تونس

خلاصة تاريخية

إن القُطْرَ التونسي واقع في شمال أفريقيا، يحدُّه من الشمال بحر الروم، ومن الشرق بحر الروم وطرابلس الغرب، ومن الجنوب الصحراء الكبرى ومن الغرب الجزائر. وتاريخه ممتزج بتاريخ الجزائر، وقد فصَّلناه من قبل، ولكننا تكملةً للفائدة نورد هنا فذلكة موجزة من تاريخ تونس على عهد البايات، فنقول:

«كانت الفتن والقلاقل دائمة في أبالة تونس، وكان الباي لا يعتم أن يتقلَّد منصبه حتى يُعزَلَ أو يُقتل، ومَنْ كان منهم ذا بطش يأمر بقتل كثيرين ليستتبَّ له الأمر، فكانت البلاد في حالة من الفوضى حين تولَّاها حسين باي الذي تبتدئ الدولة الحسينية منه، وهي الدولة الحاكمة الآن.»

تولَّى حسين باي، وكان أبوه يوناني الأصل اعتنق الإسلام، وجعل الولاية إرثًا في عائلته للأكبر سنًّا من أولاده، وقد حَصَلَ أنَّ ابن أخيه علي نَازَعَ عمَّه الملك وحاربه وقتله وانتزع الولاية منه. وكانت مدَّة ولاية حسين من سنة ١٧٠٥ إلى سنة ١٧٤٠، قرأتُ في كتابٍ أن عليًّا قَتَل عمه بيده، فكان أبدًا يراه في حلمه متألِّمًا متوجِّعًا، ولم يهنأ بالولاية؛ لأن التونسيين ذاقوا طعم الراحة، والسير على أحكام القانون، فساءهم ما فعل علي بعمه حسين، وكانوا يودُون أولاد المقتول، وهما محمد وعلي اللذان حاربا قاتل أبيهما ودخلا تونس بمساعدة الأهالي وقتلاه. وكانت مدَّة ولاية علي من سنة ١٧٤٠ إلى سنة ١٧٥٦، ثمَّ نُودي باسم أحدهما محمد باي لولاية تونس، وكان محمد همامًا عالمًا، تُوفِّي بعد أن وَلِيَ الولاية من سنة ١٧٥٦ إلى سنة ١٧٥٩، وخلفه أخوه علي باي، فسار سيرًا محمودًا، وله مآثر يذكرونها إلى الآن، وكانت مدَّة ولايته من سنة ١٧٥٩ إلى سنة ١٧٨٢. وخلفه ابنه حمودة باي، وهو الذي حارب جمهورية البندقية، وكان لها الحول والطَّوْل في ذلك الزمان وحارب جيرانه الجزائريين، وكان معه على ما يُقال خمسون ألف مقاتل، فدارت الدائرة على الجزائريين ثمَّ تصالح الفريقان، وتُوفِّي حمودة باي، وكانت مدَّة ولايته من سنة ١٧٨٢ إلى سنة ١٨١٤. وخلفه أخوه عثمان باي، ولكنه لم يهنأ بالولاية؛ لأنه قُتِلَ في تلك السنة. وخلفه محمود باشا باي، كان محبًّا للسلم مع أوروبا والجزائر، وتُوفِّي بعد أن حَكَمَ من سنة ١٨١٤ إلى ١٨٢٤، وقام بعده ابنه حسين باي الذي عقد الشركات مع بعض الإفرنج لاستخراج المرجان في السواحل، وكانت مدَّة ولايته من سنة ١٨٢٤ إلى سنة ١٨٣٥. وحَكَمَ بعده أخوه مصطفى باي من سنة ١٨٣٥ إلى سنة ١٨٣٧. وَخَلَفَه ابنُهُ أحمد باي، فنظَّم الجيش والبحرية وسار على خُطَّة الوداد مع أوروبا ولا سيَّما مع فرنسا، فإنه ذهب إلى باريس وقوبل بالإكرام الزائد، ثمَّ تُوفِّي سنة ١٨٥٥. فخلفه ابن عمه محمد باي، ولكنه أظهر العدوان لفرنسا وحَدَثَتْ له مشاكل معها، وكانت مدَّة ولايته قصيرة، أعني من سنة ١٨٥٥ إلى سنة ١٨٥٩، وخلفه محمد الصادق باي، وكان فاتر الهمَّة تاركًا لوزيره مصطفى خزندار التصرُّف المطلق في تدبير شئون الحكومة، وكان هذا الوزير يقترض الأموال الطائلة من أوروبا بفائظ فاحش، قيل إنه جمع لنفسه ثلاثين مليون فرنك من هذه الديون وغيرها، فوقَعَتْ تونس في ارتباك مالي، واشتدَّت حاجتها إلى المال لدفع ماهيَّات الموظفين، فصبَّت المدافع النحاسية وضربتها نقودًا دفعت منها إليهم وإلى غيرهم باعتبار قطعة النحاس قرشًا صاغًا.

وقد حَدَثَ مثل هذا في مصر أيام الخديوي إسماعيل، فإنه صرف للموظفين بالحكومة جانبًا من الماهية نقودًا نحاسية بقيمة النقود الفضية. ولكن هذا لا يُذكر أمام التقصير في دفع فوائظ الأسهم من حكومة تونس للمداينين الأوروبيين؛ لأنه نتج عن ذلك تشكيل لجنة دولية للنظر في المالية التونسية، كما حصل في مصر أيام إسماعيل باشا. ومما زاد الطين بلَّة أن المال المفروض على القبائل والأفراد والممتلكات زاد لتسديد فوائظ الديون، فنتج من ذلك ثورة، وخاف الأوروبيون على أرواحهم وأموالهم، فساقت فرنسا عساكرها من الجزائر إلى تونس واحتلتها بدعوى تعضيد الباي وصيانة أرواح وأموال رعاياها، ومنع تعدِّي قبائل التونسيين على أراضي الجزائر، وطلبت من محمد الصادق باي وضع ولاية تونس تحت حمايتها، وكان القنصل الفرنسوي في تونس المسيو روستان من أهل الحزم والقوَّة عَرَفَه أهل الإسكندرية؛ لأنه ناب فيها عن دولته زمانًا، وهو مثل المسيو تريكو الذي كان قنصل فرنسا الجنرال في مصر أيام تنازل إسماعيل باشا. وقد ذهب القنصل المذكور إلى قصر الباي ومعه العساكر، فخاف الباي ورضي بوضع ولاية تونس تحت حماية فرنسا، ووقَّعَ على المعاهدة في ١٢ مايو سنة ١٨٨١ في قصر السعيد. ومن وقتها صارت فرنسا صاحبة الحلِّ والعقد، وعيَّنَتْ من قبلها وكيلًا (رزيدان) أو هو المقيم أو الحاكم العام، ينظر في جميع شئون البلاد.

figure
محمد الناصر باشا باي تونس.

ومن بعد مرور سنة تُوفِّي محمد الصادق باي، وكان علي باي على جانب عظيم من العلوم والمعارف عُرِفَ بالصلاح وطيبة القلب، وتُوفِّي سنة ١٩٠٢ فخلفه ابنه محمد عبد الهادي باشا باي. وبما أنِّي تشرَّفت بمقابلة سموِّه في قصره في درمش في تونس حين كان ولي العهد، فترى الكلام عن سموِّه في وصف تونس. وقد أرسلتُ من مصر تلغرافًا إلى سموِّه حين تولَّى تونس فيه تعزية وتبريك، وكانت مدَّة ولايته من سنة ١٩٠٢ إلى سنة ١٩٠٦، وخلفه ابن عمه الحالي سمو الباي محمد الناصر باشا، وله منزلة كبرى عند التونسيين والفرنسويين، وقد توسَّموا فيه خيرًا، فذهب للحال مندوب من طرف الوزير المقيم الفرنسوي لقصر الباي الجديد في سيدي أبي سعيد ليقدِّم لسموِّه التعزية باسم الجمهورية الفرنسوية. وفي الغد جَرَتْ حفلة الولاية، وهي في تونس لها شأن عظيم فاقت كل الحفلات في عهد سمو الباي الحالي، ودامت طول النهار فاصطفَّت العساكر من فرنسويين وتونسيين على الجانبين. وكانت البلدة عن بكرة أبيها تتفرَّج على الموكب الذي قام من قصر الباي في سيدي أبي سعيد إلى قصر الباردو الرسمي في المدينة، وكان الباي جالسًا في العربة الأميرية ووراءها العربات تقلُّ آل البيت الحسيني ورجال الحكومة، فاحتشدت الناس ألوفًا مؤلَّفة لتحيِّي الباي الجديد. فلمَّا وصل الموكب إلى قصر الباردو (سنذكره في وصف تونس)، كان الناس يصيحون «فليعش سمو الباي» حتى دوَّى الفضاء بصياحهم، وعَزَفَت الموسيقى سلام الباي، ثمَّ دخل سموُّه قاعة العرش وجلس فوقه من حوله آل البيت الحسيني الكريم والوزراء والعلماء والمشايخ. وحين ذاك تقدَّم الباش شاطر ونَطَقَ بصيغة الولاية، ومن بعدها استقبل سموه رجال الحكومة العظام وقناصل الدول، ثمَّ عاد بالعزِّ والإقبال إلى قصره حيث تمَّت حفلة وجيزة قلَّد بها ابن عمه الأمير سيدي محمد الحبيب شعار ولاية العهد.

وقد أجمع الجميع من تونسيين وفرنسويين على حبِّ سمو الباي الحالي واعتباره؛ لأنه طاهر القلب يحب بلاده حبًّا مفرطًا، ويعمل على ترقية رعاياه وتقدُّم بلاده.

تونس

هي ترشيش القديمة، وقد أَطْلَقَ عليها العرب اسم تونس بعد الفتح الإسلامي؛ لأنهم في ما روى أحدُ المؤرِّخين جاءوا هذه الجهة وأقاموا فيها مضاربهم، فسمعوا رهبان الروم في الليل ترتِّل الأنغام، وقالوا إن هذه بقعة تُؤْنس، فبقي لها هذا الاسم إلى الآن. وذكر ابن ياقوت أنه سأل بعض النصارى عن حقيقة اسمها، فقالوا إنها تنس، ومعناه ما تقدَّم. وقد اشتُهرت في كتابات العرب باسم تونس الخضراء على حدِّ قولهم حلب الشهباء ودمشق الفيحاء، وهي في منبَسَطٍ من الأرض، تدور بها بحيرة من الشرق والشمال طولها ٦ أميال، وعرضها ٨ ومسافتها نحو ١٠، وعمقها لا يزيد عن مترين. وقد كان موقع هذه البحيرة أرضًا تُزْرَع فطغى عليها ماء البحر وصيَّرها بحيرة. ولمَّا كانت بحيرة تونس قليلة العمق، فهم كانوا يلْقَونَ عناءً في نقل الأبضعة إلى المدينة؛ لأن البواخر كانت ترسو في البحر وتفرغ أبضعتها في صنادل تسير في البحيرة إلى الكمرك، فتلافتْ إحدى الشركات هذا الأمر وحفرت ترعة في وسط البحيرة طولها ٦ أميال وعمقها يكفي لأن تمخر البواخر، فهي الآن تدخل من هذه الترعة وترسو في الميناء الذي أُنشئ لهذه الغاية، وتفرغ شحنها في الكمرك.

ويُقدَّر أهل تونس الآن بحوالي ١٤٠٠٠٠ نفس، منهم ٧٠٠٠٠ مسلمون و٤٠٠٠٠ يهود، وهم — أي اليهود — فيها وفي كلِّ بلاد تونس طائفة كبيرة بسبب ارتحالهم إليها من فلسطين بعد خراب مملكة إسرائيل، وزاد عددهم أيضًا من مهاجرة القوم إليها من إسبانيا حين طردهم المسلمون، وبقية السكان نصارى، منهم ١١٠٠٠ من إيطاليا و١٠٠٠٠ من مالطة، فمعظم الأوروبيين فيها من هذين القطرين بسبب اقترابها منهما؛ فإن مدَّة السفر من تونس إلى مالطة ١٤ ساعة، وإلى صقلية من أعمال إيطاليا ١٢ ساعة.

وهواء تونس طيِّب على الجُمْلَة، يقرب من هواء سواحل الشام، والحر يشتدُّ بها بسبب موقعها الجغرافي. وتُقسَّم هذه المدينة إلى أربعة أحياء، هي حي المدينة، وحي باب سويقة في الشمال، وحي الجزيرة في الجنوب، وحي الإفرنج في الشرق. أمَّا حي المدينة فله سور قديم فيه خمسة أبواب، هي باب سعدون في الغرب، وباب سيدي عبد السلام في الشمال وباب الخضراء في الشرق، وباب عليوة وباب الفتح كلاهما في الجنوب. ويُقال على الجُمْلَة إن هذه المدينة من المدائن الجميلة؛ لأن تقدم البلاد وهمة الحكومة الفرنسوية ساعدا على تحسين شوارعها ومتنزَّهاتها، وساعدهم في هذا التحسين وجود أراضٍ من بدء باب المدينة إلى شاطئ البحر، كانت فيما مرَّ أرضًا مهْمَلَة ينبع الماء في جوانبها فردموها وبُنِيَ فيها حي الإفرنج الحالي، وفي أوله شارع اسمه شارع فرنسا تكثُرُ فيه المخازن الكبرى، حيث تُباع نفائس الأشياء الباريسية، وفيه الحانات الجميلة بعضها يلي بعضًا، حتى إن المرء ليظن نفسه إذا قَعَدَ فيها أنه في قهاوي مرسيليا بشارع الكنابيير. وفي هذا الشارع النادي العسكري، تُعْزَف الموسيقى فيه مرتين في الأسبوع، فتتزاحم أقدام القادمين إلى هذه القهاوي حتى لا يبْقَى فيها موضعٌ خالٍ في بعض الأحيان. ويتصل شارع فرنسا بشارع المينا أو حتى شارع البحر، طوله ٥٠٠٠ متر، وعرضه ٦٠ مترًا، وقد غُرِسَتْ في وسطه الأشجار على نَسَقٍ يشبه ما في منشية الإسكندرية، ولكن المنازل فيه قليلة القيمة. وفي أول هذا الشارع إلى الشمال الكنيسة الكبرى، وإلى اليمين قصر الحاكم العام الفرنسوي (ريزيدان)، وفي آخر هذا الشارع تمثال المسيو جول فري، وهو الذي كان رئيس وزارة فرنسا حين احتلَّت جنودها بلاد تونس، صنعوه واقفًا على قاعدة من الرُّخام، وإلى جانبه تمثال فتاة بيدها غصن زيتون علامة السلام، وإلى الجانب الآخر تمثال فلَّاح يحمل أدوات الزراعة بيده. والشارع المذكور ممتدٌّ من الشرق للغرب، تشطره عدة شوارع أخرى من الشمال إلى الجنوب، وقد أطلقوا أسماء الممالك على هذه الشوارع، مثل شارع روسيا، وشارع إنكلترا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا، وغير هذا من الأسماء.

والمدينة قسمان منفصلان، أحدهما إفرنجي، وهو الذي مرَّ ذكره، والآخر عربي يفصله عن القسم الآخر باب كبير، دخلتُ المدينة العربية منه، ورأيت في أعلاه كتابات عربية، وتقدَّمت إلى الشوارع فألفيتُ أكثرها ضيِّق، ولكنها أكثر نظافة من الشوارع المصرية، ووجدتُ أن حوانيتها صغيرة نوعًا، ولكنها ملأى بالأشكال والألوان، وقد راق لي منظر سوق الخضر والفواكه وحسن تنسيقها، وقد بنوا السوق العمومية هنا على شكل سوق الآستانة — ولو أنها أقل أهمية — وجعلوا أسواقًا كثيرة تتفرَّع منها، لكلٍّ منها اسم الشيء الذي يُباع فيها، مثل سوق البلاغجية أو هي لبيع الأحذية، وسوق العطَّارين تتضوَّع من حوانيتها روائح العطر. والورد في هذه البلاد معروف بالجودة وروائح المسك والبخور والند، وهم يوقدون بعض هذه الأصناف تشويقًا للطالبين. وسوق الدلَّالين يدور فيها الرجال حاملين البُسُط والأحرمة على أكتافهم، وفي أيديهم الخواتم والحلي والساعات، وفي أعناقهم السلاسل يعملون على بيعها بالمزاد ذاهبين آيبين. وهنالك مخازن كبرى ووكالات تُبَاع فيها المنسوجات الحريرية والبُسُط الصوفية والبرانس الحريرية الجميلة الألوان، ينتابها السياح ويشترون منها مقادير في كلِّ عام. وعلى مَقْرُبَةٍ من هذه السوق جامع الزيتونة، وهو جامع قديم مشهور بُنِيَ سنة ١٤١ هجرية، وفيه المدرسة الإسلامية تُلْقَي دروسها على الطلاب، مثل الجامع الأزهر، ولكن دخول الجوامع غير مباحٍ لغير المسلمين في كلِّ بلاد تونس خلافًا لبلاد الجزائر. وعلى مَقْرُبَةٍ منه جامع سيدي ابن العروس قام في موضع كنيسة إسبانية قديمة شهدناه من الخارج. وداومنا المسير حتى بلغنا القلعة، واسمها عندهم القصبة، وهي قديمة بناها الإسبانيون واحتلها الأتراك زمانًا، وغيَّر الفرنسويين هيئتها بعد احتلالهم، وهي الآن منزل الحامية الفرنسوية. ولهذه القلعة ذكر في التاريخ بحوادثها العظيمة، من ذلك أنه لمَّا تقدَّم ملك إسبانيا كارلوس الخامس لفتح تونس في سنة ١٥٣٥ كان في هذه القلعة عشرون ألف أسير من النصارى سجنهم خير الدين باشا، فكسروا الأبواب وخرجوا لمساعدة الملك على الدخول كما مرَّ في المقدمة التاريخية. وقد ذكرنا أنَّ المسلمين من أهل هذه المدينة ٧٠ ألفًا وربَّما كانوا أكثر، فهي فيها ساحات رحْبَة ولكنها خالية من الأغراس والأشجار وبِرَك الماء على النسق الإفرنجي، فكلُّ ما هنالك بعض القهاوي يجلس الرجال فيها إلى مقاعد أو دكك من الخشب بعضها مفروش بالبُسُط والبعض بلا فرش، وهم يتربَّعون على هذه المقاعد بعد نَزْعِ الأحذية أو يقعدون على الكراسي يشربون القهوة وماء السوس، ولا يدخِّن منهم إلا القليل، وقد يجتمع حوالي ألف منهم في ساحة واحدة ولا سيَّما ساعة الغروب في ساحة جامع سيدي محرز، حيث تَرَى الهيئة التونسية على أتمِّ أشكالها. ولمَّا كانت الشوارع كلها ضيِّقة في الأحياء العربية لا تكفي لمرور العربات، فقد بنوا خطًّا لعربات الترامواي تجرُّها الخيل في محلِّ السور القديم حول المدينة من خارجها، أوله عند باب المدينة الذي ذكرناه، ويمرُّ على اليمين في شارع باب السويقة، فشارع المالطية فشارع قرطاجة، ثمَّ يمرُّ أمام القلعة ويتجه بعد ذلك شمالًا إلى شارع الجزيرة حتى يبلغ باب المدينة من الشمال بعد مسير نصف ساعة يرى الراكب في خلالها هيئة هذه المدينة وشوارعها، واسم الشارع نجع.

قصر الباردو: ذهبتُ في هذا اليوم إلى قصر الباردو، وهو لفظٌ إسباني معناه المتنزَّه، وقد مرَّ وصف الباردو في فصل الكلام عن مدريد من هذا الكتاب. وأمَّا باردو تونس فإنه كان قصر البايات في الزمان الماضي، موقعه إلى شمال تونس على مسيرة كيلومترين، وقد أحاطوه بسور بنوا من داخله عدَّة قصور ومنازل لهم وثكنة للجنود ودارًا للقضاء وسجنًا، وكلُّ هذا داخل السور على طريقة القلعة في مصر مدَّة أيام محمد علي. وكان الباي ينتقل كلَّ يوم من منزله إلى دار المحكمة أو الديوان، حيث يجتمع الوزراء والمشيرون بين يديه ويبتُّون في أمور البلاد، ولكن علي باشا — وهو الباي الأسبق — تَرَكَ هذا المكان بعد الاحتلال الفرنسوي، وبنى له قصرًا في المَرْسَى، سنعود إلى الكلام عنه. ولا شيء في الباردو من عظمة البناء وجماله غير أنه كثير الاتساع، يملُّ المرء من التجوُّل في جوانبه؛ لأنه يدخل من ردْهة إلى ردْهة، ومن صحنٍ إلى صحنٍ ومن ممرٍّ إلى ممرٍّ، وفيها مسافات بعيدة. على أنَّني صعدتُ سُلَّمًا من الرُّخام إلى جانبه من هنا ومن هنا تماثيل ثمانية سباع من الرُّخام الأبيض، وكان حارس القصر معي، وقد ولجتُ ردْهة واسعة مبلَّطة بالرُّخام الأبيض وحولها رواق قام على عُمُد مستدقَّة من الرُّخام، قيل إنها نُقِلَتْ من قرطاجة، وقد نَقَشُوا على جدران هذا الرواق نقوشًا عربية جميلة وآيات قرآنية. وتحت هذا الرواق قاعات، فهي تحكي قاعات قصر شبرا في مصر ورواقه، ودخلت ردْهة ثانية مبلَّطة بالرُّخام الأبيض كالأولى، وفي وسطها بِرْكَة وحولها رواق قائم على ٨٠ عمودًا دقيقًا وجدرانه ملبسة بالقيشاني الجميل أزرق وأخضر.

وأمَّا القاعات فكثيرة العدد، أذكر منها قاعة كانت محكَمَة، في صدرها عرش كبير يُرتقى إليه على ذروتين، وكله مذهب ومكسو بالحرير الأحمر، كان يجلس الباي إليه ومن حوله الكراسي الأخرى للأعضاء والأعوان. ومنها قاعة الاستقبال، وهي واسعة كبيرة، في صدرها عرش يُرتقى إليه فوق ثلاث ذرى، وهو مذهَّب أيضًا ومكسو بالقطيفة الحمراء، تتدلَّى منه شراريب القصب، وفي أعلاه الهلال والنجمة، وهما شعار الولاية التونسية. هنا تجري التشريفات التونسية الكبرى في أيام المواسم والأعياد؛ إذ يأتي سمو الباي بموكب حافل وهو بملابسه الرسمية وسيفه ونياشينه، ويقابل وفود المهنئين من رجال الحكومة الوطنيين والأجانب، وكلهم بالملابس الرسمية والنياشين. وعادة الوطنيين أن يقبِّلوا راحة الباي عند السلام خلافًا للمصريين؛ فإنهم يقبِّلون ظاهر يد الأمير. وقد ذكر لي أحد التونسيين أنَّ التشريفات عندهم مهيبة؛ لأنَّ القادم يحيِّي الباي بما يليق بمقامه، فيصدر الباي أمره إلى أحد رجال التشريفات أن يبلغه الجواب. وقد زُيِّنَتْ هذه القاعة من قِدَم برسوم الملوك والبايات بقدرهم الطبيعي داخل براويز مذهبة، منها صورة محمد باي وحسين باي وأحمد باي وصادق باي، هو الذي أمضى المعاهدة مع حكومة فرنسا في شهر مايو سنة ١٨٨١. وهنالك صورة فكتور عمانويل الثاني ملك إيطاليا ونابوليون الثالث وإمبراطور النمسا الحالي في سنِّ العشرين، وهو السنُّ الذي كان به يوم زار تونس. وأثمن هذه الرسوم صورة لويس فيليب ملك فرنسا، رُسِمَتْ على قماش من معمل دوبلين الشهير، وثمنها لا يقلُّ عن مائة ألف فرنك. وصحبنا الحارس بعد ذلك إلى قسم في القصر كان مُعَدًّا لزوجات محمد باي الأربع الشرعيات، وفيه ردْهة عظيمة أرضها رخام أبيض، وفي كلٍّ من أركانها الأربعة غرفة لإحدى الزوجات، ولهنَّ جميعًا قاعة عمومية عُرِفَتْ بقُبَّتها الشاهقة يسطع ذهبها الوهاج، وقد زُخْرِفَت بالمرائي الصغيرة، براويزها زرقاء وحمراء وبيضاء.

وعلى الجملة فهم بالغوا في إتقان هذه القاعة وزخارفها إكرامًا للزوجات المذكورات، وقد أصبحت هذه القاعة والغرف والردهات جزءًا من المتحف العلوي، دُعي باسم علي باي، جمعوا فيه كل ما في بلاد تونس من العاديات والآثار والنفائس التاريخية، ونقلوا إليه ما وجدوا من الفُسَيفساء من المعابد الرومانية، ورصُّوها في هذا المتحف على يد صُنَّاع من مَهَرةِ الطليان، وهي كثيرة بلغت مساحتها ١٣٧ مترًا مربَّعًا. وهنالك قبور قياصرة رومية وتماثيل، منها تمثال من حجر الصوان لأورفة من آلهة الموسيقى عند الأقدمين، وفي يدها قيثار، وحولها أشكال وحوش البر كأنها تسمع وتَطْرَب لشجيِّ الأنغام.

البرنس محمد الهادي بك: وقد زُرْتُ في هذا اليوم سموَّ البرنس محمد الهادي بك ولي عهد تونس يومئذٍ وهو الباي السابق، كنت قد عرفتُهُ في فيشي من مدن فرنسا فتلطَّف — حفظه الله — وتَنَازَلَ إلى دعوتي لزيارته إذا ما أتيت تونس، ذهبتُ إلى قصره في درمش، وهي من ضواحي المدينة على شاطئ البحر، فأرسلتُ بطاقتي، ولمَّا دخلتُ عليه حَيَّاني باللطف والترحيب، وخاطبني بلسانه الطَّلْق، وقد هابني منظره الوقور وقامته الطويلة وجبينه العالي وعيناه السوداوان البرَّاقتان، يرى المرء من حديثه وملامحه في الحال مقدار ذكائه وإقدامه. ولجنابه شهرة في الاقتدار السياسي والإداري والمالي، وفي حلِّ المعضلات. زار باريس مرارًا وقصدها في هذا العام أيضًا بالنيابة عن والده في معرضها العام، فقابله رئيس الجمهورية بما يليق بمقامه السامي من الإكرام، وأنزله ضيفًا كريمًا في القصر الذي أُضيف به شاه العجم. ولمَّا مثلت بين يديه استدعى أنجاله الكرام وعرَّفني بهم، فلمَّا انتهت المقابلة رافقني هؤلاء الأنجال إلى حديقة القصر، وفي بعض أنحائها لهم الخيول المطهمة العربية تحكي الغزلان في رشاقتها وسرعة المسير. وقد برِحْتُ القصر شاكرًا ما لقيتُهُ من لُطفِ أصحابه الفخام.
البرنسيس ناظلي هانم: وزُرْتُ في هذه المدينة أيضًا دولة البرنسيس ناظلي هانم، وهي من صاحبات المقام الخطير بين أميرات البيت الخديوي الكريم، كانت في قصرها في حلق الوادي حيث تمَّ عقد زواجها بحضرة السري سليل الكرام خليل بك بو حاجب، وقد تنازلت — حفظها الله — ودعتني للطعام بعد أن قابلتني بالإكرام، فسمعت من درر أقوالها وشهدتُ من صائب آرائها ما شهِدَ به قبلي العارفون واشتُهر عن هذه الأميرة الكريمة بين الشرقيين والغربيين. وكنت مدَّة إقامتي في تونس أتردَّد إلى هذا البيت الكريم، فتعرَّفت به بالشاب النبيل السيد شاذلي بكوش ابن بكوش باشا الذي كان ناظر خارجية تونس، وله قصران فخيمان، أحدهما في مدينة سيدي أبو سعيد على شاطئ البحر، والثاني في إريانا من ضواحي تونس في جهة الشمال، وهو القصر الذي ذهبتُ إليه مع السيد شاذلي، وقد رأيتُ من هذا الشاب ذكاءً وعلمًا، وهو من الذين دَرَسُوا الحقوق في باريس، وحالما دخلتُ القصر رأيت أدلَّة النعمة والتَّرَف؛ لأنَّ كلَّ جوانبه مبلَّطة بالرُّخام الأبيض، وقاعاته فسيحة بديعة فُرِشَتْ بفاخر الطنافس ونفيس الأطالس، وفي جملة رياشها حرير دمشقي أحمر معرق مضى عليه نحو ٥٠ سنة وهو كأنه جديد الآن. وتمشَّيت مع هذا الشاب السري في حديقة القصر، فإذا هي ملأى بأشكال الشجر والزهر من أفريقية وأوروبية، وبعضها نادر المثال. ومن سراة تونس المعدودين آل بيرم وبو حاجب وعياد، وهي بيوت كان لها صوْلة في الأيام الماضية، وكان أفرادها الحاكمين، وأهل الطبقة العليا من التونسيين يلبسون الملابس الإفرنجية، ولكن طرابيشهم مغربية لها أزرار طويلة تصل إلى الأكتاف. وقد صار الشبَّان يلبسون الآن الطربوش الإسلامبولي المعروف. وأمَّا النساء فخروجهنَّ نادر، وهنَّ تُضْرَب الأمثال بعفافهنَّ ورزانتهنَّ. ونساء اليهود من الطبقة الأولى يلبسن مثل الإفرنجيات، وأمَّا نساء الطبقة الوسطى فإنهنَّ يلبسن سراويلات بعضها فوق بعض حتى تصبح الواحدة منهنَّ مثل البرميل، ومن فوق الكل شال أحمر إفرنجي أو برنس تونسي وعزيزية طويلة على الرأس.
بلفيدير: لا بدَّ للفرنسويين أينما حلُّوا من متنزَّهات ينتابونها كما ينتاب أهل باريس غاب بولونيا وغيره، وهم ذوو همة في تحسين المدن حتى إن مدن فرنسا ولو صغرت لتعدُّ من أجمل مدائن الأوروبيين. وقد وجدوا على مَقْرُبَةٍ من تونس في جهة الشمال أرضًا بعضها مرتفع والبعض منبسط، فجعلها المجلس البلدي متنزَّها أطلق عليه اسم بلفيدير — أي المنظر الجميل — وقرَّر أن يُنفق عليها ٢٠ مليون فرنك، وقد قصدتُ هذا المتنزَّه فإذا هو مثل المتنزَّهات الفرنسوية في رسم أشكاله وشجره وغرسه ومناظره، وقد بلغت قمته بالعربة فرأيتُ منها مدينة تونس كلها بيضاء ناصعة؛ لأنهم يطْلُون جميع جدرانها بالكلس الأبيض، وتظهر الضواحي أيضًا من هذه القمَّة واضحة واحدة بعد واحدة على شاطئ البحر.
الضواحي: والضواحي كثيرة حول تونس لما أنَّ البحر يحيط بالمدينة من الشرق والشمال، وقد بُنِيَتْ على ضفافه المدن الصغرى، مثل حلق الوادي وخير الدين وقرطاجة والمرسى وسيدي أبو سعيد. ومدَّت إحدى الشركات الطليانية سكَّة حديد من المدينة إلى هذه الضواحي، طولها ١٦ كيلومترًا، فاشتراها الفرنسويون بثمن بالغ؛ حتى تكون المصالح كلها في يدهم، وتبدأ هذه السكَّة من حيِّ الإفرنج، حيث يقوم كل ساعة في النهار والليل، ويكثر الركاب ولا سيَّما في الليالي المقمرة. وإليك بيان هذه الضواحي واحدة بعد واحدة حسب وضعها الطبيعي:
  • حلق الوادي: واسمها عند الفرنسويين لاجوليت، كانت مرفأ تونس القديم، ولكنها ضاعت أهميتها بعد حفْرِ الترعة في وسط البحيرة وبناء الميناء الجديد، ولكن حسن موقعها على شاطئ البحر وإنشاء سكَّة الحديد أعاد إليها الرونق السابق، فقامت فيها الأحياء الجديدة على شاطئ البحر، ويُعدُّ أهلها الآن بستة آلاف.
  • خير الدين: دُعيت باسم خير الدين باشا وزير تونس، وهو الذي صار الصَّدر الأعظم في الدولة العليَّة وله هنا قصر. وهي مدينة صغيرة يكْثر قصَّادها للاستحمام بالحمَّامات البحرية، وقد جعلوا قصر خير الدين فندقًا ومَلْهى، فالناس تنتابه عند الغروب لتناول الطعام والشراب في الموائد الممدودة على شاطئ البحر، وفي الليل يدخلون التياترو، وكل الشخصيات فيه من يهوديات تونس المعروفات بالملابس المزوَّقة الحسناء.
  • قرطاجة: لها شهرة من أيام الفينيقيين كما ذكرنا في المقدِّمة التاريخية، وهي قريبة من محطَّة سكَّة الحديد، ذهبتُ مع دليل كان يدلُّني إلى حدود قرطاجة القديمة من الجهات الأربع، وكل الأراضي المتاخمة لها تُزْرَع الآن قمحًا وشعيرًا، وهي أراضٍ يكفي النظر إليها للعلم بما كانت دولة قرطاجة عليه من الثروة والقوَّة، حتى إنها حاربت سلطنة الرومانيين، ثمَّ دالت دولتها، فما بقي من آثارها إلا الساحة التي كان جمهور الرومان يؤمُّها في مدائنهم، وتُعْرَف باسم فورم، وفيها حتى الساعة أعمدة أو قِطَع منها مبعثرة في جوانب الأرض. وفي صَدْرِ هذا الموضع كنيسة صغيرة تُتْلَى فيها الصلوات أحيانًا للشهداء الذين قُتِلُوا في هذه الساحة حين كان الرومانيون يضطهدون النصارى ويطلقون عليهم الضواري في مثل هذه المواضع، وكان الرومانيون يُعِدُون الفُرْجَة على هذه المشاهد من أعظم المسرات. وزرنا الصهاريج الرومانية، وهي مبنية بالطوب الأحمر وكلها طويلة قليلة العرض غير عميقة، وربَّما كان عدم عمقها من رسوب الأكدار والغبار فيها مدَّة هذه القرون، حتى إنها كادت تساوي سطح الأرض، وقد جعلها الفلاحون في هذه الأيام مساكن لهم أو زرائب لمواشيهم. وذهبتُ من هنالك لأرى آثار الكردينال لافجري، وهو كاهن فرنسوي عظيم، وقد بَنَى متحفًا عظيمًا جَمَعَ فيه آثار دول قرطاجة ورومية وبزانتيوم وإسبانيا والعرب والترك، جُعلوا أقسامًا، في كلٍّ منها ألوف من هذه الآثار، وفيه قبور قياصرة رومية نُقِشَتْ أسماؤهم عليها ولا سيَّما المواقع التي فازوا فيها. وهنالك مطاحن حجرية وآلات فلكية وأسلحة قديمة كثيرة الأنواع، ومصابيح وحلي ونقود من الذهب والفضة والنحاس والزجاج، وهي — أي نقود الزجاج — نادرة المثال. وفيه موازين وأقفال ومفاتيح رومانية من الخشب كالتي تُسْتَعمل في قرى مصر والشام الآن، وأشياء أخرى لا تُعدُّ. وإلى جانب هذا المتحف الكنيسة بُنِيَتْ سنة ١٨٤٢، حيث مات ملك فرنسا لويس التاسع، وهو المعروف باسم القِدِّيس لويس سنة ١٢٧٠ عند رجوعه من بعض الحروب الصليبية؛ لأنه زار المطعونين حين تفشَّى الوباء فمات به وأقاموا له التمثال. وقد بنى الكردينال لافجري في سنة ١٨٩٠ كنيسة كبرى لها ثلاثة أبواب، وهي قائمة على صفين من عُمُد الرُّخام مذهَّبة الرءوس، وفيها كثير من آنية الذهب والفضة، تراها العين كيفما اتجهت في ذلك البناء، وأنفقوا أموالًا طائلة في زخارف السقف، وكتبوا أسماء المتبرِّعين لها بالمال على الجدران، فهي بالجملة من الكنائس الفخيمة لا نظير لها بين كنائس اللاتين في مصر وإسكندرية مع أنَّها لا يؤمُّها للصلاة إلا قليل من الرهبان، ومن يقصدها من نصارى تونس مرة كل سنة في عيد مار لويس. وفي هذه الكنيسة قبر الكردينال لافجري بانيها، وتمثاله وُضِعَ بعد وفاته فوق القبر متكئًا وبيده كتاب، كلُّ ذلك عُمِلَ من الرُّخام الأبيض الناصع.

    وفي قرطاجة فندق صغير، فيه نحو عشرين غرفة لمندوبي الجمعيات العلمية وغيرهم، وهم يأتون من أنحاء أوروبا فينقِّبون زمانًا ويبحثون ثمَّ يعودون لنشر خلاصة ما رأوا من الآثار. ولكنَّ أنقاض هذه المعابد والقصور وأجزاءها فرَّقتها الأيدي من زمان طويل، حتى إنهم يقولون إن كل معابد تونس من جوامع وكنائس بُنِيَتْ من حجارة المباني القديمة في قرطاجة، وكأنَّ هذا لم يكفِها حتى إنهم نقلوا كثيرًا من بقايا القدماء إلى مالطة وصقلية وبنوا بها ما عندهم من الكنائس والقصور، فما بقي من تلك العظائم غير أراضٍ زراعية للرهبان يؤجِّرونها للفلاحين، فسبحان مغيِّر الأحوال!

  • المرسى: لمَّا احتلَّ الفرنسويون تونس وبَسَطُوا حمايتهم عليها ترك علي باي قصر الباردو، وتوطَّن المرسى مع أهل بيته في قصر بناه، وقد رأيتُ العَلَمَ التونسي يخفق عليه دليل وجوده في القصر وهو تُوفِّي فيه. وليس لهذا القصر جمال ظاهر، ولكنه بُنِيَ في أرض واسعة كبيرة، وله باب بالغ العلوِّ، يقف أمامه رجال الحرس الخصوصي للباي يلبسون مثل جنود الدولة العليَّة، غير أنَّ طربوشهم تونسي له شرابة طويلة وحلية من القصب فوق جهة الجبين هي شعار تونس. فترى هؤلاء الجنود يخطرون أمام القصر والناس تمرُّ من الساحة الكبرى التي تحكي ساحة قصر عابدين، يريدون الذهاب إلى القهاوي الواقعة على شاطئ البحر.
  • سيدي أبو سعيد: وهذه مدينة صغيرة جميلة بُنِيَتْ على مرتفَع فوق ماء البحر، وبُعْدُها عن المرسى قليل، تكثر فيها كروم العنب والزيتون الشهية في وسطها البيوت البيضاء، وهواؤها جيد صحي، فأغنياء المسلمين بنوا فيها المنازل أو استأجروها لقضاء أشهر الصيف فرارًا من حر تونس، وهو يشتد كثيرًا في فصل الصيف.
  • حمام الأنف: إن كلَّ ما تقدَّم ذكره من الضواحي واقع إلى شمال مدينة تونس ما خلا هذه؛ فإنها في الشمال الغربي، وهي تعدُّ المتنزَّه العمومي للمدينة، يقصدها الناس بسكَّة الحديد. وقد ذهبت إليها يوم أحد حين تكثر القطارات، فكنتُ أرى البحر في الطريق إلى الشمال والمزارع البهيَّة إلى اليمين، وفي طرفها جبل أبي قرنين سمُّوه بهذا الاسم؛ لأن له رأسين كالحراب في أعلاه وعلوُّه ٦٤٠ مترًا. ولمَّا نزلنا في المحطَّة سِرْتُ مع الرفاق في طريق رُصِّعَ بالحصى، وإلى جانبه المنازل الصغيرة كلها ذات دور واحد ومنظرها يشرح الصدور، حتى بلغت شاطئ البحر بعد مسير ربع ساعة، فإذا بهم قد أنشئوا على ضفته طريقًا عظيمًا غرسوا فيه الأشجار الأفريقية والأوروبية إلى الجانبين، يسير فيه الناس لاستنشاق هواء البحر النقي. وفي هذا المكان تياترو بُنِيَ على النسق المغربي، رأينا فيه جوقًا فرنسويًّا من المغنِّين والراقصين، وهم يأتون بمثل هذا الجوق في كلِّ صيف. وهناك فندق وملهى وكازينو وحمامات كالتي توجد في كلِّ المصايف البحرية في سائر الأقطار.
من تونس إلى مالطة: وفي هذا اليوم برحت تونس، فقامت الباخرة في ترعة البحيرة السابق ذكرها، وكانت تسير الهوينا سير البواخر في ترع السويس، وجعلت مناظر تونس تضمر وتتضاءل حتى غابت عن العيون. ولمَّا دخلت الباخرة عرض البحر جدَّت في المسير وكان الليل قد بدأ فدخلنا غرفة الطعام، ووجدنا فيه رجالًا من وكلاء البيوت التجارية ذاهبين إلى مالطة لشراء الخروج (دانتيلة) منها؛ لأن هذا الصنف رخيص في مالطة جيد الصنعة، تصنعه بنات الفقراء بأيديهنَّ ويبعنه برخيص الأثمان. وظهرت جزيرة مالطة في الصباح بحصونها والمدافع فيها مصوبة إلى جهة البحر، والبوارج الإنكليزية رأسية في موضعها، وبواخر التجار في ميناء لها آخر، وقد كان شكل هذه الجزيرة ودخول الماء في خلال أرضها مكوِّنًا لأحسن المواني الطبيعية تضارع مواني بورسعيد وإسكندرية، وهي التي أنفقوا عليها الملايين، وقد ملكت دولة إنكلترا هذه المواني المعدَّة لمرادها بلا نفقة من أدلَّة حظِّها المشهور. وحالما رَسَت الباخرة صعد الطبيب في يده الإنجيل والصليب، وجعل يطلب من كلِّ راكب أن يقسم أنه لم يأتِ من مصر، حيث انتشر الهواء الأصفر، فلمَّا جاءني أبرزتُ شهادة من قنصل إنكلترا في تونس تدلُّ بأني تركتُ مصر من نحو ثلاثة أشهر، وكنت سائحًا في أوروبا والغرب، فكان يلمسني بالصليب مرارًا، وهو يتلو عليَّ الأيمان بأنِّي لست قادمًا من مصر، ولعلَّ القوم يُعْذَرون في هذا التشديد؛ لأن التاريخ يدلُّ أن الطاعون والهواء الأصفر يفتكان في جزيرتهم فتكًا ذريعًا، وليس لهم ملجأ غير تلك الجزيرة يفرُّون إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤