الانتحار (١)

حدَّث المسيَّب بن رافع الكوفي قال: بينا أنا يومًا في مسجد الكوفة، ومعي سعيد بن عثمان، ومجاهد، وداود الأزدي وجماعة، أَقبَل فتًى فجلس قريبًا منا، وكان تلقاء وجهي، لا أمُدُّ نظري إلا انطلق في سَمْته١ ووقف عليه. وكنا نتحدَّث فرأيتُهُ يتسمَّع إلى حديثنا؛ فلما تكلَّم سعيد — وكان خافت الصوت من علَّة به، وكنا نسميه النملة الصخَّابة — رأيتُ الفتى يتزحَّف قليلًا قليلًا حتى صار بحيث يقع في سماعه حسيسُ نملتنا.
وكان سعيد يقول: اجتزتُ٢ أنا والشعبي أمس بعمران الخيَّاط، فمازَحَهُ الشيخ فقال له: عندنا حِبٌّ٣ مكسور، تخيطه؟ قال: نعم، إن كان عندك خيط من ريح! فقلت أنا: فاذهب فجئنا بالمِغزل الذي يغزل الهواء لنضع لك الخيط.

قال مجاهد: هذا ليس بشيء في تنادر شيخنا وما يتَّفق له؛ أخبرني أن رجلًا جاءه في مسألة، فدخل عليه البيت وهو جالس مع امرأته، فقال الرجل: أيكما الشعبي …؟ فأومأ الشيخ إلى امرأته وقال: هذه …!

قال المسيَّب: وضحكنا جميعًا، وأخذ نظري الغلام فإذا هو ناكس حزنًا وهمًّا، وكأنه لا يتسمَّع إليها ليسمع، بل ليشغل نفسه عن شيء فيها، فتتوزَّع خواطره، فيتبدَّد اجتماعها على همِّه بصوت من هنا وصوت من هنا، كما يفعل المحزون في مغالبة الحزن ومدافعته: يشغل عنه بصره وقلبه وسمعه جميعًا، فيكون الحزن فيه وكأنه بعيد منه.

فقلت في نفسي: أمرٌ أمات الضحك في هذا الفتى وكسر حدَّته٤ وشبابه. ثم تحولت إليه وقلت: رأيتُكَ يا بني مقبلًا علينا كالمنصرف عنا؛ فما بالك لم تضحك وقد ضحكنا جميعًا؟
قال: إليك عني يا هذا؛ فأين من الضحك وأنا على شفير٥ القبر، وروح التراب مالئ عينيَّ في كل ما أرى، وكأن حفرتي ابتلعت الدنيا التي أنا فيها لتأخذني فيها، وأنا الساعة ميتٌ حي؛ رِجل في الدنيا ورِجل في الآخرة!

قلت: فأعلمْنِي ما بكَ يا بني، فلقد احتسبت ولدًا لي كان في مثل سنك وشبابك ولم أُرزق غيره، فقلبي بعده مريض به، يتوسمه مفرَّقًا في لِداته، متوهمًا أن وجوههم تجمعه بملامحه؛ فأنا من ذلك أحبهم جميعًا وأطيل النظر إليهم والتأمل في وجوههم، ولست أدرى أحدًا منهم إلا كان له ولقلبي حديث! فإن رأيتُهُ حزينًا مثلك تقطَّعتُ له من إشفاق ورحمة، وطالعني فتاي في مثل همِّه وحزنه وإنكساره؛ فيعود قلبي كالعين التي غشَّاها الدمع، تحمل أثر الحزن ومعناه وسرَّه؛ فبُثَّني ما تجد يا بني، فلعل لي سببًا إلى كشف ضرِّك أو إسعافك بحاجتك؛ ولعلك تكون قد حزنت من أمر قريب المتناول هيِّن المحاولة، لم يجعله عندك كبيرًا أنه كبير، ولكن أنك أنت صغير.

قال الفتى: مهلًا يا عم، فإن ما نزل بنا مما تنقطع عنده الحيلة ولا تنقاد فيه الوسائل، ولا علاج منه إلا بالموت يأخذنا ويأخذه.

قلت: يا بني، هذه كلمة ما أحسب أحدًا يقولها إلا من أُخِذ للقتل بجنايته ولم يَعفُ أهل الدم، فهل جنيتَ أو جنى أبوك على أحد؟

قال: إن الأمر قريب من قريب، فإني تركتُ أبي الساعة مُجمِعًا على إزهاق نفسه، وقد أغلق عليه الدار واستوثق٦ من الباب!

قال المسيَّب: فكأنما لدغتْنِي حيَّة بهذه الكلمة، وأكبرتُ أن يكون رجل مسلم يقتل نفسه، فتناهضتُ، ولكن الغلام أمسك بي وقال: إنه لا يزال حيًّا، وسيقتل نفسه متى أظلم الليل وهدأت الرِّجل.

قلت: الحمد لله، إن في النور عقلًا، ولكن ما الذي صار به إلى ما قلت؟ وكيف تركته لقدره وجئت؟

قال الفتى: إنه قال لي: يا ولدي، ليس لك أب بعدي، فإن أردتَ اللحاق بي فارجع مع الليل لنُسلِم أنفسنا، وإن آثرت الحياة فارجع مع الصبح لتُسلِمني إلى غاسلي!

قلتُ: أفآمنٌ أنت ألا يكون أبوك قد أخرجك عنه لأن عينك تُمسك يديه وتردُّه عما يهمُّ به، حتى إذا خلا وجهه منك أزهق نفسه؟

قال: لم أدعه حتى أقسم أن يحيا إلى الليل، وحتى أقسمتُ أن أرجع لأموت معه؛ فإن لم تُمسكه يمينه أمسكه انتظاري، وقد فرغَتِ الحياة منا فلم يبقَ إلا أن نفرغ منها؛ ومن كان فيما كنا في ثم انحدر إلى ما انحدرنا إليه، لم يُرِ الناس من نفسه ضعة ولا استكانة، وإنما خرجتُ لأسأل هذا الإمام «الشعبي» وجهًا من الرأي فيمن يقتل نفسه إذا ضاقت عليه الدنيا، ونزلت به النازلات، وتعذَّر القوت، واشتد الضرُّ، وتدلَّت به المسكنة إلى حضيضها، وأُلجئ إلى أحوال دَقَّته دقَّ الرَّحى٧ لما تدور عليه، ولم يعد له إلا رأيٌ واحد في معنى الدنيا، هو أنه مكذوب مزوَّر على الدنيا.

قلت: يا بني، فإني أراك أديبًا، فمن أبوك؟

قال: هو فلان التاجر، ظهر ظهور القمر ومُحِق٨ محاقه، وهو اليوم في أحلك الليالي وأشدها انطماسًا؛ جَهَدَه٩ الفقرُ، ويا ليته كان الفقر وحده، بل انتهكته العلل، وليتها لم تكن إلا العلل مع الفقر، بل أخذ الموت امرأته فماتت همًّا به وبي، ولم يكن له غيري وغيرها، وكان كلٌّ من ثلاثتنا يحيا للاثنين الآخرين، فهذا ما كان يجعل كلًّا منا لا يفرغ إلا امتلأ، ولمَّا ذهبت الأم ذهبتِ الحقيقة التي كنا نقاتل الأيام عنها، وكانت هي وحدها ترينا الحياة بمعناها إن جاءتنا الحياة فارغة من المعنى، وكنا من أجلها نفهم الأيام على أنها مجاهدة البقاء؛ أما الآن فالحياة عندنا قتلُ الحياة …!
قلت: يا بني، فإنك — والله — مع أدبك لحكيمٌ، وإني لأنفَسُ١٠ بكَ على الموت، فكيف ردَّتك حياة أمك عن قتل نفسك ولا تردُّك حياة أبيك؟

قال: لو بقى أبي حيًّا لبقيت، ولكن الدهر قد انتزع منه آخر ما كان يملك من أسباب القوة، حين أخذ القلب الشفيق الذي كان يجعله يرتعد إذا فكَّر في الموت، فهو الآن كالذي يحارب عن نفسه تلقاء عدو لا يرحمه؛ إن عجز عن عدوه فالرأي قتل نفسه ليستريح من تنكيل العدو به.

•••

قال المسيَّب بن رافع: وأدركت أن الفتى يريد من سؤال الشيخ تحلَّةً يطمئن إليها أن يموت مسلمًا إذا قتل نفسه كالمضطر أو المكره، فأشفقتُ١١ أن أكسر نفسه إذا أنا حدَّثته أو أفتيته؛ وقلت: هذا مريض يحتاج العلاج لا الفُتيا. وكان إمامنا «الشعبي» حكيمًا لحنًا فطنًا، سَفَرَ بين أمير المؤمنين «عبد الملك» وعاهل الروم،١٢ فحسدنا العاهل أن يكون فينا مثله. وقلت: لعل الله يُحدث به أمرًا. فأخذت بيد الفتى إليه، ومشيت أكلمه وأرفِّه عن نفسه. وقلت له: أما تدري أنك حين فرغت من سرور الحياة فرغت من غرورها أيضًا، وأن الزاهد المنقطع في عُرعُرة١٣ الجبل ينظر من صومعته إلى الدنيا، ليس بأحكم ولا أبصر ممن ينظر من آلامه إلى الدنيا؟

يا بني، إن الزاهد يحسب أنه قد فرَّ من الرذائل إلى فضائله، ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو في نفسه رذيلة لكل فضائله. وماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر والإحسان وغيرها، إذا كانت فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل؟ أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟ وايم الله، إن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعًا، لهو الخالي من الفضائل جميعًا.

يا بني، إن من الناس من يختارهم الله فيكونون قَمْح هذه الإنسانية؛ يَنبتون ويُحصدون ويُطحنون ويُعجنون ويُخبزون، ليكونوا غذاء الإنسانية في بعض فضائلها. وما أراك أنت وأباك إلا من المختارين، كأن في أعراقكم دم نبي يُقتل أو يُصلب!

قال المسيَّب: وانتهينا إلى دار الشعبي، فطرقتُ الباب، وجاء الشيخ ففتح لنا، وسلَّمنا وسلَّم، ثم بدرتُ فقلت: يا أبا عمرو، إن أبا هذا كان من حاله كيت وكيت، فترادفتْ١٤ عليه المصائب، وتوالت النكبات، وتواترت الأسقام١٥ … ثم اقتصصتُ ما قال ابنه حرفًا حرفًا، ثم قلت: وإنه الآن موشكٌ أن يُزهق نفسه وسيتبعه ابنه هذا؛ وقد «هداه الله إليك» فجاء يسألك: أيموت مسلمًا من أُلجئ وأُكره واضطر واستضاق واختلَّ، فتحسَّى١٦ سمًّا فهلك، أو توجَّأ١٧ بحديدة فقضى، أو ذبح نفسه بنصل فخفت، أو حزَّ في يده بسكين فما رقأ١٨ دمه حتى مات، أو اختنق في حبل ففاضت نفسه،١٩ أو تردَّى٢٠ من شاهق فطاح …!

وأدرك الشيح معنى قولي: «هداه الله إليك»، ومعنى ما أكثرت من الألفاظ المرادفة على القتل وما استقصيتُ من وجوهه؛ فعلم أني لم أسأله الفُتيا والنص، ولكني سألتُهُ الحكمة والسياسة؛ فقال: هذا — والله — رجل كريم، أخذته الأنفة وعزة النفس، وما أنا الساعة بمعزل عن همِّه، فنذهب نكلِّمه والله المستعان.

ومشينا ثلاثتنا، فلما شارفنا الدار قال الفتى: إنه لا يفتح لي إذا رآكما، وربما استفزَّ٢١ بنفسه فأزهقها، وسأتسوَّر الحائط٢٢ وأتدلَّى ثم أفتح لكما فتدخلان وأنا عنده.

•••

ودخلنا، فإذا رجل كالمريض من غير مرض، خوَّار٢٣ مسلوب القوة، انزعج قلبه إلى الموت وما به جرأة، وإلى الحياة وما به قوة؛ وصغَّر إليه نفسه أنها أصبحت في معاملة الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد، وثابر عليه داء الحزن فأضناه وتركه روحًا تتقعقع في جلدها، فهي تهمُّ في لحظة أن تثب وتندلق.

وسلَّم الشيخ وأقبل بوجهه على الرجل، ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.

فقطع عليه الرجل وقال كالمحنق: أيها الشيخ، قد صبرنا حتى جاء ما لا صبر عليه؛ وقد خلونا من معاني الكلام كله؛ فما نقدر عليها إلا لفظة واحدة نملك معناها، هي أن ننتهي!

ومد الشيخ عينه فرأى كوَّة٢٤ مسدودة في الجدار، فقال لي: افتح هذه ودعِ الهواء يتكلَّم معنا كلامه. فقمتُ إليها فعالجتها حتى فتحتها، ونفذ منها روح الدنيا، وقال الشيح للرجل: أصغِ إليَّ، فإذا أنا فرغت من الكلام فشأنك بنفسك.
أعلمتَ أن رجلًا من المسلمين قد مرض، فأعضل مرضه٢٥ فأثبته على سريره ثلاثين سنة لا يتحرك، وطوى فيه الرجل الذي كان حيًّا ونشر منه الرجل الذي سيكون ميتًا، فبقي لا حيًّا ولا ميتًا ثلاثين سنة …؟

قال الرجل: وفي الدنيا من يعيش على هذه الحال ثلاثين سنة …؟

قال الشيح: صحِّح الكلام واسأل: أيصبر على هذه الحال ثلاثين سنة ولا يقول: «جاء ما لا صبر عليه»؟ وأي شيء لا صبر عليه عند الرجل المؤمن الذي يعلم أن البلاء مالٌ غير أنه لا يوضع في الكيس بل في الجسم؟

أفتدري من كان الصابر ثلاثين سنة على بلاء الحياة والموت مجتمعَيْن في عظام ممدَّدة على سريرها؟ إنه إمامنا «عمران بن حصين الخزاعي» الذي أرسله عمر بن الخطاب يفقِّه أهل البصرة، وتولَّى قضاءها، وكان الحسن البصري يحلف بالله ما قَدِمها خيرٌ لهم من عمران بن حصين. ولقد دخلتُ عليه أنا وأخوه «العلاء»، فرأيناه مثبتًا على سرير الجريد كأنما شُدَّ بالحبال وما شُدَّ إلا بانتهاك عصبه وذوبان لحمه ووهن٢٦ عظامه، فبكى أخوه، فقال: لِمَ تبكي؟ قال: لأني أراكَ على هذه الحال العظيمة؟ قال: لا تبكِ، فإنَّ أحبَّه إلى الله — تعالى — أحبَّه إليَّ. ثم قال: إن هذه الأرض تحمل الجبال فلا يشعر موضعٌ منها بالجبل القائم عليه، إذ كان تماسك الأرض كلها قد جعل لكل موضع منها قوة الجميع، ولولا هذا لدكَّ٢٧ الجبلُ موضعه وغار به؛ وكذلك يحمل المؤمن مثل الجبال من البلاء على أعضائه لا ينكسر لها ولا يتهدَّم؛ إذ كانت قوة روحه قوةً في كل موضع، فالبلاء محمول على همَّة الروح لا على الجسم، وهذا معنى الخبر: «إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن روحه لتُنزع من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل!»
ثم قال: ولكن ذاك هو المؤمن، فمن آمن بالله فكأنما قال له: «امتحنِّي!» وكيف تراك إذا كنتَ بطلًا من الأبطال مع قائد الجيش، أما تفرض عليك شجاعتك أن تقول للقائد: «امتحنِّي وارمِ بي حيث شئتَ!» وإذا رمى بك فرجعتَ مثخنًا بالجراح٢٨ ونالك البتر والتشويه، أتُراها أوصافًا لمصائبك، أم ثناء على شجاعتك؟
ثم قال: إذا لم يكن الإيمان بالله اطمئنانًا في النفس على زلازلها وكوارثها، لم يكن إيمانًا، بل هو دعوى بالفكر أو اللسان لا يعدوهما، كدعوى الجبان أنه بطل، حتى إذا فجأه الروع٢٩ أحدث في ثيابه من الخوف … ومن ثم كان قتل المؤمن نفسه لبلاء أو مرض أو غيرهما كفرًا بالله وتكذيبًا لإيمانه، وكان عمله هذا صورة أخرى من طيش الجبان الذي أحدث في ثيابه!

والإيمان الصحيح هو بشاشة الروح، وإعطاء الله الرضى من القلب، ثقةً بوعده ورجاةً لما عنده، ومن هذين يكون الاطمئنان، وبالبشاشة والرضى والثقة والرجاء، يصبح الإيمان عقلًا ثانيًا مع العقل، فإذا ابتُلي المؤمن بما يذهب معه الصبر ويطيش له العقل، وصار من أمره في مثل الجنون، برز في هذه الحالة عقله الروحاني وتولَّى سياسة جسمه حتى يفيق العقل الأول. ويجيء الخوف من عذاب الله ونقمته في الآخرة، فيغمر به خوف النفس من الفقر أو المرض أو غيرهما فيقتل أقواهما الأضعف، ويخرج الأعز منهما الأذل.

فالاطمئنان بالإيمان هو قتل الخوف الدنيوي بالتسليم والرضى، أو تحويله عن معناه بجعل البلاء ثوابًا وحسنات، أو تجريده من أوهامه باعتبار الحياة سائرة بكل ما فيها إلى الموت؛ وهو بهذا عقل روحاني له شأن عظيم في تصريف الدنيا، يترك النفس راضية مرضية، تقول لمصائبها وهي مطمئنة: نعم. وتقول لشهواتها وهي مطمئنة: لا.

وما الإنسان في هذا الكون؟ وما خيره وشره؟ وما سخطه ورضاه؟ إن كل ذلك إلا كما ترى قبضة من التراب تتكبَّر وقد نسيتْ أنه سيأتي من يكنسها …!

•••

قال الشيخ: وانظر، أما تُبتلى الشجرة الخضراء في بعض أوقاتها بمثل ما يُبتلى به الإنسان؟ غير أن لها عقلًا روحانيًّا مستقرًّا في داخلها يمسك الحياة عليها ويتربَّص٣٠ حالًا غير الحال؛ ومهما يكن من أمر ظاهرها وبلائه فالسعادة كلها في داخلها، ولها دائمًا ربيعٌ على قدرها حتى في قُرِّ٣١ الشتاء.

فالعقل الروحاني الآتي من الإيمان، لا عمل له إلا أن يُنشئ للنفس غريزة متصرِّفة في كل غرائزها، تكمِّل شيئًا وتُنقص من شيء، وتوجِّه إلى ناحية وتَصرِف عن ناحية؛ وبهذه الغريزة تسمو الروح فتكون أكبر من مصائبها وأكبر من لذاتها جميعًا.

وتلك الغريزة هي نفسها معنى الرضى بالقدر خيره وشره، وهي تأتي بالتأويل لكل هموم الدنيا، فتضع في النكبات معانيَ شريفة تنزع منها شرها وأذاها للنفس؛ وليست المصيبة شيئًا لولا تأذِّي النفس بها. وإذا وقع التأويل في معاني النكبات أصبحت تعمل عمل الفضائل، وتغيَّرت طبيعتها فيعود الفقر بابًا من الزهد، والمرض نوعًا من الجهاد، والخيبة طريقًا من الصبر، والحزن وجهًا من الرجاء، وهلمَّ جرًّا.

والنفس وحدها كنز عظيم، وفيها وحدها الفرح والابتهاج لا في غيرها، وما لذَّات الدنيا إلا وسائل لإثارة هذا الفرح وهذا الابتهاج، فإن وُجدا مع الفقر بطلت عزة المال وأصبح حجرًا من الأحجار؛ والبلبل يتغرَّد بحنجرته الصغيرة ما لا تُغني فيه آلات التطريب كلها. وفي النفس حياةُ ما حولها، فإذا قويتْ هذه النفس أذلَّت الدنيا، وإذا ضعفتْ أذلَّتْها الدنيا!

•••

قال المسيب: ثم سكت الشيخ قليلًا، وكنت أرى الرجل كأنما يغتسل بكلامه، وقد أشرق وجهه وتنضَّر وانقلب على روحه التي كان منصرفًا عنها، فعادت مصائبه تضغط روحًا لينة كما تضغط اليد على الماء، وأيقن أن النكبة كلها هي أن ينظر الإنسان إلى الحياة بعين شهواته، فيُنكب أول ما يُنكب في صبره ويقينه.

ثم قال الشيخ: ولقد رأيتُ بعينَي رأسي معجزة «العقل الروحاني» وكيف يصنع؛ رأيتُ عروة بن الزبير وهو شيخ كبير، عند الوليد بن عبد الملك، وقد وقعت في رجله الأُكلة؛٣٢ فأشاروا عليه بقطعها حتى لا تُفسد جسدَه كله، فدُعي له من يقطعها، فلما جاء قال له: نسقيك الخمر حتى لا تجد لها ألمًا، فقال عروة: لا أستعين بحرام الله على ما أرجو من عافية! قال: فنسقيك المُرْقِد.٣٣ فقال عروة: ما أحبُّ أن أُسلب عضوًا من أعضائي وأنا لا أجد ألم ذلك فأحتسبه!
ثم دخل رجالٌ أنكرهم عروة، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يُمسكونك، فإن الألم ربما عزب٣٤ معه الصبر، قال: أرجو أن أكفيكم ذلك من نفسي!
قال الشيخ: فانظر أيها الضعيف الذي يريد قتل نفسه كيف صنع عروة، وكيف استقبل البلاء، وكيف صبر وكيف احتمل؛ إنه انصرف بحسِّه إلى النفس فانبسطت روحه عليه، وأخذ يكبِّر ويهلِّل ليبقى مع روحه وحدها، وخرج من دنيا ظاهره إلى دنيا باطنه، وغُمرت حواسه وأعصابه بالنور الإلهي من معنى التكبير والتهليل، فقطعَ القاطعُ كعبه بالسكين وهو لا يلتفت، حتى إذا بلغ العظم وضع عليها المنشار ونشرها وعروة في التكبير والتهليل، ثم جيء بالزيت مغليًّا في مغارف٣٥ الحديد فحُسِم٣٦ به مكان القطع، فغُشي على عروة ساعة ثم أفاق وهو يمسح العرق عن وجهه، ولم يُسمع منه في كل هذه الآلام الماحقة أنَّة ولا آهة، ولم يقل قبلها ولا بعدها ولا بين ذلك: «جاء ما لا صبر عليه …!»

•••

قال المسيَّب: وأُرهِف٣٧ بأسُ الرجل الضعيف وقوي جأشه،٣٨ وانبعث فيه الروح إلى عمر جديد، ونشأ له اليقين من عقله الروحاني، وعرف أن ما لا يمكن أن يُدرك، يمكن أن يُترك.

وجاء هذا العقل الروحاني فمرَّ بالمنشار على اليأس الذي كان في نفسه فقطعه، فما راعنا إلا أن وثب الرجل قائمًا يقول: الله أكبر من الدنيا، الله أكبر من الدنيا.

ثم أكبَّ٣٩ على يد الشيخ وهو يقول: صدقتَ؛ «إنْ كلُّ ذلك إلا كما ترى قبضةً من التراب تتكبَّر، وقد نسيَتْ أنه سيأتي من يكنسها!»
ماذا يصنع الإنسان إذا غلط في مسألة من مسائل الدنيا إلا أن يتحرَّى٤٠ الصواب، ويجتهد في الرجوع إليه، ويصبر على ما يناله في ذلك؟ وماذا يصنع الإنسان إذا غلطتْ فيه مسألة …؟
١  سمته: حسن هيئته ومنظره في الدين.
٢  اجتزت: التقيت.
٣  الحِبُّ (بكسر الحاء): هو الزير.
٤  حدته: قوته.
٥  شفير: حافة.
٦  استوثق: تأكد.
٧  الرحى: الطاحون.
٨  محق: خفي.
٩  جهده: أتعبه.
١٠  أنفس: أضنُّ.
١١  أشفقت: خفت.
١٢  عاهل الروم: قيصر الروم، ملكهم.
١٣  عرعرة الجبل (بالضم): رأسه ومعظمه.
١٤  ترادفت: توالت.
١٥  الأسقام: الأمراض.
١٦  تحسى: شرب.
١٧  توجأ: ضرب نفسه بالسكين.
١٨  رقأ دمه: توقف نزقه.
١٩  فاضت نفسه: مات.
٢٠  تردى: رمى نفسه من علٍ.
٢١  استفز: أثار.
٢٢  تسور الحائط: صعد فوقه.
٢٣  خوار: ضعيف.
٢٤  كوة: فتحة صغيرة في جدار.
٢٥  أعضل مرضه: اشتد حتى صعب الشفاء منه.
٢٦  وهن: ضعيف.
٢٧  دك: حطم.
٢٨  مثخنًا بالجراح: ممتلئًا جراحًا في سائر جسده.
٢٩  الروع: الخوف الشديد.
٣٠  يتربص: ينتظر.
٣١  القر: البرد الشديد.
٣٢  الأكلة (بضم الهمزة): هي الحِكَّة (بكسر الحاء).
٣٣  المرقد: ما يسمى بالأجنبية «البنج».
٣٤  عزب: نفد.
٣٥  مغارف: ملاعق.
٣٦  حُسم: سكِّر.
٣٧  أرهف: رقَّ.
٣٨  الجاش: السيطرة على النفس.
٣٩  أكبَّ: انحنى.
٤٠  يتحرى: يتقصى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤