سموُّ الفقر في المُصلِح الاجتماعيِّ الأعظم (١)

كان النبي على ما يصف التاريخُ من الفقر والقِلَّة، ولكنه كان بطبيعته فوق الاستغناء، فهو فقيرٌ لا يجوز أن يُوصف بالفقر، ولا تناله المعاني النفسية التي تعلو بعَرَضٍ من الدنيا وتنزل بِعَرَض، فما كانت به خَلَّة تُحدِث هدمًا في الحياة فيرمِّمها المال،١ ولا كان يتحرك في سعي يُنفق فيه من نفسه الكبيرة ليجمع من الدنيا، ولا كان يتقلَّب بين البعيد والقريب من طمعٍ أدركَ أو طمعٍ أخفقَ، ولا نظر لنفسه في الحسبة والتدبير ليتدبَّر معيشته فيحتلبها٢ ذهبًا أو فضة، ولا استقرَّ في قلبه العظيم ما يجعل للدينار معنى الدينار ولا للدرهم معنى الدرهم؛ فإن المعنى الحي لهذا المال هو إظهار النفس رابيةً متجسِّمة في صورةٍ تكبَرُ في قدرٍ من السعة والغنى؛ والمعنى الحيُّ للفقر من المال هو إبراز النفس ضئيلة منزوية في صورة تصغُرُ على قدرٍ من الضيق والعُسرة.

إنَّ فقرَهُ كان من أنه يتَّسع في الكون لا في المال، فهو فقرٌ يُعدُّ من معجزاته الكبرى التي لم يتنبَّه إليها أحدٌ إلى الآن، وهو خاصٌّ به، ومن أين تدبَّرتَهُ رأيتَهُ في حقيقته معجزةً تواضعتْ وغيَّرتِ اسمها، معجزةً فيها الحقائق النفسية والاجتماعية الكبرى، وقد سبقت زمنها بأربعة عشر قرنا، وهي اليوم تثبت بالبرهان معنى قوله في صفة نفسه: «إنما أنا رحمة مهداة.»

نحن في عصر تكاد الفضيلة الإنسانية فيه تَلحق بالألفاظ التاريخية التي تدلُّ على ما كان قديمًا … بل عادت كلمةً من كلمات الشعر تراد لتحريك النسيم اللغوي الراكد في الخيال، كما تقول: السحاب الأزرق، والفجر الأبيض، والشفق الأحمر، والتطاريف٣ الوردية على ذيل الشمس. وأصبح الناس ينظر أكثرهم إلى أكثرهم بأعينٍ فيها معنى وحشي لو لمس لضرب أو طعن أو ذبح.
وعَمِلت المدنية أعمالها فلم تَزِد على أن أخرجتْ الشكلَ الشعري لإنسانها الفني متهافتًا٤ ترفًا، ونعمة، وافتتانًا بين ذلك من أيسر الحلال إلى الفظيع المتفاحش في الإباحة؛ فكأنما وضعتِ المدنية عقلًا في وحش، فجاء وقد زاغت٥ فيه الطبيعة من ناحيتين؛ ثم قابلتْهُ بالشكل الوحشي لإنسانها الفقير، فكأنما نزعت عقلًا من إنسان، فجاء وقد ضلَّت فيه الطبيعة من ناحيتين؛ وكان مع الأول سَرَف الهوى بالطبيعة، وكان مع الثاني بالطبيعة سَرَفُ الحماقة.

وقد أصبح من تهكُّم الحياة بأهلها أن يكون الفقير فقيرًا وهو يعلم أن صناعته في المدنية عمل الغِنَى للأغنياء … وأن يكون الغنيُّ غنيًّا وهو يعلم أن عمله في المدنية هو صنعة الفقر لضميره!

وخرجَتْ من هذا وذاك مسائلُ جديدةٌ في فلسفة المُعايشة الإنسانية التي يسمُّونها «الاجتماع»؛ إلى أسئلة كثيرة لو ذهبنا نعدُّها ونَصِفُها لطال بنا القول، وكلُّها عاملةٌ على نزع الشعور العقلي من الحياة لتظهر أسخفَ مما هي، وأقبحَ ممن كانت؛ حتى أصبحت الشمس تطلع تمحو ليلًا عن المادة وتُلقِي ليلًا على النفس، في حين أن الدين والإنسانية لا يعملان غير بثِّ هذا النور العقلي في الأشياء والمعاني لتظهر الحياة مضيئة ملتمعة، فتُصبح أوضح مما هي في نفسه، وأجمل مما هي في الطبيعة.

في مثل هذه النزعات المتقاتلة التي صعدت بالفلسفة ونزلَتْ، وجعلَتْ من العلم في صدر الإنسانية ملءَ سماءٍ من الغيوم بسوادها ورعدها وصواعقها، وتركتِ العالَمَ يضجُّ ضجيجه المزعج في قلب كل حيٍّ حتى لَتُذاع الهموم إلى قلوب الناس إذاعة الأصوات إلى أسماعهم في «الراديو» … في مثل هذا البلاء الماحق تتلفَّت الإنسانية إلى التاريخ تسأله درسًا من الكمال الإنساني القديم تطبُّ منه لهذه الحماقات الجديدة، ولو علمَتْ لعلِمَتْ أن درس هذا العصر في علاج مشاكله الإنسانية هو «محمد» ، الذي لن يبلغ أحدٌ في وصفه الاجتماعي ما بلغ هو في قوله: «إنما أنا رحمة مهداة.»

•••

هذا المُصلِح الاجتماعي الأعظم يُلقِي فقرُهُ اليوم درسًا على الدنيا العلمية الفلسفية، لا من كتاب ولا فكر، ولكن بأخلاقه وعمله وسيرته؛ إذ ليس المُصلِح مَن فكَّر وكَتَبَ، ووَعَظَ وخَطَبَ، ولكنه الحيُّ العظيم الذي تلتمسه الفكرةُ العظيمة لتحيا فيه، وتجعل له عمرًا ذهنيًّا يكون مُصرَّفًا على حكمها، فيكون تاريخُهُ ووصفُهُ هو وصفَ هذه الفكرة وتاريخها.

وما كان محمدٌ إلا عمرًا ذهنيًّا محضًا، تمرُّ فيه المعاني الإلهية لتظهرَ للناس إلهيةً مفسَّرة، وكلُّ حياته دروسٌ مفنَّنة مختلفةُ المعاني، ولكنها في جملتها تُخاطب الإنسان على الدهر بهذه الجملة: أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك؛ أي إذا كانت الحياة في الحقيقة فلا تكن أنت في الكذب، وإذا كانتِ الحياةُ في الرجولة البصيرة فلا تكن أنت في الطفولة النزقة،٦ فإن الرجل يعرف ويُدرك، فهو بذلك وراء الحقيقي؛ ولكن الطفل يجهل ولا يعرف الدنيا إلا بعينه، فهو وراء الوهم، ومن ثم طيشُهُ ونزقُهُ، وإيثاره كلَّ عاجلٍ وإن قلَّ، وعمله أن تكون حياته النفسية الضئيلة في مثل توثُّب أعضاء جسمه، حتى كأنه يلعب بظاهره وباطنه معًا …

أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك: أي الحياةُ في ذاتك الداخلية وقانون كمالها، فإذا استطعتَ أن تُخرج للأرض معنًى سماويًّا من ذاتك فهذا هو الجديد دائمًا في الإنسانية، وأنت بذلك عائش في القريب القريب من الروح، وأنت به شيء إلهي؛ وإذا لم تستطع وعشتَ في دمك وأعصابك فهذا هو القديم دائمًا في الحيوانية، وأنت بذلك عائشٌ في البعيد البعيد من النفس، وأنت به شيء أرضي كالحجر والتراب.

هنا: أي في الإرادة التي فيك وحدك. ولا هناك: أي في الخيال الذي هو في كل شيء. وهنا، في أخلاقك وفضائلك التي لا تدفعك إلى طريقٍ من طرق الحياة إلا إذا كان هو بعينه طريقًا من طرق الهداية والحكمة؛ وليس هناك، في أموالك ومعايشك التي تجعلك كاللص مندفعًا إلى كلِّ طريق متى كان هو بعينه طريقًا إلى نهبةٍ أو سرقة. هنا، في الروح؛ إذ تشعر الروح أنها موجودة، ثم تعمل لتثبت أنها شاعرة بوجودها، ماضيةٌ إلى مصيرها، منتهيةٌ بجسدها إلى الموت الإنساني على سنَّة النفس الخالدة؛ وليس هناك في الحس، إذ يتعلق الحس بما يتقلَّب على الجسم، فهو مهتاجٌ لشعوره بوشك فنائه فلا يُحدِث إلا الألم إن نال أو لم يَنَلْ، وهو منتهٍ بجسمه إلى الموت الحيواني بين آكل ومأكول على سنَّة الطبيعة الفانية.

أيها الحي، إذا كانت الحياة هنا فلا تكن أنت هناك.

•••

إن الحكيم الذي ينظر إلى ما وراء الأشياء فيتعرَّف أسرارها، لا تكون له حياةُ الذي يتعلَّق بظاهرها ولا أخلاقُهُ ولا نظرتُهُ؛ هذا الأخير هو في نفسه شيء من الأشياء له مظهرُ المادة وخداعها عن الحقيقة؛ وذلك الأول هو نفسه سرٌّ من الأسرار له روعة السر وكشفُهُ عن الحقيقة. ولهذا كان في حياة الأنبياء والحكماء ما لا يُطيقه الناس ولا يضبطونه إذا تكلَّفوه، بل ينخرق عليهم فيكون منه العجز والغلط، ويحدث من الغلط الزلل.

ونظرة نبينا إلى هذا الوجود نظرةٌ شاملة مدركة لحقيقة اللانهاية، فيرى بداية كل شيء مادي هي نهايته في التوِّ واللحظة، فلا وجود له إلا عارضُا مارًّا، فهو في اعتباره موجودٌ غيرُ موجود، مبتدئ منتهٍ معًا؛ وبذلك تبطل عنده الأشياء المادية وتأثيرها، فلا تتصل بنفسه العالية إلا من أضعف جهاتها، ويجد لها الناس في حياتهم الشجرةَ والفرع والثمرة، وما لها عنده هو جِذرٌ ولا فرع؛ وبهذا لم يفتنه شيء ولم يتعلَّق به شيء.

وكانت الدنيا تطول الناسَ وتتقاصر عنه، وكانت منقطعة النماء وهو ذاهب في نموه الروحي، وكأنما هو صورة أخرى من آدم — عليه السلام — فكلاهما لمس بنفسه الحياة جديدة خالية مما جمع فيها الزمن وأهله من طمع وشره، وجاء آدم ليعطي الأرض ناسها من صلبه، وجاء محمدٌ ليعطي الناس قوانينهم في فضائله؛ فآدم بشخصه هو دنيا بُعثتْ لتتسع، ومحمدٌ بشخصه هو دنيا بُعثت لتنتظم.

وماذا يُفهَم من الفلسفة الأخلاقية النبوية العظيمة؟ يُفهم منها أن الشهوات خُلقت مع الإنسان تتحكَّم فيه، لينقلب بها إنسانًا يتحكَّم فيها؛ وأن الإنسان الصحيح الذي لم تزوِّره الدنيا يجب أن يكون ذا روح يمتد فيفيض عن غايات جسمه إلى ما هو أعلى فأعلى حتى يُصبح في حكم النور وانطلاقه وحريته، ولا ينكمش فيحصرُهُ جسمه في غاياته وضروراته فيرتد إلى ما هو أسفل أسفل حتى يعود في حكم التراب وأَسْرِه وعبوديته. فالفقر وما إليه، والزهد وما هو بسبيل منه، والانصراف عن الشهوات والرذائل؛ كلُّ ذلك إن هو إلا تراجع النفس العالية إلى ذاتها النورانية حالًا بعد حال، وشيئًا بعد شيء، لتضيء على المادة فتكشف حقائقها الصريحة فلا تباليها ولا تُقيم لها وزنًا. فبينما الناس يرون الأموال والشهوات مادة حياة وعملٍ وشعور، تراها هي مادة بحث ومعرفة واعتبار ليس غير؛ وبهذا تكون النفس العظيمة في الدنيا كأستاذ المعمل: تدخل المادة إلى معمله وهي مادة وفكرة، وتخرج منه وهي حقيقة ومعرفة، وعلى أي أحوالها فهي إنما تُحَسُّ في ذلك المعمل بأصابع علمية دقيقة ليس فيها الجمع ولا الحرص، ولكن فيها الذهن والفكر؛ وليس لها طبيعة الرغبة والغفلة، ولكن طبيعة الانتباه والتحرُّز، وليست في أسْرِ المادة، ولكن المادة في أسرها ما شاءت.

ولا يسمَّى فقرُهُ زهدًا كما يظنُّ الضعفاء ممن يتعلَّقون على ظاهر التاريخ ولا يحقِّقون أصوله النفسية؛ وأكثرهم يقرأ التاريخ النبوي بأرواح مظلمة تُريهم ما ترى العين إذا ما اختلط الظلام ولَبِسَ الأشياء فتراءت مُجملةً لا تفصيل لها، مُفرَغة لا تبيين فيها؛ وما بها من ذلك شيء، غير أنها تتراءى في بقية من البصر ولا تَغْمرها.

وهل الزهد إلا أن تطرد الجسمَ عنك وهو معك، وتنصرف عنه وهو بك متعلق؟ فتلك سخريةٌ ومُثْلة، وفي رأيي تشويه للجسم بروحه، وقد تنعكس فتكون من تشويه الروح بجسمها؛ فليس يعلم إلا الله وحده، أذاك تفسيرٌ لإنسانية الزاهد بالنور، أم هو تفسير بالتراب …؟

ولقد كان يملك المال ويجدُهُ، وكان أجودَ به من الريح المرسلة، ولكنه لا يدعُهُ يتناسل٧ عنده، ولا يتركه ينبت في عمله، وإنما كان عمله ترجمةً لإحساسه الروحي، فهو رسولٌ تعليمي، قلبُهُ العظيم في القوانين الكثيرة من واجباته، وهو يريد إثبات وحدة الإنسانية، وأن هذا الإنسان مع المادة الصامتة العمياء مادةٌ مفكِّرة مميِّزة، وأن الدين قوة روحية يلقى بها المؤمن أحوال الحياة فلا يثبتُ بإزائها شيء على شيئيته؛ إذ الروح خلودٌ وبقاء، والمادة فناء وتحوُّل، ومن ثم تخضع الحوادث للروح المؤمنة وتتغيَّر معها، فإن لم تخضع لم تُخضِعها، وإن لم تتغيَّر الروح بها؛ وأساس الإيمان أن ما ينتهي لا ينبغي أن يتصرَّف بما لا ينتهي.
ما قيمة العقيدة إلا بصدقها في الحياة، وأكثر ما يصنع هذا المال: إما الكذب الصُّراح في الحياة، وإما شُبهة الكذب، ولهذا تنزَّه النبي عن التعلُّق به، وزاده بعدًا منه أنه نبي الإنسانية ومثلُها الأعلى، فحياته الشريفة ليست كما نرى في الناس: إيجادًا لحل مسائل الفرد وتعقيدًا لمسائل غيره، ولا توسُّعًا من ناحية وتضييقًا من الناحية الأخرى، ولا جمعًا من هنا ومنعًا من هناك؛ بل كانت حياته بعد الرسالة منصرفة إلى إقرار التوازن في الإنسانية، وتعليم الجميع على تفاوتهم واختلاف مراتبهم كيف يكون لهم عقل واحد من الكون؛ وبهذا العقل الكوني السليم ترى المؤمن إذا عَرَض له الشيء من الدنيا يفتنه أو يصرفه عن واجبه الإنساني، أَبَتْ نفسُهُ العظيمة إلا أن ترتفع بطبيعتها، فإذا هو في قانون السمو، وإذا المادة في قانون الثقل؛ فيرتفع وتتهاوى٨ ويصبح الذهب — وإنه ذهبٌ — وليس فيه عند المؤمن إلا روح التراب.
١  يرمِّمها المال: يصلحها.
٢  يحتلبها: يستخرج منها.
٣  التطاريف: الإشعاعات.
٤  متهافتًا: متسارعًا متهالكًا.
٥  زاغت: مالت، انحرفت.
٦  النزقة: الطائشة المنحرفة.
٧  يتناسل: يتكاثر.
٨  تتهاوى: تسقط وترسب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤