا الصبر، ولا يفلح في سياستها إلا تحمُّل آلامها، فإذا رُزق العاشقُ صبرًا وقوة على الاحتمال فقد هان الباقي، وتيسرت لذة الظفر الحاسم، وإن لم يكن هو الظفر بالحبيبة؛ فإن في نفس الإنسان مواقع مختلفة وآثارًا متباينة للَّذة الواحدة، وموقعٌ أرفعُ من موقع، وأثرٌ أبهجُ من أثر؛ وألذُّ من الظفر بالحبيبة نفسها عند الرجل الحكيم الظفرُ بمعانيها، وأكرم منها على نفسه كرامة نفسه. وإذا انتصر الدين والفضيلة والكرامة والعقل والفن، لم يبقَ لخيبة الحب كبيرُ معنى ولا عظيمُ أثر، ويتوغل٨ العاشق في حبه وقد لَبِسَتْهُ حالةٌ أخرى كما يكظم٩ الرجل الحليم على الغيظ: فذلك يحب ولا يطيش، وهذا يغتاظ ولا يغضب. والبطل الشديد البأس لا ينبغ إلا من الشدائد القوية، والداهية الأريب١٠ لا يخرج إلا من المشكلات المعقدة، والتقيُّ الفاضل لا يُعرَف إلا بين الأهواء المستحكمة. ولعمري إذا لم يستطع الحكيم أن ينتصر على شهوة من شهوات نفسه، أو يُبطل حاجة من حاجاتها، فماذا فيه من الحكمة؟ وماذا فيه من النفس؟!

•••

وما عَقَّد «المشكلة» على صاحبها بين زوجته وحبيبته، إلا أنه بخياله الفاسد قد أفسد القوة المصلِحَة فيه، فهو لم يتزوج امرأته كلها … وكأنه لا يراها أنثى كالنساء، ولا يُبصر عندها إلا فروقًا بين امرأتين: محبوبة ومكروهة؛ وبهذا أفسد عينه كما أفسد خياله؛ فلو تعلَّمَ كيف يراها لرآها، ولو تعوَّدَها لأحبَّها.

إنه من وهمه كالجواد الذي يشعر بالمَقَادة في عنقه؛ فشعورُهُ بمعنى الحبل وإن كان معنًى ضئيلًا عطَّلَ فيه كل معاني قوته، وإن كانت معاني كثيرة. وما أقدرك أيها الحبُّ على وضع حبال الخيل والبغال والحمير في أعناق الناس!

•••

وقد بقي أن نذكر — توفيةً للفائدة — أنه قد يقع في مثل هذه المشكلة من نقصَتْ فُحُولَتُه من الرجال، فيدلِّس١١ على نفسه بمثل هذا الحب، ويبالغ فيه، ويتجرَّم على زوجته المسكينة التي ابتُليتْ به، ويختلق لها العلل الواهية المكذوبة، ويبغضها كأنه هو الذي ابتُلي بها، وكأن المصيبة من قِبَلها لا من قِبَله؛ وكلُّ ذلك لأن غريزته تحوَّلت إلى فكره، فلم تعد إلا صورًا خيالية لا تعرف إلا الكذب. وقد قرر علماء النفس أن من الرجال من يكره زوجته أشدَّ الكره إذا شعر في نفسه بالمهانة والنقص من عجزه عنها … فهذا لا يكون رجلًا لامرأته إلا في العداوة والنقمة والكراهية وما كان من باب شفاء الغيظ، وامرأته معه كالمعاهَدة السياسية من طَرَف واحد: لا قيمة ولا حرمة؛ وإذا أحب هذا كان حبُّه خياليًّا شديدًا؛ لأنه من جهةٍ يكونُ كالتعزية لنفسه، ومن جهة أخرى يكون غَيْظًا لزوجته، وردًّا بامرأة على امرأة …
١  صبًّا: متدلهًا، عاشقًا، مغرمًا.
٢  جَلَوْها: زفُّوها.
٣  المقيت: المكروه.
٤  أحرِ به: أجدر به.
٥  بلْه أن يراها: فضلًا عن أن ينظر إليها.
٦  يجافيها: يسيء معاملتها ويقاطعها.
٧  إعناتها: إتعابها.
٨  يتوغل: يتعمق إلى أقصى الحدود.
٩  يكظم الغيظ: يسيطر عليه.
١٠  الأريب: الذكي.
١١  يدلِّس: يوهم نفسه كاذبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤