قصة أب

حدثني المسكين فيما حدَّث وهو يصف ما نزل به قال: رأيت الناس قد أنعم الله عليهم أن يكونوا آباء فنسأ١ بالولد في آثارهم، ومدَّ بالنسل في وجودهم، وزاد منه في أرواحهم أرواحًا، وضمَّ به إلى قلوبهم قلوبا، وملأ أعينهم من ذلك بما تقر به قرة عين كانت لم تَجِد ثم وَجَدَتْ، فهم بهؤلاء الأطفال يملكون القوة التي تُرجعهم أطفالًا مثلهم في كل ما يسرُّهم، فيكبر الفرح في أنفسهم وإن كان في ذات نفسه ضئيلًا صغيرًا، ويعظم الأمل في أشيائهم وإن كان هو عن شيء حقير لا يؤْبَهُ٢ له.

وتلك حقيقة من حقائق السعادة لا أسمى ولا أعظم منها إلا الحقيقة الأخرى، وهي القوة التي يتحول بها الكَوْن في قلب الوالدين إلى كنز من الحب والرحمة وجمال العاطفة، وبسحر من ابتسامة طفل أو طفلة، أو بكلمة منهما أو حركة، على حين لا يتحوَّل مثل ذلك ولا قريبًا منه بمال الدنيا، ولا بمُلْك الدنيا.

رأيت الناس قد أنعم الله عليهم أن يكونوا آباء، ولكنَّه ابتلاني بأن أكون أبا، وأخرج لي من أفراح قلبي أحزان قلبي! ولقد كنت كرجل ملكَ دارًا يستمتع بها، فتمنى أن يُشْرِع٣ في جانب منها غرفة يزخرفها، فلما تم له ذلك وبلغ المقترح، انهدمت الدار وبقيت الغرفة قائمة!

عَمْرَكَ اللهَ، أيشعر هذا الرجل في نكبته بالغرفة أم بالدار؟ وهل تراه زاد أو نقص؟ ويا ليتهما بيت وغرفة من بيت؛ فإن الحجارة تحيا بالبناء إذا ماتت بالهدم، ولكن من ذا يُحْيِي الزوجة ماتت بعد أو ضعتْ بِكْرَها الأول والآخر!

إنها طفلة وُلدت وكأنما أُخرجت من تحت الرَّدْم، إذ ولدت تحت ماض من الحياة منهدم، وهل فرقٌ بين هذا وبين أن تكون أمها قد ولدتها في الصحراء ثم أكرهت أن تدعها وحدها في ذلك القفر تصرخ وتبكي! فالمسكينة على الحالين منقطعة أولَ ما انقطعتْ من حنان الأم ورحمتها.

طفلة ولدت صارخة، لا صرخة الحياة، ولكن صرخة النَّوْح والندْب على أمها.

صرخة حزينة معناها: ضعوني مع أمي ولو في القبر!

صرخة ترتعد، كأن المسكينة شعرت أن الدنيا خالية من الصدر الذي يدفئها!

صرخة تتردد في ضراعة،٤ كأنها جملة مركبة من هذه الكلمات: «يا رب، ارحمني من حياة بلا أم!»

•••

قال المسكين وهو يبكي امرأته: ولما ضربها المخاض، ضاعفت قوتها من شعورها أنها ستكون بعد قليل مضاعفة بمولودها، وستكون روحين لا روحًا واحدة، وتلد لي الحياةَ والحبَّ الإلهي معًا، وتأتي لقلبي بمثل طفولته الأولى التي يستحيل أن تأتي الرجل إلا من زوجه. كل ذلك ضاعف قواها ساعةً وشدَّ منها؛ ولكن ما أسرع ما تبينت أنه الموت! إذ عُضِّلت وعَسُر خروج مولودها.

وجاءها الجِراحِىُّ بمبْضَعه، وكأنها رأته ذابحًا لا طبيبا، فجعلت تعبِّر بعينيها، إذ لم تملك في آلامها القاتلة غير لغة هاتين العينين.

كانت بنظرة تبكي عليَّ وعلى بؤسِي، وبأخرى تبكي على بؤس مولودها وشقائه؛ وبنظرة تُوَدِّعني، وبأخرى تدعو الله لي جزاء ما أحسنتُ إليها؛ وبنظرة تتوجع لنفسها، وبأخرى تتألم من أنها تراني أكاد أُجَنُّ.

نظرات، نظرات …

يا إلهي! لقد خُيِّل إليَّ أن ملك الموت واقف بين عشرين مرآة تحيط به، فأنا أراه موتًا متعددا لا موتًا واحدًا، وكل نظرة من عينَيْ زوجتي إليَّ كانت منها هي نظرةً، وكانت عندي أنا مِرْآةَ الروح للروح.

ولكنها لم تنسَ أنها تموت لوضع مولودها، وأن هذه الآلام الدموية الذابحة هي الوسيلة لأن تترك لي بقية حية منها؛ فيا للرحمة والحنان والحب! لقد ابتسمت لي وهي تموت؛ وهي تلد؛ وهي تُذْبَح!

•••

ليست رحمة المرأة المحبة خيالًا إلا إذا كانت حرارة الشمس التي تُحْيِي الدنيا خيالًا أيضًا؛ إن هذا القلب النسوي المستقر فوق أحشاء تحمل الجنينَ صابرة راضية فرحة بآلامها، وتغذوه وتقاسمه حياة نفسها — هذا القلب يحمل الحب أيضًا صابرًا فرحًا بآلامه، ويغذوه ويقاسمه حياة نفسه.

وللرحمة الإلهية أدلة كثيرة تدل الإنسان عليها دلالات مختلفة؛ فالشمس تدل عليها بالضوء الذي تَطْعَمه الحياةُ، والهواء يدل عليها بالضوء الذي تتنفسه الحياةُ، والماء يدل عليها بالضوء الذي تشربه الحياة … وهكذا إلى أن يأتي في الآخر قلبُ المرأة فيدل على رحمة الله بالحُبِّ الذي تقوم به الحياة.

ابتسامة الحب غالبت زَفَرات الموت التي تَعْتَلِج من تحتها حتى غلبتها، وأعادت الحياة لحظة إلى وجه زوجتي لأراها آخر ما أراها في صورة المُحِبَّة لي، فكان كل جمال نفسها منتشرًا على ذلك الوجه، وظهرتْ فيه روحها وعواطفها تودعني وداعًا حزينا متبسما يتكلم؛ يتكلم بعجزه عن الكلام.

ابتسامة لا ريب أن فيها أشياء ليست من جمال هذه الدنيا ولا من حقائقها؛ فكأنما التمعت بأشعة من الخلد ترف رفيفها على وجه الحبيب ليظهر ساعة الموت أن حبه أقوى من الموت.

•••

قال المسكين: ونثرَ الطبيب ذا بطنِها فكانت طفلة، وما كانت زوجتي تقترح أن يكون الجنين غيرَها، بل كانتْ مستيقنة أنها تضعها أنثى، وصنعت لها ثيابها، ووشتها بزينة الأنوثة، وعرضت أسماء البنات فاختارت اسمها أيضًا، وكنت أكرَهُ ذلك منها وأريدُ ولدًا لا بنتًا، فكانت تُغايِظني بعملها وإصرارها غيظَ دُعابة لا غيظ جَفاء.

ومضت لا تذكر إلا بنتها مدة الحَمْل، ولا تتكلم إلا عن بنتها وقد كنتُ أعجب لذلك؛ فلما قضى الله فيها قضاءه، علمتُ أن ذلك أمرٌ من أمر الروح، فكان الإلهام فيها أنها على باب قبرها، وأنها لن ترى طفلتها، ولن تعيش لها، فعاشت أيام الحمل مع ذكراها؛ تضم ثيابها إلى صدرها وتحملها على يدها، وتُناغيها وتُقَبِّلها، وتأخذها من الوهم وتردها إليه؛ وكذلك نَعِمَتِ المسكينة بالمسكينة!

لك الله يا معجزة الرحمة، يا نفسَ الأم!

•••

ولما قيل: ماتت. جعل يُكلِّمني المتكلم ولا أعقل؛ فإن الكلمة التي تأتي بالمصيبة المتوقعة طال ارتقابها، لا تأتي بمعانٍ لغوية كغيرها من الكلام، بل بأسلحة تضرب في النفس وفي العقل، وتُثْخنهما جراحًا وفتْكا.

وجعلني موتُها كأني ميت يحمل نفسَه، ما حوله إلا المشيعون، وأحسست كأن قوة أَخَذَتْ بإحدى رجليَّ فوضعَتْها في الآخرة وتركتِ الثانية في الدنيا، ولحقني من الجزع ما الله عالم به، ووجدت أَحْرَقَ الوَجْد، وبكيت أحرَّ البكاء؛ وجعلت أفكاري تنحدر من رأسي إلى حلقي فأختنق بها ثم لا يُنَفِّس عني إلا الدمع، كأن أعضائي اختلت مما ضغطني من الحزن، فأنا أتنفس برئتيَّ وعينيَّ.

بموتها شعرتُ بها؛ ولعله من أجل ذلك لا يشعر الإنسان بلذة الحب كاملة إلا في آلام الحب وحدها، وكانت في حياتها تضع من روحها في سروري، وهذا هو سر المرأة المحبوبة؛ يجد مُحبُّها في كل سرور لمحات روحانية؛ وكذلك فعلتْ بعد موتها، فجعلتْ روحها في أحزاني؛ ولولا أن روحها في أحزاني لقتلتني المصيبة.

وكنت أدلف٥ وراء النعش وقد بطل في نفسي الشعور بالدنيا، وكان الناس يمشون حولي بما فيهم من الحياة، وكانوا ذاهبين إلى المقبرة على أنهم سائرون كما يذهبون إلى كل مكان؛ أما أنا فكنت أمشي بما فيَّ من الحب منكسرًا منخذلًا متضعضعًا، لأني وحدي سائر وراء ما لا يُلْحَق.

وثَقُلَ الناسُ على قلبي، ورجعَ كلُّ أمرهم عندي إلى العيب والنقيصة؛ إذ كان لي عقل طارئ من الحالة التي أنا فيها ليس مثلُه لأحد منهم، وكنت وحدي المصاب بينهم، فكنت وحدي بينهم العاقل.

أنا أمشي لأنتهي إلى آخر مصيبتي، وهم يمشون لينتهوا إلى آخر الطريق؛ وشَتَّانَ٦ ما نحن وشتان!

ولما رأيت قبرها ابتدرت عينايَ تنظران بالدموع لا بالنظر، ورأيتُ التراب كأنه غيوم ملونة بألوان السحب الداكنة تتهيأ في سمائها تحت الظلام لتُخْفِيَ كوكبًا من الكواكب؛ وظهر لي القبر كأنه فم الأرض يخاطب الإنسان بحزم صارم، يخاطب الفقير والغني، والضعيف والقوي، والملوك والصعاليك «أن كل قوة تنزع هنا.»

•••

قال المسكين: وكما يجد الإنسان في أيام المطر رائحة النسيم المبتل بالماء، كنت أستروح٧ في رجعتي إلى الدار رائحة نسيم مبتل بالدموع، وحضرت المأتم وعزاني الناس، فكنت فيهم كالمأسور بينهم؛ لا أتمنى إلا أن يَدَعوني فأنجوَ على وجهي، ولا أرى إلا أنهم يجرعونني الوجود غُصَصًا كما تجرعت الفقدَ غصة غصة؛ إلى أن تفرقوا مع سواد الليل فانكفأتُ إلى الدار، فإذا كل شيء قد تغير ولَمَسَه الموتُ لمسةً، وإذا الدار نفسها كالعين المقروحة من آثار البكاء؛ ما ثَمَّ شيء إلا ليطالعني بأن مسراتي قد ماتت!

ولاح الصبح لعينيَّ الساهرتين صبحًا فاترًا تبينت فيه الخجل، كأنه يقول: «لم أطلع لك.» فانسللت من البيت، وذهبت أمشي في دنيا هي الكآبة المضيئة سخرتِ الأقدارُ منها بإظهارها في هذا الضوء مظهرَ وجه العجوز المتصابية في زينة لا تزيدها إلا قُبحًا!

ومضيت على وجهي لا غاية لي، أضرب في كل جهة كأنما أريد أن أهرب من نفسي! وما خطر لي قط أني في يوم جديد، بل كنت عند نفسي لا أزال أمس، وتغير عندي الزمان والمكان؛ فأحدهما ساعة موت لا تترك ما فيها، والآخر قبر ميتة لا يرد ما فيه.

آه من الوقت الذي ينتهي فيه الموجود ليعذبنا بالتذكُّر أنه كان موجودًا!

•••

قال المسكين ثم أعادتني قدماي إلى البيت لأرى طفلتي — وما كنتُ رأيتها — ولقد كانت ولادتُها أولَ الحياة لها، وأولَ الحياة لي أيضًا، إذ لولاها لانتحرتُ غيرَ شكٍّ.

يا ويلتا! لم تَلْتَقِ عينِي بعين الطفلة حتى انفجرتْ تبكي. أتبكينَ لي يا ابنتي أم علي؟

أهذا بكاؤك أيتها المسكينة، أم هو صوت قلبك اليتيم؟

أصوتك أنت، أم هي روح أمك تصرخ ترثي لي، وتتوجع لفرط ما قاسيت؟!

يا ابنتي، إنما أنت الحقيقة الصغيرة التي خرجتْ لي من كل تلك الخيالات الشعرية الجميلة، خيالات الأيام السعيدة التي مرت!

يُخلَق المواليد من اللحم والدم! وأراكِ أنت يا مسكينة، خلقت من اللحم والدم والدموع!

بقية حياة ماتت! فهل معنى ذلك إلا أنك بقية موت يحيا؟

مسكينة، مسكينة؛ لو أن نواميس العالم متغيرة لِشيءٍ لتغيرتْ من أجلِ بؤسك فردت لك الأم، ولكنها لن تتغير، وما بكاؤنا وآلامنا وتعاستنا إلا تراث٨ الحياة في أجسامنا الأرضية، كل ذلك طبيعة ولكنَّ بقعةً أنظفُ من بقعة، وأراك يا ابنتي كالبيت الذي هُدِم أول ما بُني يملؤه ترابه!

لن تتغير النواميس، فلن تجدي عطفَ الأم، ولكن لن يتغير قلبي أيضًا، فلن تُحرَمي عطف الأب.

وإذا صبر الناس على الحياة فمن أجلك يا مسكينة! من أجل ضعفك وانقطاعك سأعاني الصبرَ لك، وأعاني الصبر لي، وأعاني الصبر عن أمك، سأصبر على الصبر نفسه!

يا ابنتي! يا ابنتي! لماذا وضعتك الأقدار من هذه الحياة في الناحية التي ليس فيها إلا قبر مظلم مقفل على أمك، وأبٌ مسكين مقفل على آلامه؟

•••

قال المسكين: وهكذا كُتبتُ من أهل البؤس والهم، فلم أتزوج إلا لتصنع لي حبيبتي دموعي، ثم لم تمُتْ إلا بعد أن تركت لي حبيبة أخرى ستظل زمنا طويلًا تصنع لي دموعي!

١  نسأ: زاد.
٢  يؤبه: يُهتمُّ، يُلتَفَت إليه.
٣  أي: أن يفتتح غرفة تؤدِّي إلى الشارع.
٤  ضراعة: توسُّل.
٥  دلف: مشى.
٦  شتان: اسم فعل ماضٍ بمعنى بَعُدَ.
٧  استروح: أشم.
٨  تراث: وراثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤