الانتحار (٢)

قال المسيَّب بن رافع: وقام الشعبي إلى الرجل فاعتنقه فرحًا بما آل أمره إليه، بعد إذ رأى النور يجري على لونه ويترقرق في ديباجته،١ كأنما وقع الصلح بين وجهه وبين الحياة. ثم قال له: نِعْمَ أخو الإسلام أنتَ، فاستعِذْ بالله من خذلانه، فإنه ما خذلك إلا وضْعُك نفسَك بإزاء الله تعارِضه أو تجاريه في قدرته، فيَكِلك إلى هذه النفس، فتنتهي بك إلى العجز، وينتهي العجز بك إلى السخط، ومتى كنت عاجزًا ساخطًا، محصورًا في نفسك موكولًا إلى قدرتك، كنت كالأسد الجائع في القفر،٢ إذا ظنَّ أن قوَّته تتناول خَلْق الفريسة؛ فيدعو ذلك إلى نفسك اليأس والانزعاج والكآبة؛ وأمثالها من هذه المُهلكات تقدح٣ في قلبك الشكَّ في الله، وتُثبت في روعك شرَّ الحياة، وتُهدي إلى خاطرك حماقات العقل، وتقرِّر عندك عجز الإرادة؛ فتنتهي من كل ذلك ميتًا قد أزهقتْكَ نفسُك قبل أن تُزهقها!

ولو كنتَ بدل إيمانك بنفسك قد آمنت بالله حق الإيمان، لسلَّطك الله على نفسك ولم يسلِّطها عليك؛ فإذا رمَتْك المطامع بالحاجة التي لا تقدر عليها، رميْتَها من نفسك بالاستغناء الذي تقدر عليه؛ وإذا جاءتك الشهوات من ناحية الرغبة المقبلة، جئتَها من ناحية الزهد المنصرف، وإذا ساورتْكَ كبرياء الدنيا أذللتها بكبرياء الآخرة.

وبهذا تنقلب الأحزان والآلام ضروبًا من فرح الفوز والانتصار على النفس وشهواتها، وكانت فنونًا من الخذلان والهم، وتعود موضع فخر ومباهاة، وكانت أسباب خزي وانكسار، وعزيمة الإيمان إذا هي قويت حصرت البلاء في مقداره، فإذا حصرتْهُ لم تزل تنقص من معانيه شيئًا شيئًا، فإذا ضعُفت هذه العزيمة جاء البلاء غامرًا متفشيًا يجاوز مقداره بما يصحبه من الخوف والروع، فلا تزال معانيه تزيد شيئًا شيئًا بما فيه وبما ليس فيه.

وللإيمان ضوء في النفس ينير ما حولها فتراه على حقيقته الفانية وشيكًا أن يزول؛ فإذا انطفأ هذا الضوء انطمست الأشياء، فتتوهَّمها النفس أوهامًا متباينة٤ على أحوالها المختلفة؛ كما يرى الأعمى بوهمه: لا عينُهُ مع الأشياء تكون في طبيعتها، ولا أشياؤه عند عينه تكون في حقيقتها.

•••

قال المسيَّب: وكانت الشمس قد طفَّلت٥ للمغيب؛ فقال الإمام للرجل: قم فتوضأ وأسبغ الوضوء، وسأعلِّمكَ أمرًا تنتفع به في دينك ودنياك: فإذا قمتَ إلى وضوئك فأيقِنْ في نفسك واعزم في خاطرك على أن في هذا الماء سرًّا روحانيًّا من أسرار الغيب والحياة، وأنه رمز للسماء عندك، وأنك إنما تتطهر به من ظلمات نفسك التي امتدَّت على أطرافك؛ ثم سمِّ الله — تعالى — مفيضًا اسمه القادر الكريم على الماء وعلى نفسك معًا، ثم تمثَّل أنك غسلتَ يديك مما فيهما ومما تتعاطاه بهما من أعمال الدنيا، وأنك آخذٌ فيهما من السماء لوجهك وأعضائك؛ وقرِّر عند نفسك أن الوضوء ليس شيئًا إلا مسحةً سماوية تسبغها على كل أطرافك، ليشعر بها جسمك وعقلك؛ وأنك بهذه المسحة السماوية تستقبل الله في صلاتك سماويًّا لا أرضيًّا.

فإذا أنت استشعرتَ هذا وعملت عليه وصار عادةً لك، فإن الوضوء حينئذٍ ينزل من النفس منزلة الدواء، كلما اغتممتَ أو تسخَّطتَ أو غشيكَ حزنٌ أو عَرَضَ لك وسواسٌ، فما تتوضأ على تلك النية إلا غسلتَ الحياة وغسلتَ الساعة التي أنت فيها من الحياة. وترى الماء تحسبه هدوءًا لينًا لين الرضى، وإذا هو ينساب في شعورك وفي أحوالك جميعًا.

قال المسيَّب: وقمت أنا فجدَّدت وضوئي على هذه الصفة بتلك النية، فإذا أنا عند نفسي مستضيءٌ بروحٍ نجميَّة لها إشراق وسناء، وإذا الوضوء في أضعف معانيه هو ما عَلِمْنا من أنه الطهارة والنظافة، أما في أقوى معانيه فهو إفاضة من السماء فيها التقديس والتزكية وغسل الوقت الإنساني مما يخالطه كلما مرَّت ساعات، وابتداؤه للروح كالنبات الأخضر ناضرًا مطولًا مترطبًا بالماء.

ثم صلَّى بنا الشيخ، وأمرني بالمبيت مع الرجل، كأنما خشي البدوات٦ أن تبدو له فتنقص عزمه، أو هو زادني عليه لأغيِّر شخصه وأبدِّل وحدته التي كان فيها، أو كأن الشيخ لم يأمن على الرجل أن يكون إنسانه الروحي قد تنبَّه بأكمله فوضعني كالتنبيه له.
وجاءنا العشاء من دار الشيخ فطعمنا، ثم قام الرجل فتوضأ وصلينا العتمة وجلسنا نتحدث، فاستنبأته نبأه،٧ فقال: مهلًا. ثم نهض فتوضأ الثالثة وقال: تالله ما أعرف الوضوء بعد اليوم إلا ملامسة بين السماء والنفس، وما أعرف وقته من الروح إلا كساعة الفجر على النبات الأخضر.

•••

قال المسيب: وأصبحنا فغدونا على الإمام، ثم لزمني الرجل في بعض أموري، ثم وافينا المسجد صلاة العصر لحضور درس الشيخ؛ وكان الناس كالحَبِّ المتراصف على العنقود، لا أدري مَن ساقهم وجمعهم، كأنما علِمَتْ الكوفة أن رجلًا مسلمًا كفر بالله كفرةً صلعاء وأنه سيحضر درس الشيخ، وسيحضر الشيخ من أجله، فهبَّت الرياح الأربع تسوق أهلها إلى المسجد من أقطارها.

وجلس الشيخ مجلس الحديث فقال: رُوينا أن رجلًا كانت به جراحة، فأتى قَرَنًا٨ له فأخذ مشقصًا٩ فذبح به نفسه، فلم يُصلِّ عليه النبي ، وترك جنازته مطرودة تقتحم مَتْلفة الآخرة كما اقتحمت متلفة الدنيا!

رُوينا في الحديث عن النبي أنه قال: «الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار، والذي يقتحم يقتحم في النار!»

رُوينا عنه : «من قتل نفسه بشيء عذِّب به يوم القيامة!»

رُوينا عنه قال: «كان رجلٌ به جراح فقَتَلَ نفسه، فقال الله: بدرني عبدي بنفسه فحرَّمت عليه الجنة!»

قال الشعبي: يقول الله: «بدرني عبدي بنفسه …» أي بدرني١٠ وتألَّه فجعل نفسه إله نفسه، فقبضها وتوفَّاها، فكان ظالمًا.

بدرني وتألَّه في آخر أنفاسه لحظةَ ينقلبُ إليَّ، فكان مع ظلمه مغرورًا أحمق!

بدرني وتألَّه حين ضاق، فهوَّر نفسه١١ في الموت من عجزه أن يمسكها في الحياة، فكان عاجزًا مع ظلمه وغروره وحمقه!

بدرني وتألَّه على جهله بسرِّ الحياة وحكمتها، فلم يستحِ هذا المخلوق الظالم المغرور في حمقه وعجزه وجهله، لم يستحِ أن يجيئني في صورة إله!

بدرني وتألَّه، فطبع نفسه طابعها الأبدي من غيٍّ وتمرُّد وسفاهة، وأرسلها إليَّ مقتولة يردُّها عليَّ.

بدرني وتألَّه كأنما يقول: إن له نصف الأمر ولي النصف: أنا أحييتُ وهو أمات …!

بدرني عبدي بنفسه فحرَّمت عليه الجنة! قال الشعبي: وإنما تُحرَّم الجنة على من يقتل نفسه؛ إذ ينقلب إلى الله وعلى روحه جناية يده ما تُفارقها إلى الأبد، فهو هناك جيفة من الجيف مسمومة أبدًا، أو مخنوقة أبدًا، أو مذبوحة أبدًا، أو مهشمة أبدًا. يقول الله له: أنت بدرتني بنفسك، وجريت معي في القدر مجرًى واحدًا، فستخلُدُ نفسُك في الصورة التي هي مِن عملك، وما قتلتَ إلا حسناتك.

قال الشعبي: ولو عرف قاتل نفسه أنه سيصنع من نفسه جيفة أبدية، فمن ذا الذي يعرف أنه إذا فعل كذا وكذا تحول حمارًا وبقي حمارًا، فيرضى أن يتحول ويُسرع ليتحول؟

من ذلك نظر النبي إلى جنازة ذلك الرجل الذي قتل نفسه، كما ينظر إلى ذبابة توجَّهت بالسبِّ إلى الشمس والكواكب والأفلاك كلها، ثم جاءته تقول له: اشهد لي.

•••

قال الشيخ: ومِمَّ يقتل الإنسان نفسه؟ أَمَا إنَّ الموت آتٍ لا ريب فيه ولا مَقْصِر لحي عنه، وهو الخيبة الكبرى تُلقى على هذه الحياة؛ فما ضرر الخيبة الصغيرة في أمر من أمور الحياة؟

إن المرء لا يقتل نفسه من نجاحٍ، بل من خيبة، فإن كانت الخيبة من مالٍ فهي الفقر أو الحاجة، وإن كانت من عافية فهي المرض أو الاختلال، وإن كانت من عِزة فهي الذل أو البؤس، وإن كانت مما سوى ذلك — كالنساء وغيرهن — فهي العجز عن الشهوة وفساد التخيل، كل ذلك موجود في الناس، يحمله أهله راضين به صابرين عليه، وهو الغبار النفسي لهذه الأرض على نفوس أهلها. ويا عجبًا! إن العُميان هم بالطبيعة أكثر الناس ضحكًا وابتسامًا وعبثًا وسخرية، أفتريدون أن تخاطبكم الحياة بأفصح من ذلك؟

ليست الخيبة هي الشر، بل الشر كله في العقل إذا تبلَّد فجمد على حالة واحدة من الطمع الخائب، أو في الإرادة إذا وهنت فبقيت متعلقة بما لم يوجد. أفلا ترون أنه حين لا يبالي العقل ولا الإرادة لا يبقى للخيبة معنى ولا أثر في النفس، ولا يخيب الإنسان حينئذ، بل تخيب الخيبة نفسها؟

لهذا يأبى الإسلام على أهله الترف العقلي والتخيل الفاسد، ويشتد كل الشدة في أمر الإرادة، فلا يترخَّص في شيء يتعلق بها، ولا يزال ينميها بأعمال يومية تشدُّ منها لتكون رقيبة على العقل حارسة له، فإن للعقل أمراضًا كثيرة يقيس فيها درجات من الطيش حتى يبلغ الجنون أحيانًا؛ فكانت الإرادة عقلًا للعقل؛ هي لينه إذ تصلَّب، وهي حركته إذا تبلَّد، وهي حلمه إذا طاش، وهي رضاه إذا سخط.

الإرادة شيء بين الروح والعقل، فهي بين وجودين؛ ولهذا يكون بها الإنسان بين وجودين أيضًا، فيستطيع أن يعيش وهو في الدنيا كالمنفصل عنها؛ إذ يكون في وجوده الأقوى وجود روحه، وأكبر همِّه نجاحه في هذا الوجود.

وهذا النجاح لا يأتي من المال، ولا تحقِّقه العافية، ولا تيسِّره الشهوات، ولا يُسنِّيه١٢ التخيل الفاسد؛ ولا يكون من متاع الغرور، ولا مما عُمره خمسون سنة أو مائة سنة، بل يأتي مما عمره الخلود ومما هو باقٍ أبدًا في معانيه من الخير والحق والصلاح؛ فها هنا يُعين المرضُ بالصبر عليه مما لا تُعين الصحة، ويفيد الفقر بحقائقه ما لا تفيد الثروة؛ وهنا يكون العقل الإنساني عاملًا أكثر مما هو متخيِّل، وقانعًا أكثر مما هو طامع؛ ها هنا لا موضع لغلبة الشهوة، ولا كبرياء النفس، ولا حب الذات؛ وهذه الثلاث هي جالبة الشقاء على الإنسان حتى في أحوال السعادة، وبدونها يكون الإنسان هانئًا حتى في أحوال الشقاء.

بالإرادة المؤمنة القوية ينصرف ذكاء المؤمن إلى حقائق العالم وصلاح النفس بها، وبغير هذه الإرادة ينصرف الذكاء إلى خيال الإنسان وفساد الإنسان …

وإذا انصرف الذكاء إلى حقائق الدنيا كان العقل سهلًا مرنًا مطواعًا، واستحال عليه أن يفهم فكرة قتل النفس أو يُقرَّها، فإن هذه الفكرة الخبيثة لا تستطرق إلى العقل إلا إذا تحجَّر وانحصر في غرض واحد قد خاب وخابت فيه الإرادة ففرغت الدنيا عنده.

ولو أن امرأ تم عزمه على قتل نفسه ثم صابر الدنيا أيامًا، لانفسح عزمه أو ركَّ؛١٣ إذ يلين العقل في هذه المدة نوعًا ما، ويجعل الصبر بينه وبين المصيبة مسافة ما، فتتغير حالة النفس هونًا ما؛ فالصبر كالتروُّح بالهواء على العقل الذي يكاد يختنق من احتباسه في معنى واحد مقفل من جوانبه، ومثل العقل في هذه الحال مثل القائم في إعصار لفَّه بالتراب لفًّا وسدَّ عليه منافذ الهواء، وحبسه في هذا التراب الملتف حبس الحشرة في جوف القصبة؛ فهو على اليقين أنها حالةُ ساعة طارئة في الزمن لا حالة الزمن؛ وأن الهواء الذي جاء بهذا الهمِّ هو الذي يذهب بهذا الهم.

وكما أن الأرض هي شيء غير هذا الإعصار الثائر منها، فالحياة كذلك هي أمر آخر غير شقائها.

•••

قال الإمام: وفي كتاب الله آيتان تدلان على أنه كتاب الدنيا كلها؛ إذ وَضعَ لهذه الدنيا مثالين: أحدهما المثال الروحي للفرد الكامل، والآخر المثال الروحي للجماعة الكاملة.

أما الآية الأولى فهي قوله — تعالى: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ.

وأما الثانية فهي قوله — تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ.

ففي رجاء الله واليوم الآخر يتسامى الإنسان فوق هذه الحياة الفانية، فتمر همومها حوله ولا تصدمه؛ إذ هي في الحقيقة تجري من تحته فكأنْ لا سلطان لها عليه، وهذه الهموم تجد في مثل هذه النفس قوى بالغة تصرفها كيف شاءت، فلا يجيء الهم قوة تسحق ضعفًا، بل قوة تمتحن قوة أخرى أو تثيرها لتكون عملًا ظاهرًا يقلده الناس وينتفعون منه بالأسوة الحسنة، والأسوة وحدها هي عِلم الحياة.

وقد ترى الفقير من الناس تحسبه مسكينًا، وهو في حقيقته أستاذ من أكبر الأساتيذ يلقي على الناس دروس نفسه القوية.

وفي رجاء الله واليوم الآخر يبطل أكبر أسباب الشر في الناس، وهو نظر الإنسان لمن هو أحظى منه بفتنة الدنيا نظرًا لا يبعث إلا الحقد والسخط، فينظر المؤمن حينئذٍ إلى ما في الناس من الخير والصلاح والإيمان والحق والفضيلة، وهذه بطبيعتها لا تبعث إلا السرور والغبطة، ومَن جعلها في تفكيره أبطل أكثر الدنيا من تفكيره، وبها تسقط الفروق بين الناس عاليهم ونازلهم، كالرجل الفقير العالِم إذا قَدِم على الغني العالِم؛ جمع بينهما الاتفاق العقلي وسقط ما عداه.

وفي رجاء الله واليوم الآخر يعيش الإنسان عمره الطويل أو القصير كأنه في يوم يُصبح منه غاديًا على الحشر والحساب؛ فهو متصل بالخلود غير معنيٍّ إلا بأسبابه، وبهذا تكون أمراضه وآلامه ومصائبه ليست مكاره من الدنيا، بل هي تلك المكاره التي حفَّت الجنة بها؛ ولا يضرُّه الحرمان لأنه قريب الزوال، ولا يغرُّه المتاع لأنه قريب الزوال أيضًا.

وفي رجاء الله واليوم الآخر يسود الإنسان على نفسه، ومن كان سيد نفسه كان سيد ما حولها يصرِّفه بحكمه، ومن كان عبد نفسه صرَّفه بحكمه كلُّ ما حوله.

قال الشعبي: وأما المثال الروحي للجماعة الكاملة، فهو في وصف المؤمنين بأنهم «رحماء بينهم»؛ فهذا هذا، ما أحسبه يحتاج إلى بسطٍ وبيان.

إن أكثر ما يضيق به الإنسان يكون من قِبَل مَن حوله ممن يعايشهم ويتصل بهم لا مِن قِبَل نفسه، فإذا قام اجتماع أمَّة على أنهم «رحماء بينهم» تقرَّرت العظمة النفسية للجميع على السواء؛ ومن كانوا كذلك لم يَحقِروا الفقير بفقره، ولم يعظِّموا الغني لغناه، وإنما يحقِّرون ويعظِّمون لصفات سامية أو حقيرة. وبين هؤلاء يكون الفقير الصابر أعظم قدرًا من الغني الشاكر، وإعظام الناس لفضيلة الفقير هو الذي يجعل فقره عند نفسه شيئًا ذا قيمة في الإنسانية.

ومتى تصحَّحت آراء الجماعة في هذه المعاني المؤلمة للناس بطل ألمها واستحالت معانيها، وصار لا يبلى معنى من معاني الحياة في إنسان إلا وضع إيمانه معنى جديدًا في مكانه، وتصبح الفضيلة وحدها غاية النفس في الجميع، وبذلك يصبر الفرد على مصائبه، لا بقوته وحده، ولكن بجميع القوى التي حوله. أفلا ترون أن إعجاب الناس بالشجاعة وتعظيمهم صاحبها يضع في ألم السلاح لذة يحسُّها لحم الشجاع البطل؟

•••

قال المسيَّب بن رافع: فقام رجلٌ من المجلس، فقال: أيها الشيخ، وإذا فسد الناس وغلظت قلوبهم، وتقطعت بينهم الأسباب، ولم يعودوا «رحماء بينهم»، وشمتوا بالفقير، وتهزَّءوا بالمُبتلَى وطرحوه في ألسنتهم كما يطرح الشاعر في لسانه رجلًا يهجوه لا يكفُّ عنه، فما عسى أن يصنع المسكين حينئذٍ وكل شيء يدفعه إلى قتل نفسه؟

وقال الشعبي: ها هنا الرجاء في الله واليوم الآخر، وهو شعور لا يُشترى بمال، ولا يُلتمس من أحد، ولا يعسر على من أراده، والفقير والمبتلى وغيرهما إنما يصنع كلٌّ منهم مثاله السامي؛ فالصبر على هذا العنت هو صبر على إتمام المثال، وإذا وقع ما يسوءك أو يحزنك فابحث فيه عن فكرته السامية، فقلَّما يخلو منها، بل قلما يجيء إلا بها.

قال المسيب: فقام آخر فقال: وكيف يصنع امرؤ آلت١٤ أحوال الدنيا إلى ما يخيفه، أو بلغ الهم مبلغه من قلبه فهمَّ أن يقتل نفسه؟

قال الشعبي: فليجعل الخوف خوفين: أحدهما خوفه عذاب الله خالدًا مخلدًا فيه أبدًا؛ فيذهب الأقوى بالأضعف، وإذا ابتُلي فليضمَّ إلى نفسه مَن هو أشد بلاء منه؛ ليكون همه أحد همَّين، فيذهب الأثقل بالأخف.

إن الإنسان ونفسه في هذه الحياة كالذي أُعطي طفلًا نزقًا طياشًا عارمًا متمردًا ليؤدبه ويُحكِم تربيته وتقويمه فيُثبت بذلك أنه أستاذ، فيُعطَى أجر صبره وعمله، ثم يضيق الأستاذ بالطفل ساعةً فيقتله. أكذلك التأديب والتربية؟

١  ديباجته: محيَّاه.
٢  القفر: الصحراء.
٣  تقدح: تشعل.
٤  متباينة: مختلفة.
٥  طفلت: مالت.
٦  البدوات: المفاجآت.
٧  استنبأته نبأه: سألته عنه.
٨  القَرَن (بالفتح): جعبة النشاب.
٩  المشقص: سهم ذو نصل عريض.
١٠  بدرني: سبقني وأتى إليَّ.
١١  هوَّر نفسه: أزهقها.
١٢  يسنيه: يجعله سنيًّا نبيلًا.
١٣  ركَّ: ضعف.
١٤  آلت: تحولت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤