البابوية

لا حاجةَ إلى القول إن البابا كان أعظم أصحاب السلطة الزمنية في الزمان السابق، وكان الكهنة والأساقفة بمثابة حكام للشعوب وقضاة، ولمَّا كان الأساقفة تابعين في أحكامهم لرومية كان استئناف أحكامهم يُرْفَع إلى قداسة البابا، ولا مردَّ لحكمه، وعليه أصبح الملوك والأمراء كالشرطة ينفِّذون أحكامه ويأتمرون بأوامره، أذكر من ذلك أنَّ شارلمان ملك فرنسا ومؤسِّس مملكة جِرْمانيا الذي ظهر في أواخر القرن الثامن كان نصيرًا لكرسي رومية طمعًا بمساعدة البابا له حتى يصير إمبراطورًا، فنصَّبه البابا لاون الثالث وألبسه تاج ألمانيا وسمَّاه إمبراطورًا، وعَرَفَ شارلمان للبابا ذلك الفضل فوسَّع اختصاصات الإكليروس ووهبهم المال والعقار وفوَّض إليهم كثيرًا من أمور الحكومة، ولكن هذا الحال لم يدم فإنه لمَّا تولَّى هنري الرابع مملكة جرمانيا أراد أن يزيل السلطة الزمنية من يدِ البابا فاستحال عليه الأمر؛ لأنَّ البابا يومئذٍ كان غريغوريوس السابع، وهو من أشهر بابوات رومية وأعظمهم دهاءً وعقلًا وسياسة، فلمَّا ثار السكسونيون على ملكهم اغتنم البابا هذه الفرصة وطلب إلى الملك هنري أن يحضر إلى رومية لاستجوابه عن كيفية معاملته لرعاياه، فاعتبر الملك هنري ذلك الطلب خارجًا عن حقوق البابوية ورفض المجيء، ثم استصدر حكمًا بخلع البابا غريغوريوس السابع، فلمَّا سمع البابا بذلك الحكم جمع أساقفة رومية وأصدر حكمًا قاضيًا بخلع الملك عن مملكة جرمانيا وحَرَمَه من الكنيسة، واشتدَّ الحال بين الملك والبابا فالبعض من ملوك أوروبا وقسمٌ من رعايا الملك عضَّدوا البابا؛ فخاف الملك على منصبه وسط بعض أمراء وأميرات إيطاليا من ذوي الوجاهة، وبعد الجهد الكلي أذِنَ البابا للملك بمقابلته على شرط أن يأتي إليه بلا حاشية مرتديًا ثوب الندامة، ولمَّا وصل الملك إلى قصر البابا وقف ثلاثة أيام متوالية خارج الباب، وفي اليوم الرابع أذِنَ له البابا بالدخول فركع على ركبتيه وطلب منه السماح والتوبة.

دامت سلطة البابوات قرونًا وكان لهم ما للملوك من الجيوش الجرَّارة والقُوَّاد العظام حتى نهضت إيطاليا كما سبق في الخلاصة التاريخية، ودخل ملكها فكتور عمانوئيل الثاني مدينة رومية عنوة في سنة ١٨٦٠، واحتلَّ قصر الكيرينال، ولكنه قلق بعد دخوله إلى رومية وشعر بحرج مركزه لدى العالم الكاثوليكي، فعرض وزيره الكونت كافور — الذي كان له اليد الطولي في توحيد إيطاليا (كالبرنس بسمارك في توحيد ألمانيا) — على قداسة البابا أن يتنازل عن أملاكه فتضمن له إيطاليا الاستقلال التام في أعماله الدينية، وأنَّ الكنيسة تكون حرة في بلاد حرة ويُعطَى له حي الفاتيكان وما فيه من القصور والمتاحف، ويُعامَل البابا حيثما سار في إيطاليا بنفس الاحترام الذي يُؤدَّى للملك، وله التقدُّم على الملك في الحفلات الرسمية، وكان حين ذاك على الكرسي البابوية بيوس التاسع فرفض جميع ما عُرِضَ عليه؛ ولذلك صدر قرار من حكومة إيطاليا بتجريده من أملاكه وتخصيص مبلغ ١٥٠ ألف جنيه سنويًّا له، ولكن البابا رفض ذلك رفضًا باتًّا، وهذا المبلغ متكوَّم في خزينة إيطاليا على ذمة البابوات منذ صدور القرار المذكور. وعلَّة البابا في عدم قبوله أنَّ القبول يُعِدُّ ذلك اعترافًا منه بملك إيطاليا وهو لا يريد أن يعترف به، هذا غير أنه ليس بذي حاجة للمال؛ فإنه لمَّا بلغ البابا ليون الثالث عشر السنة الخمسين من صيرورته كردينالًا سنة ١٨٩٢ وردت عليه هدايا من العالم الكاثوليكي لم تقلُّ قيمتها عن مليونَي جنيه، ولمَّا احتفلوا بيوبيله في ٢٠ فبراير ١٩٠٢ — أي بمرور ٢٥ عامًا وهو على الكرسي البابوي — بلغت الأموال والهدايا التي قُدِّمَتْ لقداسته مليونًا ونصف مليون. وقد رأيت أن أصِفَ هنا كيفية الرسوم التي يُجْرُونها عند وفاة البابا وتنصيب خلفه فأقول:

إنه لمَّا ثقل المرض على البابا السابق ليو الثالث عشر في أواسط شهر يوليو سنة ١٩٠٣ وكان عمره ٩٣ سنة طير التلغراف قرب أجله إلى أقاصي المعمور فورد للفاتيكان ١٢٠٠٠ رسالة برقية فيها سؤال عن صحته، وأُقيمت الصلوات في كنائس رومية وغير رومية طلبًا لشفائه، ولمَّا بدأ البابا بالنزع اجتمع الكرادلة ودخلوا غرفة المريض وجثوا عند فراشه، وعندما لبَّى داعي ربِّه بلَّغ كاتب سرِّه الخبر رسميًّا إلى الكردينال الكمرلنغ (الحكمدار)، وهذا سارٍ من وقته إلى البلاط البابوي فجلس فيه كأنه ربُّ البيت وأخذ في مباشرة مهنته، وأول عمل قام به هو أنه عين أحد الحُجَّاب البابويين ليصون غرفة البابا ويسجِّل كلَّ ما تتضمنه، ثم لَبِسَ لُبْسَ الحداد وهو الثوب البنفسجي البحت، وسار إلى حجرة الميت يتقدَّمه بعض الخواص، فبعد صلاة وجيزة على وسادة بنفسجية تقدَّم من الميت ليثبت موته فضرب جبينه ضربًا خفيفًا بمطرقة من فضة ثلاثًا وهو يناديه باسمه الأصلي قبل أن نال الاسم البابوي، فلمَّا انتهى من ذلك أعلن موته حالًا قائلًا: «إن البابا قد مات»، فحينئذٍ نزع حاجب البابا من إصبع الميت خاتمه المعروف بخاتم الصيَّاد وسلَّمه للكردينال المذكور، يريد بذلك أن سلطة الكنيسة صارت إلى يده مؤقَّتًا، وهذا الخاتم يمثِّل صورة القدِّيس بطرس في سفينة، وعليه اسم البابا وبه يختم البراءات. وفي أول مجمع اجتمع فيه الكرادلة كُسر هذا الخاتم مع الخواتم الأخرى التي فيها اسم البابا المتوفَّى دلالة على فروغ الكرسي البابوي، ثم كَتَبَ أحدُ الكتاب قرارًا دوَّن فيه حجة موت البابا وتسليم الخاتم إلى يد حكمداره، وبدأ ناقوس كنيسة مار بطرس الكبير يدقُّ دقَّة الحزن وأجابته نواقيس رومية كلها، وخرج الحكمدار ليذيع خبر وفاة البابا بالتلغراف رسميًّا في الأقطار، وأعلن سفراء الدول في رومية بوفاة البابا، ودُعي للحضور إلى رومية جميع الكرادلة، ثم إنهم حنَّطوا جثَّة البابا وعرضوها على منصَّة مرتفعة نصبوها في رواق الغرفة البابوية، والميت مضجع بالثياب البابوية فوق فراش مغطَّى بحرير أحمر وعلى طرفيه شمعدانان كبيران تسطع أنوارهما، وعند مدخل الرواق حارسان واقفان وبيديهما سيف مشهر طرفه إلى الأرض، ثم نُقِلَت الجثة بكلِّ إكرام إلى كنيسة مار بطرس بموكب حافل، ولُبس الجسم الملابس المقدَّسة من بدلة ودرع الرئاسة وتاج وصليب ووضع في معبد القربان الأقدس، ولهذا المعبد شعرية كبيرة فبقي على هذه الحالة ثلاثة أيام متوالية، ثم دُفِنَ الجسم دفنًا مؤقتًا في أحد جدران كنيسة القِدِّيس بطرس بحفلة مؤثِّرة لم يحضرها سوى الكرادلة وحاشية البابا وحُجَّابه ونحو مائة شخص من الأخصَّاء.

كان البابا لاون الثالث عشر المتوفَّى من أفاضل البابوات، وهو من أسرة إيطالية عريقة في المجد، وُلِدَ في الثاني من شهر مارس سنة ١٨١٠ وتُوفِّي في التاسع عشر من شهر يوليو سنة ١٩٠٣ الساعة الرابعة بعد الظهر.

كيفية انتخاب البابا: كلٌّ يعلم ما للبابا من النفوذ الديني؛ لأنه يحكم ثلاثمائة ألف ألف من الكاثوليك، وله أيضًا نفوذ سياسي كبير بسبب منصبه السامي، فالممالك الكاثوليكية تودُّ لو يكون البابا من أبناء أمتها حتى يميل إلى تعضيدها ساعة اللزوم، وقد حصل عند الانتخاب الأخير أنَّ حكومة النمسا الكاثوليكية أبدت معارضة في انتخاب الكردينال رامبولا الذي كان المظنون في العالم الكاثوليكي انتخابه؛ لأنه أقدر الكرادلة فنهض الرجل في الحال وقال: إني أحتجُّ على دخول السلطات العالمية في الانتخاب، ولكنني أعدُّ نفسي سعيدًا إذا أُعفيت من أعباء البابوية.

وطريقة الانتخاب هي أن الكرادلة يجتمعون للتفاوض في أمر الرئاسة البابوية لمجلس الكونكلاف — أعني المجلس المقفل — وذلك في قصر الفاتيكان، حيث تعدُّ القاعات والدُّور التي حوله لتصلح لسكن الكرادلة طول أيام اجتماعهم إلى يوم انتخاب الحَبْرِ الجديد، وتُجعل هذه القاعات الكبرى حُجرًا صغيرة تفصل بينها حواجز خشبية يُعطى فيها كل كردينال أربع حُجَر: إحداها للنوم، والثانية للعمل، وحجرتان لكاتب أسراره وخادمه، وهذه الحجر، تُعْطَى بالقرعة، ويدخل مع الكرادلة في مجلسهم المقفل كاتب أسرار المجمع وأصحاب التشريفات وعدد معلوم من العمال كطبيب وجراح وصيدلي ومزين وبنَّاء ونجَّار يختارهم الكرادلة في الجلسات التي تُعْقَد قبل الانتخاب بعد التثبت من أهليَّتهم وحسن سلوكهم، وبُعْدِهم عن الدسائس، وإذا دخلوا معهم المجمع فلا يجوز لهم الخروج منه مطلقًا إلا في أمرٍ ذي بال يحكم بصوابه الكرادلة جميعًا.

وبعد اجتماع المجلس يخطب أحد السادة ليحضَّ المنتخبين على التجرُّد من كل الغايات الشخصية واختيار من يعرفونه أهلًا لرئاسة الكنيسة، وفي نهاية الخطبة يتقدَّم أحد التشريفاتية ويمسك بيده الصليب البابوي ذا الشُّعَب المثلَّثة ويمشي أمامه حاشية الكرادلة الذين تعيَّنوا لخدمتهم ويتبعهم المرنِّمون وهم ينشدون التسابيح، فإذا بلغوا المعبد السكستي الذي يتمُّ فيه الانتخاب جلس كلٌّ حسب رتبته تحت الملَّة المعدَّة له، ثم تُتْلَى على مسامعهم رسوم الأحبار الرومانيين بخصوص هذا الانتخاب، وعلى أثر ذلك يقومون بالترتيب ويُقْسِمُ كلٌّ منهم ويده على الإنجيل المقدس بأنه يختار لرئاسة الكنيسة الرجل الذي يعرفه أجدر بهذا المنصب الجليل من سواه، وبعد ذلك يخرج من المعبد السكستي ومن المكان المعد لإقامة الكرادلة كل مَنْ ليس له عمل في المجمع، ثم يسدُّ البنَّاءون كلَّ الأبواب بجدران من الحجارة إلا باب السلم الملكي فإنه يُقْفَل بأربعة أقفال، منها قفلان في الخارج وقفلان في الداخل، وكلها تُقْفَل أمام الشهود، وبعد أن أُقفل هذا الباب قام على حراسته نفر من الجند يتقدَّمهم أحد أشرف رومية يُدْعَى محافظ المجمع، وكذلك دار الكردينال الحكمدار مع ثلاثة من الكرادلة، وزار كل الحُجر ليتحقَّق أنه ليس ثَمَّ غريب وأن الأحكام البابوية رُوعيت تمامًا، وعمل بين المحجوزين والخارج أربعة منافذ أو دواليب يحرسها قوم ثقات يفحصون كلَّ ما يُوضع فيها لئلا ينفذ منها مكاتيب وما شاكل ذلك، وكانوا إذا طلب أحد من الخارج كالسفراء وغيرهم أن يواجه أحدًا من الكرادلة استدعاه إلى الدولاب وفاوضه بحضور الحرس، وجُعِلَت المطابخ في داخل سكني المنتخبين، وكل كردينال يأكل وحده، أما الخدم والحاشية فكانوا يأكلون في مطعم عمومي.

وفي اليوم الأول بعد دخول الكرادلة في مقام الانتخاب المعد لهم عند الساعة الثامنة، ناداهم مدير التشريفات بدقِّ الجرس ثلاثًا وهو يقول:

«سادتي إلى المعبد. فلمَّا قُرع الناقوس توارد الكرادلة يتقدَّم كلًّا منهم خدمه حاملين محفظته حتى إذا دخلوا المعبد، تلا أسقف رومة الصلوات مبتهلًا إلى الروح القدس طالبًا أنواره، ثم أشار مدير التشريفات إلى الذين كانوا هنالك من غير الكرادلة أن يخرجوا فخرجوا وبقي الكرادلة وحدهم في المعبد، وأُقْفِلَ المعبد من داخله، ثم جلس الكرادلة على مقاعد منتظمة على شكل مربَّع حول الهيكل وفوق رءوسهم مظلَّات وأمام كلِّ مقعد منضدة للكتابة مغطَّاة بطنفسة نُسِجَ عليها شعار الكردينال الجالس إليها، وبإزاء الهيكل منضدة كبيرة عليها كأس من فضة جُعلت فيه أوراق الانتخاب، واتُّخذ لذلك أوراقٌ مطبوعة كُتِبَ عليها: «إنِّي أختار الكردينال (فلان) حَبْرًا أعظم.» فلمَّا كُتِبَتْ هذه الأوراق قام كلُّ كردينال إلى الهيكل وصلَّى صلاةً وجيزة راكعًا أمام الصليب، وأقسم مرة ثانية بأنه ينْتَخِبُ من يراه أحقَّ بالسدَّة البطرسية، وأشهد الله على نفسه ثم ألقى الورقة في الكأس وعاد إلى مكانه بعد الانحناء أمام الصليب، وعُدَّت أوراق الانتخاب عدًّا مدققًا حتى تكون بعدد الكرادلة المنتخبين، ثم راجعوها وهم يعدُّون الكردينال منتخبًا للبابوية إذا نال ثُلُثَي الأصوات في هذه الجمعية، وكانوا في مدة الانتخاب يحرقون تبنًا في موقدة ليتصاعد دخانه، ويعلم الشعب الواقف في ساحة القديس بطرس أن الانتخاب ما زال مستمرًّا.

فلمَّا تمَّ الانتخاب أُحْرِقَت أوراق بلا تبنٍ لنارها لهيب بلا دخان، فعرف الواقفون خارجًا أن الانتخاب قد تمَّ، وعند ذلك تقدَّم كبير الكرادلة سنًّا مع مدير التشريفات والكرادلة الثلاثة الموكول إليهم في ذلك اليوم ترتيب المجمع، فسألوا البابا الجديد بصوت جهوري: «أترضى بانتخابك القانوني لرتبة عظيم الأحبار؟» فحالما أجاب بالقبول أعلن مدير التشريفات قبوله للفيف الكرادلة المجتمعين، فحاد عنه في الحال الكردينالان الجالسان إلى يمينه ويساره إجلالًا لرتبته الجليلة ونُزِعَتْ كلُّ المظلات إلا مظلته إشعارًا بمقامه، ثم سأله كبير الكرادلة ثانية: وبأيِّ اسم تريد أن تُدْعَى؟ فقال: باسم بيوس العاشر، وللحال كَتَبَ كاتب الكرسي الرسولي قرارًا بذلك، وسار البابا بين اثنين من الكرادلة إلى الهيكل، فنَزَعَ ملابس الكرادلة وتردَّى بالثياب الحبرية وجلس إلى كرسي أمام المذبح ووجهه إلى جهة الحاضرين، فتقدَّم إليه كل الكرادلة وجثوا أمامه ولثموا يديه فقبَّلهم بقُبْلَة السلام، وفي أثر ذلك قدَّم الكردينال الحكمدار للحَبْرِ الجديد خاتم الصياد فجعله في إصبعه، وفي هذا اليوم أعلن انتخاب الحبر الأعظم رسميًّا فأسرع البنَّاءون إلى فتح النوافذ المسدودة، وفُتِحَت الأبواب فسار أقدم الكرادلة وأمامه الصليب البابوي إلى شرفة فوق كنيسة القديس بطرس تطلُّ على الساحة الكبرى، وأخبر الشعب بالانتخاب قائلًا: «أبشِّركم بفرح عظيم، فإن حبرنا الجديد هو الكردينال سارتو وقد دُعِيَ بيوس العاشر»، وألقى من الشرفة ورقة تتضمَّن هذه البشرى تناولتها ألوف من الأيدي فانتشر الخبر في رومية انتشار البرق، وللحال دقَّت نواقيس كنيسة القديس بطرس وأجابتها نواقيس المدينة كلها، وطيَّر البرق هذا الخبر إلى أقاصي الأرض، وفي غد اليوم التالي جَرَتْ حفلات في غاية العظمة والأبَّهة في قصر الفاتيكان، فإنهم ألبسوا البابا في إحدى ردهاته السفلى ملابسه الحبرية، وساروا به إلى المعبد السكستي، فبعد صلاة وجيزة ارتقى العرش البابوي فتقدَّم إليه الكرادلة ونالوا من قداسته البركة، وفي اليوم عينه عقد الحبر الأعظم مجلسًا لسفراء الدول في إحدى قاعات الفاتيكان حيث تُقْبَل تهانئَ الدول جميعها.»

وقد تولَّى رئاسة الكنيسة في رومية إلى الآن ٢٦٣ بابا منهم ٢١٤ إيطاليًّا، و٢١ من الشرقيين — أي الأروام والمصريين والسوريين — و١٧ فرنسويًّا و٥ ألمانيين و٣ إسبانيين وبورتغالي وإنكليزي وهولاندي. وأول من تولَّى رئاسة الكنيسة في رومية بطرس الرسول من سنة ٤٢ إلى ٦٦ وخَلَفَه القديس لينوس من سنة ٦٦ إلى سنة ٧٧، وتوالى بعد ذلك الأحبار الآخرون، وفي سنة ١٣٠٥ نُقِلَ الكرسي البابوي من رومية إلى أفنيون من أعمال فرنسا على عهد البابا كلمان الخامس وبقي فيها لغاية تنصيب غريغوريوس الحادي عشر، وفي أيامه — أعني في سنة ١٣٧٠ — أُعيد الكرسي إلى رومية. والبابا بيوس العاشر من أصل وضيع وُلِدَ في قرية ريز من إيطاليا في ٢ يونيو سنة ١٨٣٥ ورُقِّيَ إلى رتبة كردينال في سنة ١٨٩٣ على فنسيا (البندقية)، وهو الذي أجرى بعض ترميمات في كنيسة مار مرقص الشهيرة يُشْكَر عليها، وانتُخِبَ بابا في ٤ أوغسطس سنة ١٩٠٣.

figure
البابا بيوس العاشر.

ولمَّا كانت رومية في ملك البابوات كانت تُطْلَق المدافع من القلعة وتُدقُّ الطبول وتُستعرض العساكر، ويُعقد موكب للانتخاب بهي يسير من قصر الكيرينال (المقيم به الآن ملك إيطاليا) إلى بلاط الفاتيكان، فتظهر البابوية بكل رونقها. وكان البابا يركب عجلة ملكية بديعة تجرُّها الخيل المطهمة ويتقدَّمه الكرادلة، كلٌّ منهم في مركبته لابسين دروع الحرير الأحمر والبُرْدة الأرجوانية المحشاة بالقاقم، وكان هذا الموكب يمر من شوارع رومية الغاصة بجماهير الخلق حتى يبلغ قصر الفاتيكان.

نابولي

إذا عُدَّت مدن الأرض المعروفة بجمال الموقع وغرابة المشاهد كانت مدينة نابولي في مقدِّمتها بلا مراء؛ فإن الواصل إليها يذهله فرْط بهائها وكثرة غرائبها؛ لأنه يدخل في جون من البحر مقوَّس الشكل والعمائر البديعة مرصوصة حوله من طرف إلى طرف على ضفة الماء، وتتصل الأبنية والطرق المنظمة من البحر إلى هاتيك الروابي والتلال البهيَّة الواقعة وراء المدينة، وكلها تتخلَّلها الحدائق والأغراس والرحبات والميادين، وبقية أشكال الجمال الموصوف في المدن العظيمة، ومن وراء الكل جبل النار (فزوفيوس) يتقد جوفه اتقادًا فيقذف النار من فوهته، ولطالما أوقع هذا البركان بعمائر الآدميين وله في تاريخهم ذكر كبير، فمن وقائعه تدمير مدينة بومبي الباقية آثارها على مقربة من نابولي، وهي من المشاهد العظمى التي يقصدها السائحون من كل جوانب الأرض، وعامة الناس هنا يقولون في أمثالهم «انظر نابولي ومت»، ولا عجب فإنها من أشهر مواضع الأرض في آيات الحُسْنِ، وهي أهم مدن إيطاليا وأكبرها لا يقلُّ عدد سكانها عن سبعمائة ألف نفس، وفيها من المتاحف والمشاهد والآثار ما يقلُّ نظيره، ولكن السيَّاح الكثار الذين يفدون على هذه المدينة آلافًا مؤلَّفة يشكون مرَّ الشكوى من أهلها؛ فإنهم حالما يصلونها يزحمهم التراجمة والمرشدون والحوذيون والبيَّاعون وصغار المنادين هؤلاء يعرضون عليك كبريتًا ويعترضونك في المسير، وهؤلاء يصيحون في أذنك بأسماء الجرائد والصور التي يحاولون بيعها للذين يتعبون منهم ويتضجَّرون، وهؤلاء يضجُّون من حولك ويلغطون وبعضهم يقتفي منك الأثر ويضيق صدرك بإلحاحه، طالبًا أن يكون رفيقك ويدور معك على المشاهد بأرخص الأجر أو يقدِّم لك ما شئت من الخدم وغير هذا كثير.

وعلى الجملة فإن نابولي مدينة كثيرة المشاهد والآثار والغرائب، يُحار المرء في كيف يبدأ بوصفها، وأحسن ما يكونان يجعل المتفرِّج فاتحة الأمور زيارة «فيال ناسيوناله»، وهو متنزَّه ممتدٌّ بجانب البحر غُرِسَتْ فيه الأشجار والأزهار وأُنْشِئَتْ بِرَكُ الماء، وهناك تصدح الموسيقى كل يوم من بعد الظهر، وفي وسط هذا المتنزه محل الأسماك، وهو بناء متسع جُمِعَتْ فيه أنواع السمك والوحوش البحرية الغريبة الشكل مما يقلُّ نظيره، وقد رأيت فيه السمك الكهربائي (نوربيل) وهو إذا مسَّه المرء شعر بقوة كهربائية، ورأيت أيضًا المرجان الأحمر والأبيض، وقلَّ أن يأتي أحدُ الناس إلى نابولي ولا يزور هذا المحل، وهو تحت إدارة لجنة لها مرتبات سنوية من حكومة إيطاليا ومن الحكومات الأجنبية، مثل ألمانيا وإنكلترا، تدفع ذلك تنشيطًا لجمع ما يمكن جمعه من الجزر والخلجان من الوحوش والحشرات البحرية، والأجانب يأخذون إلى بلادهم كل نوع غريب الشكل بعد أن يدفعوا رسمًا صغيرًا.

فتركت هذا المكان وذهبتُ إلى قصر الملك، وهو بعد قصر رومية أجمل القصور الملوكية في إيطاليا، فيه صور وتماثيل ملوك نابولي مدة الثمانمائة سنة التي حكموا فيها هذه البلاد، وشيء كثير من آثارهم والهدايا التي أُرْسِلَتْ إليهم، وبجوار القصر المذكور تياترو أو مَلْهَى سان كارلو، وهو من أحسن الملاهي في شكله وزخارفه وغير بعيد عنه رواق أومبرتو سُمِّي باسم الملك، وهو حديث بُنِيَ في سنة ١٨٩٠ بمبلغ اثنين وعشرين مليون فرنك، يبلغ طوله ١٨٥ مترًا، ويُقسم إلى أروقة نُقِشَتْ وزُخْرِفَتْ وله في الوسط قبَّة جسيمة تحتها المخازن والحانات يزدحم فيها الناس على مثل ما ترى في كل مركز مثل هذا المركز الشهير.

وبعد ذلك سِرْتُ في شارع توليدو، ويُقال له أيضًا شارع رومية، وهو يخترق البلد من الجنوب إلى الشمال في طول ميل ونصف، ويمتدُّ من البحر إلى الجهات العالية، وهو أبدًا مزدحم بالخلق يتصل ببعض الميادين، منها ميدان كافور يقرب منه المتحف، وهو أحسن متاحف إيطاليا، فيه غرف كثيرة العدد مُلِئَتْ بالنقوش على الحجر والتماثيل الرخامية والصور الزيتية ما لا يُعدُّ ولا يُحْصَى. وفي نابولي البركان أو جبل النار لا ينقطع دخانه المتصاعد يبلغ ٤٠٠٠ قدم تقريبًا في الجوِّ، ولمَّا يشتدُّ هيجانه يقذف حجارًا وصخورًا وموادَّ أخرى مصهورة، ويُسْمَعُ له صوت كقصف الرعد أو دويِّ المدافع يخرج من باطن الأرض، وقد تألَّفت شركة مدَّت سكة حديدية توصل إلى قمة هذا الجبل يصعدون بها إلى أعلاه ثم يعودون. ولطالما انفجر هذا البركان وألحق الأذى بالساكنين حوله، وأهم انفجار له في التاريخ حدث سنة ٧٩ بعد المسيح حين انصبَّت مصهوراته الملتهبة على غير انتظار فوق مدينة بومبي ومدينة هيرا كولانوم فطمستها، وأبقت آثارهما العجيبة كما سبق القول وآثار بومبي من مشاهد إيطاليا الممدودة إلى الآن، وما زال البركان يشتدُّ وينفجر من حين إلى حين حتى إنه بلغ درجة كبرى في سنة ٣٠٦ حين علا رمادُهُ وطارت به الرياح حتى موقع الآستانة، وقد تكوَّن من هذا الرماد وعلى شاطئ البحر جبل آخر في مدة ٢٤ ساعة بلغ علوُّه ١٣٠ مترًا وسمَّاه الأهالي الجبل الجديد، وفي ١٦٣١ و١٦٣٨ و١٦٦٠ و١٦٨٠ عاد إلى الهيجان ولم يكن ضرره كبيرًا. وأما في سنة ١٧٩٠ فإن مقذوفاته المصهورة أحرقت كل شيء أصابته من زرع وضرع. وفي سنة ١٧٩٤ كان الانفجار شديد الهول حتى إن الرماد أحرق قرية توري التي أُعيد بناؤها بعد ذلك. وفي سنة ١٨٧٢ كان الانفجار أشدَّ هولًا فارتفع من فُوَّهة الجبل عامود نار كان علوُّه ١٣٠٠ متر، مات مئات من الأنفس في القرى المجاورة. ومن عهدٍ ليس بعيد — أعني في شهر أبريل من سنة ١٩٠٦ — هاج بركان فزوف هياجًا شديدًا، وفُتحت له فوَّهة جديدة وقد ذُعِرَ أهالي القرى من قضاء سان جيوزيبه المجاورة له، وجعلوا يفرُّون إلى مدينة نابولي والبركان يصبُّ عليهم نارًا حامية، وكانت الأحجار تخرج من الفُوَّهة ألوفًا وتعلو لحد ٣٠٠٠ قدم ثم تتساقط، وجرى نهر من المواد المصهورة علوه ٢٠ قدمًا وعرضه ٦٠٠ قدم؛ فأغرق قرية بوسكو، وكان سيره بمعدل نصف ميل في الساعة، وكان الرماد يغطِّي القرى المجاورة، وتعذَّر على أهاليها الوصول إلى نابولي حتى إنهم لجئوا إلى الكنائس، وأُصيبت قرية أوتاجانو بضرر عظيم؛ لأن الرماد أوقع سقف كنيسة سان جوزيبة فقَتَلَ فيها ١٥٠ نفسًا، وعلا الرماد في قرية لتوري وتراكم فوق السوق فسقط من ثقله وقُتِلَ تحته ١٤ قتيلًا وجُرِحَ ١٢٤، وخرَّب البركان القرى المجاورة له فباتت جردًا ليس فيها نبت أخضر، وبلغ سمك الرماد في بعض الجهات ست أقدام، وكانت الغازات المتصاعدة من جوفه تقتل الذين يستنشقونها، وقد علموا فيما بعد أنَّ اتساع الفوهة كان ١٥٠٠ متر، وبلغ عدد الذين قتلوا في قضاء سان جوزيبة مائتين، فلمَّا سمع ملك إيطاليا بهذا الحادث أصدر أمره إلى بعض البواخر الحربية أن تذهب إلى ثغر نابولي للإسعاف، وسار هو إليها بنفسه من رومية ومعه الملكة فذهبا إلى جبل فزوف وكان في ذهابهما خطر؛ لأن الرماد والرمال كانت تنسف في الوجوه، حتى إنها حجبت الهواء وجعلت التنفُّس أمرًا عسيرًا، ومع ذلك فإنهما تقدَّما ولم يضطربا، وقد زارا كلَّ القرى المصابة، وأمرا بتوزيع ٤٠٠٠ جنيه للمصابين في هذا الحادث الأليم، وما زال ملك إيطاليا وقرينته يُظْهِرَان مثل هذه المروءة في جميع الحوادث المحزنة، وقد خاطرا بالنفس في خرائب مسينا ورجيو الأخيرة حين دهمتهما الزلازل في أوائل سنة ١٩٠٩ وقتلت من أهلهما ٧٠ ألف نفس، وأضرَّت بمئات الألوف، وهي أكبر حوادث الزلزال في التاريخ الحديث، ربما كان سببها فعل هذا البركان، وما أحدث بمقذوفاته من الفراغ في جوف الأرض حتى هبط سطحها وأحدث المصاب المذكور.

figure
جبل النار.

وضواحي نابولي كثيرة بهيَّة الجمال، منها عدَّة جزر في البحر ومنها جبال وسهول يمكن أن يقضي الزائر فيها أواقيت الهناء، وأهمها من وجه تاريخي مدينة بومبي كُتِبَ مجلدات عنها وعن جبل النار، وقد كان من أمرها أنه في سنة ٧٢ مسيحية اشتدَّ هياج البركان وقَذَفَ من الحجارة والطين والمواد المحرقة فوق مدينة بومبي طبقة ردمتها وغطَّتها سمكها نحو ٢٠ قدمًا، فمات في هذا الحادث نحو ألفين من الأهالي، وفرَّ الباقون في جوانب الأرض فدُفِنَت المدينة وطُمِسَتْ أخبارها من بعد هذا المصاب، وحَدَثَ في القرن الخامس عشر أنَّ بعض المهندسين وجدوا أساس منازل مدفونة، ثم عثر بعض الفلاحين سنة ١٧٤٨ ببعض الأواني المنزلية من النحاس وغيره؛ ولذلك تنبَّهت الأفكار إلى مدينة بومبي القديمة، فصدر أمر الملك شارل الثالث بإزالة الردم واستمرَّ العمل أعوامًا عديدة، وكانوا كلما وجدوا أثرًا ينقلونه إلى متحف نابولي، من ذلك هياكل الرجال والنساء محجرة وحلي ذهبية وفضية وأشكال لا تدخل تحت حصر أو قياس، وقد سرتُ إلى هذه الآثار مع أحد الأدلَّاء الذين يعيِّنهم المجلس البلدي ولهم رواتب منه، فدخلت المدينة المتردِّمة وسِرْتُ في شوارعها ومماشيها، ورأيت أنه ما بقي من أثر لهذا البلد إلا جدران بعض المعابد الوثنية ومواضع للرقص وأفران ومنافذ بعض المنازل، فاعتراني من وصف الدليل على إبهامه حيرة حين تأمَّلت تلك الخرائب والشوارع المقْفِرَة، وذكرني حالها بعِبَر الدهر وغِيَر الزمان.

ومن ضواحي نابولي «كاستلا ماره»، وهي مدينة صغيرة زاهية زاهرة مبنية على خليج نابولي غربًا، تشرف على الخليج وجزره، ومنازلها ممتدَّة مسافة ميل على طول الشاطئ، ومنها يمكن الصعود إلى التلال المجاورة المكسوَّة بشجر الكستناء، وقد اشتُهرت هذه الجهة ببدائع جمالها الطبيعي حتى إن الملك فردناند اتخذها مصيفًا له سنة ١٨٢٠ حين اشتدَّت وطأة الطاعون في نابولي، وأطلق عليها اسم كوي سي سانا — أي هنا الشفاء — وهي من مثابات السائحين المشهورة. وعلى مقربة منها بلدة «سورنيته»، ذهبنا إليها في طريق جميعه محاسن طبيعية، وهي مثل شقيقتها مبنية على شاطئ البحر يصطاف فيها العدد العديد من السكان والغرباء وأكثر الغرباء إنكليز وأميركان، فإنهم يرون في هذه المدينة الصغيرة كل ما يوافق ذوقهم، من ذلك الحمَّامات البحرية والتجول في البحر في زوارق شراعية والتنزُّه على الأقدام أو على الخيل والحمير ما بين الغابات، وقلَّ أن يشتدَّ الحر هنا، فإن الهواء البحري الغربي يرطِّبه وينعش الأجسام، فلمَّا قضيت زمنًا في سورنيته عُدْتُ منها إلى نابولي. وفي الغد ركبتُ باخرة صغيرة مع العدد العديد من السياح إلى جزيرة كابري، وهي أيضًا من المصايف المعدودة، ومع أن عدد سكانها لا يزيد عن ثلاثة آلاف فهم أوجدوا فيها عددًا كبيرًا من الفنادق لكثرة المصطافين فيها والوافدين إليها لرؤية «المغارة الزرقاء»، وقد زرتُ هذه المغارة في زورق من الزوارق التي تنقل المسافرين في تلك الجزيرة، ووجدتُّ طول المغارة من الداخل ١٧٥ قدمًا والعرض ١٠٠ قدم وعمقها ثماني أقدام، وسقفها الصخري لا يزيد عن أربع أقدام فوق رءوس الداخلين، وقد سُمِّيَت الزرقاء؛ لأن المياه بداخلها زرقاء اللون، ولها منظر غاية في الغرابة، ويجتمع هناك غوَّاصون من الأهالي نزلوا أمامنا للقاع، فكان لون أجسامهم أزرق كالفيروز، ثم عدنا إلى الجزيرة مع السُّيَّاح، وهم يذكرون المآكل اللذيذة ورخص أثمانها، ولا سيَّما النبيذ، فإن الموجود منه في ضواحي نابولي من أحسن الخمور وأرخصها ثمنًا، وقد جرت معامل الخمر في فرنسا على جلب المقادير الوافرة منه ومَزْجِهِ مع خمورها، وهم يضعون علامة معاملهم على الزجاج ويبيعونه بأغلى الأثمان.

ومن أجمل ضواحي نابولي مدينة كازرته، ونسبتها إلى نابولي نسبة فرسايل إلى باريس، فإن فيها قصرًا لملك إيطاليا من أفخر قصور الملوك في أوروبا، وهي على نحو عشرين ميلًا من نابولي يقصدها خلق كثير للنزهة.

وأمَّا أشكال الخضر والفاكهة فكثيرة في نابولي، وثمنها رخيص، وقد لا تجد في أوروبا كلها بلدًا له جمال هذه المدينة ورخص المآكل فيها وتنوُّع المناظر في البرِّ والبحر وغرابة المشاهد الحديثة والآثار التاريخية، وقليل بين الناس أيضًا مَنْ كان مثل أهل نابولي في سرعة الاختلاط بالغريب، ولعلَّ أهل هذه المدينة أكثر الطليان ميلًا إلى الاغتراب والضرب في مناكب الأرض؛ فإن أكثر الطليان من نزلاء مصر وغيرها من أهل نابولي يعرفهم المرء لأول وهلة أينما كان من اللهجة الخاصة بهم، وقد مرَّ عنها الكلام.

هذا آخر ما شهدتُ في بلاد الطليان، وقد أوجزتُ في وصفه لأسباب كثيرة، أهمها أن إيطاليا معروفة أكثر من سواها عند قرَّاء العربية، وأنَّ الوصف متقارب في أكثر الفصول، والمشاهد هنا تقرب من مشاهد أوروبا التي أطلتُ الكلام عنها. وإنِّي لمَّا انتهيت من هذه السياحة عُدْتُ إلى القطر المصري وكانت زياراتي لمدائن إيطاليا عديدة، فإني مررتُ بها كثيرًا في الذهاب والإياب عند زيارتي للممالك التي سبق الكلام عنها في الفصول الماضية من هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤