البلجيك

خلاصة تاريخية

تقدَّم معنا أنَّ تاريخ هذه البلاد مرتبط بتاريخ هولاندا التي أتينا على وصف الأهمِّ فيها، ولا بدَّ من القول هنا إن بلاد البلجيك هذه كانت جزءًا من بلاد أعظم وأكبر تُعْرَف بهذا الاسم نسبةً إلى القبائل القديمة التي عَمَرَتْ هذه البلاد واسمها «بلجا» امتدَّت أطرافها إلى نهر الرين من جهة ونهر السين من جهة أخرى، وكان أول ما روى المؤرِّخون عنها أن يوليوس قيصر القائد الروماني المشهور وصلها في حروبه مع القبائل الشمالية؛ فأخضعها في سنة ٥٢ قبل التاريخ المسيحي، وظلَّت من ملحقات السلطنة الرومانية نحو أربعمائة عام حتى ضمَّها كلوفيس إلى أملاكه، وكان كلوفيس هذا أول ملوك فرنسا من الدولة الميروفنجية، وظلَّت البلاد جزءًا من فرنسا إلى ما بعد موت شارلمان المشهور وتجزئة مملكته فانقسمت أجزاء، وكان كلُّ جزء منها قائمًا بنفسه ثم أُلحق بعضها بفرنسا وبعضها بألمانيا، ولكنها حافظت في كل تلك المدة على استقلالها في الشئون الداخلية وتقدَّمت تقدُّمًا يُذْكَر. وفي القرن الخامس عشر صارت هذه البلاد كلها مِلْكًا لملوك فرنسا بحكم الوراثة، ثم انتقلت إلى ملوك النمسا ثم صارت من أملاك إسبانيا وعادت في القرن الثامن عشر فصارت من أملاك النمسا حتى عام ١٧٩٥ حين ضُمَّت إلى فرنسا على عهد الجمهورية الأولى، ولكنها عادت واستقلَّت بمساعدة دول أوروبا في سنة ١٨١٣ وصارت مع هولاندا مملكة واحدة كما علمت في تاريخ هولاندا، فَفُصِلَتْ عنها سنة ١٨٣٠ بطلب أهل البلجيك وعُيِّنَ البرنس ليوبولد من آل ساكس كوبرج ملكًا عليها، ومن ذلك الحين أقرَّت أوروبا استقلالها وعُزْلَتَها وجعلتها بمثابة الحاجز بين أملاك ألمانيا وفرنسا؛ فزهت البلاد ونمت نماءً عجيبًا حتى صار فيها نحو سبعة ملايين ونصف مليون مع أنَّها أرض صغيرة، فهي أكثر بلاد أوروبا خلقًا وعمرانًا بالنسبة إلى ضيق أرضها، وفي هذا دلالة كافية على تقدُّمها. وملكها الحالي ليوبولد الثاني تولَّى إدارة أمورها على الطريقة الدستورية المعروفة وساعدته التقادير على إنشاء سلطنة كبيرة لا يقلُّ عدد سكانها عن عشرين مليونًا في بلاد الكونجو بإفريقيا، فَفُتِحَت الأبواب لمتاجر البلجيكيين واتسع النطاق لصناعتهم وهم الآن يُعَدُّون من أهل الطبقة الأولى في الصناعة والتجارة، ولهم شهرة واسعة في المصانع الحديدية، وفي الهمَّة والإقدام على الأمور العظيمة لا يجهلها المصريون، وهم يرون من آثارها شركة الترامواي في مصر وإسكندرية وغيرها من الشركات التي تجمع الأرباح الوافرة، والبلجيكيون من نوعين، أكثرهما عددًا الفلمنكي والثاني النوع الولوني، والكل يتكلَّمون الفرنسية وهي لغة البلاد الرسمية، ولكن في معظم القرى الشمالية تُعَدُّ الفلمنكية لغة أهل البلاد، وأكثر الأهالي من الطائفة الكاثوليكية.

figure
ألبير الأول ملك البلجيك.

أنفرس

لمَّا انتقلنا من هولاندا إلى بلاد البلجيك وصلنا مدينة أنفرس هذه واسمها عند الإنكليز والأميركان أنتورب، وهي أعظم الفرض البلجيكية ولها أهمية في التجارة عظيمة؛ لأن ميناها من أجمل المين تُنْقَلُ منه وإليه معظم متاجر البلجيكيين على اتساعها، ويحيط البحر بها من الجهات الأربع كلها تقريبًا بحيث إن الساكن فيها يرى البواخر تمخر في البحر عن يمينه ويساره ومن أمامه وورائه. وفي هذه المدينة نحو ثلاثمائة ألف نفس، ولها علاقات كبرى بجميع البلدان حتى إن الإنكليز والفرنسيس والأميركان أنشئوا بواخر خاصَّة تروح وتغدو بين أنفرس ومين بلادهم، وقد بُنِيَتْ أحواض وأرصفة في هذا المينا عظيمة القدر والقيمة حتى تفيَ بمراد المتاجرين وأصحاب الشركات والبواخر الكثيرة، فما تَرَكَ أهل البلد وسيلة لهذا الغرض إلا وأتوها من أيام نابوليون إلى هذه الأيام حتى إنك إذا زُرْتَ هذا المينا العظيم الآن ترى من السكك الحديدية والأرتال والأبضعة الموضوعة ركامًا وتلالًا. والآلات الرافعة تُدار بقوة البخار وتَنْقل هذه الأبضعة من البواخر إلى المخازن أو بعكس ذلك، وغير هذا مما يدلُّ على عظمة المدينة واجتهاد أهلها وأهمية التجارة البلجيكية التي يُعَدُّ هذا البلد مركزها ومفتاحها، ويمرُّ على خطوط هذا المينا كل يوم أكثر من ٢٥٠٠ عربة مشحونة بالأبضعة تفرغ في الأحواض المختلفة، وأهمها الحوض الكبير خُصِّصَ لمتاجر المملكة البلجيكية ومساحته ٩٤٠٠٠ متر مربع، وهنالك حوض آخر اتساعه ١٣١٠٠٠ متر مربَّع خُصِّصَ لتجارة البلاد مع أوروبا، وحوض ثالث خُصِّصَ لمتاجر البلاد مع الشرق والديار القاصية، وكنَّا في غربة ندور حول هذه الأعمال العظيمة فلَزِمَ للتفرُّج عليها كلها ثلاث ساعات.

نزلت في فندق أوروبا وهو في موقع بديع؛ لأنه في طرف ميدان يُعْرَف باسم الميدان الأخضر لكثرة ما فيه من الشجر، وهنالك تصدح الموسيقى في كلِّ يوم بعد الظهر فيتألَّب الناس جماعات كثيرة؛ لسماع الأنغام تحت ظِلِّ الشجر وهم يخطرون بين صفوف الخضرة النَّضرة على مهْلٍ؛ فيرى المتفرِّج على تلك الجماهير ما يشرح الصدر من اختلاف الأشكال وأدلَّة الترف، وتوجَّهتُ يوم وصولي إلى مرسح واسع تلعب فيه الأفيال والخيل ألعابًا مختلفة، منها أنَّ الفيلة ترقص على الأنغام رقصًا إفرنجيًّا من النوع المعروف عندهم بالكادريل، فيكون لها في ذلك منظر غريب، وقد قضى صاحب هذا المحل زمانًا طويلًا على تعليمها حتى أوصلها إلى هذه الدرجة، وبدأ يجمع من رقصها المال. وفي اليوم الثاني دخلنا كنيسة أنفرس الكبرى، وهي أجمل ما في هذه المدينة من المعابد وأكبر كنائس البلجيك طُرًّا يشبِّهها القوم بكنيسة باريس المشهورة المعروفة باسم «نوتردام»، وفي هذه الكنيسة رسوم ونقوش وآثار تستحقُّ الذكر؛ أهمها صورتان من رسم روبان الشهير أنجزهما في عامي ١٦١٠ و١٦١٢، فهما تُعَدَّان من أجمل الآثار الباقية من القرن السابع عشر، وقد جعل الصورتين للدلالة على صَلْبِ المسيح وارتفاعه عن الصليب فعُلِّقَتَا في جدار الكنيسة وغُطِّيتا بالحُجُبِ لا تُرْفَع عنهما إلا متى انتهى المصلُّون من عبادتهم وبقي المتفرجون فتنزاح تلك الحُجُب، ويدور خادم المعبد يتقاضى من كل متفرِّج فرنكًا رَسْم مشاهدتها وهو يفعل ذلك في كل حين لكثرة الزائرين. ورأينا كنيسة أخرى في هذه المدينة وهي قديمة العهد بُنِيَتْ سنة ١٦٠٠، وفيها حفر على الخشب يمثِّل ملائكة الجنان والقدِّيسين والحواريين، وكلُّ ذلك من صنع الرجال الماهرين.

ولا حاجة إلى القول إن هذه المدينة على اتساعها وكثرة المتردِّدين إليها من الأجانب بسبب مركزها التجاري تحوي شيئًا كثيرًا من المراسح والملاهي والمشاهد، ولكننا لم نذكر هنا غير المهمِّ منها فنقدم من ذلك إلى ذكر عاصمة البلاد.

بروكسل

قصدنا بعد أنفرس هذه العاصمة البهيَّة، ووجدنا أنَّ الذي قاله الواصفون عن محاسنها لا يزيد عن الحقيقة، وما أخطأ الذين أطلقوا عليها اسم «باريس الصغيرة»، فإن عاصمة البلجيك أكثر مدن الأرض زهاءً وبهاءً وبهجةً بعد مدينة باريس، وهي تقرب منها في أوضاعها ومناظرها، وبنوع أخص في طباع أهلها وأميالهم وأهوائهم وعوائدهم، وقد بُنِيَتْ هذه المدينة على مرتَفَعٍ من الأرض تحته وادٍ غير عميق، فهي بهذا تُقَسَّم قسمين: أحدهما علوي والآخر سفلي، وفي كلٍّ منهما ما يستحقُّ الذكر والوصف من المشاهد العظيمة، والقسم السفلي من هذه المدينة الزاهرة مركز الحركة التجارية فيها، وهو القديم من قسميها، وفيه البورصة وإدارة البوسطة العامة ومجلس البلدية، وفيه من الشوارع المغروسة فيها الأشجار ما يشبه شوارع باريس الكبرى (البولفار)، وأهمها شارع إسبناخ ثم شارع الشمال ثم شارع هينو، وكلها متصلة بعضها ببعض، وهي ذات سعة وجمال بديع رُصِّعَتْ بالمخازن المزخرفة بأشكال البضائع والحانات المرتَّبة على أجمل مثال والمطاعم النظيفة وغير هذا مما يكثر وجوده في كل مدينة عظيمة، ومن أعظم ما يُرَى في هذا القسم من بروكسل سراي المجلس البلدي، وهي كانت قصر الملوك السابقين الذين حكموا بلاد البلجيك بُنِيَتْ في ساحة كبرى على مقربة من البورصة، وقد عُني الصُّنَّاع الماهرون بزخرفتها ونقشها حتى جعلوها من أجمل المشاهد وطلوا ظاهرها بماء الذهب فزادوها رونقًا وبهاءً، وفي داخل هذا البناء صور الملوك الذين درجوا، بعضهم هولانديون والبعض نمسويون والبعض فرنسويون، والكل بالملابس التي كانت مستعملة في أيامهم، فالنظر إلى هذه الصور من وجهٍ تاريخي يلذُّ لطالب الحقيقة؛ لأنه يمثِّل له حالة أوروبا في العصور المتوسطة على أوضح الأشكال، ويذكِّره بما فعل أولئك الأقيال، وما حاربوا وما عانوا من هياج الأمة، فإن البلجيكيين قرَّروا الاستقلال من الحكومة الهولاندية في هذه الدار، وقطعوا رأس ٢٥ كبيرًا من كبراء الهيئة الحاكمة في غرفة من غرفها، هذا غير أنَّ الصور المجموعة في هذا القصر تمثِّل تاريخ البلجيك كله فيمكن لطالب المعرفة أن يدرسَ تاريخ البلاد من تلك الصور.

وأمَّا القسم العلوي من هذه المدينة — وهو القسم الحديث — فأهمُّ كثيرًا من الذي مرَّ ذكره، وفيه مجموع عظمة بروكسل وبهائها الحاليين؛ لأن فيه قصر الملك وندوة النواب والأعيان والأبنية الفخيمة الخاصة بالوزارات ودور الأمراء من الأسرة المالكة في هذه البلاد الآن، وسراي المحكمة وفنادق عظيمة وحوانيت بديعة الصنع ومخازن وافية الترتيب، وغير هذا شيء كثير، وإنِّي قصدتُ هذا المكان من فندقي صعدًا؛ لأنه — كما علمت — مبنيٌّ فوق أكمة كبيرة، وبلغت ساحة تُعْرَفُ باسم الساحة الملوكية أُقيم فيها تمثال الأمير البلجيكي جوفروا دي بويون، وهو أمير اشتُهر في الحروب الصليبية المعروفة شهرة زائدة، ومثُل هنا في حالة الحرب والجهاد، وقد نُصب هذا التمثال في سنة ١٨٤٨ وكُتِبَ على قاعدته ما يأتي «جوفروا ده بويون ملك القدس الأول، وُلِدَ في مدينة بندي بالبلجيك وتُوفِّي في فلسطين يوم ١٧ يوليو سنة ١١١٥، وقد نُصِبَ هذا التمثال في حكم الملك ليوبولد الأول سنة ١٨٤٨.» وعلى الجوانب الأربعة ذكْر حروب جوفروا هذا وأعماله، وهو في موضع يكثر مرور الناس منه. وفي هذه الساحة فندق فلاندر وهو أعظم فنادق المدينة وأفخمها وإلى جانبه فندق المنظر الجميل (بيل فو) يتَّصل بقصر الملك ليوبولد، وليس لهذا القصر من الخارج منظر يميِّزه عن منازل الكبراء والأغنياء، فلا يعْرِفُ الغريب أنه للملك إلا إذا أتاه العلم من غيره لا سيَّما وأنَّ القصر ملاصق لفنادق وأبنية أخرى، ويكثر أن تكون قصور الملوك داخل أسوار وحدائق خاصَّة بها لا تتصل بسواها، ولم يمكن دخول هذا القصر؛ لأنهم لا يأذنون بذلك في كلِّ حين، ولكن دخول الحديقة التابعة له مباح، فدخلتُهَا مع الداخلين ودُرْتُ في جوانبها على صوت الأنغام تَصْدَحُ بها الموسيقى العسكرية، ويتصل طرف هذه الحديقة بمجلس النُّوَّاب والشيوخ والنِّظارات، وقد أُقيمت عند مدخل المجلس تماثيل تدلُّ إلى العدل والقوة والحلم والحكمة، وغير هذا مما يعدُّونه شعارًا للحكومة الدستورية.

ولمَّا انتهيت من رؤية هذه المشاهد عُدْتُ إلى الساحة الملوكية لأذهب منها إلى المحكمة أو قصر العدلية كما يسمُّونها، وهي ذلك البناء الفخيم الذائع الصيت في الآفاق يُعَدُّ من معجزات الإتقان في هذا الزمان إذا عُدَّت الأبنية العظيمة في الأرض كان هو في أولها؛ ولذلك ترى رسومه في كلِّ جهة من جهات الأرض ولطالما قال الناس إن هذا القصر الفخيم كثير على محاكم بروكسل، وإنه لا يجدر بدولة البلجيك الصغيرة أن تقيم أثرًا عظيمًا كهذا في عاصمتها ليس له نظير في أكبر عواصم الأرض وأعظم ممالكها، شرعوا في بناء هذا القصر سنة ١٨٦٦ فانتهوا من البناء سنة ١٨٨٣، أعني أنهم اشتغلوا به ١٧ عامًا وأنفقوا عليه أكثر من مليونَي جنيه، وهو قائم على طرف القسم العلوي من المدينة ومن دونه القسم الواطئ، فالذي يقف فيه يرى القصور والأبنية الشاهقة في ذلك الوادي مثل الأكواخ الحقيرة أمام منظره الفخيم، يكتفي السائح الذي يقصد بلاد البلجيك أن يدخلَ هذا القصر ويدور في داخله وخارجه ويتنقَّل في غُرَفِه وقاعاته ورَدَحَاته ودرجاته وقباته وعُمُدِه وبقية غرائبه، فإنه إذا لم يرَ في بروكسل غيره لم تعد زيارته بلا فائدة. ويشغل هذا البناء أرضًا مساحتها ٢٤٦٠٠ متر مربع، طوله ١٨٠ مترًا وعرضه ١٧٠ وعلو قبَّته ١٢٢، وفيه ٢٧ قاعة كبرى يمكن أن يجتمعَ في كل منها مئات من الناس، و٢٤٥ غرفة متوسطة الحجم للمداولات والتحريرات وغير هذا، وثمانية ردحات كبيرة تحيط بها القاعات والغرف إحاطة النجوم بالشمس، وأكثر هذا البناء العظيم من الرُّخام الأبيض المصقول، إذا تأمَّلته من الخارج أو من الداخل وجدتَّ له رونقًا وبهاءً كثيرًا، وقد جُمِعَتْ فيه علوم المتأخرين الهندسية والصناعية كلها، فما ترك البلجيكيون واسطة حتى أتوها لإتقان هذا القصر، وجعلوه بذلك من مشاهد الدنيا المعدودة، ولعلَّه أجمل محكمة في الوجود. ودخلت بعض الغرف وفي جملتها غرفة الاستقبال كلها رخام بديع الصُّنْعِ حتى إن جدرانها من الرُّخام الملوَّن أسفلها أسود لمَّاع وفوقه أحمر قانٍ، ومن فوقه إلى السقف أبيض ناصع، ولهذه الصفوف الثلاثة منظر بديع يؤثر في الناظرين. وقد قامت القاعة كلها على أعمدة من الرخام أيضًا كثيرة الزخرف، فإذا جلس المرء في صَدْرِ هذه القاعة وتأمَّل محاسنها شعر بعظمة في نفسه، وأقرَّ بالفضل للذين بنوا هذا الأثر الجليل، ومساحة هذه القاعة ٣٦٠٠ متر مربَّع، وهي نظرًا إلى هذه السعة يرجع فيها صدى الصوت ويرنُّ مدة دقيقة واحدة فيزيدها مهابةً ووقارًا، ودخلنا قاعات الجلسات للمحاكم الابتدائية ومحاكم الاستئناف، وكلها وُضِعَتْ على أجمل مثال فيها الكراسي للقضاة من خشب الأبنوس غُطِّيَتْ بالقطيفة الحمراء، وفي صدر القاعات تماثيل العدل والقسطاس وكلها رموز، منها شكل سليمان الحكيم في كرسي القضاء وإلى يمينه ميزان العدل وإلى يساره شكل امرأة تحمل طفلًا.

وجملة القول أنَّ الساحة الملوكية في بروكسل تُعَدُّ من أجمل الساحات لما يحيط بها من المشاهد العظيمة. وعلى مقربة منها متحف الفنون الجميلة مثل النقش والتصوير فيه من الرسوم ما يسْتَغْرِقُ الكتب وصفه. ويليه قصر الكونت ده فلاندر عم الملك، وهو رجل طويل القامة طولًا ظاهرًا، رأيتُهُ يتمشَّى إلى جانب قصره مع أحد القُوَّاد العسكريين وقد اضطرَّه الطول إلى الانحناء فلازمه وصار فيه طبعًا. ويتفرَّع من هذه الساحة أجمل شوارع المدينة وأبهاها، غُرِسَ إلى جانبيها الشجر الجميل، ولها اتساع يكفي للعربات الذاهبة والآيبة، وأرصفة عريضة للمارَّة من الناحيتين، فهي تُسَمَّى عندهم باسم «الشانزليزه»، وهو المتنزَّه المعروف في باريس لقُرْبِهَا منه في المناظر، والناس يقصدونها عصاري كل يوم من كل صَوبٍ فتراهم زرافات ووحدانًا، يتمشَّى منهم الرجال والنساء أو يسوقون العربات أو يجرون على الدرجات، أو يمتطون صهوة الجياد الصافنات فيكون من مجموعهم مشهد من أجمل المشاهد للمتفرِّج أو المتنزِّه. ولمَّا تركتُ هذه الجهة سِرْتُ في الشارع الملوكي إلى حديقة النبات، وهي من الحدائق المشهورة في أوروبا وُضِعَتْ في منحدر من الأرض، فهي إذا وقف المتفرِّج في أعلاها رأى من دونه صفوف الخُضْرَة النضرة وأشكال النبات العجيب والشجر البديع من كل نوع تعشقه العين، وقد جمعوا في هذه الحديقة من غرائب النبات ما ينمو بعضه في البلاد الحارَّة، فغرسوه في حديقتهم داخل بيوت من الزجاج يُضْرِمُون النار من تحتها لتوليد الحرارة اللازمة لإنمائه؛ فينمو هنالك كأنه لم يُنْقَل من موضعه في أواسط أفريقيا أو أميركا الجنوبية، وبعد أن سرَّحنا الطَّرْفَ مليًّا في هذه الحديقة الشهيَّة توجَّهنا إلى القصر الثاني للملك، حيث يقيم أكثر أيام وجوده في بروكسل، وله حديقة من أجمل ما اكتحلت بمرآه العين وطرقات في وسط الأشجار والأزهار وبحيرات من الماء لها جمال غريب، وكان الجرس الملوكي واقفًا على باب القصر وهيئة المكان بوجه الإجمال تدلُّ على الملك أكثر من هيئة القصر الآخر الذي مرَّ ذكره، فتأملناه من الخارج؛ لأن الدخول غير مباح للمتفرِّجين، وقد مرَّ على هذا القصر زمان فإنه بناه أحد الولاة الهولانديين لمَّا كانت البلاد تابعة لتلك المملكة ثم استولى عليه نابوليون الأول، وجعله محلَّ إقامته من سنة ١٨٠٢ إلى ١٨١٤ وفيه أصدر أمره بإشهار الحرب على روسيا في سنة ١٨١٢، ويُقال إنه ظلَّ بعد ذلك يعُدُّ بروكسل وهذا القصر شؤمًا ويتطيَّر من ذكرهما إلى يوم وفاته؛ لأنه غُلِبَ في واترلو، وهي بلدة تقرب من بروكسل — سيأتي ذكرها — وكانت واقعة واترلو هذه الضربة القاضية على عزِّه، وبدأ نجم سعده بالأفول من بعد الحرب الروسية التي أَمَرَ بها في قصر بروكسل هذا، فكانت عاصمة البلجيك وقصرها شؤمًا عليه ومقدِّمة هبوطه على ما يزعم، وهو مع اتساع مداركه وعظمته كان كثير التشاؤم راسخ الاعتقاد بمثل هذه الأمور، وعاد هذا القصر بعد خروج البلجيك من قبضة فرنسا إلى أصحاب البلاد في سنة ١٨١٥، وتُوفِّي في إحدى غرفه ليوبولد الأول مؤسِّس الدولة المالكة حالًا وكانت وفاته في سنة ١٨٦٥، فأُقيم له تمثال بديع الصُّنْع ونُصِبَ على أكمة تُسَمَّى أكمة الرعد على مقربة من هذا القصر، وقد بُني عليها برج هرمي يُصعد إليه من الداخل بسلَّم مستدير الشكل، إذا رقي المرء أعلاه رأى قسمًا كبيرًا من مدينة بروكسل وبعض أجزائها تُرَى من ذلك الموضع بكل ما فيها، ويلي هذا البرج كنيسة مشهورة يصلِّي فيها الملك لقربها من قصره وفي ساحتها مدفن الملوك والأمراء، من ذلك قبر ليوبولد الأول مؤسِّس الدولة — وقد ذكرناه غير مرة — وولي العهد ابن ليوبولد الثاني تُوفِّي سنة ١٨٦٩، والبرنس بدوين ابن أخي الملك وكان ولي عهده تُوفِّي سنة ١٨٩١، ووراء هذا المدفن المقبرة العامة تُعْرَفُ باسم بير لاشيز تشبيهًا لها بمدفن في باريس يُعْرَف بهذا الاسم أيضًا، وهناك من الأضرحة وأشكال النقوش والرموز شيء كثير.

وكان في بروكسل يوم زرتها معرض بديع لشركة من البلجيكيين والإنكليز استأجرت قطعة من الأرض وأقامت معرضًا مثَّلت فيه هيئة مدينة البندقية «فنيس» الكائنة في إيطاليا، وكانت هذه الشركة قد أقامت هذا المعرض في لندن وكأنما هي نقلت مناظر البندقية وترعها وشوارعها وقصورها وجسورها وزوارقها إلى لندن على طريقة غريبة، فكان الذي يدخل هذا المعرض يظنُّ أنه في البندقية نفسها لا في مدينة أخرى، وتَقَاطَرَ الناس على ذلك المعرض مدة وجوده وهي ستة أشهر فقط، فربحت الشركة من ذلك أموالًا طائلة تزيد خمسة أضعاف عن رأس مالها، والذي دَفع من المساهمين ألفًا أخذ في نهاية الأشهر الستة خمسة آلاف، فلمَّا رأى رجال الشركة هذا النجاح الباهر؛ نقلوا معرضهم بصوره وأكثر أشكاله إلى مدينة بروكسل، وحفروا الترع وبنوا الجسور والزوارق وجاءوا بالعمال من مدينة البندقية نفسها، فكنتَ إذا دخلتَ ذلك المعرض في بروكسل تسمع اللغة الإيطالية ولا ترى غير مناظر مدينة البندقية فتظن أنَّ تلك المدينة العجيبة انتقلت بقوة الآلهة أو بفعل السحر الذي يفوق العقول من موضعها، وفي ذلك من معجزات العلم والهمَّة ما لا يخفى، وكان رأس مال المعرض المذكور كبيرًا جُمِعَ بالاكتتاب فربح أصحاب المشروع منه أموالًا وفيرة. وهنا يتضح للقارئ مَزِيَّة التشارك والتعاون على قضاء المهمات الكبرى، فإن كثيرًا ما يتوفَّر منه الربح لا يمكن لفردٍ واحد، فإذا تعاون عليه أفراد وتشاركوا على إنجازه ربح الكل منه وغنموا ما يملأ الجيوب كما غنمت شركة معرض البندقية في بروكسل وفي لندن من قبلها.

وقد كُنْتُ مدة وجودي في هذه المدينة كثير التردُّد على حرجة بديعة تُسمَّى بوا ده لاكامبر، وهي مثال الغابة الباريزية المعروفة باسم بوا ده بولون، وفي هذا المحل الغريب بحار من الماء وبحيرات تتخلَّل الخُضْرَة، وجزيرة من أرض الغابة تحيط بها المياه فيصل إليها القاصدون بالزوارق، وهم يسمُّونها جزيرة روبنصن يأتيها الناس أفواجًا كثيرة في كل حين، فيدورون بين تلك الأشجار وينثنون ملتفِّين حول تلك الجداول وهم يسمعون الأنغام المطربة تصدح بها الموسيقى العسكرية.

هذا، ولا بدَّ للذي يزور بروكسل من التنزُّه في أطرافها وضواحيها وهي كثيرة العدد وافرة البهاء، متصلة بعضها ببعض من العاصمة إلى جميع أطراف المملكة حتى إن المسافر إذا سار من أول البلجيك إلى آخرها طولًا وعرضًا لم يسر على قدميه أكثر من نصف ساعة في أرض بلا بناء، فكأن البلاد مدينة واحدة، وهنا الدليل الأظهر على عمران البلاد وتقدُّمها العظيم وتوفُّر أسباب العدل والراحة فيها، وأشهر الضواحي لعاصمة البلجيك هي واترلو، حيث حدثت أعظم معارك التاريخ الحديث وأنتجت أعظم النتائج، وكانت بين نابوليون العظيم من جانب وبين جنود الإنكليز وبعض مناصريهم من الجانب الآخر، انتصر فيها الديوك أوف ولنتون القائد الإنكليزي على نابوليون، وأعانه على النصر الجنرال بلوخر البروسي وبعض الجنود الفلمنكية، ولمَّا كانت معركة واترلو — كما قلنا — أعظم معارك الآدميين في التاريخ الحديث، وقد بُنِيَتْ على نتائجها دول أوروبا الحالية، فلا نرى بدًّا من شرح يسير عنها إتمامًا للفائدة فنقول:

كان نابوليون بونابارت — كما يعلم القُرَّاء — أكبر قُوَّاد زمانه وأوصل فرنسا بحروبه إلى قمَّة المجد، ولكنه جعل أكثر دول أوروبا من أعدائها ولا سيما دولة الإنكليز التي حاول جهده إرغامها ولم يمكن له ذلك؛ نظرًا لقوتها في البحر وتحاربت جنود نابوليون والجنود الإنكليزية مرارًا في البر، فكان النصر في أكثر المواقع للإنكليز حتى إذا رأى هذا القائد العظيم ذلك، قصد ملاقاة الديوك أوف ولنتون — وهو أعظم قُوَّاد الإنكليز يومئذٍ — ومحاربته بنفسه، وجعل ذلك في سهول واترلو التي ذكرناها، وكانت إنكلترا قد اتفقت مع البلجيك وبروسيا على أن تُعِينَاها في الحرب لردِّ غارة نابوليون وإرغامه فاجتمعت العساكر الإنكليزية في تلك السهول يوم ١٧ يونيو من سنة ١٨١٥، وكان معها بعض الجنود البلجيكية، ثم جاءت الجنود الفرنسوية وعسكرت على مقربة منها، وكان يفصل بين الفريقين وادٍ صغير، وفي يوم ١٨ يونيو بدأ القتال فهجم الجنرال ناي — أحد قواد نابوليون — على صفوف الإنكليز هجومًا عنيفًا، واخترق من معسكرهم صفوفًا، فلمَّا رأى البلجيكيون فِعْلَه فرُّوا هاربين وتركوا الإنكليز وحدهم يحاربون الفرنسويين، فثبت الإنكليز على هجمات الفرنسيس، ودارت رَحَى الحرب من كل جانب، فحُصِدَ الرجالُ من الجانبين ألوفًا، وكان كلٌّ من نابوليون وولنتون لا يغفل طَرْفَة عين حتى إذا كان آخر النهار؛ وصلت الجنود البروسية التي كانت قادمة لنجدة الإنكليز تحت قيادة الجنرال بلوخر الذي ذكرناه، فدخلت في معامع القتال بلا إمهال، وقضت على آمال الفرنسويين قضاءً محتمًّا، وبذلك تمَّ النصر للجانب الإنكليزي في معركة واترلو، وكانت هي أول معركة كبيرة حضرها بونابارت بنفسه وكُسِرَ فيها، وأكبر معارك الأوروبيين في العصور الحديثة من حيث شهرة القُوَّاد فيها وجسامة نتائجها؛ لأنه لو انتصر بونابارت في تلك المعركة لتغيَّرت أحوال أوروبا من ذلك اليوم، وكانت بروسيا إلى الآن من الولايات الفرنسوية وإنكلترا دولة صغيرة إذا لم تكن تابعة لفرنسا أيضًا، فهي على الأقل بلا أملاك واسعة مثل التي نراها اليوم لهذه الدولة العظيمة.

وكان مع بونابارت في هذه المعركة ٧١٩٠٠ جندي منهم ٤٨٩٥٠ من المشاة و١٥٧٠٠ من الفرسان و٢٤٦ مدفعًا، وكان مع الديوك أوف ولنتون القائد الإنكليزي ٦٧٦٠٠ رجل منهم ٤٩٦٠٠ مشاة و١٢٤٠٠ من الفرسان و١٥٠ مدفعًا، فلمَّا جاء بلوخر بجنوده البروسيانية بلغت قوة الدول المتحدة ضد نابوليون ٧٥٠٠٠ رجل و٢٢٠ مدفعًا، وقد قُتِلَ في هذه المعركة العظيمة ٢٥٠٠٠ من جيش فرنسا و١٣٠٠٠ من جيش إنكلترا و٧٠٠٠ من جيش بروسيا، واضطرَّ نابوليون بعدها إلى القهقرى والرجوع إلى بلاده، فرأى الهياج كثيرًا ورحل عنها إلى إنكلترا حتى سلَّم نفسه، وتمَّ به الذي تمَّ كما يُعْلَمُ من تاريخه.

وبعد أن مرَّت أعوام على هذه المعركة الكبرى اتفقت حكومات إنكلترا وبروسيا والبلجيك على إقامة أثر باقٍ لها في محلِّ حدوثها؛ فأُرْسِلَ المهندسون وبعض الضباط الذين شهدوا الواقعة إلى قرية واترلو، وعملوا الرسوم اللازمة ثم اتفقت الحكومات الثلاث على أن يُبْنَى تلٌّ هرميُّ الشكلِ في موضع تُرَى منه كلُّ جوانب الأرض التي حصل فيها القتال؛ فبنوا ذلك التل من التراب وارتفاعه ٤٥ مترًا، وفوق قمَّته أسد بلجيكي من النُّحاس والناس يصعدون إليه بسُلَّم عدد درجاته ٢٣٥ درجة، قصدت واترلو للتفرُّج على هذه الآثار، فركبت رتل سكة الحديد وسِرْنَا نحو ساعة حتى وصلنا محطة واترلو فرأينا فيها عربات تنتظر القادمين ركبناها وتوجَّهنا فيها إلى محلِّ الآثار، فلمَّا وصلنا أسفل التل الذي ذكرناه صعدنا مع الصاعدين إلى أعلاه وعددهم لا يقلُّ عن أربعين أكثرهم من الإنكليز ووجدنا هنالك ضابطًا من الجيش الإنكليزي دَرَسَ تاريخ واترلو ومعركتها درسًا دقيقًا وعيَّنته الحكومة ليشرَحها للزائرين، فلمَّا استقرَّ بنا المقام في أعلى تلك الرابية جعل الضابط يشرح الواقعة شرحًا مسْهبًا، وهو كلما ذكر موضعًا يشير إليه بيده حتى نزل المتفرِّجون وهم كأنهم شهدوا موقع واترلو من دقَّة الوصف.

وقد أشار الضابط المذكور إلى آثار ومشاهد كثيرة، من ذلك عمود أقامته الحكومة الإنكليزية موضع شجرة يبست وأُرْسِلَ جذعها إلى دار التحف في لندن، وكان الجنرال ولنتون قد وقف تحت تلك الشجرة مدة القتال، ومن ذلك عُمُد وآثار أخرى وأضرحة عليها كتابات أكثرها أقامها أقارب الضباط الإنكليز الذين قُتِلُوا في هذه المعركة تذكارًا لبسالتهم، ولم يزل في سهول واترلو عظام كثيرة من بقايا الذين قُتِلُوا فيها ودُفِنُوا يوم ١٨ يونيو سنة ١٨١٥ حتى إنه إذا هَطَلَ المطر في بعض الأعوام غزيرًا وكان جارفًا يجرُّ معه التراب الكثير؛ ظهر من تحت التراب عظام المقتولين، وذكَّر الناس بأعظم معارك المتأخِّرين.

ولمَّا نزلنا من تلك الأكمة دخلنا معرضًا صغيرًا عند سفحها جُمِعَتْ فيه السيوف والبنادق والخوذ وبقية الآلات الحربية مما استُعْمِلَ في هذه المعركة العظيمة، وتُبَاعُ إلى جانبه رسوم وآثار يأخذها السائحون لتذكُّر واترلو، فلمَّا انتهينا من هذه الأشياء عُدْنَا إلى بروكسل في قطار مرَّ بين صفوف الزرع وغابات الشجر الكثير ومنازل الأكابر الذين يعملون في العاصمة مدة النهار، وفي آخره يعودون إلى حيث تتمُّ لهم الراحة، ولا يقلقهم دويُّ العواصم الكبرى وحركتها الدائمة، وأقمنا فيها زمانًا وقد راق لنا لُطْفُ سكانها وحسن مؤانستهم وكثرة ما في مدينتهم من أسباب الحظِّ والطرب حتى إذا حان زمان الرحيل عنها فارقناها، ونحن من رأي القائلين إنها باريس الصغرى وإنها من أبهى عواصم أوروبا وأكثرها رونقًا وجمالًا، وقصدنا الحمَّامات البحرية المشهورة في مدينة أوستاند.

ولا حاجة إلى الإسهابِ هنا في وصف الحمَّامات البحرية في مدينة أوستاند البلجيكية؛ فإن الذي يُقال عنها لا يزيد عما في حمَّامات هولاندا وغيرها من الحمَّامات البحرية التي مرَّ ذكرها في هذه الرحلة، إلا أنَّ مدينة أوستاند هذه ذاعت شهرتها في الآفاق وعُرِفَتْ بطيب هوائها، فكثُرَ ورود القادمين إليها من أنحاء البلجيك ومن البلدان الأخرى، وتسهَّلت وسائل النقل والمخابرة بينها وبين فرنسا وبلاد الإنكليز؛ نظرًا لكثرة الذين يقصدونها من البلادين والمسافة بين أوستاند وإنكلترا في البحر لا تزيد عن عشر ساعات، فهي يأتيها كلُّ يومٍ ثلاث بواخر إنكليزية ملأى بالزائرين، ويأتيها أيضًا ثلاثة قطرات من فرنسا تنقل المتفرِّجين، فلا يقلُّ عدد الموجودين على ضفَّة البحر في أوستاند كل يوم عن خمسة آلاف أو ستة، ولا يقلُّ عدد الزائرين مدة فصل الصيف عن خمسين ألفًا أو ستين نصفهم من أهل البلاد البلجيكية والنصف إنكليز وأميركان وفرنسويون وأفراد من جميع الجهات، والإنكليز أكثر الأجانب عددًا من بين زائري ذلك الموضع، وكثيرًا ما يذهب ملك البلجيك بنفسه إلى حمَّامات أوستاند، ويؤمُّها أشراف البلجيك وسراتهم وتقصدها العائلات فتقيم فيها الأيام والأسابيع، وتقضي بين الرمل والماء أكثر ساعات النهار لا فرق في ذلك بين الكبار والصغار، وقد بُنِيَ رصيف طويل عريض على شاطئ البحر هنا طوله ١٥٠٠ متر وعرضه ١٨ وعلوُّه عن سطح البحر ثمانية أمتار، وهنالك يتمشَّى المتنزِّهون رجالًا ونساءً ويرى المتفرِّج من أشكال الناس ما بين راكب وماشٍ وسابحٍ في الماء ومتمرِّغٍ في الرمل ما يرى في أكثر هذه الحمامات البحرية. وقد بُنِيَ على طول الرصيف المذكور فنادق وحانات ومنازل فخيمة بعضها للعائلات المصطافة وأكثرها معدٌّ للأجرة، وفيها كلُّ ما تطلبه النفس من وسائل الراحة. وهنالك حانة كبرى على شكل الكازينو يسمُّونها «كورسال»، وفيها الموسيقى وغرف اللعب والرقص والمطالعة والمسامرة وغير ذلك مما يوجد في كل محلٍّ من هذا القبيل، وهنالك أيضًا لسان بُنِيَ من الخشب والحديد كالجسر فوق البحر يمتدُّ في الماء مسافة ٦٢٥ مترًا، وفيه كل ما يسر الخواطر من معدات الإتقان والراحة للقادمين، وغير هذا مما يعسر عَدُّهُ ويضيق المقام عن وصفه.

فلمَّا انتهينا من هذه المشاهد ولم يبقَ علينا في بلاد البلجيك ما يمكن رؤيته برِحْنَا تلك البلاد العامرة، وسِرْنَا منها إلى فرنسا وهي مجاوِرَة لها كما تعلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤