النمسا

خلاصة تاريخية

معلومٌ أنَّ هذه المملكة تضمُّ الآن أممًا شتَّى، لكلٍّ منها تاريخ خاص بها، فإن بوهيميا وبولونيا وبلاد المجر والنمسا وكرواسيا وغير هذه من أجزاءِ السلطنة النمسوية كانت مستقلة، ولا ينطبق تاريخها الخاص على تاريخ المملكة العام. وأمَّا النمسا فاسمٌ أُطلق في أيام شارلمان على الممالك التي خضعت له حول نهر الدانوب ونهر الأنس في شرق أوروبا عُرِفَتْ باسم أوستريا أو «أوسترك»؛ أي المملكة الشرقية، وكانت مؤلَّفة من معظم البلاد الواقعة الآن في حوزة ألمانيا والنمسا معًا، وظلَّت تابعة لشارلمان وخلفائه حتى ضعُف هؤلاء الخلفاء، وصار أمراء الممالك الألمانية ينتخبون الإمبراطور انتخابًا، وكان الأساقفة في بعض الأحيان يقومون مقام الأمراء في الانتخاب، أو أن البابا يعيِّن إمبراطورًا للسلطنة الألمانية. وأشهر من انتُخِبَ لهذا المنصب بعد سلالة شارلمان هنري الأول ابن أمير بافاريا، ملك سنة ٩١٨ وأصلح أمورًا كثيرة في البلاد، واشتُهر بعده فريدريك الثاني الذي انتُخِبَ إمبراطورًا في سنة ١٢١٢ وكان رجلًا حازمًا عاقلًا، مدَّ سلطنته في الشرق والغرب ومَلَكَ أكثر جهات إيطاليا، ولكنه كان عدو سلطة رجال الدين فحاربهم وحاربوه وانتهى الأمر بفوزهم عليه؛ لأن الناس كانوا في تلك العصور آلات في يد رجال الكنيسة. فلمَّا مات فريدريك في سنة ١٢٥٠ وقعت البلاد في اضطراب كبير وطُمِسَت أخبار عزِّها فلم يُسْمَع لها بشيء يُذْكَر إلا عام ١٢٧٤ حين قام أمير من أشراف سويسرا اسمه رودولف هايسبرج، وعظُم شأنه إلى حدِّ أنه صار أميرًا لأوستريا أو النمسا وهي يومئذٍ كما قلنا جزء من السلطنة الألمانية، وكان رودلف هذا عاملًا في بلاط ملك بوهيميا فعسر على الملك أن يقرَّ له بالإمارة وحاربه رودلف فانتصر عليه، واستتبَّ له المُلْكُ فأورثه من بعده إلى بنيه، ولم يزل آل هايسبرج حاكمين في النمسا، وهم من أكبر البيوت المالكة في أوروبا الآن.

وظلَّت ألمانيا تحت سيادة آل هايسبِرْج إلى أن قام نابوليون الأول وجعل همَّه الأكبر تقسيم السلطنة الألمانية وتجزئتها حتى لا تنضمَّ الأقوام الألمانية على فرنسا، فحارب بروسيا والنمسا حروبًا متوالية قوَّض بها أركان السلطنة الألمانية في سنة ١٨٠٦ حين أُبْدِلَت تلك السلطنة القديمة بسلطنة النمسا الحالية، ولُقِّبَ الملك الحاكم يومئذٍ في فيينَّا من آل هايسبرج بإمبراطور النمسا على مثل ما هو اليوم. ولكن نابوليون حارب بلاد النمسا مرتين وانتصر عليها في موقعة أوسترليتز المشهورة سنة ١٨٠٥، وفي موقعة واجرام سنة ١٨٠٩. وبعد هذه الحروب اقترن بالبرنسيس ماري لويز ابنة الإمبراطور مكسميليان فصار حليفًا للنمسا، وارتفع شأنها بين الممالك حتى إنها ضمَّت إليها في سنة ١٨١٥ بلاد لومبارديا والبندقية من أجزاء إيطاليا، وبلاد كراكوفيا في سنة ١٨٤٧، ولكنها كُسِرَتْ سنة ١٨٥٩ في حربها مع فرنسا وإيطاليا فتخلَّت للدولة الإيطالية الحالية عن أملاكها في إيطاليا. وفي سنة ١٨٦٦ شبَّت حرب مشهورة بينها وبين بروسيا بتدبير بسمارك الشهير فكُسِرَتْ في تلك الحرب أيضًا وتنحَّت عن الاتحاد الألماني حتى صارت بروسيا أكبر الممالك الألمانية ورئيستها.

وفي سنة ١٨٦٧ أُبرمتْ معاهدة بين النمسا والمجر على أن تكون المملكتان دولة واحدة لكلٍّ منهما نظام خاص بها واستقلال تام في الشئون الداخلية ويربطهما حكم الإمبراطور على المملكتين، فنتج عن هذا الاتحاد قوة كبرى للسلطنة النمسوية وجعلت السلطنة تنمو وتتقدَّم في أيامه حتى إن أوروبا اتفقت سنة ١٨٧٨ في مؤتمر برلين على إضافة ولايتَي البوسنة والهرسك إليها مؤقَّتًا، وهما الآن من أجزاء السلطنة النمساوية بعد الذي اشتُهر على إثر إعلان الدستور العثماني. وأُبرمتْ معاهدة حربية بين روسيا وألمانيا والنمسا سنة ١٨٧٩. ثم تنحَّت روسيا عن هذا التحالف فأُبرمت المحالفة الثلاثية المشهورة بين ألمانيا والنمسا وإيطاليا، وهي باقية إلى اليوم؛ فزادت البلاد تقدُّمًا ونموًّا ونفوذًا واتسعت متاجرها وارتقت درجة العلم في أنحائها.

figure
فرانس يوسف إمبراطور النمسا.

كلُّ هذا تمَّ على عهد جلالة الإمبراطور فرانس يوسف الجالس على سرير النمسا الآن، وهو محبوب من الأمم الخاضعة له حبًّا شديدًا، ولولا مكانته في النفوس وما له من المهابة لخُشي على بلاده من التجزُّؤ والانقسام؛ لأن رعاياه كثيرو الأجناس والمذاهب لا يضمُّهم رأي غير الولاء لشخصه. وُلِدَ في ١٨ أوغسطس سنة ١٨٣٠، وارتقى العرش بعد تنازل عمِّه في ٢ ديسمبر سنة ١٨٤٨، واقترن بالأميرة إليصابات ابنة الدوك مكسميليان البافاري سنة ١٨٥٤. وقد قُسِمَ لهذا الملك أن يكون منغَّص العيش كثير الهموم؛ فإنه قُتل أخوه مكسميليان في بلاد المكسيك، وسيجيء الكلام عنه في باب تريستة، وانتحر ابنه وولي عهده رودلف سنة ١٨٨٨ فكدَّر صفو عيشه، ثم قُتِلَتْ قرينته في جنيف في شهر سبتمبر سنة ١٨٩٨ من يد فوضوي اسمه لوكيني، فتمَّ بذلك كأس حزنه الشديد. وهو من أعظم ملوك أوروبا الحاليين مهابةً وأكثرهم خبرةً. ولمَّا تمَّ على مُلْكِه ستون سنة في شهر مايو ١٩٠٨ أُقيمت حفلات عظيمة اشترك بها إمبراطور ألمانيا وأكثر ملوكها وأمرائها مع وفود من أمراء الدول الأخرى وسراتها، وعمَّت الأفراح كل أنحاء السلطنة النمسوية.

وقد أُحْصِيَ سكان النمسا سنة ١٩٠٦ فكانوا خمسين مليون نفس، ومساحتها ٦٧٥٨٨٧ كيلومترًا مربَّعًا، غير مساحة البوسنة والهرسك اللتين سبق ذكرهما.

تريستة

ركبتُ متن البحار من الإسكندرية في يومٍ راقت سماؤه واعتلَّ هواؤه من شهر يونيو عام ١٨٩٣، وكان بدء السفر على غير ما يوافق ذلك اليوم؛ لأن السفينة جعلت تتقلَّب وتميل ونحن لا نرى في البحر موجبًا لهذه الحركة. فسألنا رُبَّان الباخرة في ذلك، قال إنه بقية اضطراب فيما يلي سطح البحر من الماء من نوءٍ مرَّ، وإن الحال ستبقى على مثل ذلك خمس ساعات. وصحَّ قولُ الرجل؛ فإنه لمَّا انقضى الموعد الذي نوَّه به هدأ اضطراب السفينة وتبدَّت حلاوة السفر فتوارَدَ المسافرون على ظهر الباخرة، واجتمعوا يتحدَّثون على عادة الناس في مثل هذه الأحوال. ومررنا في الطريق بمناظر شتى تستحق الذكر؛ منها جزيرة كريت المشهورة، رأينا جبالها الباسقة إلى ناحية اليمين في اليوم التالي من سفرنا، وسِرْنا بعد ذلك بين جزر متعدِّدة من جزائر الأرخبيل الرومي مثل زانت وكلارنس وسفالونيا، فكانت الباخرة في بعض الأحيان تقترب من الأرض اقترابًا يمكِّن المسافر فيها من رؤية مناظرها البهيَّة وما فيها من كرْم وزيتون وشجر كثير. ومن هذه الجزر المعروفة: كورفو مررنا بها في أواخر اليوم الثالث من بعد أن غادرنا الإسكندرية، حتى إذا كان صباح اليوم الرابع رست السفينة في مينا برندزي، وهي مدينة صغيرة في جنوب إيطاليا لا أهمية لها إلا أنها مرسى للبواخر ونقطة الاتصال بين الشرق والغرب في البريد؛ فهي يُنقل منها وإليها البريد المتبادَل بين أوروبا والشرق، وأخصه ما كان بين إنكلترا والهند، فتجوَّلنا في جوانبها حينًا ثم عدنا إلى السفر ووصلنا تريستة في اليوم الخامس.

وأمَّا تريستة فهي أشهر مدن النمسا، ولها فوق شهرتها الحالية تاريخ قديم؛ فإنها وصلها الرومان في سنة ٦٠٠ قبل المسيح، وبنوا بها المعاقل والحصون ثم خرَّبها أتيلا، وطُمِسَتْ أخبارها زمانًا حتى قامت السلطنة الغربية الجديدة على عهد شارلمان فتجدَّدت أهميتها وأُلْحِقَتْ بعد شارلمان بدولة البندقية؛ فاختلط أهلها بالطليان اختلاطًا بقيت آثاره فيهم، وهم أو معظمهم يتكلَّمون النمسوية والإيطالية معًا إلى هذا اليوم. وانسلخت عن إمارة البندقية سنة ١٣٨٢ فضُمَّت إلى سلطنة النمسا وجعلها الإمبراطور كارل السادس فرضة حرَّة أُعفيَت من الرسوم. ثم أصلحت فيها الإمبراطورة ماريا تريزا شيئًا كثيرًا كان من ورائه أنَّ التجارة ما بين الشرق والغرب تحوَّلت من مدينة البندقية إليها، والمدينتان متقابلتان في بحر الأدرياتيك. وهي الآن مقر تجارة النمسا البحرية مع الشرق، وفيها مركز شركة لويد للسفن البخارية المعروفة هنا. وفي تريستة وضواحيها من السكان نحو ١٨٠ ألفًا أكثرهم من الطليان، ومنهم السدس مجر وخليط من الأقوام السلافية ونحو ٥٠٠٠ من الجنس الألماني، وألوف من أجناس شتَّى أوروبية؛ فهي من أكثر المدن إشكالًا في نوع السكان. ولا يقلُّ عدد السفن التي تدخلها في السنة عن ١٤٠٠٠، منها ٨٠٠ باخرة معدَّل محمولها مليون طونلاتة وربع، وصادراتها تبلغ في القيمة نحو ٢٤٠ مليون فرنك، والواردات حوالي ٣٠٠ مليون؛ ففي مينائها حركة كبرى بسبب هذه التجارة الواسعة. وقد أُنْفِقَ على تحسين الميناء نحو ثلثي مليون فرنك، فجعلوا فيها الأرصفة الفسيحة تستقرُّ البواخر والسفن إلى جوانبها، وأشهرها رصيف «سان كارلو» يمتدُّ في البحر مسافة ٣٥٠ مترًا، والناس يقصدونه بعد العصر من كلِّ يوم لمشاهدة تلك الحركة التجارية، والتفرج على أشكال السفن الذاهبة والآيبة، وهو من مناظر تريستة التي تستحقُّ الذكر.

وفي هذا البلد ساحة مشهورة تُعْرَف باسم الميدان الكبير في وسطها بِرْكَة من الماء فيها تمثال نبتون إله البحر، والإمبراطور كارل السادس الذي مرَّ ذكره، وعُمد ذات شُعبٍ تُنار بالكهربائية، ومن حولها من الحانات المُتْقَنة والقهاوي البديعة يجتمع فيها كلَّ مساء خلق كثير، يدور بعضهم في جوانبها ويجلس البعض الآخر في هاتيك الحانات، والأنغام المطربة تُعزف من وسط الميدان فيسمعها الناس في كلِّ الجوانب، وإلى جانب هذه الساحة الرحيبة بناء المجلس البلدي والبورصة وشركة البواخر ومخازن جميلة وحانات كثيرة، ويمكن الوصول منها إلى شارع الكورسو، وهو كثير المخازن تُباع فيها نفائس الأشياء إلى جانبيه، وفي آخره الحديقة العمومية تصدَح فيها الموسيقى الأميرية كل مساء. وفيها من أنواع الزهر والشجر ومجاري الماء البهيَّة ما يشرح الصدور، وإذا استمرَّ السائر من تلك الحديقة شرقًا وصل جهةً في أقصى المدينة تُعْرَف باسم بوسكوتو (معناه الغابة)، وهي عبارة عن حرجات فيها كثير من شجر الصنوبر، يتخلله مطاعم منظمة وحانات متقنة، وفيها تُسمع الأنغام الشجيَّة أيضًا فتزيد ذلك الموضع المشهور بهجةً وقيمةً، ولا سيما أنه يتصل بجبل اسمه كاشاتورة مُلئت جوانبه بشجر الصنوبر العطِر وغيره، فكنا ونحن نرتقي قمته في طرق كثيرة التعرُّج نستنشق النسيم العليل يخالطه عطر الشجر المذكور، حتى إذا بلغنا القمة رأينا من دوننا القرى والعمائر والمزارع من كل جانب، ولمجموعها بهاء يقرُّ الخواطر ويسرُّ النواظر.

وإلى الجهة الجنوبية من الميدان الكبير الذي ذكرناه متنزَّه القدِّيس أندراوس في أقصى المدينة، يمكن الوصول إليه من الساحة الكبرى التي ذكرناها في الترامواي، طوله نحو ثلاثة أميال وإلى يمينه البحر من أوله إلى آخره، وفي طرفه الشمالي آكام كُسيَت بالشجر والزهر على اختلاف الأنواع، ولها طرق جميلة رُصِّعَتْ أرضها بالحصى أو فُرِشت بالرمل، وهي متنزَّه العائلات، ترى فيها الأولاد والبنات أفواجًا يسرحون في تلك الجوانب الرحْبة، وليس هناك من المساكن غير منازل قليلة لبعض أهل اليسار، وعلى مقربة منها معمل السفن النمسوية، دخلناه ووجدنا فيه أشكال العمل والترميم والصنع والتركيب، ثم عدنا إلى المدينة عن طريق ساحة جوزيبة، وفيها تمثال الإمبراطور مكسميليان ثم ساحة القدِّيس جيوفاني، وفيها كثير من الأبنية الفخيمة.

ومن أشهر ما يُذْكر عن تريستة قصر عظيم يقصده كلُّ مقيم في المدينة أو نازل بها؛ أريد به قصر ميرامار، بناه الأرشيدوك مكسميليان أخو إمبراطور النمسا الحالي، وأنفق مالًا طائلًا على زخرفه وإعداده حتى إذا تمَّ له ذلك انتُخب إمبراطورًا لبلاد المكسيك في أميركا، فسار إليها وحكمها زمانًا، ولكنَّ قسمًا من أهلها ثار على حكومته وألَّف حكومة جمهورية انتصر زعيمها جوارز على الإمبراطور وأسَرَه وأمَرَ بإعدامه في سنة ١٨٦٧. وكان مكسميليان من أمراء البحر في بلاده، والنمسويون يحبونه كثيرًا؛ فأسِفوا كثيرًا لما أصابه وجعلوا قصر ميرامار تذكارًا له يُجلُّون ذكره. والقصر باقٍ على مثل ما تركه صاحبه، وفي قاعاته الفخيمة رسوم الرجال والنساء الذين اشتُهروا من آل هايسبرج، وهم البيت الحاكم في بلاد النمسا. وقد بُني هذا القصر على مرتفع من الأرض وله حديقة غنَّاء ومنظر من كل الوجوه بديع.

ويقرب من هذا القصر في ارتفاع مركزه كنيسة القدِّيس جوستو قصدتها قبل مبارحة المدينة حتى أطلَّ منها على كلِّ الأنحاء فرأيت تريستة بكل أجزائها وضواحيها. بُنيَتْ هذه الكنيسة في القرن الرابع عشر موضع معبد روماني قديم، وفيها مدافن بعض المشهورين، منهم الأميرتان أدلايد وفكتوريا عمتا لويس السادس عشر ملك فرنسا الذي حصلت في أيامه الثورة الفرنسوية. هذا جلُّ الذي يحسُن وصفه في مدينة تريستة، وهي أول ما يمكن للشرقي أن يراه من مدن النمسا، فنتقدَّم منها إلى ذكر فيينَّا عاصمة السلطنة النمسوية.

فيينَّا

برحنا تريستة بعد الإقامة فيها حينًا بسكة الحديد فطفقنا ندخل مواضع مختلفة المناظر بديعة الجمال، حتى وصلنا مدينة جراتز قاعدة ولاية أوستريا من ولايات النمسا، ولهذه المدينة شهرة بصنع نوع من البيرا يُعْرَفُ باسمها. وفي الولاية غابات وحراج مشهورة غضيضة الشجر تُقْطَعُ منها الأخشاب وتُرْسَل إلى سائر الأقطار. ويخترق جراتز نهر مور وقد بُنيت منازلها على ضفتيه. تقدَّمنا منها بين هاتيك المناظر فرأينا في الطريق حصونًا بناها النمسويون على عهد السلطان سليمان الثاني اتقاءً لهجمات جنوده كما سيجيء، وقد هدم أكثرها الفرنسويون سنة ١٨٠٩. ووراء هذه الحصون جبال ومرتفعات من الأرض يسير فيها القطار صعدًا بسير رُوَيد. وقد كان النمسويون أول مَنْ مدَّ خطوط الحديد في مثل هذه الجبال سنة ١٨٤٨، فإن الطرق هنا متعرِّجة ملتفَّة تشبه الكاف العربية في شكلها، فضلًا عما فيها من اختراق الجبال والسير تحتها، فإن في هذا الخط وحده ١٥ نفقًا تحت الأرض. وهذه الجبال تُعدُّ فرعًا من جبال الألب المشهورة يبلغ ارتفاعها عند سمرين التي وقف القطار بها قليلًا ٢٢٠٠ قدم، وكلها ملأى بالمناظر الفخيمة، زادها بهاءً ورونقًا اكتساؤها بحُلل خضراء من شجر الصنوبر وغيره، وقد رُصِّعت جنباتها بالمنازل المشيدة يقضي فيها كبراء النمسويين أشهر الصيف. ولا حاجة إلى القول إن السفر في قطار كهذا يصعد إلى قمة جبل شاهق من أغرب الأمور وأكثرها لذَّة؛ فإنك تدخل جوف الأرض والجبال من فوقك ثم تخرج فإذا أنت في سفح جبل وإلى جانبك الحقول والجداول والمنازل، ثم تصعد أعلى الجبل والقطار مسرع بك فكأنما أنت محلقٌ في الجوِّ تطير ومن دونك الأرض بواديها وسهلها وبقية ما فيها، وفي ذلك نزهة غريبة يعرفها الخبيرون. تلك مناظر الأرض ما بين تريستة ومدينة فيينَّا التي نحن في شأنها، والمسافة بينهما ١٦ ساعة في سكة الحديد لا يشعر المسافر بملل في خلالها.

وأما فيينَّا هذه فهي قاعدة سلطنة النمسا والمجر، ومن أشهر العواصم الأوروبية في حالها الحاضرة وتاريخها الماضي وعدد سكانها نحو مليونَي نفس، واسمها القديم فندوما، وقد ورد ذكرها على عهد يوليوس قيصر القائد الروماني في القرن الأول للميلاد، ثم كثر تردُّد الرومانيين عليها بعد هذا، ومات فيها أحد قياصرتهم وهو ماركوس أوريليوس سنة ١٨٠، وظلَّت محطًّا لرحال الفاتحين من تلك الأيام حتى جعلها شارلمان حدًّا لمملكته في القرن التاسع للميلاد، فلما مات أُلْحِقَتْ بمملكة ألمانيا وانفصلت عن فرنسا وصار يحكمها دوكات النمسا حتى قامت العائلة المالكة الحالية على مثل ما ترى في الخلاصة التاريخية. وقد توالت النكبات على فيينَّا، ولكنها لم تؤثِّر عليها تأثيرًا يُذْكَر؛ فإنها حاصرها المجر سنة ١٤٨٥ أربعة أشهر وفتحوها، ثم أنقذها منهم سنة ١٤٩٠ مكسميليان الأول من آل هايسبرج وجعلها قاعدة المملكة النمسوية إلى اليوم، وحاصرها ملك بوهيميا مرة سنة ١٦١٩ فلم يُفده الحصار، وتقدَّم عليها الأتراك مرتين: أولهما على عهد السلطان سليمان الثاني سنة ١٥٢٩، والثانية على عهد السلطان محمد الثالث سنة ١٥٨٢، وكان قائد جنودهم يومئذٍ الصدر قرا مصطفى باشا المشهور، فضيَّق على المدينة تضييقًا شديدًا، ولولا ورود النجدة إليها من بوهيميا تحت قيادة ملكها سوبيسكي لفتحها، وحاصرها نابوليون بعد ذلك على مثل ما تقدَّم في الخلاصة التاريخية، وكان هذا الحصار الكثير داعيًا إلى بناء دائرة كبرى من الحصون داخل المدينة أُبْدِلَت الآن بشارع رنغ ستراس (ومعناه درب الحلقة لاستدارته) طوله نحو ميلين وعرضه ٦٢ مترًا، بُني على نظامه الحالي سنة ١٨٥٨.

خرجت مع الدليل من فندق متروبول الذي اخترت الإقامة فيه، وبدأت بشارع رنغ ستراس هذا، وهو أعظم شوارع فيينَّا، ليس في أوروبا كلها شارع بطوله تجتمع فيه محاسن البناء وغرائب الصناعة وأدلة العز والترف متوالية مترادفة مثل هذا الشارع العظيم في عاصمة النمسا؛ فإن فيه غير المخازن الجميلة والفنادق المشيدة والحانات المنظَّمة بناء البورصة والتلغراف والبوليس والمجلس البلدي والمرسح الإمبراطوري والمتحفين ومجلس نواب الأمة والأوبرا الكبيرة ووزارة الحقَّانية، وقصورًا أخرى تدهش الأبصار بمحاسنها في كلِّ جانبٍ منه، وحديقة ستاد بارك، وغير ذلك من بدائع هذا الشارع العظيم. وقد قُسم هذا الشارع أقسامًا ثمانية، أولها رصيف يمشي عليه الناس من بعد الأبنية المُتْقَنة، ثم طريق للعربات يليه طريق للترامواي فطريق للجياد وراكبيها، وبعده خطٌّ من الشجر الجميل يزدان به وسط الشارع، ثم طريق للعربات وطريق للترامواي وطريق للجياد ورصيف للمارَّة؛ أي إن الشجر في وسط الشارع والطرق المختلفة صفَّان إلى جانبيه، صفٌّ من هنا وصفٌّ من هنا، وفي ذلك نظام يمنع الزحام والاصطدام، ومنظر لا تشبع العين منه ولو طالت مدة الإمعان.

ذكرنا في هذا الشارع بناء البورصة وهو عظيم الأركان شاهق الجدران في داخله قاعات شتى، بعضها للجلوس وبعضها للمطالعة، وبعضها للأشغال والمداولات والمضاربات والمبايعات وغير هذا مما يدور في جوانب ذلك البناء، وفيها من الحركة التجارية والجلبة الناشئة عن كثرة المركبات والمترددين ما يوجب الذهول ويشير إلى نشاط أهل المتاجر والمضاربات من المتمدِّنين.

وأما مجلس النواب فإنه قصر فخيم بُني من سنة ١٨٧٤ إلى ١٨٨٤، طوله ١٤٣ مترًا، ومنظره من الخارج يدلُّ إلى الهيبة والوقار، يُصْعَدُ إليه على درج عريض من الرخام الأبيض يتصل آخره برواقٍ قام على عُمد من الرخام أيضًا، له شكل الهياكل اليونانية، ومن ورائه رواق آخر طويل قائم على ٢٤ عمودًا من الرخام الأحمر مذهبة تيجانها، وفي الجدران والسقف رسوم حوادث فيينَّا والنمسا التاريخية، والناس يجتمعون في هذا الرواق البهي ريثما تُفْتَح أبواب القاعة الكبرى التي يجتمع فيها النواب للنظر في سياسة المملكة والجدال فيما يلزم لها من النظامات والقوانين، وفي تلك القاعة مقاعد أمام كلٍّ منها منضدة صغيرة للنائب الذي يقعد إليها ومنصة للرئيس وكُتَّابه، ومواضع مرتفعة في جوانب القاعة خُصَّ بعضها بأعضاء العائلة المالكة والسفراء والبعض بالمتفرِّجين والزائرين أو بأصحاب الصحف وجماعة الأخبار، وغير هذا مما تراه في أكثر المجالس النيابية. وقد اشتُهر نواب النمسا الحاليون بكثرة الأحزاب والانقسام، وما يحدث في وسط هذا المجلس الفخيم من الفتن والشحناء بينهم. وفي هذا البناء أيضًا قاعة لمجلس الشيوخ مثل قاعة النواب في نظامها وغرف كثيرة للمداولات وللوزراء واللجنات التي يأمر المجلس بعقدها، ومطعم فاخر مستعد في الليل والنهار لتقديم ما يطلبه الأعضاء الذين يكثر بقاؤهم ٢٤ ساعة متوالية في جلسة واحدة إذا طال الجدل واحتدَّ الأعضاء بسبب أمر تختلف الأحزاب عليه.

وقصر الحقَّانية بُني من ١٨٧٥ إلى ١٨٨١، في وسطه تمثال القسطاس والعدل، وفيه غرف لمحكمة الاستئناف العليا وإدارة النيابة العمومية، وهو من الأبنية التي تستحق الاعتبار، وعلى مقربة منه المجلس البلدي وهو قصر طويل عريض، كمُل بناؤه سنة ١٨٨٣ بعد عمل ١١ عامًا، وأُنْفِقَ عليه فوق ثلاثين مليون فرنك، وهو من أجمل المجالس البلدية في أوروبا وأعظمها، تُولم فيه الولائم الكبرى، وتُعْقَد الاحتفالات العظيمة في قاعات فسيحة بديعة يُصْعَد إليها على درج من الرخام له عُمُد من المرمر المذهَّب، ولا يقل طول قاعة الولائم عن ١٥٠ مترًا، ينيرها ثلاثة آلاف أنبوبة للنور لم أرَ لها نظيرًا في قصر الإمبراطور ولا في غيره. ويقام فيها كل عام مرقص يشترك فيه أهل الترف والنعمة، ومن أمامها شرفة تطلُّ على الشارع الكبير الذي نحن في شأنه. وأما القاعة التي يجتمع فيها أعضاء المجلس البلدي فعظيمة فسيحة، تشبه قاعة النواب التي ذكرناها في الوضع والنظام، وفي سقفها ثريا من الأنوار قيل إن ثمنها ١٦٠ ألف فرنك، وعلى جدرانها صور الرؤساء السابقين لهذا المجلس والمتوفين، وفي الدور الأسفل من هذا البناء الفخيم تُحَف ثمينة ونفائس تعدُّ من أثمن ما في مدينة فيينَّا؛ من ذلك مكتبة عظيمة فيها من نوادر الكتب ما يفخر به أهل هذه المدينة، وقد جمعت بنوع أخص ما فيه تاريخ فيينَّا القديم والحديث، ومن ذلك أيضًا آثار وتحف كثيرة وصور تاريخية تمثِّل الحوادث المشهورة، مثل هجوم الأتراك سنة ١٥٢٩ وهم بهيئاتهم القديمة وملابسهم المعروفة، واستيلاء بونابارت على فيينَّا سنة ١٨٠٥ و١٨٠٩. وهنالك أيضًا أدوات شتى كانوا يستعملونها للتعذيب فيما مرَّ من الزمان، وهي باقية تدلُّ على قسوة الأيام الماضية وحرية هذه الأيام، ورايات وأسلحة قديمة غنمها النمسويون في حروبهم الكثيرة، وغير هذا مما لا يمكن الإسهاب في شرحه.

وأما التياترو الإمبراطوري المشهور فهو مثل أكثر ما في هذا الشارع من الآثار العظيمة جديد البناء، قام مكان مرسح قديم احترق برُمَّته ومات فيه ٢٠٠٠ نفس، وهو أكبر حريق في المراسح العمومية حدث في الأيام الأخيرة. وقد أنفقوا على هذا المرسح الجديد وزخرفه وفرشه مالًا طائلًا ولا حاجة إلى القول إن فيه من السقوف المزخْرَفة والعُمُد المذهبة والجدران الملوَّنة والفسحات المنظَّمة والذرى الفسيحة ما يستوقف الأنظار، وفيه نُصُب لمشاهير المؤلِّفين من أصحاب الروايات، مثل شاكسبير وموليير وشلر وغيرهم، وتضمُّ قاعته الكبرى أكثر من ثلاثة آلاف نفس.

ولعلَّ أشهر ما في هذه المدينة وأكثره نفعًا للزائرين المتحفَين العظيمين، وهما قصران بديعان بُني أحدهما تجاه الآخر، وبينهما حديقة صغيرة وأمامهما الشارع الكبير الذي ذكرناه، فكأنما هما توأمان بُنيا من سنة ١٨٧٤ إلى ١٨٨٩، وجُعلا متشابهين في الوضع والشكل، فإن طول كلٍّ منهما ١٧٥ مترًا وعرضه ٧٧، ولهما أروقة قامت على عُمُد ضخمة بديعة الصنع، وفي الحديقة الصغرى ما بين القصرين نُصُب للإمبراطورة ماريا تريزا ملكة النمسا والمجر، وهي من أشهر ملكات هذه البلاد من آل هايسبِرْج. وقد أقام هذا النُّصُب الإمبراطور الحالي في سنة ١٨٨٨ على قاعدة من الرخام ارتفاعها ٤٣ قدمًا، وفوقها تمثال الإمبراطورة وعلوه ١٩ قدمًا، وهو يمثِّلها في السنة الخامسة والثلاثين من عمرها باسطة ذراعها اليمنى، وفي يسارها صولجان الملك والقانون الذي سنَّه كارل السادس سنة ١٧٧٢ بحصر الملك في البِكر مثل قانون أكثر الممالك، وإلى جانب ماريا تريزا تماثيل المشاهير في الحرب والسياسة والعلم، وهم لا يقلُّون عن عشرين.

وفي المتحف الأول من هذين القصرين آثار تاريخية وتحف صناعية ورسوم ونقوش شتى لا يُحْصَى عديدها، حتى إن فهرست هذه الأشياء ملأت ثلاثة مجلدات كبيرة فيها ٣٠٠٠٠ نمرة، ولكل قطعة في المعرض أو جملة قطع نمرة معلومة في هذه المجلدات، فإذا شاء المرء أن يطَّلع على ما في هذا المعرض العظيم كله لزِمَ له أيامٌ وأسابيع؛ لأن تاريخ الأمم — وبنوع أخص الأمم الخاضعة لسلطنة النمسا الحالية — جُمِعَ في تلك الآثار والنفائس. وقد قُسِّم المتحف أقسامًا كثيرة ليسهلَ على الناس رؤية ما فيه، منها قاعات جُمِعَتْ فيها آثار الفينيقيين الأُوَل ومعبوداتهم، وإلى جنبها أروقة وقاعات ملئوها بآثار نينوى وآشور، وتلك الأصنام صُنِعتْ على شكل الحيوان، ولها أجنحة الطير ورأس البشر، كان الآشوريون يعدُّونها رمز القوة العقلية والبدنية ويضعونها في أكثر منازلهم والأماكن العمومية. ثم قاعة اليونان وفيها من رسومهم المُتْقَنة وآثارهم ونقودهم ما نقتصر على الإشارة إليه. ومن ورائها قاعات التاريخ الروماني، وفيها صورة قياصرة رومية وتماثيلهم وشيء كثير عن القيصر ماركوس أوريليوس الذي مات في فيينَّا، وهنالك أيضًا قسم خاص بالتاريخ المصري فيه أجسام محنَّطة وتمثال رعمسيس الثاني وأوزيرس المعبود القديم، وغير هذا مما يعرفه الذين رأوا بعض ما في متحف مصر، ولكنَّ في ذلك المتحف تمثالًا لأبي الهول المصري بأربعة رءوس، وهو بلا نظير في المتحف المصري.

ويلي ذلك قسم السلاح في هذا المعرض، وهو كبير عظيم الأهمية جُمِعَتْ فيه أسلحة البشر من أول عهدهم بالقتال، أكثر ما فيه أسلحة النمسا وملابس قياصرتها وقُوَّادها، وقد زاد رونق هذا القسم بما فيه من أسلحة الجركس والأرناءوط المحلَّاة بالذهب والفضة وبعضها مرصَّع بالحجارة الكريمة، وأشهرها ملابس إسكندر بك، وهو أمير ألباني نشأ في القرن الخامس عشر وأُخِذَ أسيرًا على عهد السلطان مراد الثاني، فرُبِّيَ على الدين الإسلامي في قصر السلطان حتى إذا كبر صار من قُوَّاد الجيش العثماني، ثم تآمر مع بعض الرجال واستعان بقوته على إرجاع مُلْكِ أجداده فتمَّ له ذلك، ولم يمكن للسلطان أن يستردَّ ألبانيا منه مدة حياته ومات سنة ١٤٦٧، ومن هذا القبيل سيف من الذهب للإمبراطور كارل الخامس وعصا الملك للإمبراطور فردينند الثاني، وغير هذا كثير كان ملوك النمسا وأمراؤها يُهدونه للمتحف أو يتركونه إرثًا له حتى اجتمع فيه كل هذه النفائس.

وصعدنا بعد رؤية هذا كله الدور الأعلى من المتحف على سُلَّمٍ كله من الرخام الأبيض، فوصلنا قاعات فسيحة بهيَّة جُمِعَتْ فيها الرسوم المُتْقَنة من صنع أشهر الرسَّامين، وهي تزيد عن ألف صورة في عددها، وبعضها كبير يملأ الجدار كله، وقد قُسِّمت هذه الصور الكثيرة حسب أنواعها، فترى في كلِّ قسم منها الصور الفرنسية أو الهولاندية أو الإيطالية أو النمسوية أو غير هذا. وأما مواضيع هذه الصور فيعسر على الكاتب عددها؛ لأنها مختلفة كثيرة الأشكال، ولكنَّ منها قسمًا كبيرًا يمثِّل حوادث التوراة والإنجيل، وبعضها ثمين كثير الإتقان من صنع رفائيل المشهور وسواه، لا تقلُّ قيمة الصورة الواحدة منه عن عشرة آلاف جنيه، وبعض هذه الصور خيالات وأوهام يختلقها المصوِّرون لتمثيل هيئة الحب أو العِفَّة أو البسالة أو السعادة أو غير هذا مما لا يحتاج المتفرِّج إلى شرحٍ معه؛ لأن الرسم ناطق بالمعنى المراد. ولهذا النوع قيمة عند العارفين؛ فإن أشهر الصور الحديثة ما كان من هذا القبيل، وبعضها يدل إلى مناظر طبيعية زائدة الجمال، كأن تكون مناظر السحاب والشمس من وراء الغيوم أو مناظر الجبال والبحيرات والأودية، وأكثر ما يرى هنالك رسوم ضفاف الأبحر والبحيرات التي تسحر الناظرين بجمالها ويتمنَّى الرائي لو يمكن له أن يعيش في بقعة من الأرض جميلة مثل البقعة التي تشير إليها تلك الصورة، وبعض الرسوم تاريخية رأيت منها رسم واقعة بحرية كان أمير البحر النمسوي تجتوف يحارب فيها الطليان على مقربة من جزيرة ليسا سنة ١٨٦٦، وفاز على أعدائه، وبعض المعارك التي جرت بين الفرنجة والسلطان صلاح الدين، ورسوم كثيرة لرودلف هايسبرج مؤسس العائلة الحاكمة في النمسا إلى الآن، وماريا تريزا التي أشرنا إليها كثيرًا، وأشهرها رسم هذه الملكة حين قامت عليها فرنسا وبروسيا تريدان محاربتها بعد موت زوجها وفرَّت بابنها الطفل إلى بلاد المجر فاستعانت برعاياها المَجريين على إرجاع المُلْكِ إلى ابنها، وعقد القوم مجلسًا حافلًا للنظر في أمرها، فلمَّا انتظم المجلس جاءت وعلى ذراعها الطفل الصغير، وخطبت في أعيان المجر خطابًا أثار حميَّتهم وحرَّك همَّتهم إلى نصرتها، ثم ختمت خطابها بالقول إن هذا ابن مليككم يا أبطالي فخذوه وافعلوا ما تريدون. حتى إذا انتهت من الكلام صاح الجمع قائلين: «لنَمُتْ جميعًا من أجل ملكتنا ماريا تريزا.» ونصروها وأعادوا المُلْكَ إليها وإلى ابنها، وكانت ماريا تريزا من أعظم ملوك النمسا والمجر.

هذا مُجْمَل ما في المتحف الأول. وأما الثاني تجاهه فإنه خُصَّ بالتاريخ الطبيعي؛ أي بالقديم والغريب من أشكال النبات والحيوان والجماد. ولهذا القسم بهاء القسم الأول وفخامته من حيث البناء، وهو ثلاثة أقسام، أولها لنوع الجماد وثانيها للنبات وثالثها للحيوان، وفي كلِّ قسم أجزاء لما ظهر من هذه الموجودات في كل دور من أدوار الأرض الجيولوجية، فترى في قسم الجماد أحافير ومتحجِّرات شتى جاءوا بها من أقاصي الشرق والغرب، بعضها لا قيمة له إلا من حيث العلم بتاريخه القديم، والبعض كثير الجمال غالي القيمة. وقد جعلوا الدور الأول من البناء لقسم الحيوان، وأكثر ما ترى هنا وحوش مصبرة، وزحافات هائلة مثل الحيَّات الأميركية والهندية على أنواعها وبقية الأنواع الغريبة. والثاني للنبات وفيه غرائب يعسر وصفها أكثرها مصبر أيضًا. والثالث للمتحجرات وبعضها جميل الشكل غريب النوع، والذين ينتابون هذا المعرض ويتعلَّمون مبادئ العلوم الطبيعية فيه ليسوا بالعدد القليل.

وذكرنا الأوبرا الكبرى، وهي من أحسن ما بُني من نوعها، تضمُّ خمسة آلاف نفس، وفي سقوفها وجدرانها ما لا يُحصى من الزخارف ورسوم رجال الموسيقى، وقد بُنيَتْ ما بين عامَي ١٨٦١ و١٨٦٩. رأيت جوانبها الفخيمة وقاعتها الكبرى، حيث يجتمع الناس لسماع التمثيل والأنغام، وفي أعلاها ثريَّا هائلة المقدار لا يقلُّ فيها عدد الأنابيب التي يخرج منها النور عن أربعة آلاف.

ويزيد هذا الشارع رونقًا وبهاءً أن فيه حديقتين، إحداهما حديقة فولكس أحاطوها بسور من الحجر والحديد، وفيها المطاعم والحانات والموسيقى، فهي يؤمُّها أهل فيينَّا مئاتهم وألوفهم عصاري كل نهار؛ لأنها في وسط المدينة، وأَشْهَر منها حديقة ستاد بارك، هي من أعظم حدائق فيينَّا وأجملها، تشرف على شارع الحلقة وينتابها أهل الطبقة العالية من سكان فيينَّا، فهي ذات دروب نظيفة وجوانب بهيَّة ومزروعات كثيرة الجمال ومناظر بالغة حد الإتقان والفخامة، تمرُّ في جوانبها قناة من الماء ينصبُّ في بُحَيرة صغيرة جمعوا إليها أكثر أشكال الطيور المائية، وغرسوا إلى جوانبها الأزهار من كلِّ نوع وكل لون على شكلٍ بديع النظام، حتى إنهم كتبوا بالزهر المختلف الألوان على أرضها اسم الحديقة وكلمات أخرى، فكأنما أنت هناك على بساطٍ من العشب، وفي البساط صناعة وكتابة وإتقان عجيب.

هذا أشهر ما يُذْكَر في شارع الحلقة العظيم، وهو أجمل شوارع أوروبا وأحدثها نشأة وأكثرها مشاهد يتفرَّع منه دروب توصل إلى غيره من الشوارع الكبرى وما فيها من المشاهد المعروفة، مثل الشارع الموصل إلى كنيسة القدِّيس أسطفانوس، وهي أشهر كنائس النمسا وأعظمها، بُدئ في بنائها سنة ١٣٠٠ وما زال الملوك ورجال الدين يزيدون في محاسنها إلى الآن، طولها ٣٥٥ مترًا والعرض ٨٩، رَسَمَ شكلها مهندس اسمه جورك حُكِمَ عليه بالجنون لفرْطِ ذكائه، ورسمه قائم في دار الكنيسة وهو في حالة السجن وبيده الآلات الهندسية، والكنيسة شائقة المنظر من خارجها بُنِيَتْ على عُمُدٍ من الرخام، وفي داخلها ما لا يمكن عدُّه من آيات الإتقان، منها الهياكل الكثيرة بعضها قديم العهد، وفي جملتها هيكل بُني سنة ١٨٥٢ تذكارًا لنجاة الإمبراطور الحالي من القتل. وفي ساحة الكنيسة مدفن لبعض القياصرة والكبراء، ولكن العائلة الحالية جعلت مدفن أفرادها في كنيسة الكبوشيين في فيينَّا، وهنالك دُفِنَ رودولف ابن الإمبراطور وإليصابات زوجته، وقد ذكرناهما في غير هذا الموضع، وإلى جانب الكنيسة الكبرى التي نحن في صددها برج عظيم ترى منه معظم فيينَّا وضواحيها.

وليس يبعد عن كنيسة أسطفانوس شارع جرابن، وله شهرة ذائعة؛ لأنه ثاني الطرق الكبرى في هذه العاصمة، وهو يحفُّ الشجر بجانبيه، وفيه المخازن الملأى بنفائس الحاجات فترى جماعات الناس تقصده من كل جانب لمشترى بعض ما فيه. وهناك نُصُبٌ للثالوث الأقدس أُقيم في وسط الشارع على عهد الإمبراطور ليوبولد الأول سنة ١٦٩٤ شكرًا لله على زوال الطاعون من المدينة، ومن هذا الشارع يمكن لك الوصول إلى قصر الإمبراطور الذي يقيم فيه مدة الشتاء، دخلناه وراء القيِّم عليه، ورأينا من غرائبه المشهورة قاعة عظيمة للاستقبال، فيها ٢٤ عمودًا من الرخام، وقاعة الرقاد وفيها سرير كانت تنام عليه ماريا تريزا، وقاعة المرائي — دُعيت كذلك لكثرة مرائيها — وفيها ساعة لا يلزم لها تدوير غير مرة في كل ثلاثة أعوام، وكان الناس ساعة خروجنا من هذا القصر متألبين عند مَدْخله يريدون التفرُّج على الكردينال، وهو يومئذٍ قام لأمرٍ يقضيه في قصر الإمبراطور، فانتظرنا قدومه معهم ورأيناه بملابسه الأرجوانية وقبَّعته المثلَّثة الجوانب، ومن ورائه حشم ورجال الدين في عربات أخرى، حتى إذا توارى عن العيان سِرْنا من القصر إلى المكتبة الإمبراطورية، وهي من أكبر المكاتب العامة في الأرض، فيها نحو أربعمائة ألف مجلد، نصفها كتب خطِّيَّة وكثير منها عربي مطبوع أو غير مطبوع، ومجلَّدات من أول عهد الطباعة، أكثرها ديني من أثمنها إنجيل كُتِبَ على جِلْدٍ أحمر بالحروف الذهبية والفضية في أول القرن السادس، وكُتُبٌ أخرى خُطَّت على ورق مصنوع من شجر التوت وشجر النخل وغير هذا كثير، والناس من طلبة العلم وسواهم يقصدون هذه المكتبة ويدخلون قاعة المطالعة فيها بإذنٍ خاص فيبحثون عن دقيق المسائل في كتبها القديمة، فإذا دخلت تلك القاعة أُعجبت بما ترى من أدلة الاجتهاد وسَيماء الوقار بين أولئك المطالعين.

ويُذْكَر بين مشاهد فيينَّا قصر الخزائن وهو مستودَع للتحف الإمبراطورية القديمة والحديثة، لأكثرها شأن في التاريخ عظيم، من أهمِّ ما يُذكَر بينها خوذة عسكرية من الفضة قدَّمها الشعب المجري للإمبراطور الحالي عند تتويجه ملكًا للمجر سنة ١٨٦٧، وفي داخلها أوراق مالية بنحو ٧٥٠ ألف فرنك أوقفها الإمبراطور لإعانة أهل الحاجة من المجر. ومن ذلك التاج الإمبراطوري والصولجان وبقية الحلي التابعة للبيت المالك، منها ألماسة وزنها ١٣٣ قيراطًا تُقدَّر قيمتها بستين ألف جنيه كانت من جواهر شارل الجَسور أحد ملوك فرنسا وراحت منه، ثم قيل إن فلاحًا وجدها وباعها بفرنكين لأمير توسكانا وانتقلت منه إلى ملوك فيينَّا، ومن ذلك أيضًا الوسامات المشهورة، منها وسام فيليس فيه ١٥٠ حجرًا كريمًا في وسطها حجر وزنه ٤٢ قيراطًا، وتاج الإمبراطورة ماريا تريزا وفيه ٥٤٨ حجرًا ثمينًا، وحلي وجواهر أخرى غالية القيمة أودعتها العائلة المالكة وسواها هذا المتحف، بعضها على سبيل الأمانة وبعضها هدية للمملكة، مثل ملابس شارلمان وتاجه وصولجانه، وغير هذا مما لا يُحصى.

علمت أنَّ فيينَّا يدخلها فرع من نهر الدانوب الشهير؛ فلهذا كانت محاسنها متفرِّقة ما بين قسميها الشرقي والغربي، وقد ذكرنا معظم ما يهمُّ ذكره في القسم الغربي. وأما القسم الشرقي فأهمُّ ما فيه ليوبولدستاد، وهو حيٌّ كبير من أحياء فيينَّا كله منازل مشيدة وطرق فسيحة ومخازن كبيرة، ومن أشهر مشاهده تمثال أمير البحر تجتوف الذي ذكرناه، والقوم يعتبرونه من أكبر رجالهم؛ لأنه أحيا الأمة النمسوية بانتصاره على الطليان مع تكاثر عديدهم، فهم اعتنوا بتمثاله وجعلوه على مدخل حديقة براتر المشهورة وجعلوا ارتفاعه ٣٦ قدمًا، وهو على قاعدة تشبه مقدم السفينة صُنِعَتْ من النحاس والبرونز، ومن تحتها رسوم خيل البحر تجرُّها وتُذكِّر الناس بالنصر في تلك المعركة البحرية.

ولقد ذكرنا أن هذا التمثال في أول حديقة براتر، والحقُّ يُقال إن في فيينَّا حدائق كثيرة والناس يهتمون لحدائقهم ويجعلون لها شأنًا خلافًا لما تعوَّدناه من إهمال الناس شأن الأزبكية في مصر مع أنها من أجمل الحدائق العمومية، وقد تضاهي الحدائق المشهورة في أوروبا ولكنها لولا الموسيقى الإنكليزية تصدح مدة وجيزة في بعض ليالي الصيف لَما رأيت فيها شيئًا من مظاهر الهيئة الاجتماعية، وحدائق براتر هذه مجموع حراج غضيضة غُرِسَتْ في أرض أريضة وغابات بهيَّة تتخلَّلها مروج من العشب شهيَّة فلا تقلُّ مساحة الكل عن أربعة آلاف فدَّان تُقسَّم أقسامًا ثلاثة، أولها متنزَّه هوبت وهو شارع عريض جميل تمرُّ به العربات عشرات ومئات، ويمرُّ الناس مشاة أو على ظهور الجياد، ويحفُّ بهذا الشارع غابات من شجر الكستنا تُشْرَح بمنظرها الصدور، وفي وسطها مطاعم يلذُّ للآكل فيها الطعام وحانات للبيرا وسواها يقعد الواحد فيها فيسمع شجيَّ الأنغام، وأكثر ما يكون اجتماع الخلق هنا في أيام الأحد أو يوم عيد الإمبراطور أو اليوم التالي لعيد الفصح، وهو هنالك بمثابة شم النسيم في القطر المصري، والقسم الثاني من هذه الحديقة يُعرف باسم «فورويك»، وفيه ألعاب كثيرة من خيل خشبية تسير بالبخار وأراجيح ومشاهد شتى يجتمع أهل الطبقة الوسطى لمشاهدتها في كلِّ حين ويقصدها أصحاب العائلات فيُرْكِبُون أولادهم تلك الخيول الصناعية ويجارونهم على اللعب والضحك، وهنالك بحيرة صغيرة تجري عليها زوارق صغيرة للأولاد أيضًا ويسيِّرها البخار وألعاب أخرى يلذُ التفرُّج عليها، وأولئك الصغار بملابسهم النظيفة يضحكون ويطربون.

وما زلنا نسرِّح الطرف بتلك المناظر حتى وصلنا بناء المعرض الذي أُنشئ سنة ١٨٧٢ وهو عظيم الارتفاع يُشرف على تلك الغياض والحِراج والمنازل إلى مسافة بعيدة بُني من الخشب والحديد ومن ورائه سُلَّم من الحديد ارتقينا ذراه حتى إذا وصلنا القمَّة رأينا فيينَّا وضواحيها من دوننا، والنهر ينساب انسياب الأفعى بين منازل مشيدة وغابات غضَّة نضرة وأودية بهيَّة وهضاب منضَّدة بالزهر والبنيان الفخيم، ولا بدَّ لكل سائح يريد أن ترسخَ في ذهنه صورة المدن التي يزورها أن يُطلَّ عليها من موضع مثل هذا مرتفع، وقد كان هذا شأني في أكثر الأماكن فإني جعلت هذه النظرة الإجمالية خاتمة ما أردت رؤيته في فيينَّا، وقصدتُ من بعدها الضواحي التي يجيء ذكرها في الفصل التالي.

ضواحي فيينَّا

لضواحي فيينَّا شهرة تحاكي شهرة الضواحي التابعة لأكثر الضواحي المشهورة، ولا تزيد عنها في الأهمية غير ضواحي باريز البهيَّة، من ذلك جبل كاهلبرج قصدناه صباح يوم في باخرة تقوم من ترعة الدانوب، وكان الناس يومئذٍ جماهير تتسابق إلى ذلك الموضع فسِرْنا في الباخرة هذه حتى بلغنا قرية نسدورف، وكان قطار سكَّة الحديد ينتظر القادمين إليها لينقلَهم إلى أعلى الجبل في سكة كانت تختلف ما بين صعود ونزول وانحناء يمنة أو يسرة ودخول وخروج بين غياض الشجر الباسق ومروج العشب النضر، وأغرب من هذا صعود القطار في أكواع ملتفَّة إلى قمة ذلك الجبل والمناظر تتبدَّل من حين إلى حين فتتبدَّى الطبيعة بكلِّ جمالها الساحر للقاعد في الرتل، وهو يتقدَّم صعدًا إلى تلك القنة ومن دونه الحِراج والبقاع والأودية فيُحْدِثُ جمال ذلك المنظر فتنة في القلوب ويحيي في النفوس بهجة لا يُوصف لها مقدار، وعلى مثل هذا بلغنا غاية المتفرِّجين، ودُرْنا بين الطرق المفروشة بالرمل نرى هنا مزارع بهيَّة وهنا منازل مشيدة مطلية، وهنا حانات تجتمع الناس فيها والنفوس منهم رَضيَّة، وهنا مطاعم يتناولون فيها الألوان الفاخرة على صوت الألحان الشجيَّة، والكل ناظرون إلى عاصمة النمسا وما يليها معجبون بما أوجده التحسين الصناعي فوق تلك البدائع الطبيعية.

ومن هذا القبيل قصر شونبرن، وهو مصيف الإمبراطور بَنَتْه الملكة ماريا تريزا وأقام فيه نابوليون مدة وجوده في هذه العاصمة، ومن مؤلمات الأحكام التي لا تُرَدُّ أن ابن هذا الفاتح العظيم من امرأته الثانية، وهي ابنة إمبراطور النمسا، مات في الغرفة التي كان والده ينام فيها، وهي من غرف هذا القصر الفخيم، قصدتُهذا القصر مع جماعة كثيرة من السائحين، فأتانا خادمه وأدخلنا بعض جوانبه، ولا حاجة إلى القوم إنه آية في الحُسْنِ والزخارف، وإن رياشه وبناءه وبقية ما فيه يليق بقيصر عظيم وملك بلاد كبرى، وفي جملة قاعاته واحدة تُعْرَف باسم القاعة الصينية، كل رياشها حرير أسود مُزَرْكَش بالقصب، وخشبها من اللك الأسود المصقول، وقاعة واسعة الجوانب للاستقبال والولائم الكبرى تضمُّ فوق ١٥٠٠ نفس، وفي القصر مكتبة خاصة بالإمبراطور وكنيسة صغيرة له ولأعضاء عائلته، وملهى صغير لمن ذكرنا أيضًا، ومواضيع أخرى فائقة الإتقان كثيرة الجمال، ويلحق بهذا القصر حديقة أو هي مجموع غابات وحدائق كانت فيما مرَّ من الأيام حراجًا يصطاد الأمراء فيها الأيل والأرانب، فمشيت في طريق بهذه الحديقة يحفُّ به جداران أو هما بالحقيقة صفَّان من الشجر تعرَّشت أغصانه، والتفَّت عروقه وعُولجت بالمقراض حتى صارت مثل السور الأخضر طوله ٣٢٢ مترًا، وفي آخره بِركة من الماء بديعة ووراؤها أكمة تغشاها الأعشاب السندسية، وفي أعلاه كشك بديع الصنع من الرخام النقي، وما زلت أسرح في هاتيك الطرقات البهيَّة حتى بلغت معرض الزهر والحيوان، فأما الزهر فإنه جُمِعَ من أطراف الأرض وغُرِس هنا في حقول بديعة الترتيب، وبعضه لا ينمو إلا في الأماكن الحارَّة، فهم غرسوه داخل بيوت من الزجاج والنار تُوقد من تحت أرضه حتى يظلَّ على النماء، فترى من أشكال النبات في تلك الحديقة ما يعجز عن وصفه قلم المتغزِّل بمحاسن الطبيعة، وأمَّا الحيوانات فبينها في هذا الموضع كثير من كل غريب الطبع والشكل جاءوا به من أقصى الأقطار، ولكن معارض باريز ولندن للحيوانات أشهر من هذا المعرض وأكبر، وجملة القول إن هذه الحديقة من أعظم متنزَّهات فيينَّا يقصدها الناس لفخامة منظرها وحسن هوائها. وأما الذين يريدون اللهو والطرب فعليهم بحديقة براتر التي ذكرناها.

ومن هذا القبيل فيسلاو، وهي مجموع عمائر لأهل الترف والأكابر واقعة على جبل ارتفاعه ٨٠٠ قدم، ولها شهرة بالخمرة اللذيذة، سِرْنا إليها بالقطار انتهى بنا إلى سفح الجبل، ومنه قمنا في عربة سارت صعدًا إلى رأس الموضع، وفي تلك الجهات حمَّامات معدنية تفيد في تقوية الأعصاب والماء فيها بارد جدًّا يُرَشُّ على الجسم من كلِّ الجوانب رشًّا شديدًا يكاد الرجل أن يقع من وقعه، وقد رأيت هنالك رجلًا رومانيًّا من بخارست، قال لي إنه جاء تلك الحمَّامات مُقْعَدًا يسير على العُكَّاز فتقوَّت أعصابه حتى صار يمشي بدونها، وبعد أن أقمت مدة في ذلك الموضع البديع عُدْتُ إلى فيينَّا بطريق بادن وهي بلدة مشهورة بحمَّاماتها المعدنية تفيد في الأمراض العصبية وتشفي من داء الروماتزم، فالناس يأتونها من كلِّ صوب بعيد للاستحمام في حماماتها الكثيرة، وأكثرهم يأتونها عن طريق فيينَّا.

بلاد المجر

قبل أن نتقدَّم إلى وصف بلاد المجر وعاصمتها بودابست لا بدَّ من ذكر شيء عن السباحة في نهر الدانوب العظيم لشهرة مناظره وجمال غرائبه، فإني قمتُ في باخرة صغيرة اجتازت الترعة التي تتفرَّع من الدانوب إلى فيينَّا، فلمَّا انتهت إلى النهر الكبير ألقت رحْلها فتركناها ودخلنا باخرة أكبر منها سارت في صباح ذلك اليوم وظلت تمخر عباب النهر مدة ثلاث عشرة ساعة، ومرَّت على تسع عشرة محطة قبل أن تبلغ بنا عاصمة المجر، وفي أوائل الطريق قريتا أسبرن وأيزلن اللتان جرت فيهما المعارك بين النمسويين وجنود نابوليون الأول، وكانت جنود ذلك الفاتح العظيم قد عبر نصفها نهر الدانوب إلى الضفة اليسرى من النهر، فأضرم النمسويون النار في الجسر الذي يوصل بين الضفتين عند جزيرة لوبو وهجموا على النصف من جنود نابوليون فاضطروهم إلى التقهقر وكانوا ١٥٠ ألف راجل و٣٠ ألف فارس و٧٠٠ مدفع، واستحكاماتهم باقية آثارها إلى اليوم، على أن بونابارت عاد وعَبَر النهر من نقطة أخرى، واستأنف القتال فبطش بجيش النمسا وفلَّ مواكبه وسَحَق قوته ودخل فيينَّا على مثل ما جاء في الشذرة التاريخية، وسرنا من ذلك الموضع إلى بلدة هنبورج وهي مشهورة بمعمل للدخان أنشأته حكومة النمسا على نفقتها، وعماله بنات عددهنَّ ألف وخمسمائة، وتليها برسبورج، وهي عاصمة المجر من قِدَم يبلغ عدد سكانها ٥٠ ألفًا، وهذه هي المدينة التي جاءتها ماريا تريزا تستنجد أهلها من أبطال المجر على الأعداء فأنجدوها ونصروها على مثل ما تقدَّم معنا، ومنظر البلاد في هذه الناحية جميل والناس الذين نزلوا في هذه المحطة أو صعدوا الباخرة منها كثار لأهمية الموقع، فكنا هنا وفي كل مدة أخرى مدة السباحة في الدانوب نتطلَّع أبدًا إلى ما حولنا من المشاهد، ونستعين بالآلة المقرِّبة على ما بعُدَ من الأماكن، ولطالما رأينا في الطريق جزرًا بهيَّة تمرُّ الباخرات الذاهبة من أحد جانبيها والغادية من الجانب الآخر، وكلها خضرة تنفي عن القلب الحزن، وعمائر وضياع نظيفة تدلُّ أراضيها على الخصب الوافر واعتناء الناس باستدرار ما فيها من الخير الكثير، وهم يسمون هذه الجزر بجزائر الذهب؛ لأن أرضها أَرِيضَة خصيبة وخيرها متدفِّق كثير.

وبعد هذا مررنا ببلدة أسترجوم التي كانت مقر القِدِّيس أسطفانوس أول ملوك المجر في آخر القرن العاشر للميلاد، وكان أسطفانوس هذا أول مَنْ نشر الدين المسيحي في بلاده وما يليها، وعظمت أسترجوم من بعده فصارت مقرًّا للمتاجر الواسعة فلمَّا أغار عليها التتر سنة ١٢٤١ امحت آثار عظمتها، وتقلَّص ظلُّ تجارتها وعادت فانتعشت قليلًا في أيام بيلا، أحد ملوك المجر، ثم استولى عليها العثمانيون سنة ١٥٤٣ وهدموا كنائسها فلمَّا انجلوا عن النمسا برحوا هذه المدينة أيضًا فعادت إلى التقدم والنماء، وتقدَّمنا من هنالك إلى جزيرة جميلة تُعرف باسم مرغريت، فما عتمنا أن أبعدنا عنها وتوارت هي عنا حتى أشرفنا على مدينة بودا في الضفة الشرقية من نهر الدانوب، وتجاهها مدينة بست في الضفة الغربية، ومن هاتين المدينتين تتكوَّن بودابست عاصمة المجر، فرست الباخرة قليلًا في بودا ريثما نزل منها مَنْ نزل، ثم تحوَّلت إلى الضفة الأخرى، ونزلنا في مدينة بودابست في فندق اسمه أوتيل هنغاريا (المجر)، وهو منزل واسع فخيم فيه ثلاثمائة غرفة بُني على ضفة الدانوب ومنظر النهر والمدينتين منه في الليل من أجمل ما اكتحلت بمرآه العين؛ لأن الأنوار الكثيرة من السفن في الماء ومن المنازل في الجانبين تنعكس على الماء، ويُضاف إلى رونقها خرير الماء والحركة الدائمة في كل جهة، فتجعل لهذه المدينة منظرًا من أهم المناظر.

بودابست: وأما مدينة بودابست وعدد سكانها ثمانمائة ألف نفس فهي مجموع مدينتين كما علمت، يوصل بينهما جسر عظيم سنذكره وزوارق من كلِّ نوع تروح وتجيء ما بين الضفتين في كل آن، وقد أُسِّست هذه المدينة على عهد الرومانيين، فلمَّا أخلوها سنة ٢٧٥ للميلاد توطَّنتها قبائل الغوطة، ثم جاءها أقوام الفندال سنة ٣٣٧، ثم وافاها الهون سنة ٤٠٧ وكلهم من أهل أوروبا الأُوَل، وتلاهم غيرهم حتى استولى عليها شارلمان في القرن الثامن وملكها المجر بعد وفاته، ثم غزاها التتر على عهد باتوخان حفيد جنكيزخان المشهور في القرن الثالث عشر، فلمَّا خرجوا منها أصلح بيلا ملك المجر ما تهدَّم من معالمها، وعمل على إعادة عزِّها المتردِّم فدعا إليها الناس من كل جانب ورغَّبهم في السكن والإقامة فجاءوها من بافاريا وإيطاليا وجزائر الروم وبولونيا، ومن ذلك الحين نَمَتْ وتقدَّمت ثم عادت وتأخَّرت من بعد هجمات الأتراك؛ لأنهم أعملوا السيف في أهلها وأضرموا النار في جوانبها سنة ١٥٢٦ وسنة ١٥٤١، وأقاموا فيها من بعد هذه السنة ستين عامًا ثم برحوها بعد متاعب كثيرة، ولكنهم عادوا إليها سنة ١٦٠٤، فانتقموا من أهلها وظلُّوا فيها إلى سنة ١٦٨٦ فلمَّا خرجوا اهتمَّ ملوكها بإعادة رونقها حتى بلغت شأوها الحالي، وهي الآن ثانية مدائن السلطنة النمسوية، وسكان هذه البلاد ١٥ مليونًا هم خليط من أجناس كثيرة كالألمان والمجر والسرب والرومان والسلاف والأرمن والبلغار وبقايا الأتراك والأرناءوط والفرنجة، ولكن المجر — وهم ٦ ملايين عدًّا — يسودون سواهم سيادة تامَّة في هذه البلاد، وأكثر الأحكام والأعمال الكبرى في يدهم، وقد تفرَّد هؤلاء القوم بحسن الخلق وكرم النفس وسعة العقل وجمال المنظر، ولعلهم كسبوا جمال الوجوه من كثرة الاختلاط، فإن نساءهم جمعن المحاسن الشرقية إلى المحاسن الغربية، فهنَّ في طبقة ممتازة بين أهل الجمال ولا سيما في العيون النجلاء والوجوه البيضاء.

وأهمُّ ما يُذكر عن بودابست: شارع أندراسي، وهو أعظم شوارعها سُمِّي باسم الكونت أندراسي السياسي المجري المشهور الذي تولَّى الوزارات ورأَسَها مرارًا، وكان من أقران بسمارك ودزرائيلي في السياسة، والشارع طوله ميلان وعرضه ٤٠ مترًا، وأرضه مرصوصة بالخشب وأرصفته واسعة، وفي جانبيه أشجار جميلة من ورائها القصور والمنازل والمخازن البهيَّة؛ حيث تُباع الأبضعة الثمينة، وفي هذا الشارع بناء الأوبرا وهو من الأبنية الجميلة تمَّ بناؤه سنة ١٨٨٤، ويعمل الآن فيه نخبة من أرباب الموسيقى المجرية، وهي ذات شُهْرة في أوروبا ذائعة فقلَّ أن يجتمع جوق للغناء، ولا يغني أحد الأنغام المجريَّة، وأكثر أنغامهم حماسية، وهي أقرب إلى الشرقية من سواها، كما أنَّ المجر أقرب من سواهم في الطباع والعوائد والهيئة والأخلاق إلى الشرقيين من معظم الأوروبيين حتى إنهم ليعدُّون أمة شرقية في أوروبا، ولبعضهم أسماء لا تختلف كثيرًا عن الأسماء العربية والتركية، ولهم ملابس قديمة العهد يفخرون بها إلى الآن في بعض الأحيان هي شرقية في زيِّها، وفي الشارع بناء عظيم لإدارة سكك الحديد المجرية والمتحف، ومعظم ما فيه من آثار ملوك المجر وقُوَّادهم وأسلحة قديمة ونقود ورايات وملابس، وغير هذا مما يُؤخذ منه تقدُّم هذه الأمة من عهدٍ بعيدٍ، وفيه أيضًا مجلس النُّوَّاب المجري، وهو حديث البناء بالغ الزخرف والرواء يزيد إتقانًا عن مجلس النُّوَّاب في فيينَّا عاصمة السلطنة، وقد أنفقوا عليه نحو مليونَي جنيه، وينتهي هذا الشارع بحدائق غَنَّاء فيها القصور الباذخة، ومن هنا ركبنا الترامواي الكهربائي إلى الحديقة العمومية، وفيها الحانات والمطاعم والمتنزَّهات والبحيرات وكل ما راق منظره من الزَّهر والشجر، حتى إنهم وجدوا فيها مياهًا كبريتية تفيد في الروماتزم وأمثاله، فبنوا فوقها حمَّامات يقصدها المستشفون، ولها منظر جميل ونظام بديع، وأمَّا الترامواي الكهربائي الذي أوصلنا إلى هذه الحديقة فيختلف عن الترامواي المعروف في مصر في أنَّ العربات تستمدُّ قوتها من أسلاك تحت الأرض متصلة بالخط الحديدي الذي تسير عليه العربات، فلا حاجة إلى مثل ما نرى هنا من العُمُدِ والأسلاك الكثيرة فوق رءوس المارَّة. وأغلب الشركات في فرنسا وإيطاليا جَرَتْ على الطريقة المعروفة في مصر، وأمَّا إسبانيا وهولاندا وإنكلترا فإنهم يضعون البطارية التي تتولَّد منها الكهربائية الدافعة للعربات في العربة الأولى من القطار، ويُقال بوجه الإجمال إن الترامواي الكهربائي لم يشَع استعماله في أوروبا إلى الآن وربَّما كان إقبال الناس في مصر عليه أكثر من إقبالهم في مدائن أوروبا، وأكثر ما يكون الترامواي عندهم في الشوارع المتباعدة عن مراكز المدن حيث يقلُّ الزحام، وأمَّا في الشوارع الكبرى حيث تكثُرُ الحركة فيندر أنْ تسير قطارات الترامواي، وهذا يخالف الذي تراه في مصر حيث مُدَّت خطوط الترامواي في شوارع ضيِّقة تكثر الحركة فيها، مثل شارع كلوت بك ومحمد علي والفجالة، وقد نشأ عن ذلك صعوبة في مرور الناس والعربات على ما يعلم الجمهور.

قلنا إن المجريين اشتُهروا بالموسيقى المعروفة عنهم، والحق يُقال إنهم اشتُهروا أيضًا بالرسم والنقش والتصوير والشعر فهم أهلُ ذوق لطيف؛ لأنهم أتقنوا الفنون الجميلة ومن أكبر آيات الفخر عندهم أن يشير المرء منهم إلى جدٍّ له اشتُهر بالشعر أو بالتصوير، وقد قام بينهم مشاهير بهذه الفنون وقادة وساسة كثار حتى إنك كيفما سِرْتَ في هذه المدينة العظيمة ترى رسم كبيرٍ أو نُصُب شهيرٍ من رجالهم، وأهل بودابست أكثر العواصم الكبرى نُصُبًا وتماثيل من هذا النوع، وهم يتفاخرون بجميع الصور والآثار الفنية القديمة، فإنِّي عرفت عائلة من عائلات السراة عندهم اسمها أسترهازي كان أحد أفرادها يتردَّد على مصر كل شتاء وينفق فيها الأموال الطائلة حتى آل به الأمر إلى الحاجة، فباع ما عنده من نفيس الرسوم وفاخر الصور بالمزاد العلني، واشترت حكومة المجر ما عنده بنحو مليونين وستمائة ألف فرنك سنة ١٨٦٥، ونقلتها إلى متحف فرانس جوزف للفنون الجميلة، وإنِّي قصدتُ هذا المتحف ورأيتُ غرائب الصناعة فيه، وأعظم صوره دينية تمثِّل حوادث ذُكِرَت في الإنجيل والتوراة، مثل هرب المسيح إلى مصر، وصورة إبراهيم وامرأته هاجر وغير هذا، وأكثر الصور المتقنة من صنع موريلو المصوِّر الإسباني المشهور وبعض المصوِّرين المجريين، وقد أطلقوا اسم فرانس جوزف على أشياء كثيرة غير هذا المتحف، منها شارع كبير يمتدُّ على طول ضفَّة الدانوب إلى البورصة الجديدة وإدارة الجمارك، والناس يقصدون هذا الشارع البهي من كلِّ جانب للنزهة والفُرْجَة بعضهم على بعض، وللجلوس في الأماكن العمومية الكثيرة فيه، وهي تُشْرِف على الدانوب، وينتهي هذا الشارع أو الرصيف عند الجسر العظيم المعروف بالجسر المعلَّق، سُمِّيَ بهذا؛ لأنه بُنِي بدون عُمُد أو دعائم ركزت في وسط النهر، رَسَمَه أحد مهندسي الإنكليز، وأَنْفَقَتْ مدينة بودابست على بنائه ثمانية ملايين وربع المليون من الفرنكات، وهو من أجمل الجسور المعروفة في الدنيا وأكبرها وأشهرها، طوله ٤١٨ مترًا وعرضه ٣٠ قدمًا، وارتفاعه عن سطح الماء ٤٢، وفي طرفيه من هنا ومن هنا عمال يتقاضون رسمًا طفيفًا من كلِّ مارٍّ عليه، ومنظر المدينة إلى الجانبين من ذلك الجسر كثير الجمال.

ومما يُذْكَر بين مناظر بودابست جزيرة صغيرة على مَقْرُبَةٍ من المدينة اسمها مرغريت أنفقوا ألوف الألوف على رسمها وتنظيمها وتحسينها وجعلوها متنزَّهًا لأهل العاصمة فصارت من أجمل المواضع التي تنشرح الصدور لمرآها؛ لأنها واقعة في وسط النهر وكلها محاسن طبيعية وصناعية، فترى الناس ينتابونها في كلِّ يوم ولاسيما في أيام الأحد والأعياد، وهم يأتونها في زوارق وسفن بخارية صغيرة تقوم إليها كل نصف ساعة، وفيها غير ما تعلم من البِرَك والحدائق والمطاعم والحانات الكثيرة خط للترامواي تجرُّ عرباته الخيل يسير في طول الجزيرة بين صفوف الشجر وغرائب المنظر، ويُسْمَع في جانبها الأنغام المجريَّة تَصْدَح بها الموسيقى الوطنية، ورجالها متردُّون بالملابس المجرية القديمة فيلذُّ للناس كثيرًا سماع أنغامهم، ويظهر الجمع لهم الاستحسان بالتصفيق في نهاية كل دور، وللملابس البحرية القديمة شأن عند هؤلاء القوم، وهي تُعْرَف باللون الأخضر الغالب فيها؛ لأنه شعار الأمَّة المجرية، فبعضهم يلبسون القبَّعات الخضراء في الاحتفالات الوطنية دليل تحمُّسهم وتذكُّرهم شعار الوطن؛ ولهذا أُضيف إلى راية النمسا خط أخضر بعد انضمام المجر إليها، وأكثر ما يكون لبسهم للقبعات الخضراء خارج بلادهم ليظهروا للملأ جنسيتهم.

وجملةُ القول إن جزيرة مرغريت هذه من أحلى ضواحي بودابست وأبهاها، قضيتُ فيها النهار بطوله حتى إذا خيَّم الغسق عُدْتُ إلى المدينة وشهدتُ تمثيل رواية مجريَّة قديمة في الملعب الكبير رأيتُ فيها صفوفًا من البنات المجريات بالملابس العسكرية المجرية، وهي قبَّعات خضراء مذهبة وسراويل بيضاء وستر قصيرة حمراء مزركشة بالقصب، وقد حَمَلَ أفراد هذا الجيش الجميل الرماح وتقلَّدن السيوف وسارت واحدة منهنَّ بارعة الجمال في الطليعة فكان لمنظرهنَّ بهجة تفوق الوصف.

هذا كله في مدينة بست أو هي القسم الشرقي من عاصمة المجر، وقد مرَّ بك أنَّ الجسر العظيم موصل بينهما، وأنَّ النهر تملأه الزوارق والبواخر التي تروح وتجيء بالناس في كلِّ ساعة بين الجانبين. وأمَّا بودا فإننا رأينا حال وصولنا أنها بُنِيَتْ على مرتفع من الأرض سفحه عند النهر وقمَّته عالية تُشْرِف على ما بَعُدَ من المناظر، فهم يصعدون من السفح إلى القمة في آلة رافعة مثل التي يستعملونها في البنايات، وهي عبارة عن غرفة برياشها ومقاعدها ترتفع بالقوة الميكانيكية أو تنزل فتستقرُّ حيث يريد الناس، فلمَّا قعدنا فيها مع القاعدين وبدأت بالصعود تأمَّلنا مدينة بست وهي أمامنا من وراء النهر، فإذا بها تهبط وتدور، والحقيقة أنَّنا كنا نصعد فيخيَّل لنا ذلك حتى إذا وصلنا آخر المسافة كانت المدينة تحت نظرنا من أوَّلها إلى آخرها، وكان لذلك المنظر غرابة لا يزول ذكرها من الذهن، وفي بودا هذه قلعة قديمة كانت في يد الأتراك فلمَّا خرجوا من بلاد النمسا والمجر بقي رجال هذه القلعة فيها ودافعوا عنها دفاع الأبطال مدَّة أربعة أشهر، فأظهروا ما اشتُهر عن أمَّتِهِم من البسالة الغريبة، ثم سلَّموا لتكاثر العدد عليهم، ولم يجد الفاتحون في القلعة حين دخولها غير عدد قليل من هؤلاء الرجال، ولم تزل آثار الترك باقية في هذه المدينة حتى إن فيها جامعًا صغيرًا وفيه مقام للشيخ جول بابا، بُنِيَ على تلٍّ جميل المنظر، وقد بقي الجامع والمقام على حالهما الأول باتفاق تمَّ بين الدولة العليَّة ودولة النمسا حين خروج الأتراك من بودابست، وللجامع خادم تركي يلبس لُبْدَة بيضاء وعمامة بيضاء صغيرة، وبقيَّة ملابسه تحكي ملابس المشايخ الأتراك. والمسلمون في بودابست يُحيون مولد صاحب المقام في كلِّ عام باحتفال يُذْكر، وبعضهم يأتون من الآستانة لحضور هذا الاحتفال، وللمجر علاقة بالدولة العليَّة تزيد عن غيرها؛ نظرًا لما بين المملكتين من القرب والاتصال ولا سيَّما بعد أنْ وصلت فيينَّا بالآستانة عن طريق بودابست هذه بسكَّة الحديد، وهي متَّصلة أيضًا ببقية أوروبا حتى إنه ليمكن السفر في عربة واحدة من باريز إلى الآستانة على هذا الطريق، ولم يتمُّ هذا الاتصال إلا في سنة ١٨٨٨، فكان الذين يزورون الآستانة قبل ذلك عن طريق بودابست، يسافر إلى بخارست عاصمة رومانيا ومنها إلى بلغاريا، حيث تقومُ باخرة من فارنا في الحدود البلغارية إلى الآستانة.

ومن أهمِّ ما يُذْكَر في بودا قصر فخيم للإمبراطور يقيم به حين يجيء المدينة، ويستقبل كبراء المملكة ووزراءها ونوابها، وأمَّا النُّوَّاب فلهم مجلس خاصٌّ بهم على مقربة من الشارع الكبير في بست، وقد اشتُهر نواب المجر ببلاغتهم وفصاحتهم وغزارة معارفهم، وقام من بينهم فطاحل السياسة مثل أندراسي وتاف وتتسا وغيرهم، وهم أحرار في مبادئهم السياسية يميلون إلى التقدُّم مع الزمان، وقد سنُّوا لبلادهم نظامات حرَّة كثيرة الفائدة يحسدهم على مثلها النمسويون.

وفي بودا أيضًا المجلس البلدي للمدينة، وهو لا يختلف عن المجالس البلدية الأخرى في ترتيبه ونوعه، وفيها كنيسة مار متَّى المشهورة بُنِيَتْ في القرن الرابع عشر تجاه المجلس البلدي، كان ملوك المجر يعدُّونها خاصَّة بهم، وقد توِّج الإمبراطور فرانس جوزف الحالي ملكًا للمجر في هذه الكنيسة سنة ١٨٦٧. والذي يمكن وصفه في بودابست كثير وهي — كما تقدَّم القول — مدينة زاهرة عامرة، أهلها ذوو يسار ونعمة، وليس فيها ما في غيرها من قلاقل أهل الفوضى وكثرة الأحزاب، وأهلها راقون متعلِّمون لهم ولعٌ بالأمور المجرية وميل إلى وطنهم شديد، فلمَّا انقضت مدَّة زيارتي لهذه المدينة البهيَّة عُدتُ إلى فيينَّا ولكنني اخترت هذه المرَّة سكَّة الحديد بدل النهر حتى أرى الطريقين ما بين المدينتين، والخط يجري بإزاء النهر في أكثر الأحيان، ويتباعد عنه في مواضع فيدخل آونة بعد أخرى بلادًا كثير جمالها يضيق المقام عن وصف أحوالها.

الحَمَّامات المعدنية

معلومٌ أنَّ بلاد النمسا اشتُهرت بحمَّاماتها المعدنية التي تقوِّي الأجسام وتشفي من بعض الأمراض، حتى إنها صارت ملاذ الأكابر ومصيف الأمراء يأتونها مستشفين أو متفرِّجين، وأشهر هذه الحَمَّامات في مدينة كارلسباد سِرْنَا إليها بقطار سكَّة الحديد من فيينَّا فوصلناها بعد ١٢ ساعة، وهي مدينة مشهورة لا يقلُّ عدد الوافدين عليها كل سنة عن أربعين ألفًا، يأتونها من كلِّ حدب وصوب، وقد كَثُرَ ذهاب الناس من مصر إليها في الأعوام الأخيرة، واشتُهر أمرها بين الكثيرين. وفي كارلسباد ١٤ نبعًا للماء المعدني على أشكاله تختلف حرارته ما بين ٢٦ و٧٢ درجة بمقياس سنتغراد، قيل إن اكتشاف هذه الينابيع المعدنية كان بطريقة غريبة، هي أنَّ الملك كارل الرابع خرج للصيد في أحد الأيام، وبينا هو يتأثَّر الأيل في هذه البقعة رأى كلابه تتوجَّع من حرارة الماء، فأمر بإرسال كمية منه إلى الكيماويين ليحلِّلوه ويعْلَموا أمره؛ فعرفوا أنه يخالطه قلويَّات وأملاح تفيد الأبدان، واشتُهر أمرُ هذه الحَمَّامات بعد ذلك حتى كبرت المدينة ونَمَتْ من كثرة القادمين إليها، وفرضت المدينة ضريبة مقدارها عشرة فرنكات تتقاضاها من كلِّ قادم للبلد، وتنفق مجموع هذه الضرائب على تحسين المدينة وتسهيل الإقامة وتُوفير الراحة للقادمين، وقد بلغ دَخْلُ هذه المدينة في العام أربعمائة ألف فرنك مع أنها صغيرة لا يزيد سكانها عن خمسة عشر ألفًا، ولكن فيها نحو ٥٠ طبيبًا مدَّة فصل الاستحمام يدلُّون المريض إلى النبع الذي يجب الاعتماد على مائه، وما يلزم له من الأكل والشرب وغير هذا من النصائح اللازمة. والناس يخرجون كلَّ صباح إلى أماكن الاستقاء من الماء المعدني وفي أيديهم أقداح يتناولون الماء بها كلٌّ في دوره، وقد أوقفت البلدية رجالًا من البوليس لخدمة الناس والمحافظة على النظام بينهم، وَبَنَتْ أروقة وأبنية بديعة إلى جانبها يلجأ إليها الناس ويستريحون أو يقضُون ساعات الفراغ وهم يسمعون الأنغام الشجيَّة، وليس ينحصر دخل هذه الينابيع في الضريبة التي تتقاضاها الحكومة من القادمين، ولا في أجرة الحَمَّامات ولكنهم يصدِّرون من مائها مقادير عظيمة في زجاجات معروفة إلى كل ناحية، فقد بلغ عدد الزجاجات التي تصدَّر من كارلسباد كل عام ثلاثة ملايين زجاجة، وتسعين ألف رطل من الملح يخرج من ماء الينابيع، وبعض تلك الينابيع يندفع الماء منه بقوَّة كبرى مثل نبع سبرودل يرتفع ماؤه ١٣ قدمًا عند خروجه ويصبُّ في بِرْكَة نحو ٣٣ مترًا مكعَّبًا كل دقيقة، ودرجة حرارته ٧٢ سنتغراد، فيتناول الشاربون الماء مصًّا كمن يشرب القهوة أو الشاي، وأكثر الينابيع تجد فيها البنات يخدمن القادمين خدمة تنشرح لها الصدور، وهؤلاء الخادمات كثيرات أيضًا في المطاعم والمتنزَّهات المحدقة بالمياه المعدنية في كلِّ جانب، ولكلِّ خادمة منهن نمرة تُعْرَف بها، والمرء إذا فَرَغَ من الاستقاء عند الصباح ذَهَبَ إلى المطاعم المذكورة، وبعدها دار في تلك المتنزَّهات الكثيرة، وأهمها جبال تحيط بالبلدة وكلها غياض غضَّة من شجر الصنوبر الباسق تفوح روائحه العطرة في كلِّ جانب، وقد نُظِّمَتْ طرقات بديعة متعرِّجة للصعود إلى رأس تلك الجبال ووُضِعَت المقاعد في الطريق يستريح عليها الناس، وعُلِّقَتْ في بعض الأشجار أيقونات لمن يريد الصلاة في الطريق، وأهمُّ هذه الجبال جبل فرانس جوزف ارتفاعه ١٦٣٧ قدمًا، وجبل أبير ارتفاعه ٢٠٠٠ قدم وغيرهما.

وأمَّا المطاعم والفنادق في كارلسباد فكثيرة جدًا، تكفي لكلِّ الزائرين والنازلين وكلها تحت مراقبة الحكومة متَّبعة النظام الصحي، فلا أطعمة غليظة فيها ولا أفاوية حارَّة ولا فاكهة مضرَّة، وكلُّ الأماكن العمومية في كارلسباد تُقْفَل عند الساعة التاسعة من الليل، حتى إن المراسح تقوم بالتمثيل في النهار اتباعًا لرأي الأطباء وعملًا بما يفيد المستشفين، وهم الفريق الأكبر من زُوَّار المدينة يأتونها من كلِّ جنس وملَّة، وإني أذكر أنِّي اجتمعت على مائدة واحدة للطعام برومي وفرنسوي وإنكليزي وبلغاري، ورأيتُ جماعة كثيرة من الوُجَهاء المعروفين في مصر.

ومن المواضع المشهورة بحمَّاماتها المعدنية قرية جيسهبلر، يُصدَّر من مائها المعدني مقادير وافرة إلى كلِّ جهة، فيشربه الناس صِرْفًا أو ممزوجًا بالخمر، وهي تبعد نحو ساعتين عن كارلسباد، سِرْنَا إليها من المدينة المذكورة في طريق كله غياض كثيفة لا يُرَى شعاع الشمس فيها من كثرة الشجر إلا في مواضع قليلة. وقد كانت أرض جيسهبلر هذه مِلْكًا لواحد من أمراء النمسا، فلم يستفد منها شيئًا وباعها لرجل ذي همَّة وذكاء اسمه الخواجة ماتوني، ما عتم أن ملك تلك الأرض حتى عني باستخراج مائها الشافي وجعل يصدِّر منه المقادير العظيمة، ويعلن في الجرائد عن فائدته ويَسْعَى في تعميم استعماله حتى نال شهرة عظيمة، وأثرى الرجل وصار عنده مال طائل، فنقل بيته إلى هذه الجهة وقَطَعَ أشجارًا كثيرة بنى محلَّها قصرًا جميلًا له ولعائلته، ومساكن للعُمَّال الكثيرين الذين يشتغلون في تعبئة الزجاجات ماءً وإصدارها إلى بقية الجهات، وهم مئات يعملون في الليل والنهار بعضهم يتلقَّى الماء من النبع، وبعضهم يملأ الزجاجات ماءً وبعضهم يسدُّ الزجاجة، وبعضهم يلصق عليها أوراقًا باسم المحل وصاحبه، وبعضهم يضعها في الصناديق المعدَّة لنقلها حتى إذا مُلِئَت الصناديق نُقِلَتْ إلى الجهات الكثيرة، ومعظمها يُرسَل إلى البلاد الحارَّة، وهي تجارة رابحة دائمة لا وقوف لحركتها مدَّة العام بطوله، وقد بنى الخواجة ماتوني أيضًا حدائق وفنادق للزائرين، وجعل هذه البقعة ذات أهمية كبرى، وسمِّي هذا الموضع بالميزاب؛ لأنه يدرُّ الذهب على صاحبه كما يدرُّ الميزاب ماء العين. والمكان بوجه الإجمال من أنسب الأماكن للاستشفاء؛ لأن هواءه نقي، والمناظر المحيطة به في الدرجة الأولى من البهاء والرواء.

ومن هذا القبيل أيضًا مدينة ماريمباد تقْرُبُ من كارلسباد في شُهْرَةِ ينابيعها المعدنية، وهي تفيد في تقليل السمن، وعلى مقربة منها بلدة اسمها فرانسس باد تزيد المستحمِّين بمائها سمنًا، وأكثر الذين ينتابون هذه الحَمَّامات المعدنية سيدات من اللواتي يعتنين بأجسامهنَّ، فترى في ماريمباد جماعات منهنَّ سمينات يشربن ماءها ويغتسلن ليذهب قليل من سمنهنَّ، وقد جعل جلالة ملك إنكلترا يقصد هذه الحَمَّامات كل سنة في العهد الأخير؛ فزاد إقبال الناس عليها زيادةً كبرى، وأمَّا السيدات اللواتي يجتمعن في فرانسس باد فيُردن من ذلك اكتساب السمن، وقد كانت ماريمباد مجموع غابات وحراج من شجر الصنوبر وغيره فليس يخلو منه موضع إلا حيث قُطِعَ وأُقيم في محلِّه بناء. وأكثر أبنية المدينة جديدة وهي وافرة التنظيم والجمال، ولها شوارع فسيحة نظيفة وفسحات عدَّة يحيط بها كلها شجر الصنوبر تتضوَّع منه الرائحة المعروفة فتزيد المكان فائدةً وجمالًا، ويبلغ عدد الوافدين على ماريمباد ١٥ ألفًا كل عام، ويُصدَّر منها مليون زجاجة من الماء المعدني كل سنة إلى الخارج، ولهذه المياه شهرة واسعة، ولمَّا استقرَّ بنا النوى في هذه المدينة دُرْنَا نتفرَّج على مشاهدها الطبيعية وآيات جمالها، فجلستُ في قهوة اسمها قهوة جرلانديا بُنِيَتْ فوق جبل يُشْرِف على بحيرة طبيعية في سهل واسع الجوانب، وله منظر مفرِط الجمال، وفيه الفتيات البوهيميات المشهورات بالرشاقة واللباقة يخدمنَ القاعدين في القهوة وهنَّ لابسات الزي البوهيمي، وهو قُبَّعَة صغيرة على رأس الفتاة وصدر مكشوف وسواعد ظاهرة وجلباب قصير إلى ما تحت الركبتين بقليل، وقد عُلِّقَتْ في أعناقهنَّ سلاسل من الفضة، وهنَّ يخدمن بنشاط وهمة تزيد في رونق ذلك الموضع وتتمِّم آيات حسنه وجماله، وقد زرتُ الينابيع المعدنية، وسرتُ تحت رواق عظيم الطول قائم على عُمُدٍ كثيرة، وهو محلُّ الاجتماع العمومي تَصْدَح به الموسيقى، وعلى مقربة منه أناس من أهل البلاد يبيعون قطعًا خشبية عليها نقوش وكتابات يجعلونها تذكارًا لزيارة هذا المكان، أو أواني الخزف البوهيمي المعروف، وهي كثيرة في كلِّ بلاد.

وبرِحْتُ هذه المدينة الجميلة قاصدًا بلاد ألمانيا فعرَّجْتُ على درسدن عاصمة مملكة سكسونيا، يقيم فيها ملك البلاد ووزراء دولته، وسكسونيا مملكة من ممالك ألمانيا المهمَّة عُرِفَتْ بالتقدُّم في العلم والصناعة إلى الدرجة القصوى، ولعاصمتها المذكورة شهرة فائقة في معاملها ومدارسها العالية ومعارض الفنون الجميلة فيها، ويبلغ عدد سكانها نصف مليون نفس، وهي مبنيَّة على ضفَّة نهر الألب الذي يشطرها شطرين متساويين ويزيد منظرها رونقًا وحسنًا، لا سيَّما وقد بنوا فوقه الجسور البديعة، أشهرها جسر أوغسطس طوله ٤٠٠ متر وعرضه ١٣. وفي هذه المدينة ٤ محطات لسكَّة الحديد تُنْقَل منها المصنوعات السكسونية — ومن أهمِّها الخزف — إلى بعيد الأقطار، ويظهر منها ومن كلِّ جهة أخرى في هذا البلد العظيم أثر الجدِّ والنشاط على وجوه الأهالي، ويكثُرُ مرور السفن والبواخر في نهر الألب مارَّة بين أحياء المدينة، وهي قاصدة أنحاء سكسونيا التي يرويها هذا النهر. ولقد شهدتُّ فيها من القصور والمتاحف شيئًا كثيرًا لم أرَ حاجة إلى ذكره، فأتقدَّم إلى وصف بقية مدائن السلطنة الألمانية بعد شيء من خلاصة تاريخها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤