إبليسُ يُعَلِّم (٣)

قال أحمد بن مسكين: ودار السبت الثالث، وجلست مجلسي للناس وقد انتظمت حلقتهم؛ فقام رجل من عُرْض١ المجلس فقال: إن الحسن بن شجاع البلخي تلميذ الإمام أحمد بن حنبل، كان منذ قريب يحدثنا بأحاديث عن الشيطان، حفظنا منها قوله : «إن المؤمن يُنْضِي٢ شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في سفره.» وكان الحسن يقول في تأويله: إن شيطان الكافر دهينٌ سمينُ كاسٍ، وشيطان المؤمن مهزول أشعث أغبر عارٍ. فهل يأكل الشيطان ويدَّهن ويلبس ليكون له أن يجوع مع المؤمن ويعرى ويتشعَّث ويغبَرَّ؟
قال ابن مسكين: فقلت في نفسي: لا حول ولا وقوة إلا بالله! ما أرى السائل إلا شيطان هذا السائل؛ فإن إبليس إذا أراد أن يسْخَر من العالِم ويُسمعه طَنْزَه وتهكمه،٣ حرَّك مَن يسأله عنه ما هو وكيف هو؛ كأنما يقول له: تنبه! ويحك! على معناي، فأنت تتكلم وأنا أعمل، وأنت صورة من الرد علي، ولكني حقيقة من الرد عليك، وما أنت في محاربتك لي بالوعظ إلا كالذي يريد أن يضرب عنق عدوه بمائة اسم وضعت للسيف! …
قال: وكنت قد سمعت خبرًا عجيبًا عن أبي عامر قَبِيصة بن عُقْبة الكوفي المحدث الحافظ الثقة أحد شيوخ أحمد بن حنبل؛ وهو الرجل الصالح العابد الذي كان يقال له: «راهب الكوفة»؛ ومن زهده وعبادته واحتباس نفسه في داخله كأنما جسده جدار بين نفسه وبين الدنيا، فقلت: والله، لأغيظنَّ الشيطان بهذا الخبر، فإن أسماء الزهاد والعباد والصالحين هي في تاريخ الشياطين كأسماء المواقع التي تنهزم فيها الجيوش، وما الرجل العابد إلا صاحب الغمرات٤ مع الشيطان، وكأنه يحتمل المكاره عن أمة كاملة بل عن البشرية كلها حيث كانت من الأرض، فالناس يحسبونه قد تخلَّى من الدنيا ويظنون الترك أيسر شيء، وما علموا أن الزهد لا يستقيم للزاهد حتى يجعل جسمه كأنه نوع نظام آخر غير نظام أعضائه؛ ولا أشقَّ من ذلك على النفس! ومعجزة الزاهد أنه مكلف أن يُخرج للناس أقوى القوة من المعاني التي هي عند الناس أضعف الضعف؛ ولو أن ملكًا عظيمًا تعب في جمع الدنيا وفتح الممالك حتى حِيزَتْ٥ له جوانب الأرض، لكان عمله هذا هو الوجه الآخر لتعب الزاهد في مجاهدة هذه الدنيا وتركها.

•••

قال أحمد بن مسكين: وقصصت عليهم القصة فقلت: كان أبو عامر قبيصة بن عقبة كثير الفكر في الشيطان، يود لو رآه وناقله الكلام؛ وكان يتدبر الأحاديث التي صح ورودها فيه، ويفسر معنى الشيطان بأنه الروح الحي للخطأ على الأرض؛ والخطاء يكون صوابًا محولا عن طريقته وجهته، ولهذا كان إبليس في الأصل مَلَكًا من الملائكة وتحول عن طبيعته حين خُلق آدم — عليه السلام — أي: وُجد في الكون روح الخطأ حين وُجد فيه الروح الذي سيُخطئ.

فلما هبط آدم من الجنة وحُرِمها هو وزوجه وذريته، كان إبليس — لعنه الله — هو معنى بقاء هذا الحرمان واستمراره على الدهر، فكأن هذه الآدمية أُخرجت من الجنة، وأخرجت معها قوة لا تزال تصدها عنها، ليضطربا في الكفاح مَلِيًّا من زمن هو عُمْر كل إنسان، وهذا هو العدل الإلهي؛ لم يعرف آدم حقَّ الجنة، فعوقب ألا يأخذها إلا بحقها، وأن يقاتل في سبيل الخير قوة الشر.

وبات أبو عامر ذات ليلة يفكر في هذا ونحوه بعد أن فرغ من صلاته وقراءته، ثم هوَّم٦ فكان بين اليقظة والنوم، وذلك حين تكون العين نائمة والعقل لا يزال منتبها، فكأن العين مترجعة تبصر من تحت أجفانها بصرًا يشاركها فيه العقل.
فرأى شيخنا أبو عامر صورة إبليس جاءه في زِيِّ رجل زاهد، حسن السمت٧ طيب الريح، نظيف الهيئة، وكاد يُشَبَّه عليه لولا أنه قد عرفه من عينيه، فإن عيني الكاذب تصدقان عنه، وقد علم الله أن الكاذب آدمي قَفْر٨ كالمتاهة من الأرض، فجعل عينيه كالعلامات لمن خاض الفلاة.

وظهر الشيطان زاهدًا عابدًا تقيا نقيا كأنه دِينٌ صحيح خُلِق بشرًا، فصرخ فيه أبو عامر: عليك لعنة الله! أمعصية في ثوب الطاعة؟!

قال إبليس: يا أبا عامر! لو لم تقل المعصية: إنها طاعة لم يقارفها٩ أحد. وهل خُلقت الشهوات في نفس الإنسان وغريزته إلا لتقريب هذه المعاصي من النفس، وجَعْلِ كلٍّ منها طاعة لشيء ما؛ فتقع المعصية بأنها طاعة لا بأنها معصية؟ أوَلا ترى يا أبا عامر أن الحيلة محكمة في الداخل من الجسم أكثر مما هي محكمة في الخارج عنه، وأنه لولا أن هذا الباطن بهذا المعنى وهذا العمل لما كان لظاهر الوجود كله في الإنسان معنًى ولا عمل؟

قال الشيخ: عليك لعنة الله! فما أرى الموت قد خُلق إلا ردًّا عليك أنت، ليتبين الناس أنك الممتلئ الممتلئ، ولكنك الفارغ الفارغ؛ بل كل شهواتك سخرية منك ورد عليك، فلا طعم للذة من لذاتك إلا وهي تموت، وإنما تمام وجودها ساعة تنقضي؛ ومتى قالت اللذة: قد انتهيت. فقد وَصَفَتْ نفسها أبلغ الوصف.

قال إبليس: يا أبا عامر، ولكن اللذة لا تموت حتى تلد ما يُبقيها حية، فهي تلد الحنين إليها، وهو لا يسكن حتى يعود لذة تنقضي وتلد.

قال الشيخ: معاني التراب، معاني التراب؛ كل نبتة فيها بذرتها، ولكن — عليك لعنة الله — لماذا جئتني في هذه الصورة؟

قال إبليس: لأني لا ألبس إلا محبة القلب الآدمي، ولولا ذلك لطردتني القلوب كلها وبطل عملي فيها، وهل عملي إلا التلبيس والتزوير؛ أفتدري يا أبا عامر أني لا أعتري الحيوان قط.

قال الشيخ: لأن الحيوان لا ينظر إلى الشيء إلا نظرة واحدة، هي نظره وفهمه معًا، فلا محل للتزوير مع هذه النظرة الواحدة؛ وصدق الله العظيم: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. فأنت أيها الشيطان التزوير، والتزوير موضعه الكذب؛ فمن لم يكذب في الفكر ولا في النظر ولا في الفهم ولا في الرجاء، فليس لك عنده عمل.

قال إبليس: يا أبا عامر، وهل ترى — رحمك الله — أعجب وأغرب وأدعى إلى الهُزْء والسخرية من أن أعظم العقلاء الزهاد العباد، هو في جملة معانيه حيوان ليس له إلا نظرة واحدة في كل شيء؟

قال الشيخ: عليك وعليك … إن الحيوان شيء واحد، فهو طبيعة مُسَخَّرة بنظامها، ولكن الإنسان أشياء متناقضة بطبيعتها، فألوهيته أن يُقِرَّ النظام بين هذه المتناقضات، كأنما امتحن فأُعطِيَ من جسمه كونًا فيه عناصرُ الاضطراب، وحوله عناصرُ الاضطراب، ثم قيل له دَبِّره.

فضحك إبليس. قال الشيخ: مِمَّ ضحكتَ، لعنك الله؟

قال: ضحكت من أنك أعلمتني حقيقة الإبليسية، فالزهاد هم الصالحون لأن يكونوا أعظم الأبالسة …

قال الشيخ: عليك لعنة الله! فما هي تلك الحقيقة التي زعمت؟

قال إبليس: والله، يا أبا عامر، ما غلا إنسان في زعم التقوى والفضيلة إلا كانت هذه هي الإبليسية؛ وسأعلمك يا أبا عامر حقيقة الزهد والعبادة. فلا تقل: إنها ألوهية تقر النظام بين متناقضات الإنسان ومتناقضات الطبيعة.

قال الشيخ: وتسخر مني لعنك الله؟ فمتى كنتَ تعلم الحقيقة والفضيلة؟

قال إبليس: أوَلم أكن شيخ الملائكة؟ فمَن أجدر من شيخ الملائكة أن يكون عالمها ومعلمها؟!

قال: عليك لعنة الله! فما هي حقيقة الزهد والعبادة؟

قال إبليس: حقيقتها يا أبا عامر، هي التي أعجزتني في نبيكم.

قال الشيخ: ؛ فما هي؟

قال إبليس: هي ثلاث بها نظام النفس، ونظام العالم، ونظام اللذات والشهوات: أن تكون لك تقوى، ثم يكون لك فكر من هذه التقوى، ثم يكون لك نظر إلى العالم من هذا الفكر. ما اجتمعت هذه الثلاث في إنسان إلا قهر الدنيا وقهر إبليس.

فإن كانت التقوى وحدها — كتقوى أكثر الزهاد والرهبان — فما أيسر أن أجعل النظر منها نظر الغفلة والجبن والبلادة والفضائل الكاذبة، وإن كان الفكر وحده — كفكر العلماء والشعراء — فما أهون أن أجعل النظر به نظر الزيغ، والإلحاد والبهمية والرذائل الصريحة.

قال الشيخ: صدق الله العظيم: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ.

قال إبليس: يا أبا عامر، ما يضرني — والله — أن أفسر لك، فإن قارورة من الصبغ لا تصبغ البحر، وأنا أعدُّ الزهاد والعلماء المصلحين فأضع في الناس بجانب كل واحد منهم مائة ألف امرأة مفتونة، ومائة ألف رجل فاسق، ومائة ألف مخلوق ظالم، فلو أنك صبغت البحر بملء قارورة حمراء لما صبغت البحر الإنساني بالزاهد والمصلح، ما دام المصلح شيئًا غير السيف، وما دام الزاهد شيئًا غير الحاكم.

قال الشيخ: لعنك الله من شيطان عارم! فإذا وضعتَ المصلح بين مائة ألف فاسد، فهل هذه إلا طريقة شيطانية لإفساده؟

قال إبليس: ومائة ألف امرأة فتانة مفتونة يا أبا عامر، كل واحدة تحسب جسمها …

فصرخ الشيخ: اغرُب عني عليك لعنة الله!

قال إبليس: ولكن الآية الآية يا أبا عمر. لقد لقيت المسيح وجربته وهو كان تفسيرها.

قال الشيخ: عليه السلام! وعليك أنت لعنة الله! فكيف قال؟ وكيف صنع؟

قال إبليس: ألقيت به جائعًا في الصحراء لا يجد ما يَطْعَمُه، ولا يظن أنه يجد، ولا يرجوا أن يظن؛ ثم قلت له: إن كنت روح الله وكلمته كما تزعم فمُرْ هذا الحجر ينقلب خبزًا، فكان تقيا، فتذكر فإذا هو مبصر، فقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فمثل هذا لو مات جوعًا لم يتحول، لأن الموت إتمام حقيقته السامية فوق هذه الدنيا، ولو ملئت له الدنيا خبزًا وهو جائع لم يتحول؛ لأن له بصرًا من فوق الخبز إلى حقيقته السماوية؛ ليس بالخبز وحده يحيا؛ بل بمعانٍ أخرى هي إشباع حقيقته السماوية التي لا شهوة لها.

ثم ارتقيت١٠ به إلى ذروة جبل وأريته ممالك الخافقين،١١ كشفتها كلها لعينيه وقلت له: هذا كله لك إذا أنت سجدت لي. فكان متقيا، فتذكر فإذا هو مبصر: أبصر حقيقة الخيال الذي جَسَّمْته له، وعلم أن الشيطان يعطي مثل معاني هذه الممالك في جرعة خمر، كما يعطيها في ساعة لذة، كما يعطيها في شفاء غيظ بالقتل والأذى؛ ثم لا يبقى من كل ذلك باقٍ غير الإثم، ولا يصح منه صحيح إلا الحرام. ومن مَلَك الدنيا نفسها لم يبقَ لها إذا بقيت فهي خيال في جرعة الحياة، كما هي خيال في جرعة الخمر.

يا أبا عامر؛ إن هذا النظر، الذي وراءه التذكر، الذي وراءه التقوى، التي وراءها الله — هذا وحده هو القوة التي تتناول شهوات الدنيا فتصفِّيها أربع مرات حتى تعود بها إلى حقائقها الترابية الصغيرة التي آخرها القبر، وآخر وجودها التلاشي.

فالبصر الكاشف الذي يجرد الأشياء من سحرها الوهمي، هذا هو كل السرِّ.

•••

قال الشيخ: لعنك الله؛ فكيف مع هذا تفتن المؤمن؟

قال إبليس: يا أبا عامر، هذا سؤال شيطاني … تريد — ويحك — أن تحتال على الشيطان؟ ولكن ما يضرني أن أفسرها لك؟

ليس الإيمان هو الاعتقاد ولا العمل، ولو كان من هذين لما شقَّ على أحد ولصلحت الدنيا وأهلها؛ إنما الإيمان وضع يقين خفي يكون مع الغريزة في مقرها، ويصلح أن يكون في مقرها لتصدر عنه أعمال الغريزة، وهذا اليقين لا يصلح كذلك إلا إذا كان يقينا ثابتًا بما هو أكبر من الدنيا، فيرجع إليه الإنسان فيتذكر فيبصر. هناك ميراث من الآخرة للمؤمن، فاليقين بهذا الميراث هو سر الإيمان.

والعمل الشيطاني لا يكون إلا في إفساد هذا اليقين ومعارضة الخيال العظيم الذي فيه بالحقائق الصغيرة التي تظهر للمغفل عظيمة، كما تشب نار أكبر من قرص الشمس ثم يقال للأبله: انظر بعينيك، فيصدق أنها أكبر من الشمس.

ومتى صغر هذا اليقين وكانت الحقائق الدنيوية أكبر من النفس؛ فأيسر أسباب الحياة حينئذٍ يُفسد المعتقدَ، ويُسقط الفضيلة؛ وبدرهم واحد يوجد اللص حينئذٍ.

أما إذا ثبت اليقين فالشيطان مع الإنسان يصغر ثم يصغر، ويعجز ثم يعجز.

حتى ليرجع مثل الدرهم إذا طمع الطامع أن يجعل الرجل الغنيَّ الكثير المال لصًّا من اللصوص بهذا الدرهم.

قال الشيخ: لعنك الله! فإن لم تستطع إفساد هذا اليقين فكيف تصنع في فتنة المؤمن؟

قال إبليس: يا أبا عامر، إن لم أستطع إفساد اليقين زدته يقينا فيفسد، واستحسان الرجل لأعماله السامية قد يكون هو أول أعماله السافلة؛ وبأي عجيب يكون الشيطان شيطانا إلا بمثل هذا؟!

•••

قال أحمد بن مسكين: وغضب الشيخ، فمد يده فأخذ فيها عنق إبليس وقد رآه دقيقًا، ثم عصره عصرا شديدًا يريد خنقه؛ فقهقه الشيطان ساخرًا منه. ويتنبه الشيخ، فإذا هو يشد بيده اليمنى على يده اليسرى …

١  عرض، بتسكين الراء: جهة.
٢  ينضي: يُتْعب ويُهْزِل.
٣  الطنز: السخرية والتهكم.
٤  الغمرات: الحروب.
٥  حيزت: تحصلت.
٦  هوَّم: تحيَّر.
٧  السمت: الهيئة والمظهر.
٨  قفر: صحراء.
٩  يقارفها: يقع فيها.
١٠  ارتقيت: صعدت.
١١  الخافقين: المشرق والمغرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤