رومانيا

خلاصة تاريخية

أصل الشعب الروماني: كان مهد الشعب الروماني في الناحية الواقعة بين البحر الأسود والبحر الأدرياتيكي والبحر الأبيض المتوسط.

وكان يسكن هذه البقعة في الأعصر القديمة شعب التراس أجداد الذين نسمِّيهم اليوم «الرومان»، وكان يُطْلَق اسم «الالليريين» على الذين كانوا يسكنون منهم القسم الغربي من شبه جزيرة البلقان على شواطئ البحر الأدرياتيكي، والذين كانوا يسكنون على شمال نهر الدانوب «الطونة» في جبال ترانسلفانيا والكاربات فيهم «الداس» «والجيت»، أمَّا القسم الشرقي من شبه الجزيرة الواقع على شمالي الدانوب فكان يسكنُهُ فرع من عائلة التراس وهم المقدونيون.

وهذا الفرع هو أول مَن تمكَّن من أن يجعلَ له أثرًا باقيًا في تاريخ الشعوب، فإن المقدونيين توصَّلوا في القرن الرابع قبل المسيح إلى مدِّ رواق سلطتهم حتى إلى أواسط آسيا ونواحي أفريقيا تحت قيادة الإسكندر ذي القرنين، فألَّفوا أكبر سلطنة أُتيح لرجل فرد أن يتولَّاها.

وبعد تقسيم مُلْك الإسكندر امتدَّت السلطة الرومانية على كل شبه جزيرة البلقان، ولم يلبث الالليريون وبعدهم المقدونيون أن امتزجوا بالعنصر الروماني، وأصبح نهر الدانوب عند مجراه الأسفل حدًّا فاصلًا بين الشعب الروماني والتراس أو الداس. وكان هؤلاء يقيمون — كما تقدَّم — في جبال ترانسلفانيا، حيث ألفوا مدَّة عدة قرون مملكة ذات نظام راقٍ نالت شأوًا بعيدًا من العمران. وكان هذا الشعب شعب زراعة واقتصاد وإقدام، هدَّد مدَّة بقيادة ملوكه الشجعان أمثال بيريبيستا وديسيبال الشعب الروماني النازل بين بحر الأدرياتيكي ونهر الطونة.

وكثيرًا ما حاول رجال الجمهورية الرومانية وإمبراطورة الرومان إخضاع هذا الشعب وتدويخه؛ لأن خطره كان يتفاقم يومًا فيومًا، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك، فكانوا يكتفون بعقد الصلح بشروط مرضية، هذا إذا لم يُدحروا ويُردوا على الأعقاب خاسرين.

ولمَّا جلس على العرش الإمبراطور تراجان الروماني تبدَّلت هذه الحال؛ فإنه أشهر الحرب الأولى على التراس سنة ١٠١ بعد المسيح؛ وذلك ليضمن الراحة والسكينة لمملكته المترامية الأطراف، وبعد مواقع دموية بين الفريقين انكسر التراس في السنة التالية (١٠٢)، واضطرَّ ملكهم ديسيبال إلى دفع الجزية التي ضربها عليه الإمبراطور تراجان.

على أنَّ السِّلْمَ لم يستتب طويلًا؛ فإن ديسيبال لم يقبل بشروط الرومان إلا ليتسنَّى له الوقت اللازم لاتخاذ أهبته واستعداد قومه لخلع نَير الأجنبي. فأخذ يحصِّن الحصون ويجمع العدد، ويعقد محالفات مع الشعوب المتاخمة. فاضطر الإمبراطور تراجان إلى معاودة الحرب. وفي سنة ١٠٥ بعد المسيح زحفت الجيوش الرومانية ثانيةً على بلاد التراس وعبرت نهر الدانوب على جسر أقامته فوقه، فقاتل الملك ديسيبال حتى أعياه القتال، وتكاثَرَ عليه عدد الأعداء فقَتَلَ نفسه، وعاد الإمبراطور تراجان إلى رومة بالغنائم الثمينة.

وسُمِّيت تلك البلاد بعد إخضاعها «داسيا»، وكانت تشتمل على مقاطعات ترانسلفانيا وبانات وأولتنيا، وما نسمِّيه اليوم فلاخيا. ولمَّا كان الرومانيون أرقى حضارة من الداس لم يلبثوا أن اضطرُّوهم إلى استعمال لغتهم والتخلُّق بعاداتهم، وهكذا اندثرت لغة التراس وحلت محلَّها اللغة اللاتينية من الأدرياتيكي حتى البحر الأسود.

ومن امتزاج ذينك الشعبَين — شعب التراس أو الداس والشعب الروماني — تولَّد شعب الرومان الذي يسكن الآن رومانيا.

وقد لاقت الإمارات الرومانية — وهي فلاخيا ورومانيا ومولدافيا — مصاعب شتَّى منذ نشأتها؛ فمن جهة كانت البلاد المجاورة كالمجر وبولونيا تسعى لتُخضعها لسلطتها، ومن جهة ثانية كان انقسامها على نفسها يضعفها ويضعضع قواها. ولم يلبث أنْ ظَهَرَ خطر أكبر من وراء الدانوب بظهور الأتراك.

فظلَّت تلك الإمارات مدَّة ثلاثة قرون تقريبًا موجِّهة كل اهتمامها لإيقاف زحف الأتراك، وكان الرومان بدفاعهم عن وطنهم يدافعون عن تخوم أوروبا.

وقد ظهر في ذلك العهد رجلان عظيمان، وهما مرشيا الكبير (١٣٨٦–١٤١٨) في فلاخيا، وإسكندر الصالح (١٤٠٠–١٤٣٣) في مولدافيا، وقد وطَّد هذان الأميران الكبيران الإمارات الرومانية على أساس متين عند شواطئ الدانوب الأسفل، فقد انتشرت راية السلم في مولدافيا على كل عهد إسكندر الصالح، فتسنَّى للبلاد أن تنظِّمَ أمورها، وتدبِّر شئونها وتُسْرِع الخطى في سبل الترقِّي والعمران. وكان لملك مرشيا الكبير في فلاخيا أهمية عظيمة أيضًا، فإن هذا الأمير نظَّم أحوال بلاده، ووسَّع تخومها حتى بلغت البحر الأسود بضمِّه إليها المقاطعة المعروفة اليوم باسم دوبرودجا، وقد رد مدَّة طويلة غارات الأتراك، ودحر في موقعة روفين (١٣١٤) السلطان بايزيد الذي كان عَبَرَ نهر الطونة ليغزو تلك البلاد ويفتحها. ولمَّا ضاق الأمير مرشيا ذرْعًا ولم يبقَ في طاقته مداومة القتال اعترف بسيادة الدولة، وعُقِدَتْ محالفة بينه وبينها سنة ١٤٠٢.

وبعد ذلك ضعفت مولدافيا وانكسرت شوكتها بسبب المشاحنات والتنازع على السيادة، وظلَّت هذه الحال حالها حتى ولِيَ العرش الأمير أسطفان، وقد امتاز بصفاته الحميدة وفضائله العديدة حتى أُطلق عليه لقبا «الكبير» «والقديس»، وظلَّ في دست الإمارة ما يناهز نصف قرن (١٤٥٧–١٥٠٤)، وتمتَّعت البلاد على عهده باستقلالها الوطني، وذلك بفضل جيوشها المنظَّمة وخصوصًا بفضل أميرها المغوار، فإنه كَسَرَ عسكر المجر في موقعة بايا وانتصر على عسكر الأتراك في راهوفا ورازبوبني، وعلى البولونيين في غابات كوسمان، وهكذا صان استقلال بلاده. واشتُهر اسم إسطفان الكبير وخبر انتصاراته الباهرة في الغرب، فمنحه البابا سكستس الرابع لقب «بطل المسيح».

وبعد موت إسطفان وَلِيَ الأحكام ابنه بوغدان، فعمل بنصيحة أبيه له على فراش موته، فاعترف بسيادة الدولة، وعَقَدَ مع الباب العالي نفس المعاهدات التي كانت فلاخيا قد رضيت بها منذ قرن من الزمن.

وقد حفظت الإمارتان الرومانيتان بموجب هذه المعاهدات استقلالًا تامًّا تقريبًا، وبقيت الاختصاصات الأساسية لسلطة الأمراء الوطنيين سالمة دون مساس، وحُصِرَت حقوق الباب العالي في تثبيت الأمراء الذين تنتخبهم الأمة، وفي ضرْبِ جزية سنوية مقرَّرة، ولم يكن يحقُّ للأتراك أن يبنوا مساجد، ولا أن يقيموا في البلاد الرومانية بمقتضى تلك المعاهدات.

وقد حاولت فلاخيا مرتين أن تخلع عن عاتقها نير الأتراك، وكان ذلك أول مرة على عهد فلاد تزبش، فإنه أبى تأدية الجزية المفروضة، فأرسلت الدولة حملة تحت قيادة حمزى باشا لتطويعه، فهزمهم فلاد شرَّ هزيمة بعد أن قَتَلَ منهم عشرين ألفًا مع قائدهم حمزى باشا. على أنَّ الأتراك عاودوا الكرَّة، وتمكَّنوا سنة ١٤٦٢ من عبور الدانوب، فخلعوا فلاد وولوا مكانه أميرًا مواليًا لهم.

وثاني مرة في أواخر القرن السادس عشر، عندما صَعَدَ على عرش فلاخيا ميشيل البطل، وكانت إذ ذاك الدولة العليَّة في أرفع ذروة المجد والعز، بعد أن أذعنت لسلطتها بلاد المجر الشرقية، فكانت وطأتها شديدة على الشعب الروماني. فلمَّا قَبَضَ ميشيل على زمام الأحكام وجد البلاد في حالة محزنة، والعساكر يعاملونها كولاية لهم، فتحالف مع سيجيسموند أمير ترانسلفانيا التي كانت إذ ذاك إمارة رومانية، وأرون أمير مولدافيا، وتواطئوا ثلاثتهم على طرد الأتراك، فقتلوا كلَّ مَنْ كان منهم في بخارست، ثمَّ أحرق ميشيل مدينة جورجيفو، وزَحَفَ على هورسوا وسليسترا حيث كسرهم.

فصعب على السلطان مراد فوز الأمير، وأمر حشمت باشا بمحاربته وخلعه وتولية غيره. فسار الباشا ومعه ٤٥ ألف مقاتل، على أنَّ الأمير ميشيل كسره في مواقع شديدة بالرغم عن جيشه الجرَّار، وقتل الرومان حشمت باشا نفسه في إحدى المواقع.

وظلَّ الأمير ميشيل يحارب، وتمكَّن في أربعة أشهر بمساعدة جنود ترانسلفانيا ومولدافيا من الانتصار في عشر مواقع، وفتح خمسًا وعشرين مدينة كانت تحتلها الدولة العليَّة.

وبعد موت السلطان مراد خلفه ابنه السلطان محمود الثالث المشهور بشدَّته وصرامته، ففتح باب القتال، وأنفذ الصدر الأعظم سنان باشا ومعه ١٨٠ ألف مقاتل، فأبدى الأمير ميشيل حينذاك بأسًا غريبًا وإقدامًا عجيبًا، فأوقف الجيش العثماني في كالوجاريني، وحال دون زحفه إلى الأمام، مع أنَّ هذا الجيش كان يزيد جيشه عشرين ضعفًا.

وعلى إثر هذه الانتصارات الباهرة فَتَحَ الأمير ميشيل بلاد ترانسلفانيا، ودخل مدينة ألباجوليا غانمًا ظافرًا، بصفته أميرًا على تلك البلاد، ثمَّ استولى سنة ١٦٠٠ على مولدافيا، وحلف له «البويار» أو الأمراء يمين الأمانة. وهكذا حقَّق ميشيل البطل في مدَّة وجيزة أعزَّ أماني الشعب الروماني؛ إذ جَمَعَ على رأسه ثلاثة تيجان، فلاخيا ومولدافيا وترانسلفانيا.

على أنَّ العهد لم يطُلْ على هذه المملكة التي أسَّسها ميشيل، فإن بعض المجريين قتلوه غيلةً وهو نائم في مضربه، ولم يكن يتجاوز الثالثة والأربعين من عمره، وكان مقتله سنة ١٦٠١، وبعد قتله عادت المملكة الرومانية فانفصلت ثانيةً إلى ثلاث إمارات.

•••

تاريخ الإمارات الرومانية من ١٦٠٠ إلى ١٨٦٦: ومنذ غِرَّة القرن السابع عشر نرى رومانيا تدخل في طور جديد من التاريخ، ولم تبقَ الولاية فيها لسلالات أمرائها الأقدمين — أي أمراء موزاتيني في مولدافيا وأمراء بشارابيا في فلاخيا — بل ادَّعت تركيا لنفسها حقَّ تعيين الأمراء الحاكمين وعزلهم، وكان هذا خَرْقًا للمعاهدات والاتفاقات، واستبدَّت بسلطتها، فكانت تعيِّن كل سنتين أو ثلاث أميرًا جديدًا، وكان هذا ينقدها أموالًا طائلة ثمن فرمان توليته، وبعد قبضه على أزمَّة الأمور كان همه بالطبع ابتزاز الأموال من الأهالي؛ ليستردَّ ما تسرَّب منه إلى الآستانة، سيَّما وهو عارف بأن عهد ولايته لا يطول، بل ينقضي عند وجود مَنْ يدفع أكثر منه.

فليس — والحالة هذه — ما يقضي بالعجب من نزول هذا الشعب إلى دَرَكَات الاستعباد بعد أن كان نشيطًا قويًّا. أمَّا الأشراف الذين كانوا في سالف الزمن حياة البلاد وروحها، فقد انحطُّوا هم أيضًا، وحصروا مساعيهم في الدسائس والتزلُّف للحصول على الإمارة.

على أنَّ هناك أمرًا جديرًا بالملاحظة، فإن البلاد الرومانية بالرغم عن انحطاطها ظلَّت محتفظة بنظاماتها وإدارتها الخصوصية، فكانت تحت سيادة الدولة فقط ساعة كانت سائر البلاد النصرانية الواقعة وراء الدانوب كالصرب والبلغار واليونان وقسم من المجر تحت سلطة الدولة العليَّة مباشرة، تديرها كسائر ولاياتها.

وفي بداية هذا العهد عندما كان يدير زمام الأحكام أمراء رومانيون ذاقت البلاد طعم الراحة والسكينة بعد ما كانت قضت مدَّة ليست باليسيرة في قتال دائم وحرب مستمرة.

ومن الأمراء الذين يستحقُّون ذكرًا خصوصيًّا في ذاك العهد ماتاي بساراب في فلاخيا وباسيل لوبو في مولدافيا؛ فإن هذَين الأميرين وَضَعَا همَّهما في إنشاء المطابع وفتح المدارس لنشر العلوم والمعارف، وكان ذلك أشبه بالمنافسة بينهما، فَبَدَت في البلاد نهضة حقيقية، فطُبِعَت الكتب الكنسية، ودُوِّنت الأمور التاريخية وخصوصًا المتعلِّقة منها بتاريخ الشعب الروماني الأول، ونُشِرَتْ كتب القانون والشرائع لتعميم المعارف القانونية. وفي ذاك العهد أيضًا شُيِّدَت الأديرة، وأشهرها دير القدِّيسين الثلاثة في ياسي، وأعظم عمل يُذْكَر لهذين الأميرَين استبدال اللغة السلافونية باللغة الرومانية في الطقوس الكنسية.

ثم أخذت سلطة الأتراك تضعف، وظلهم يتقلَّص شيئًا فشيئًا، سيَّما بعد انكسارهم أمام فيينَّا، وبدأت النمسا وروسيا تنشران نفوذهما في الإمارة الرومانية، وكان الأمراء حكام البلاد يضعفون أمامهم تارةً بهذا وتارةً بتلك ليخلعوا نير الأتراك.

ولهذا السبب عَدَلَت تركيا عن تقليد الإمارة للأمراء الوطنيين، وصارت تولِّي رجالًا من اليونان عرفوا أن يكتسبوا ثقتها بالطرق المألوفة.

وهذا هو عهد اليونان الفناريين الذي دام أكثر من قرن كامل (١٧١٢–١٨٢١)، وكان هؤلاء الحكام الأجانب ينزلون في البلاد مع حاشية كبيرة من الأهل والمقرَّبين فيطلقون سراحهم لسدِّ مطامعهم. وعليه فلا عجب إذا كان قد حفظ الرومان أسوأ ذكر لهذا العهد.

وكان الباب العالي استنادًا إلى سلطته قد استبدَّ بالبلاد، وجعل الجزية عشرة أضعاف ما كانت عليه، وكان يضيِّق على الأهالي أيَّما تضييق؛ ليضطرَّهم إلى دفع المترتِّب عليهم.

وقد رأت البلاد بعض أمراء صالحين تركوا فيها ذكرًا حسنًا كالأميرين نقولا وقسطنطين مفروكوردات في فلاخيا، والأمير جبريل جيكا الروماني في مولدافيا، وقد أَدْخَلَ الأولان في إمارتهما إصلاحات عديدة تَرْمِي إلى تحسين حالة الفلاحين.

وكان المقام الأول في هذا العهد للنفوذ اليوناني، حتى تخلَّقت الدوائر العالية بأخلاق اليونان ونسجت على منوالهم. وفي هذا العهد أيضًا تمكَّن الرهبان اليونان من الاستيلاء على قسم كبير من أملاك البلاد بفضل الأديرة الرومانية الموقوفة، وكان إيراد هذه الأوقاف بدلًا من أن يبْقَى في البلاد يُرْسَل إلى الخارج ليُضَافَ إلى إيراد الأديرة اليونانية في كلِّ الشرق من جبل أتوس إلى القبر المقدَّس إلى البطريركتين الأورشليمية والإسكندرية. وظلَّت الحال على هذا المنوال حتى سنة ١٨٦٣ يوم كان يحكم البلاد الأمير كوزا الروماني، حيث أُخذت أملاك الأديرة وأصبحت عالمية.

وحدثت إذ ذاك مشاكل عديدة بين تركيا وروسيا والنمسا، جعلت بلاد رومانيا مدَّة من الزمن ميدان حروب طاحنة، واحتلتها الجيوش الأجنبية سنين طويلة، فاقتطعت لها قِسْمًا من أطرافها، ففي سنة ١٧١٨ حفظت النمسا لها إثر عقد السلم في بساروفيتز ولاية أولتانيا، وقد أعادتها إلى رومانيا سنة ١٧٣٩ بمعاهدة بلغراد.

وأرادت روسيا بعد حربها مع الدولة العثمانية (١٧٦٨–١٧٧٤) أن تحتلَّ الولايات الرومانية، فقاومتها النمسا بكلِّ شدَّة، ونالت من تركيا جزاء هذه الخدمة مقاطعة مولدافيا المعروفة باسم بوكوفين، حيث توجد رفات الأمير إسطفان الكبير أعظم أمراء الرومان.

وقد نالت روسيا بعد حربها الثانية مع تركيا (١٨٠٦–١٨١٢) كل المقاطعة الواقعة بين نهرَي بروت ووينسترا، أعني ولاية بسارابيا. وهكذا أصبحت مولدافيا نصف ما كانت عليه على عهد إسطفان الكبير.

فأيقظت هذه الحالة التعيسة التي آلت إليها الإمارتان الرومانيتان على عهد اليونان الفناريين العاطفةَ الوطنية في صدور الشعب والأشراف، وقد تجلَّى هذا الاستياء بأكمل مظاهرة في الحركة التي تمَّت على يد تودور فلادميريسكو سنة ١٨٢١، وكانت حركة موجَّهة ضد اليونان الذين حاولوا إذ ذاك إحداث فتنة في البلاد؛ ليستولوا على رومانيا ويتوصَّلوا هكذا إلى إنقاذ وطنهم من تحت سلطة الدولة، فدارت الدائرة عليهم وطُرِدُوا من كلِّ البلاد الرومانية.

ومن منذ ذاك العهد لم يعُد الباب العالي يرسل إلى رومانيا ولاةً أجانب، بل عاد يعيِّن — كذي قبل — أمراء وطنيين، وكان لذلك تأثير حسن في البلاد؛ لأنَّ الأمراء الذين تولَّوا الأحكام بعد ثورة ١٨٢١ بذلوا مجهودهم لتحسين الحال، وتدبير الأمور وتنظيم الإدارة ونشر المعارف. وفي ذاك العهد أُنشئت المدارس الرومانية التي لا تزال زاهرة إلى أيامنا هذه.

وبعد بضع سنوات عاد الروس على إثر حرب جديدة مع الدولة العثمانية (١٨٢٨–١٨٣٤) فاحتلُّوا الولايات الرومانية، ونظَّموها على شكل جديد حسب ما هو مبيَّن في القانون الأساسي. وقد وضِع لمولدافيا قانون خاص بها، وكذلك قانون خصوصي لفلاخيا، وبالوقت نفسه وطَّدت روسيا نهائيًّا دعائم نفوذها في تلك الإمارات.

ولمَّا كانت البلاد سائرة بموجب القانون الأساسي المذكور كانت شئونها منظَّمة من كلِّ الأوجه، وكان هناك جمعية عمومية تنظر في القوانين وتوافق عليها، وكان انتخاب الأمراء منوطًا بها، وفُتِحَت المدارس ونُظم جيش، وأُنشئت سبل المواصلات. على أنَّ هذا القانون الأساسي كان يحصر السلطة في فريق من الأشراف، ولا يفتح مجالًا لإدخال الإصلاحات الحرَّة التي كان يتطلَّبها الشعب، وكان ذلك سببًا لإيجاد حركة تولَّدت عن مجرى الأفكار وبلغت أشدَّها سنة ١٨٤٨، على أنَّها لم تنجح إلا في فلاخيا، وكانت نتيجتها أن احتلَّت الجيوش الأجنبية البلاد الرومانية، وعُقد اتفاق «بالطاليمان» سنة ١٨٤٩، فظلَّت الإدارة بموجبه كما كانت على عهد القانون الأساسي الذي وضعه الروس، ما عدا بعض تعديلات وتحويرات طفيفة أُدْخِلَتْ عليه، وجاء الحكم الذي عقب هذه الثورة بنتائج مرضية للغاية؛ لأن الحكام تابعوا عمل الإصلاح الذي ابتدأ سنة ١٨٢١.

ثم كانت حرب القرم (١٨٥٤–١٨٥٦) وخرجت روسيا منها مكسورة، وعُقِدَ على إثرها مؤتمر باريس سنة ١٨٥٦. ومن جملة الأمور التي نُظِرَ فيها كانت مسألة رومانيا التي تقرَّر بشأنها ما يأتي: تُسْلَخ البلاد من تحت حماية روسيا وتعود تحت سيادة الدولة العليَّة كما كانت على عهد الامتيازات القديمة، وترك وضع الطريقة الإدارية إلى بعد تشكيل لجنة خصوصية تؤلِّفها الدول لتنظرَ في مطالب الشعب الروماني. وقد أعربت اللجنة المشكَّلة لهذا الغرض عن المطالب الآتية: أولًا: استقلال البلاد الإداري حسب الامتيازات. ثانيًا: ضمُّ الإمارة إلى إيالة واحدة. ثالثًا: تعيين أمير أجنبي من إحدى الأسر المالكة في أوروبا. رابعًا: حكومة دستورية مع جمعية عمومية تمثِّل مصالح الأمة.

فأجابت اللجنة الدولية باتفاقية سنة ١٨٥٨ إلى مطالب الشعب الروماني ما عدا مطلَبَين، وهما ضمُّ الولايات، وتعيين أمير أجنبي. ولكنَّ الشعب حقَّق هذه الأمنية في اليومَين العظيمين في تاريخ رومانيا الحديث، وهما ٥ و٢٤ يناير من سنة ١٨٥٩، حيث انتخب الميرالاي إسكندر يوحنَّا كوزا أميرًا لمولدافيا ثمَّ أميرًا لفلاخيا باتفاق آراء الجمعيتين العموميتين، ووافق الباب العالي بتصعُّب على هذا الانتخاب، واعترف بضمِّ الولايتين تحت سلطة أمير واحد مع إبقاء وزارة وجمعية كل ولاية مستقلَّة. وبعد مُضِيِّ سنتين تمَّ الاتحاد بتوحيد الإدارة في الولايتين باسم الإمارات المتحدة، وهكذا تحقَّقت أعزُّ أماني الوطنيين الرومانيين.

وتمَّت إصلاحات خطيرة على أيام البرنس كوزا، وأهمها وضعُ يدِ الحكومة على أملاك الأديرة، وبهذه الطريقة قُطِعَتْ إحدى الروابط التي كانت تربط رومانيا بسائر الشرق؛ لأنَّ رهبان اليونان كانوا يستفيدون وحدهم من مدخول الأديرة والأراضي الموقوفة عليها.

ومن أهمِّ هذه الإصلاحات أيضًا جعْل الفلاحين مُلَّاكًا للأراضي التي كانوا يحرثونها، فكان ذلك حلًّا للمشكلة الزراعية، وهي المسألة الوحيدة التي أغفلتها الإدارة السابقة. أمَّا طريقة هذا الحل فكانت بإلغاء السُّخْرَة والعشور، وإلزام الفلاحين مقابل ذلك بدفع تعويض للمُلَّاك الأصليين مدَّة ١٤ سنة. وأصبح المزارعون أصحابًا للأراضي التي كانوا يزرعونها بالسُّخْرَة. وقد تمَّ هذا الإصلاح بالرغم عن إرادة مجلس شورى القوانين بعد ثورة ٢ مايو ١٨٦٤، وذلك أنَّ البرنس كوزا أوقف العمل بموجب الاتفاقية وعَرَضَ على الأمة قانونًا لحكم الإمارات المتحدة بموجبه. وقد سنَّ البرنس قوانين خطيرة للغاية قبل عقدِ شورى قوانين جديد، وأهمها قانون الفلاحين، وقانون التعليم والقانون المدني وقانون الجزاء … إلخ. كلُّ الإصلاح تمَّ بفضل البرنس كوزا، وجعل اسمه مباركًا من كلِّ الشعب الروماني الذي حفظ له أحسن ذكر.

وفي ١١ فبراير سنة ١٨٦٦ اضطرَّ البرنس كوزا أن يستقيلَ ليتمَّ تنفيذ مطالب الأمة بأكملها، وذلك بإجلاس أمير أجنبي من أسرة مالكة في أوروبا على عرش رومانيا.

حكم الملك شارل الأول: وثاني يوم استعفاء البرنس كوزا نادى مجلس شورى القوانين أميرًا بالبرنس الكونت فيليب ده فلاندر أخي ملك البلجيك سابقًا، فرفض هذا العرش المعروض عليه خشية حصول مشاكل أوروبية. وفي ٨ أبريل سنة ١٨٦٦ انتخب الشعب باتفاق الآراء البرنس شارل ده هوهنزلرن سيجار بنجن أميرًا له. واتخذ الأمير الجديد اسم شارل الأول في ١٠ مايو من تلك السنة، ودخل رسميًّا إلى العاصمة «بخارست»، حيث أُقيمت الأفراح والاحتفالات البهيجة.

وكان جلوس شارل الأول على عرش رومانيا فاتحة عصر مجيد في تاريخ البلاد الرومانية، فيه ابتدأ حكم سلالة من سلالات الملوك الحاكمين في الغرب، ونالت البلاد استقلالها التام، ورُفِعَتْ إلى درجة مملكة.

وتمَّ تنظيم رومانيا تقريبًا في العَشْرِ السنين الأولى من حكم البرنس شارل، فمُدَّت الخطوط، ونُظِّمَت المالية، وأُصْلِحَت الإدارة والمحاكم، وتوسَّعت دائرة المعارف. وقد وجَّه البرنس الجديد عناية خصوصية إلى تنظيم الجيش، وكان بذلك مصمِّمًا على الحرب كما تبيَّن عند نشوب الحرب الروسية العثمانية سنة ١٨٧٧. وفي سنة ١٨٧٦ كانت الأكثرية في الانتخابات للأحرار، فعهد البرنس إلى المسيو جان براتيانو زعيم الحزب الحر بتأليف الوزارة، وكان هذا الزعيم على مبدأ البرنس من حيث وجوب تداخل رومانيا في الحرب الروسية العثمانية، فتمَّ بين رومانيا وروسيا توقيع اتفاق ١٦ أبريل سنة ١٨٧٦ الذي أباح للجيوش الروسيَّة المرور في الأراضي الرومانية، على شرط أن يضمنَ القيصر لرومانيا سلامة أملاكها وصيانتها. وكانت المفاوضة جارية بين الفريقين كأنَّها بين مملكتين دون وساطة الباب العالي، مع أنَّ رومانيا كانت لم تزل تحت السيادة العثمانية، وقد قُطعت آخر روابط هذه السيادة يوم أرادت الدولة أن تعامل البرنس كحاكم تحت سلطتها ورومانيا كولاية من ولاياتها الممتازة، فأجاب الرومان على هذه المعاملة بإعلان استقلالهم في ٢٣ مايو سنة ١٨٧٧. وفي ٢٦ منه تُبودلت القنابل الأولى بين الرومان والجيش العثماني في ويدين، حيث اضطرَّت رومانيا إلى محاربة الدولة لاكتساب امتيازها، والدفاع عن مصالح جيرانها في شبه جزيرة البلقان.

فعبر الجيش الروماني نهر الدانوب بناءً على إلحاح الروس في أحرج أطوار هذه الحرب، على إثر اندحار الروس مرَّتين متواليتين في مهاجمتهم بلفنا.

وكان البرنس شارل قد تربَّى تربية عسكرية كاملة، وكان قبل مجيئه إلى رومانيا قد اشْتَرَك في حملة شلسويج هولستين ضد الدنمارك مع وليِّ عهد بروسيا، الذي صار بعد ذلك الإمبراطور فردريك الثالث، ومع القائد الشهير الفلد مارشال ده مولتك.

ومنذ بداية الحرب تولَّى البرنس شارل بذاتِهِ قيادة جيشه، واهتمَّ بأن يحفظ لجيوشه حركة عسكرية مستقلَّة، وكان معسكره العام في كرابوفا ومعسكر الروس في بولستي. وفي شهر يونيو عبر الجيش الروسي نهر الدانوب، وكُسِرَ في نيكوبولي وبلفنا، فأرسل الغراندوق نقولا يطلب نجدة البرنس شارل بكلِّ إلحاح، فلم يتأخَّر البرنس عن تلبية الدعوة، وذهب في ٢١ أوغسطس وتولَّى قيادة الجيش الروسي الروماني أمام بلفنا، وكانت قوات الرومان ٣٥ ألف مقاتل و١٠٨ مدافع، وقوات الروس ٣٠ ألف مقاتل و٢٨٢ مدفعًا، فهاجم الجيش تحت قيادته مثاريس غريفيتزا. وكان موقف الجيش الروماني صعبًا للغاية؛ فإن أكثر أنفاره لم يكونوا قد زاولوا مهنة القتال، وكانوا مضطرِّين إلى الهجوم تحت نيران آكلة تصبها عليهم الجنود العثمانية الممتنعة في حصونها والمتباهية بانتصاراتها السالفة. على أنَّ كلَّ ذلك لم يقعد بهمَّة الجيش الروماني، بل تمكَّن من احتلال التحصينات والاستيلاء على غريفيتزا، وسيظل هذا العمل المجيد مفْخَرَة لذلك الجيش وقائده الباسل.

وفي ٢٨ نوفمبر ١٨٧٧ سُلِّمَتْ مدينة بلفنا بفضل حنْكَة ودراية البرنس شارل الذي كان يقود الجيش المحَاصر، وكان بذلك ترجيح كفَّة النصر، فإن طريق الآستانة فُتِحَتْ بوجه الروس، واستولى البرنس شارل على كلِّ الحصون العثمانية على ضفاف الدانوب.

وقد أرسل القيصر إسكندر الثاني كتابًا بخطِّ يده يعترف برجوح القسم الأكبر من الفضل في الانتصار إلى الجيش الروماني، وأنْعَمَ على البرنس شارل بأعظم وأعلى وسام عسكري، وهو وسام القديس أندريا مع السيف.

وفي معاهدة سان إسطفانو التي عقبت هذه الحرب أعادت الدولة إلى رومانيا مقاطعة دبرودجا التي كانت لها قديمًا، لكن روسيا انتزعت منها مقاطعة بساربيا الجنوبية، فاحتجَّت رومانيا على هذا العمل.

وقد تسنَّى لي مدَّة وجودي في بخارست أنْ أتعرَّف بكثيرين من الرومانيين، وكانوا كلهم يُعْرِبُون عن استيائهم الشديد من روسيا التي نَزَعَتْ منهم بسارابيا لتعطيهم مقاطعة دبرودجا التي هي بالحقيقة بقعة من بلادهم كانت تابعة لفلاخيا على عهد الأمير مرشيا، فأخذتها منها الدولة.

واعترف مؤتمر الدول المجتمع في برلين سنة ١٨٧٨ باستقلال رومانيا الذي كان قد أُعلن في ١٤ مايو ١٨٧٧.

ويظهر من هذه الخلاصة التاريخية أنَّ رومانيا لم تخضع ولم تضم قط إلى دولة أجنبية، فقضت قرونًا كاملة في أزمان داخلية ومشاكل خارجية، ولكنها جعلت وجهتها الدائمة استقلالها حتى نالته بعد بذل الذهب وسفك الدم.

وفي ١٠ مايو رُفِعَتْ رومانيا إلى درجة مملكة، ونُودي بالبرنس شارل ملكًا، فأُقيمت الأفراح في هذه المناسبة مدَّة ثمانية أيام في كلِّ البلاد. وقد اعترفت كلُّ الدول حالًا بالملك الأول لرومانيا وأرسلت تُهنِّئه.

figure
شارل الأول ملك رومانيا.
وكان الملك في سنة ١٨٦٩ قد اقترن بالبرنس إليزابت ده ويلد المعروفة في عالم الأدب باسم «كارمن سيلفا»، ولها مؤلَّفات عديدة، فولَدَتْ له منها ابنة ماتت صغيرة، وعليه عُيِّنَ البرنس فردينان ابن أخي الملك وليًّا للعهد سنة ١٨٨٩، وهو نجل البرنس ليوبلد ده هوهنزلرن الذي عُرض عليه سنة ١٨٧٠ عرش إسبانيا، فكان ذلك سببًا للحرب بين فرنسا وألمانيا، واقترن البرنس فردينان ولي العهد بالبرنسيس ماري الإنكليزية بنت الدوق ده أدنمبورج شقيق الملك إدورد السابع، وأمها الغراندوقة ماري بنت قيصر روسيا إسكندر الثاني. وعليه فإن أشدَّ روابط القرابة تربط ولي عهد رومانيا بثلاث دول من أعظم دول أوروبا، هي ألمانيا وإنكلترا وروسيا، وقد وُلِدَ له من هذا القِران:
  • (١)

    البرنس شارل (كارول) ٣ أكتوبر ١٨٩٣ حسابًا شرقيًّا.

  • (٢)

    البرنسيس إليصابت ١٨٩٤.

  • (٣)

    البرنسيس ماري ١٩٠٠.

  • (٤)

    البرنس نقولا ١٩٠٣.

  • (٥)

    البرنسيس هيلانة ١٩٠٩.

وعلى إثر حرب ١٨٧٧-١٨٧٨ كبرت رومانيا في عين أوروبا، وفي عين نفسها، فأخذت تسير مسرعةً في طريق التقدُّم والفلاح، كما يتضح من الأرقام والملاحظات الآتية:
  • جغرافيتها: يحدُّ رومانيا شمالًا النمسا، وشرقًا روسيا والبحر الأسود، وجنوبًا بلغاريا التي يفصلها عنها نهر الدانوب، وغربًا بلاد الصرب. وفي سنة ١٩٠٧ كان عدد سكَّانها ٦ ملايين و٦٨٤٢٦٥ نسمة، منهم ٦ ملايين و٤٠٦٧١٧ من الأرثوذكس، و٣١٣٨٨٢ من الإسرائيليين، و١٧٥٨٨٢ من المسلمين، و٥٢٥٦٠ من البروتستانت، و٢٦٧٣٠ من الكاثوليك، و٢٤٧٩٠ من مذاهب مختلفة. ولا ريب بأنَّ عدد سكانها الآن قد بلغ سبعة ملايين، وهي — بعد روسيا — أكبر دولة أرثوذكسية، وكمية سكانها النسبية تجعلها في المقام الثاني عشر بين البلاد الأوروبية؛ إذ يبلغ متوسط السكان في كلِّ كيلومتر مربع ٥٠ نسمة، ويمكنها أن تكفي ضعفَي سكانها بالنظر إلى ثروتها الزراعية الوافرة التي يُصدر معظمها إلى الخارج.
  • ميزانيتها: ٤١١ مليونًا و١١٠٣٦ فرنكًا، وبالنظر إلى ثروة البلاد وترقيتها توجد هناك زيادة مستمرَّة تُقَدَّر سنويًّا باثنين وخمسين مليونًا، وخُصصت كل الأموال التي استُقرضت لمشاريع نافعة للبلاد.

ومن أهمِّ الأعمال التي تمَّت وتستحقُّ ذكرًا خصوصيًا، الخطوط الحديدية، وقد كُلِّفَتْ مبلغ ٧٧٣ مليونًا و٣١٥٠٤٨ فرنكًا.

وكُلِّفَ مينا قسطنسة ومخازنه والسفن البخارية للإدارة البحرية الرومانية والأرصفة … إلخ ٨٩ مليونًا و٩٥٩ ألف فرنك.

وتساوي التحصينات والقشلاقات والأسلحة والذخائر والأسطول الصغير مبلغ ٢٤٤ مليونًا و٨٤٩٨٦٠ فرنكًا، وتُقَدَّر المدارس والكنائس بقيمة ٥٧ مليونًا و٤٢٠١٦٩ فرنكًا.

وهناك الاعتماد الزراعي وشركات احتكار الحكومة تُقَدَّر بمبلغ ٥١ مليون فرنك.

وما عدا رأسمال هذه الأعمال الذي يبلغ مليارًا و٢٦٠ مليون فرنك، فإن للحكومة الرومانية أملاكًا واسعة كالغابات والأراضي والمعادن، ويساوي دخلها السنوي ٣٠ مليون فرنك، مما يفيد أنَّ قيمتها تزيد على ٦٠٠ مليون فرنك.

الجيش: أصبحت رومانيا اليوم دولة عسكرية خطيرة، ونظامها متين الأساس، ويُؤخَذ من تقويم غوطا الذي يُنْشَر سنويًّا في أوروبا أنَّها قادرة عند الحرب على تجنيد ٢٨٠ ألف مقاتل، يقودهم ٧٦٠٠ ضابط مع ٨٦ ألف حصان و٦٤٤ مدفعًا، هذا ما عدا الجندرمة.
الأسطول: يبلغ ٥٠ سفينة بين كبيرة وصغيرة.
الزراعة: ترى من الجدول الآتي مساحة الأراضي الرومانية مقدرة بالهكتار:
أرض للفلاحة ٥٢٣٦٣٣٢
جنائن وكروم ٢٢٤٨٠٠
مروج ٥١١١١٨
مرعى ١٧٨١٣٨٠
أحراج ٢٧٥٥٧٥٥
مياه وبحيرات ٨٠٧٣٠٠
أملاك مبنية ٢٧٠٠٠٠
طرق وسكك حديد ٢٠٠٠٠٠
أراضٍ غير مستعملة ١٣٤٨٦١٥
المجموع ١٣١٣٥٣٠٠ هكتار

وتبلغ مساحة الأرض المخصَّصة بزرع الذراء مليونين و٨٩٥٧٣ هكتارًا، والأرض المخصَّصة بزرع القمح مليونًا و٦٨١٤٦٧ هكتارًا.

الحيوانات: (سنة ١٩٠٠) مليونان و٤٥٨٨٥٢٦ رأس بقر وجواميس، و٥ ملايين و٦٥٥٤٤٤ رأس غنم، ومليون ٧٠٩٢٥٠ حصانًا، و٨٦٤٣٢٤ رأس ماعز و٧٧٠٠ حمار.
الصيد: رومانيا من أغنى بلاد أوروبا بالمياه الحلوة؛ فإن مساحة الأنهر التي تصبُّ في نهر الدانوب والبحيرات الداخلية والبحيرات الواقعة على شواطئ البحر الأسود تبلغ ما يزيد عن ثمانمائة ألف هكتار، ويُقَدَّر دخل الصيد بثلاثة ملايين من الفرنكات.
الغابات: مساحة الأحراج والغابات تبلغ مليونين و٧٧٥٧٥٥ هكتارًا، يبلغ دخلها ١١ مليونًا و١٧٠٥٥٧ فرنكًا، ورومانيا غنيَّة بالمعادن وخصوصًا بالبترول؛ إذ بلغ محصول البترول سنة ١٩٠٤، ٤١٢ مليونًا و٣٩٠٢٠٢ كيلو، وفي سنة ١٩٠٦ وصل المحصول إلى ستمائة وواحد وثمانين مليون و٤٩٥٨١٥ كيلو. ويؤكِّدون أن المحصول الذي بلغ سنة ١٩٠٧ تسعين ألف عربًا سيبلغ هذه السنة ما يزيد على ١١٣٠ عربًا.

والقسم الأكبر من الأراضي التي يُسْتَخرج منها البترول (الغاز)؛ أي ٩٢ في المائة، هي ملك الأهالي، و٨ في المائة فقط مِلْك الحكومة. ومن هذا القبيل تُعَدُّ رومانيا أغنى بلاد بعد أميركا وروسيا في البترول. وفي سنة ١٩٠٤ بلغت الأموال الأجنبية المستعْمَلَة في شركات البترول الرومانية ٢٤ مليونًا و٦٥٠ ألف فرنك. ولا تزال الأبحاث عن آبار البترول متواصلة في كلِّ أنحاء البلاد. وقد قرأ لي يومًا جناب المسيو باكليانو معتمد دولة رومانيا في مصر كتابًا تلقَّاه من وكيله يفيده فيه بأنهم قد وجدوا في أراضيه شيئًا وافرًا من البترول، وأنهم قد فتحوا حتى الآن خمسة آبار. «الملح» هو — بعد البترول — أهم محصولات رومانيا المعدنية، ولا شكَّ أن القارئ سيعجب من الأرقام التي سنوردها عليه؛ فإن تل أوكنل ماري يبلغ ٦ كيلومترات طولًا ونصف كيلومتر عرضًا، و١٠٠ متر عمقًا؛ أي ١٥٠ مليون متر مكعَّب أو ٣٣٠ مليون طن. وتل تاركو أوكنا يبلغ ٤ كيلومترات طولًا و٣٠٠ متر عرضًا، و١٠٠ متر عمقًا؛ أي ١٢٠ مليون متر مكعب أو ٢٦٤ مليون طن، ولا يزيد كل ما استُخرج من المعدنين حتى الآن على مليون طن.

ومن سنة ١٨٩٤ إلى سنة ١٩٠٤ اكتشفوا أربع ملَّاحات، استُخرج منها ما ينيف عن مليار كيلو، وصُدِّرَ في هذه المدَّة إلى بلغاريا وصربيا وروسيا ٣٧٢٣٥٥٦٠٣ كيلو.

وأخذت الصناعة تتقدَّم في رومانيا تقدُّمًا سريعًا وخصوصًا صناعة الخشب، فلا يوجد في البلاد أقل من ٥٥ معملًا كبيرًا تُدار بالبخار للتجارة، ويوازي رأسمالها خمسة وثلاثين مليونًا و٣٤٢٥٤ فرنكًا، وقُدِّرَتْ مصنوعاتها سنة ١٩٠٤ بمبلغ ١٧٢٣٩٥٩٨ فرنكًا.

صناعات المأكولات: رأسمالها ٥٢٦٦٧٦٣٣ فرنكًا وقُدِّرَ محصولها لسنة ١٩٠٤ بمبلغ ٧٦١٩٠٦٨٨ فرنكًا.
الكحول: فذكر في هذا الباب خصوصًا الجعة (البيرا) التي انتشرت صناعتها في رومانيا حديثًا ورأسمالها ١٣٦٢٨٠٠٠، وقُدِّرَ محصولها لسنة ١٩٠٤ بمبلغ ٤٨٦٥٦٥٠ فرنكًا.
السكر: رأسمال هذه الصناعة ٣٣٥٨٤٢٨٦ فرنكًا، وقُدِّرَ محصولها لسنة ١٩٠٤ بمبلغ ١٣٩٠٨٨٣٠ فرنكًا، وبلغت كمية السكر المصنوعة سنة ١٩٠٦، ٢٨٥٨٥٥٥٢ كيلو، وهي تزيد على حاجة الأهالي الذين لا يحتاجون إلا إلى ٢٠ مليون كيلو سنويًّا، ويُصدَّر الباقي عادةً إلى تركيا وبلغاريا، وقد اشترت هاتان الدولتان من هذا الصِّنف سنة ١٩٠٥، ٤٥٣٦٠٠٠ كيلو من السكر المكرَّر، ثمنه ١٣٦٠٧٠٠ فرنك.

التجارة سنة ١٩٠٥:

الصادرات ٤٥٧١٠١٣٩٤ فرنكًا
الواردات ٣٣٧٥٣٧٩٨٥ فرنكًا
السكك الحديد: يبلغ طول مجموع الخطوط الحديدية في رومانيا الآن ٣١٨٠ كيلومترًا.
الطرق: لمَّا وصل البرنس شارل الأول سنة ١٨٦٦ لم يكن طول الطرق المرصوفة يزيد عن ١٩٥ كيلومترًا، ثمَّ أخذت الطرق تُفتح خصوصًا بعد سنِّ القانون على سبيل المواصلات، فبعد هذا العهد بعشر سنوات — أي سنة ١٨٧٦ — بلغ طول الطرق ٥١٦٥ كيلومترًا، وبعده بإحدى وعشرين سنة — أي ١٨٨٧ — بلغ ١٢٩٣١ كيلومترًا.

وبعده بأربعين سنة — أي سنة ١٩٠٦ — بلغ طول الطرق ٣٠٩٢٨ كيلومترًا، منها ٢٦٤٢٥ كيلومترًا قد أُنْجِزَتْ تمامًا، ومنها ٤٥٠٣ كيلومترات لا يزال العمل جاريًا فيها.

الملاحة النهرية: تدلُّك الأرقام الآتية على أهمية هذه الملاحة، فإن مجموع السفن الداخلة والخارجة في سنة ١٩٠٥ قد بلغ ١٨٧٧٢ سفينة، محمولها ٤١٥٦٩٥٥ طنًّا، ولا يدخل في هذا العدد إلا السفن التي سارت بين المرافئ الرومانية في نهر الدانوب، ما عدا السفن التي دخلت النهر أو خرجت منه عن طريق البحر الأسود، ومن هذا العدد ٥٩٠٨ سفن رومانية، و١٢٨٦٤ سفينة أجنبية.
الملاحة البحرية: لم تأخذ الملاحة البحرية في رومانيا إلا بعد ضمِّ ولاية دوبرودجا، ومن ذاك العهد فقط أصبحت رومانيا متمكِّنة من المواصلات مع أيِّ ثغر كان من ثغور العالم. وفي سنة ١٩٠٥ بلغ مجموع السفن الداخلة والخارجة ٢٦٢٠ سفينة، محمولها ٣١١٧٤٢٩ طنًّا.
مصلحة البواخر الرومانية: حتى سنة ١٨٩٥ لم يكن ما يمثِّل الراية الرومانية في الملاحة البحرية؛ لأنَّ النقل كان يتمُّ على البواخر الأجنبية، وبعد ذلك بقليل لم يكن هناك إلا باخرتان لنقل الركاب والبضائع، على أنَّ نطاق البواخر الرومانية توسَّع في السنة نفسها، وكبرت دائرتها بمشترى سفن جديدة، وهي اليوم كما يأتي: أربع بواخر للركاب مجموع قوَّتها المحرِّكة ٢٥ ألف حصان وسرعتها ١٨ عقدة في الساعة، وخمس بواخر لنقل البضائع، وثلاث بواخر للمصلحة، وتبلغ قيمة هذه السفن تقريبًا ١٣ مليون فرنك، وهي تسير على خطَّين، الخطُّ الشرقي وهو يصل ثغر قسطنسة بثغور الشرق الآتية: الآستانة والبيرية ومدلة وأزمير وإسكندرية، ويسير على هذا الخط أربع بواخر، منها اثنتان تسافران إلى الإسكندرية، واثنتان إلى أزمير.

وقد نَقَلَتْ هذه البواخر في سنة ١٩٠٥-١٩٠٦ ذهابًا وإيابًا ٣٨٧٢٢ راكبًا، و٣٠٣٥٩ طنًّا من البضائع، وبَلَغَ الدخل ١٠٤٠٢١٤ فرنكًا.

وتسير على خطِّ برايلا وغالاتي خمس بواخر، فلا تنقل إلا بضائع، وبلغ المنقول على هذا الخط الغربي ١٥٢٧٧٠ طنًّا سنة ١٩٠٥-١٩٠٦، ومدخولها ١٣٣٤٥١١ فرنكًا.

ومعظم ما تنقلُهُ هذه البواخر ذهابًا من الحبوب، وما تنقلهُ إيابًا من الفحم والبضائع العمومية ولمصلحة البواخر الرومانية، عشر وكالات لتسهيل المعاملات، أربع منها في ثغور رومانيا، وست في الثغور الأجنبية.

البوسطة والتلغراف والتلفون: لم تكن هذه المصلحة في أول عهدها تعود على الحكومة بشيء من الربح، بل هي كانت مضطرَّة إلى الإنفاق عليها بالنظر لحالة البلاد الاقتصادية وقلَّة المخابرات فيها. وظلَّت على هذه الحال حتى سنة ١٨٧٧، حيث زاد الدخل على المصروف، وظلَّت الزيادة مطردة حتى إن الدخل تضاعَفَ في هذه العشرين سنة المنقضية.

وسنة ١٩٠٥-١٩٠٦ كان الدخل ١١٣٤٥٧٥٥ فرنكًا، والمصروف ٧٧٢١٨٨٤ فتكون زيادة الداخل على الخارج ٣٦٢٣٨٧٠ فرنكًا.

اللغة: واللغة الرومانية هي مشتقَّة من اللغة اللاتينية، بل هي أقرب إليها من لغات سائر الشعوب اللاتينية الأصل كالفرنسوية والإسبانيولية والبرتغالية حتى والطليانية.
وكيل رومانيا في مصر: في سنة ١٩٠٦ عُين المسيو ميشيل ده باكليانو وكيلًا سياسيًّا مفوضًا وقنصلًا عامًّا لدولة رومانيا في مصر، وكان قبلًا سكرتيرًا عامًّا ومديرًا سياسيًّا لنِظَارة خارجية رومانيا، وظلَّ في هذا المنصب سبع سنوات بعد أنْ كان قد تنقَّل أولًا بوظيفة سكرتير في وكالات رومانيا السياسية في الآستانة العليَّة وبطرسبورج وباريس وبروكسل وصوفيا. وقد دَرَسَ الحقوق والعلوم السياسية في باريس، وكان في الثامنة والثلاثين من عمره عندما عُيِّنَ في مصر.

بخارست (بكرش) عاصمة رومانيا

يبلغ سكان بخارست عاصمة رومانيا ثلاثمائة ألف نفس، وهي واقعة على نهر دامبوفيتسا الذي يخرقها في طرفها مسافة ٧ كيلومترات، وقد بُني على طوله ١٢ كُبْرِي، بعضها من حديد والبعض الآخر من حجر، قيل إنها دُعيت بخارست، وفي لغة البلاد بوكورستو على اسم بوكور، وهو راعي غنم كانت هذه البقعة من الأرض له، ولمَّا احتلَّها الأتراك دعوها بكرش. أمَّا جمالها فباهر يدهش كلَّ غريب قادم إليها، لا سيَّما إذا كان من سوريا أو مصر؛ لأننا اعتدنا أنْ نذهبَ إلى أوروبا، ونفتكر ألَّا سواها في العالم، مع أنَّ عاصمة رومانيا هذه قسم من أوروبا في جميع أحوالها المدنيَّة والعلمية، لا ينقصها شيء مما يُرى في أي عاصمة كانت من عواصم أوروبا. فهي تشتمل على البنايات العمومية من الطبقة الأولى، مثل البوسطة وبنك التوفير وبنك الحكومة والأثينة والتياترو الكبرى، وقصر جلالة الملك ونِظَارات الحقَّانية والمالية والخارجية، وما من بناية من هذه البنايات إلا ويُدخل إليها من حديقة، فضلًا عن حديقتين عظيمتين، الواحدة في قلب العاصمة، والثانية بعيدة عنها، وفيه عدَّة ميادين بأشجارها وأزهارها، وقد غُرِسَت الأشجار على يمين وشمال الشوارع وفي محلات الجعة. وعليه يُقال إن بخارست كبُسْتَانٍ ونظيفة، فإن شروط النظافة متوفِّرة فيها حتى في الأحياء المتطرِّفة، وأهمُّ شوارعها شارع فيكتوري وشارع كارول. وعربات الأجرة فيها تمتاز على أمثالها في كلِّ عاصمة أخرى حُسْنًا وإتقان خدمة، وقد شهِدَ لها بذلك قبلي كل سائح أتاها، حتى إن الحوذيين مفروض عليهم من الحكومة أن يتخذوا زيًّا واحدًا نظيفًا جميلًا، يتألَّف من جُبَّة قطيفة ذات لون أزرق داكن، وهي طويلة تصل إلى القدمين وعليها من الأمام أزرار كبيرة، ويضمُّ وسطها حزام أحمر في عرض أربعة أصابع تتدلَّى منه فضلات على الجبة، ومن لوازم الزي قُبَّعة مستديرة متخذة من القطيفة أيضًا. فتأمَّل ذلك كله وقابِل بينه وبين ملابس حوذيي مصر والشام. وأمَّا خيل عربات الأجرة في بخارست فهي تعادل خيل الأمراء والوُجَهاء في مصر، وهذه العربات تقف متراصَّة بالترتيب بجوار الفنادق والملاعب وسائر المحلَّات العمومية حتى إذا استؤجرت أوَّلها في الصفِّ تقدَّمت التي وراءها تنتظر نوْبَتَها، وكلها تمرُّ في سيرها بشارع فيكتوري، فتظهر فيه كسلسلة متلاحقة لا تكاد تنقطع إلى الساعة الثانية بعد نصف الليل. وقد بلغني أمرٌ غريب عن فئة من هؤلاء الحوذيين هو أنَّ أحدهم بعد ما يتزوج ويُرْزَق أول ولد يقدِّم نفسه لإجراء عملية جراحية تقضي بعُقْمِهِ، وأمَّا سبب ذلك فمجهول، وهذه الفئة روسيَّة الأصل، ولمَّا شعرت حكومتهم بعادتهم هذه الجانية على ناموس الاجتماع والعمران طردتهم من بلدها، فلجئوا بخيولهم إلى بخارست. وفي شارع فيكتوري عدَّة فنادق، منها فندق سبلانديد إنجليش وفرنسا، ولكن أحسنها فندق بولفار القائم ما بين بولفار إليصابات وبولفار فيكتوري، حيث توجد المخازن والقهوات، مثل قهوة كابسا وقهوة هاي لايف، سنتكلَّم عنها. وأكثر منازل بخارست ذات طبقتين وأقلها ذات ثلاث، وأمَّا المشتملة منها على أربع أو خمس طبقات فنادرة الوجود. وإذا أضفت إلى قلَّة علوِّ المنازل اتساع الشوارع علمتَ أنه يتألَّف من ذلك منظر يشرح الصدر ويبهج القلب.

شرعتُ أطوف المدينة مبتديًا من شارع فيكتوري أحد الشارعَين المهمَّين الآنفي الذكر، وهو يمتدُّ من جوار نهر دمبو فيتسا غربًا إلى نِظَارة الخارجية شرقًا، وكان برفقتي ترجمان الفندق، فشهدنا في طريقنا أولًا بناء البوسطة العمومية المشتمل أيضًا على إدارة التلغراف والتليفون، وماذا عساي أن أقول في فخامة المحل ورونقه؟! وحسب الناظر إليه القادم من القاهرة أو الإسكندرية أن يعتبر بناء البوسطة في هاتين المدينتين أشبه شيء بالأكواخ بالنسبة إليه، فهو يشْغَل مساحة عشرين ألف متر مربَّع من الأرض في ثلاث طبقات، وله رواق عن الواجهة قائم على ١٥ دعامة حجرية ضخمة، وبين عماله بنات رومانيات كما هي العادة الغالبة في أوروبا — أي اشتغال البنات في المصالح العمومية — ولا سيَّما دوائر البوسطة والتلغراف والتليفون، بحيث تستطيع الفتاة أن تجمع من المال ما تجعله لنفسها بائنة (دوطة) تمهِّد لها طريق الزواج، فالمال أصبح الشرط الأساسي الجوهري لطلاب الزواج حتى كاد يقضي على سائر المزايا، كالآداب والجمال والذكاء ومعرفة تدبير المنزل والحسب والنسب.

وتجاه البوسطة بناية بنك التوفير، وهي تعادل بناية البوسطة في الفخامة والاتساع، ذات هندسة متينة جميلة، وفيها العدد العديد من الأعمدة الرُّخامية الضخمة، وقد بُنِيَتْ في ثلاث طبقات فكأنها فتنة للناظرين، وفي وسطها قُبَّة هي أشبه شيء بقُبَّة جامع كبير، وتتلوها بناية الضبط، وهي عظيمة مبنيَّة بالطوب الأحمر. فقهوة كابسا بداخلها مطعم ويُباع فيها أصناف الحلوى، وهي مشهورة في لذَّة طعمها، وفيها مشروبات أخصها مشروب اسمه ويتسكا معمول من ثمر الخوخ (برون)، وهو خفيف لطيف. وللقهوة ممشى فيه المنضدات يجلس الناس عليها؛ لينظروا مرور العربات المتصلة ببعضها، فيُخيَّل إليك أنَّك جالس في قهوة دي لابه في باريس. ثمَّ انتهينا إلى التياترو البرى الذي لا يشتغل إلا في فصل الشتاء، ودار التياترو تسع ألف نفس أو أكثر، وفيها للملك والملكة وولي العهد وزوجته غرف خصوصية، قيل لنا إنها بالغة منتهى الحسن والإتقان.

ويتلو ذلك نِظَارة الحربية، ولا تخلو ساحتها من ضباط يخطرون ذهابًا وإيابًا. ثمَّ القصر الملكي يُدخل إليه من حديقة، وله جناحان ممتدَّان يزيدانه زينة، ولم يمكنَّا دخوله لغياب الأسرة المالكة في جبل سينايا الذي يبعد من هنا ثلاث ساعات، وسنتكلم عنه فيما بعد. وقد نزل في هذا القصر ضيفًا كلٌّ من إمبراطور النمسا وملك السرب، قيل لنا إن ملك رومانيا طالما اعتنى بمكتبته، كما أنَّ الملكة اعتنت بانتقاء الصور الزيتية واقتنائها. وبالقرب منهُ التياترو الصيفي؛ لأنه يشتغل في زمن الصيف ويُدْعى أوتيشانو، وفيه حديقة واسعة ومطعم، ولا تمرُّ ليلة إلا وهو مزدحم بالوافدين الذين لا يقلُّ عددهم عن ألف نفس لمشاهدة التمثيل. ثمَّ بلغنا الأثينة الذي له شهرة في هذه العاصمة، فدخلناه من حديقة واسعة جدًّا، وفيها من جميع أنواع الأشجار والأزهار والعدد العديد من التماثيل. وعند باب القصر خادم مهمَّته أن يُطلع الزوار الغرباء على التُّحَفِ الموجودة في المكان، فسِرْنَا معه إلى الدور الأول، وفيه مجموعة صور بالزيت، منها صورة أمير رومانيا ميحاي (ميخائيل أو ميشيل). ثمَّ صعدنا إلى الدور الثاني، وهو مستدير بُنِيَ على نَسَق التروكاديرو في باريس، وتُقَام فيه حفلات، وتُلْقَى فيه خطب، وفيه كراسيُّ للأسرة المالكة، وكراسيُّ للأسرة المالكة وكراسيُّ موضوعة على حِدَة لمندوبي الصحف.

وللصحافيين شأنٌ في بخارست، بل في كلِّ بلاد راقية، ويوجد من الصحف كثير بلغة البلاد، وجريدتان فرنسويتان تصدران يوميًّا، قال لنا أحد موظَّفي السفارات إنهم يتلقون أحيانًا أهم الأخبار عن أوروبا من صحف بخارست؛ لأن لهم وكلاء في عواصمهم يتسقَّطون الأخبار والتلغرافات. وما زلنا نتقدَّم في بولفار فيكتوري حتى وصلنا إلى نِظَارة المالية ومجلس النُّظَّار ونظارة الداخلية، وقهوة هاي لايف أمامها ممشى عريض يجتمع فيه خلق كثير، ولا سيَّما الضُّبَّاط العسكرية. وفي أثناء مرورنا حانت مني التفاتة إلى قصر بديع، هو قصر البرنس كوترو كوزينو.

وفي آخر هذا البولفار نِظَارة الخارجية، دخلناها ومعنا توصية من جناب المسيو ميشيل باكليانو معتمد رومانيا وقنصلها الجنرال. ونظارة الخارجية هذا قصر بديع كان بناه البرنس ستودزا، وبعد وفاته اشترته الحكومة من ورثائه، كما جرى لسراي نِظَارة الخارجية في مصر؛ إذ بناها المرحوم حيدر باشا، ثمَّ اشترتها الحكومة منه، على أنَّ سراي نظارة الخارجية في رومانيا أجمل من رصيفتها المصرية على ما لهذه من الحسن الرايع، فليتصوَّر القارئ جمال تلك، دخلناها من حديقة، ولمَّا وصلت إلى الباب كان خادم واقفًا لابسًا كسوته الرسمية، وفي يده قُفَّاز أبيض، وهو يحسن التكلُّم باللغة الفرنسوية، فسِرْتُ معه في فسحة رحبة وأرضيتها من خشب الورد المشجر، يكاد الإنسان يزلق عليها لشدَّة ملاستها ونعومتها. وكنت أتأمَّل في نقوش الجدران والسُّقُف الكثيرة التذهيب، حتى إذا وصلتُ إلى قاعة الاستقبال، وهي مفروشة بالحرير والأطالس، دخلتُ مكتب المسيو زامفيرسكو السكرتير العام للنظَارة الذي قابلني بالترحاب وانصرفت شاكرًا.

وتجاه نِظَارة الخارجية كان يومئذٍ يُبنى متحف تاريخي يُخصص قسم منه بالوحوش، وسيكون له أهمية كبرى. هذا أهمُّ ما يرَى السائح الغريب في شارع فيكتوري، حيث بُنيت البنايات العمومية، وهو صرة البلد ومحورها. ويوجد بولفار آخر يُدْعَى كولسا سكنُ أهل الطبقة العالية، يمتدُّ من جانب نِظَارة الخارجية، وقد بُنِي على نَسَق الرينغ ستراس في فيينَّا؛ أي إن له ممشى على اليمين بجانبه الأشجار لمرور الناس، ثمَّ طريق لمرور العربات، ثمَّ طريق في الوسط للخيل مفروش بالرمل، وبجانبيه الأشجار، ثمَّ طريق آخر لمرور العربات، ثمَّ الممشى وبجانبيه الأشجار. ومن هنا يتَّضح لك عِظَم اتساع هذا الشارع بحيث يشرح الصدر. ومما يزيده حسنًا أنه أُعِدَّ لسكنى أرباب الأموال وأهل التَّرف والجاه، فلا ترى فيه حوانيت أو قهوات كما هي الحالة في حي قصر الدوبارة بمصر، وما كنت أرى قصرًا أستحسنه حتى أرى آخَر أجمل ثمَّ ثالثًا يفوق الاثنين. ولكلِّ قصر حديقة. وللقوم عناية كبيرة بتذهيب الدرابزين والأبواب، ففي هذا البولفار تمرُّ العربات الفاخرة والخيول تهتزُّ تحت سنابكها جنبات الأرض رهبة أو تهيبًا.

علمت أنَّ بولفار فيكتوري يخترق العاصمة من الشرق إلى الغرب، فاعلم الآن أنَّ لها بولفار أو شارعًا آخر لا يقلُّ عنه أهمية، يخترقها من الجنوب إلى الشمال ويُدْعى بولفار كارول باسم جلالة الملك، وإنما قُسِّمَ لفرْطِ طوله إلى قسمين، وسُمِّي كلٌّ منهما باسمٍ كما جرى في بولفارات باريس التي تُقَسَّم إلى بولفار الطليان وكابوسين وغيراسامي. فالقسم الأول من بولفار كارول سُمِّي إليصابات على اسم الملكة، والقسم الثاني سُمِّي المدرسة؛ لأن فيه المدرسة الجامعة، وفي البولفار المذكور بُنِيَ المتحف، وهو مهمٌّ لما يُعْلَم أن أصل شعب رومانيا هو من بقايا الرومانيين القدماء، ولغتهم الآن مشتقَّة من اللاتينية، فما بطلت فيها الحروب من عدو يطرقها من الخارج أو من الأحزاب الداخلية. فلمَّا دخلنا المتحف رأينا في قسمٍ منه أبوابًا وأيقونسطاسات من الكنائس القديمة، وصور قدِّيسين وأساقفة بالقد الطبيعي، وصور المسيح والعذرا والرسل كُتب عليها سنة ١٥٥٦، وغيرها سنة ١٧٦٥ وإنجيلًا غطاؤه من ذهب من سنة ١٤٠٥ مكتوب باللغة السلافية، وإنجيلًا آخر باللغة اليونانية سنة ١٥١٩، وعصا مطران رأيت مثلها في كنائس سوريا من خشب أسود مطعَّمة بعظم ملتفٍ بعضه على بعض، وهي منذ سنة ١٦٠٠. وقد احتلَّها الأتراك ٦٠٠ سنة وبنوا فيها الجوامع، ولكن رومانيا ما خضعت وما ضُمَّت قط إلى مملكة أجنبية خضوعًا تامًّا، وإنما اقتبس أهلها كثير من الكلام التركي بسبب طول احتلال الأتراك، وهم يلفظون ويكتبون باللغة الرومانية توتون (دخان)، ويُكتب على باب المخزن توتون وكبريت وقفطان وبنش للرجال، ومفرجية للنساء، وأغا وسقا وبخشيش ودخان وصراف، وفي إيجارات المنازل كرى أودة، وحمال يكتب على صدره حمال ليُعرف ويقولون هايدي (هيا بنا)، فإن الحمَّال لمَّا استلم أمتعتنا من المحطَّة قال لنا هايدي، ولمَّا احتجنا إلى صدريَّة بيضاء وسألت الخياط على نوع الأزرار قال صدف، وأرانا أزرار الصدف وقِسْ على ذلك.

وفي المتحف كساوي رومانية، فيها الشبه لكساوي الأرناءوط مزركشة بالقصب والذهب، بالكاد يُرى القماش، وفيه كساوي وصور البويار، وهم الأشراف الذين كانوا حاكمين البلاد، مثل أمراء جبل لبنان، ورأيت مومياء وأولادها داخل صندوق من زجاج، وهناك حجارة هائلة لا تنقص عن المائة عدًّا، حُفِرَ فيها صور الملوك راكبين عربات بعجلين، وصور وقائع حربية، وأسرى مجندلين تسوقهم العساكر من أيام الملك تريانوس الروماني، وهذه الأحجار والآثار من معابد الرومانيين ستُبْنَى مثل ما كانت عليه. ورأيتُ أيضًا حجر شاهد مسلم وُجِدَ تحت الأرض، قرأت بأعلاه «هو الحي الباقي»، وعشرين سطرًا تقريبًا باللغة التركية أشعارًا. ويوجد في هذا المتحف ما يُقال له كنز الملك أثناريش، اكتُشف سنة ١٨٥٧ في قرية بتربوزا، وهو مجموعة آثار لها مقام كبير عندهم.

وبعد ذلك دخلنا المدرسة الجامعة، وشاهدنا فيها مقاعد الأساتذة والتلاميذ، وهي تُقْفَل في زمن الصيف، وقصاد المدرسة تمثال الوزير الأول براتيانو. ولمَّا كان هذا البولفار طويلًا جدًّا جعلوا فيه ميادين ذات أشجار وأزهار، ومنه يُرى في الجانب الآخر الكنيسة المسكوبية التي لم يتمُّ بناها، ولكنه قريب من التمام، وقد علمتُ أنَّها للروس من أول وهلة قياسًا على ما شاهدتُ من نظائرها في روسيا كوجود قُبَّة كبيرة في وسطها وقبب أخرى تحيط بها، وهي بديعة التذهيب تسطع وتلمع. وفي البولفار المذكور تمثال البرنس سجاي، والرومانيون يسمُّونه البطل، وهو المذكور في المقدِّمة التاريخية، مثَّلوه راكبًا جوادًا وبيده بَلْطَة يشير بها، والتمثال قائم على قاعدةٍ من الصوَّان غرسوا حواليها أزهارًا متنوِّعَة. وتمثال لازار الذي عاش من سنة ١٧٧٩ إلى سنة ١٨٢٣، وهو الذي أحيا اللغة الرومانية بعد أن طَرَأَ عليها الفساد من الأجانب، وبعدهُ تمثال جان فلياد رادوليسكو الذي عاش من سنة ١٨٠٢ إلى سنة ١٨٧٢، وله الأيادي البيضاء في إنهاض علم الآداب والإنشاء في الرومانية. وعند منعطف هذا الشارع تمثال بروتوبوسكو الذي كان حاكم العاصمة، وله عليها الأيادي البيضاء. وعلى ذكر هذه التماثيل أقول إن الرومانيين يقْدرُون رجالهم العظماء من علماء وشعراء وقواد وساسة حقَّ قدرهم، فإنهم أقاموا تماثيل للاهوفاري الخطيب، ومجموعة تماثيل إلى العساكر الطلمبجية الذين قاتلوا الأتراك في سنة ١٨٤٨. وفي حديقة الأثينة السابق ذكرها تماثيل للقائد فلوريسكو، وللشعراء مينسكو وشربانيسكو وديمتريسو، ولأرباب القلم فاكاريسكو وتيودوريسكو وروسيتي، وتمثال كونتاكوجين الذي ضُرِبَتْ عنقه في سنة ١٧١٦ في أندرينوبل بأمر السلطان.

قد يكون القارئ ملَّ من وصْفِ الشوارع والميادين، ولكن السايح الغريب يفتقد ذلك قبل شيء؛ ليحيط علمًا بالبلد فضلًا عن أنَّ البنايات العمومية تُبْنَى في أحسنها، مثل شارع ليبسكاني يُتوصَّل إليه من بناء البوسطة، لا يقلُّ قيمة عن شوارع فيكتوري وكارول، وفيه المخازن التي تُباع فيها البضائع النفيسة، لا سيَّما للسيدات من كلِّ فنٍّ وطراز جديد، فإن الرومانيين — ولا سيَّما نساؤهم — شديدو العناية بملابسهم وأزيائهم، وربَّما أنفقوا عليها دون كيل وحساب. وفي الشارع المذكور بنك الحكومة، البناية هذه لا تقلُّ عن بناية البوسطة، فضلًا عن أنها مُزَخْرَفَة وهي تشغل مساحة ١٢٠٠٠ متر من الأرض أو أكثر، محاطة من جهاتها الأربع بدرابزين حديد مرتفع جدًّا، أكثروا فيه التذهيب في الباب الخارجي، دخلنا منه إلى حديقة صغيرة، ومنها إلى البنك فوجدنا نفسنا في فناء شاسع، فيه العدد العديد من الناس الذين أتوا لأشغالهم، ولاحظتُ أنهم يتكلَّمون همسًا بعضهم مع بعض وهم مكشوفو الرءوس ولا يشربون دخانًا، مما يدلُّ على التوقير والاحترام. ثمَّ صعدنا إلى الدور الأعلى على سُلَّمِ رخام أبيض متَّسع، وتجوَّلنا حسب عادة كل غريب، ثمَّ نزلنا وذهبنا إلى سراي الحقانية المجاورة له، وفيها المجالس الابتدائية والاستئنافية لا تقلُّ مساحتها عن ٢٠٠٠٠ متر، مبنيَّة في ثلاث طبقات، الدور الأول قائم على أعمدة رخامية ومثله الدور الأعلى، وفيها نحو ١٢٠ قاعة وغرفة، وهي حديثة العهد؛ إذ بُنِيَتْ في سنة ١٨٩٥، ولمَّا انتهى بناؤها حضر الملك بنفسه لافتتاحها بطريقة رسمية محاطًا برجال حكومته، وهذا برهانٌ على عظمتها، فكلُّ داخل إليها يُدهش مما يرى.

قلت إن عاصمة رومانيا هذه كأنها بستان؛ لكثرة ما فيها من الأشجار في الميادين والشوارع، وفيها متنزَّهات كحدائق سيسمينجو وفيلارة — التي سنتكلَّم عنها — ولكن أحسن نزهاتها نزهة الشوسة، حيث مُلْتَقَى السواد الأعظم من الأهالي، وهي بمثابة نزهة الجزيرة والأهرام بمصر، يذهب الناس إليها خصوصًا في أيام الأحد والأعياد، فتسير العربات بعضها وراء بعض حتى إذا انتهت من بولفار فيكتوري تخرج إلى الخلاء، ولا يخفى أن بخارست لم تكن في الحسبان في الزمن الماضي، ولكن بعد حربها في سنة ١٨٧٨ مع تركيا جُعل لها رسم جديد. وإذ كان عندهم كثير من الأراضي خطَّطوا بلدهم كما شاءوا، ومتنزَّه الشوسة هذا طويل جدًّا، لا يمكن الوصول إلى آخره، فإن ذلك يستغرق زمنًا طويلًا؛ ولذلك يصل الناس إلى موضع معلوم ثمَّ يعودون. وقد جُعِلَ الشوسة ذا اتساع عظيم، تحدُّه الغابات على اليمين وعلى الشمال، وفيها جميع الأشجار من صنوبر وسنديان وبلُّوط ممتد إلى بعد شاسع، يتضوَّع منها روايح زكية، وبداخل الغابات شوارع وحدائق وبِرَك الماء والمطاعم والقهوات ومحلات الجعة (البيرة)، وقد يضم المحل الواحد خمسمائة نفس يسمعون أنغام الموسيقات ما عدا الموسيقى العسكرية، فالروماني بعد أشغاله يتنزَّه ويصرف الدرهم والدينار في سبيل ذلك. والذاهب إلى الشوسة يرى العربات الجميلة والخيول المطهمة تسير بعضها وراء بعض متصلة غير منفصلة، وهي تذهب وتعود؛ لأنَّه جرت العادة أن يكتفوا بالمرور ولا ينزلوا من عربات ويتراشقوا النظر، مما يهدِّد الرجال بفتنة حب عظيمة، فإن لجمال الرومانيات شهرة مستطيرة.

وللعاصمة حديقة عمومية لنزهة الأهالي قائمة في وسط البلد تُدْعَى سيسمنجو، سهل الوصول إليها من أيِّ جهة، لا يميِّز مَنْ يدخل إليها أولها من آخرها لاتساعها. وفيها خليج مياه يتلوَّى في مجراه تلوِّي الأفعى، وفي الخليج قوارب ذات مجاديف، وبالحديقة شوارع مستطيلة بجانبيها أشجار مضى عليها قرون، يسيرون فيها في أيِّ جهة تحلى لهم، وزهور متنوِّعَة غرسوها في أراضٍ منبسطة أو عالية، رفعوا الأرض عن سطحها بضعة أمتار، وقد بولغ في العناية بتنسيقها وترتيبها بحيث جُعل فيها الأزهار كنارات مختلفة الألوان بين أحمر وأصفر وأخضر وأبيض. وبالحديقة مطعم يُدْعَى مونته كارلو، موائده منتشرة هنا وهنا عدا كشوكة مخصوصة لاتساع مائدتين وأربعة فأكثر، تناولنا طعامنا هنا على سماع نغمات الموسيقى. ويوجد حديقة ثانية عمومية في طَرَفِ العاصمة تُدْعَى فيلارة تشتمل على كثير من الأزهار وبِرَك المياه، وقد أُقيم فيها معرض روماني عام من عهدٍ قريب — أي منذ سنتين — وما زالت بنايته موجودة، وهي مثل سائر أبنية المعارض التي أشرتُ إليها مرارًا في هذا الكتاب، ولو أراد العالم بالنبات أن يصنِّفَ كتابًا ضخمًا في الملاحظات الفنية والاستقراءات العلمية التي يجعلها من مشتملات هذه الحدائق لأمكنه ذلك على أهون سبيل.

وفي الضواحي قصر البرنس فردينان ولي العهد، ذهبتُ إليه، وكنت أرى قبل وصولي حدائق على اليمين وعلى الشمال، وما أمكن الدخول إلى القصر لغياب صاحبه في جبل سينايا، ولكن دخلتُ حديقته مستأذِنًا في ذلك الضابط الواقف على بابه مع الحرس. ورأيتُ على تلٍّ مرتفع في هذه الحديقة قبر البرنسيس ماري الكريمة الوحيدة للملك التي كانت وريثة الملك، أمَّا الآن فالوريث هو البرنس فردينان ابن أخيه. وفي عودتنا دخلنا إلى مدرسة الطب، وهي بناية كبيرة من الطوب الأحمر تُقْفَل في الصيف، ولكن المعاون قال إنني إذا عُدْتُ الساعة العاشرة من غد ذلك اليوم، فالمدير يريني الأدوات وكيفية تدريس الطب، فانصرفتُ شاكرًا، وذهبتُ لمقابلة نيافة المتروبوليت يوسف، وهو رئيس الدين في رومانيا مركزه بخارست ومقيم في قصر بجانب الكنيسة الكبرى. وفي أثناء طريقنا إلى قصره مررنا بجسر (كوبري) قائم على النهر، وإذ كان المتروبوليت غائبًا قابلنا وكيله، وقام يرينا بنفسه تحف القصر ونفائسه، وهي قديمة العهد، أذكر منها تيجان الأساقفة المعروفة في الكنائس الشرقية، وعددها ١٢ تاجًا موضوعة بالترتيب حسب قِدَمِهَا، بعضها إلى جانب بعض، وهي تَسْطَع وتلمع من الذهب والحجارة الكريمة، مثل تيجان البطاركة، ثمَّ أرانا القاعة التي يُعْقَد فيها المجلس الديني، وقاعة الاستقبال وغيرها.

ثمَّ دخلنا الكنيسة التي على اسم قسطنطين وهيلانة، تُوِّجَ فيها الملك لحالي في سنة ١٨٨١، وهي قديمة العهد بُنيت سنة ١٦٥٦، أكثروا فيها التذهيب، حتى إن خشب الأيقونساطس لا يبين، وفيها كرسي للملك وآخر للملكة، وكرسيان لوليِّ العهد وزوجته. وفي أثناء التجوُّل حانت مني التفاتة إلى تابوت من فضَّة وُضِعَ على مائة مستطيلة داخل الكنيسة، وفيه عظام القدِّيس ديمتري الذي له مقام كبير عند الرومانيين، وإذا انحبس المطر يأخذ الإكليروس يطوفون بالتابوت في البلدة بناءً على طلب المزارعين، ويدعون لله تعالى أن يجود عليهم بالمطر لإنعاش الزرع، ولا ينقطع الرومانيون عن الصلاة. وفي عاصمتهم هذه ١١٦ كنيسة أرثوذكسية، مع أن تعدادهم لا يزيد عن ثلاثمائة ألف، وجاري هنا بناء فخيم هو البارلمان.

جبل سينايا

قبل أنْ أبْرَحَ مصر قال لنا حضرة معتمد رومانيا أنْ أذهب إلى جبل سينايا، وهو من المناظر المعدودة، يقيم فيه جلالة الملك والأسرة المالكة وولي العهد ورجال حاشية البلاط الملكي. ولهذا الجبل نُبْذَة تاريخية، وهو أنَّ أحد أمراء هذه البلاد المدعو كونتا كوزين قُطع رأسه بأمر السلطان في أندرينوبل، ثمَّ وشِي في ابنه ميشيل، وهذا هرب والتجأ إلى دير سينا بجهة بحر الأحمر مشهور عند كلِّ الناس، وكان نَذَر أنه إذا كان يعود سالمًا إلى بلاده يبني ديرًا في جبل يدعيه جبل سينا — والرومانيون يقولوا سينايا — فعاد بالسلامة وبنى ديرًا صغيرًا للرهبان، وهم امتلكوا فيما بعد أراضي شاسعة، وبنوا البنايات في المدن، وكثرت النذورات والوقفيات لهذا الدير، حتى إن أملاكه تُقَدَّر الآن بسبعة وستين مليون فرنك وإيراداته السنوية بمبلغ خمسة ملايين فرنك.

وعليه عزمتُ أن أذهبَ إليه في هذا اليوم الموافق ١٨ يوليو، والمسافة ما بين بخارست والجبل المذكور ثلاث ساعات بقطار سكَّة الحديد، فذهبتُ من الفندق إلى محطَّة الشمال، وبينما كنت أهمُّ بمشترى تذكرة السفر نصحني رجل روماني يشتري هو أيضًا تذكرة لنفسه أن آخذ تذكرة لأجل الذهاب والإياب معًا، وثمنها ١٧ فرنكًا عوضًا من أخذ تذكرة ذهاب وثمنها ١٣ فرنكًا، ثمَّ أخرى للإياب وثمنها المبلغ ذاته، مع أنه يُؤخذ من مصر إلى الإسكندرية على هذه المسافة ٢٢ فرنكًا، ولا يبعد أنهم يتقاضون أجرة خفيفة لعمران الجبل وتسلية للناس. فلمَّا نظرتُ إلى التذكرة وجدتُ أنه طُبِعَ عليها تاريخ ٦ من الشهر بدلًا من ١٨؛ لأنَّ رومانيا — وهي بلاد أرثوذكسية — تتبع الحساب الشرقي كالروسيين، فقام بنا القطار والمطر يهطل ولا بأس فيه؛ لأنَّ بلاد رومانيا حرها وبردها كثير، وإن كانت في الحرِّ دون مصر وبيروت، يهطل المطر فيها عند اشتداد الحر فيبرد الطقس على إثره. وكان معنا عدَّة رُكَّاب في القطار ذاهبون إلى الجبل، قال لنا أحدهم — ولعلَّه من أرباب الأطيان — إن هذا المطر يفيد الذرة وربَّما يضرُّ بالقمح. وللقوم طريقة غريبة في زرع الفاصوليا؛ فإنهم يعرشونها على أوتاد في طول ٨ إلى ٩ أمتار، ويجعلون مسافة مترين تقريبًا بين كل وتدين، فتظهر الفاصوليا بذلك كأنها صفوف من الأشجار.

وفي خلال السير دار الحديث بيننا وبين رفقائنا عن رومانيا ومصر، فإن أهالي تلك البلاد قريبو المعاشرة، لا يتطلَّبون للتعارف شروطًا وقيودًا مثل الإنكليز، وكان كلُّ واحد منهم يجتهد أن يرينا شيئًا جديدًا، فقالوا إن هذا النهر يُدْعَى براهوفا، وأرونا آبار زيت البترول قريبة من شريط سكَّة الحديد على اليمين والشمال تُسْتَخرج من أراضي كاربات، وهناك القنوات توصله إلى الصهاريج والمعامل لتكراره وشحنه بقطارات سكَّة الحديد، وقد تألَّفت ثلاث شركات لاستخراج هذا الزيت رأس مالها ملايين. وقيل لنا إذا أمكن اكتشاف آبار جديدة لزيت البترول فاقت رومانيا روسيا في هذا المعدن؛ لأنَّ إحدى هذه المحطَّات فقط — واسمها كامبينا — يُصدَّر منها وحدها ١٦ ألف عربة منه في كلِّ سنة. ولمَّا قربنا من الجبل جعل القطار يجري بنا صعدًا، وفي إحدى المحطَّات اشترى بعض الركاب كرزًا أسود اللون لذيذ الطعم وجوزًا غضًّا (فريك). وبعد مسير ثلاث ساعات وقف القطار في محطَّة سينايا، وكان وصولنا إليها في الساعة الثامنة ونصف بعد الظهر. ولكن في أوروبا — ولا سيَّما في مثل ذلك المكان المرتفع — لا يزال لنور النهار أثر واضح حتى الساعة التاسعة. وينبغي للراكب في زيارة جبل سينايا أن يحجز لنفسه مقدمًا غرفة يستأجرها في الفنادق؛ لأنَّ زوار الجبل جماهير عديدة ليسوا من أعيان بخارست فقط، بل فيهم كثيرون من بلاد أخرى رومانية، وذلك لشهرة الجبل الطائرة في جمال مناظره، وإسرافه على مواهب الطبيعة البديعة.

أمَّا عن محاسن هذا الجبل، فمهما أفضتُ فيها أراني مقصِّرًا عاجزًا، ومع أنِّي ذهبتُ إلى كثير من الجبال في سويسرا، وإلى الجبل الأبيض وأميركا، ما رأيتُ جبلًا يضاهيه في جماله الطبيعي، وهو ليس شديد العلو؛ فإن علوَّهُ ٨٠٠ متر فقط، ولكن قمم الجبال التي وراءه تبلغ من ١٠٠٠ إلى ٢٠٠٠ متر، فبقعة جبل سينايا تكون بذلك كأنَّها في وادٍ طويل عريض، وإن لم تكن عند التحقيق واديًا. وقد جعلوا من جبل سينايا حديقة كبيرة (بارك) فيه أشجاره الأصلية القديمة العهد من صنوبر ودلب، وأنواع أخرى لا يُدْرِك أسماءها وأوصافها إلا أحد علماء النبات. وفيه المروج الخضراء السندسية التي أُنشئت، وهناك الأزهار البرِّيَّة الصغيرة من أحمر وأزرق وأصفر وبنفسجي ما يقرُّ الناظر ويسرُّ الخاطر، أُضيفت إلى الأزهار المعتادة فاتحدت الطبيعة والأيدي البشرية على جَعْلِ هذه البقعة من الأرض فردوسًا يحيِّر اللب ويسبي القلب. وقد بنوا فيه البِرَك التي تتدفَّق فيها المياه، وخطَّطوا الشوارع ما بين منبسطة ومرتفعة، وفرشوها بالحصى الأبيض الناعم ممزوجًا بالرمل، وبنوا فوقها أجنحة وشرفات واسعة (كشوكة) دهنوها باللون الأخضر، وعرَّشوا عليها العرائش من ورد أبيض وغيره، وأنشئوا المظلَّات الهندية التي تشبه الخيام، وجعلوا مقاعد من رخام وخشب في المماشي، وهناك مطاعم وقهوات ورحبات للعب الكرة وغيرها من الألعاب. وبنوا لوكندتين عظيمتين، ولا يخلو هذا البارك من وارد وصادر، وهو ملتصق بجبال أخرى، منها جبل ممتد مكتسٍ بالأشجار من أسفله إلى أعلاه. وهي بديعة في تنسيقها وترتيبها كأنها عُولجت بالمقراض ولونها كلون الزمرد. وإزاء هذا الجبل جبل آخر على شاكلته، وبينهما جبل ثالث دونهما علوًّا يظْهَر للناظر كالوادي وليس هو كذلك. ويعارض هذه الجبال جبال أخرى، ووراءها جبال تُعَدُّ بالعشرات متفاوتة في قرب المسافة وبُعْدِها.

وبعد ما قضيتُ في البارك حينًا متنزِّهًا مع حضرة صفوت بك السكرتير الأول لسفارة تركيا، وكان غاصًّا بالمتنزِّهين زرافات ووحدانًا، ركبتُ عربة وذهبتُ أتجوَّل بداخل الغابات إلى قصر الملك، وهو ليس بعيدًا. وقد خطَّطوا شوارع داخل هذه الغابات لمرور العربات تكفي لمرور عربتين فقط، والباقي على اليمين وعلى الشمال جميعه غابات وأحراش من أنواع الصنوبر، بعضها تحاكي السحاب في علوِّها، وبعضها ممتدَّة العروق من كلِّ الجوانب من أسفلها إلى أعلاها، مثل أشجار الأرز، ويُسْمَع في أثناء المرور خرير المياه، وهي تنحدر إلى الوادي حتى وصلنا إلى القصر، وهو بُني في أحسن بقعة في ذلك المكان، ويُدْعَى قصر بليش باسم ينبوع ماء قريب منه. والقصر جميل الهندسة، يشرح منظره الصدر، أكثروا في بنائه من الطوب ودهنوها بألوان حمراء وزرقاء وخضراء كلون أوراق الأشجار، وذهَّبوا قسمًا منها. وفي وسط القصر قُبَّة شاهقة نُصِبَ بأعلاها العلم الملكي، وهم لا يمنعون الناس أن يقتربوا من القصر، ويدوروا بجانبه على الأقدام، ويمتِّعوا نظرهم بالحديقة التي أمامه الحاوية لكلِّ أنواع الزهر. وقد رأيت فيها من زهر الورد أشجارًا، ذلك أنَّهم يربُّون ساق الورد ويعالجونها حتى تكبر وتغلظ وتصير شجرة في ارتفاع مترين تقريبًا، وفي رأس الساق أربع أو خمس وردات، ضُمَّت بعضها إلى بعض كأنها باقة. وأمام القصر بِرْكَة فيها نوفرة تتصاعد منها المياه إلى علوٍّ شاهق. وفي زوايا القصر عساكر الحرس وقوف بسلاحهم، ومدفعان وقنابل، وعند الظهر يتغيَّر الحرس على ضرب النفير.

ولا يبعد من قصر الملك قصر آخر لسموِّ البرنس فردينان ولي العهد وعائلته، مبنيٌّ على نَسَق قصر عمِّه الملك ولكنه أصغر، ويُرفع العلم فوقه. ثمَّ عدنا للفندق من طريقٍ آخر من داخل هذه الغابات الجميلة، وممكن التنزُّه فيها ساعات، والمرء لا يملُّ النظر لتنوُّع المناظر والمشاهد، وخصوصًا القصور لأربابها من أهل السعة واليسار، منتشرة بعضها في وادٍ، وبعضها على ربوة أو لحف جبل، وغيرها في الطرقات، وجميعها داخل حدائق، وهم الذين أسعدهم الدهر أن يكونوا في أحسن بقعة من الأرض. والفنادق هناك في غاية النظافة والترتيب، وفيها العدد العديد من الخدم بثيابهم النظيفة ينفذِّون الطلبات بسرعة. وواجهة قاعة الطعام في فندق كريمان الذي اخترناه لإقامتنا من زجاج تُشْرِف على الحديقة وعلى بِرْكَة تتصاعد منها المياه على علوٍّ شاهق. وعلى طول قاعة الطعام رفٌّ من الخشب عليه آنية صغيرة للزهر، ورأيتُ عريشة وصلوها إلى سقف القاعة، فالجالسون يتناولون طعامهم ويشنِّفون آذانهم بسماع الموسيقى، ويمتِّعون نظرهم في نوفرة المياه وأزهار الحديقة. وطعامهم لذيذ فيه ألوان عربية، مثل بادنجان محشي باللحم المفرومة وأرز دفين؛ لأنهم يدفنون قطع اللحم في خلاله، ومعه لبن رائب في كاسات بيضاء، عليها القشطة على شاكلة ما يُصْنَع في بيوت مصر والشام. ومن حلواهم البقلاوة والقطايف، يسمُّونها بأسمائها العربية، وقبل تناول الطعام يشربون الوتسكا، وعلى المائدة يشربون نبيذهم الوطني اللذيذ الطعم الرخيص الثمن. وبعد فراغ الطعام ينتقلون إلى قاعة للمسامرة، وأخرى للعب الورق. ويوجد قاعة كبرى للرقص في كلِّ يوم خميس، وتلبس السيدات كلَّ ما هو خفيف ولطيف، ولهنَّ عناية شديدة بالقبَّعات الصيفية الجبلية، وهكذا يقضي القوم نهارهم وليلهم في أرغد عيش.

وفي هذا اليوم ذهبت إلى قصر جلالة الملك وبيدي توصية للمثول، وكنت اطَّلعتُ في الجرائد أن صحته منحرفة، فقابلتُ الماريشال مافرو كوردات، وكان لابسًا كسوته الرسمية وفي صدره نيشان يتدلَّى على صدره، وهو طويل القامة حسن الطَّلْعَة مهيبها، فلمَّا علم أنَّ الغرض من حضوري إلى رومانيا الكتابة عنها في اللغة العربية كما كتبتُ عن أوروبا وأميركا، قال لا ريب أنَّك علمت بانحراف صحة جلالة الملك، وهذا هو المانع، ولكن سموَّ ولي لعهد يقابلك بالنيابة عن جلالة الملك، فأعطاني تذكرة إلى حضرة الياور الأول الميرالاي كريشيانو، وأرسل معي رسولًا أوصلني إلى القصر، فسلَّمتُ إليه التذكرة، وبعد أن قرأها قال إنه سيرسل لي الجواب إلى الفندق، ثمَّ أرسله وقال فيه إن سموَّ البرنس فردينان ولي عهد رومانيا يقابلني اليوم التالي الساعة الثالثة بعد الظهر. وفي الميعاد المذكور كنتُ في قصره، حيث انتظرتُ قليلًا في غرفة مع أحدِ الضُّبَّاط، ثمَّ دخلتُ إلى قاعة كان سموه واقفًا فيها لابسًا كسوته العسكرية، وعلى صدره سلسلة نياشين تتلألأ كما هي عادته في مقابلاته. فدار الحديث عن مصر ورومانيا، من ضمن ذلك قال يجب أن أزور دوير أرجيش؛ لأرى قبب الأجراس الرُّخامية المذهبة التي صُنِعَتْ بطريقة هندسية غريبة الشكل من نوعها، فيخيَّل إلى الناظر أنها تهمُّ بالسقوط إلى الأرض، وأن أزور معامل الملح، وهذه غريبة في بابها؛ لأنه يمكن النزول إلى عمق ١٥٠ مترًا في عرض ٥٠٠ متر، وليس في كلِّ هذه المسافة لا حجر ولا تراب، بل الملح النقي الأبيض. وقال: ومع أنَّ بلاد رومانيا زراعية كالقُطْرِ المصري، فالهمَّة مبذولة في ترقية صناعتها واستخراج معادنها من جوف الأرض. وحدَّثْتُ سموَّه عن فوائد الخطِّ الحالي من الوابورات الرومانية ما بين قسنطسة وإسكندرية، ورأيتُ سموَّه طَلْقَ اللسان حسن البيان، جميل الطَّلعة، تدل ملامحه كلها على النَّجابة، كيف لا وهو من عائلة هوهنزولرن الشهيرة في فضائلها في أوروبا! وكان يسأل ويستعلم عن كلِّ شيء، وأسئلته دقيقة حتى سأل عن اسم الوابور الذي ركبتُهُ. واستغرقت زيارتي ساعة تقريبًا، ثمَّ انصرفت شاكرًا.

figure
البرنس فردينان ولي عهد رومانيا.

وفي هذا الجبل الدير والكنيسة، وقد بُنيتا على ربوة، فذُهِّبت الكنيسة وهي تكاد تكون كلها ذهبًا؛ لأن أهالي رومانيا يكثرون من التذهيب في كنائسهم، وفي تلك الكنيسة كراسيُّ للعائلة الملوكية، ومع أنَّ الصلاة باللغة الرومانية يسهل على كلِّ شرقي أن يتبعها ويفهمها من النغمات، واصطلحوا ألَّا تكون جوقة المرتِّلين في جانب الكنائس، مثل كنائس مصر والشام الشرقية، بل في كشك فوق الباب، تُسمع نغماتهم ولا أحد يراهم، وأظنُّ أن ذلك أدعى إلى الخشوع والوقار، لا سيَّما وهم ينتخبون المرتِّلين من ذوي الأصوات الرخيمة، فيُخيَّل لك أنَّ هناك آلات موسيقية. وقُسُسهم حسان الطلعة متهذِّبون، وملابسهم الكهنوتية كملابس أساقفة وخوارنة الكنائس الشرقية بلا فرق البتَّة. ورأيتُ المصلِّين يظلُّون وقوفًا لا يستريح أحدهم — ولو قليلًا — على الكراسي التي هي مثل كراسي الكنائس الشرقية، وهم دائمًا صامتون متخشِّعون، يشخصون إلى إمامهم فقط، غير ملتفتين يمنةً ولا يسرةً، ومتى دار القُدَّاس تركع جميع السيدات على رُكَبِها إلى الأرض، وأمَّا الرجال فأظن أنَّ البنطلون هو الذي يزعجهم في الركوع ولا يركعون، وتعود النساء إلى السجود عند عرض الكأس، ولا يُدار بالصينيات في الكنيسة لجمع نقود كما يجري في مصر وسوريا، وإنما عند باب الكنيسة الخارجي طاولة عليها صينية وفيها الشمع، فالداخلون يأخذون شمعة ويضعون في الصينية ما تسمح به نفسهم، ويوقدون الشمعة في الشماعدين. وقد قابلتُ رئيس الكنيسة، وهو لا يتكلَّم إلا اللغة الرومانية، فاستحضر قسيسَين للترجمة يتكلَّمان الجرمانية التي أجهلها أنا، فعُدْنَا إلى الحديقة، وإذا بعاصفة شديدة من الريح والمطر، فاشتدَّ البرد، وكان له تأثير في صحتنا فتركتُ الجبل وكنتُ أنوي إطالة الإقامة فيه، وعُدْتُ إلى بخارست. ولا يخْفَى أن بخارست تبعد ساعة واحدة عن روستشوك وجيورجوفو، يفصلهما نهر الدانوب، وهو عريض في هذا المكان، فالأولى من مدن بلغاريا والثانية من مدن رومانيا يذهبون إليهما من بخارست ويعودون على سبيل النُّزْهَة؛ لجمال موقعهما على النهر، فذهبتُ في الصباح، وأعجبني في روستشوك مدرستها الجامعة للذكور، يؤمُّها مئات من التلامذة، ثمَّ عُدْنَا إلى بخارست لنسافرَ منها إلى السرب. ويخلق بي في هذا المقام أن أقول إن كثيرين من سُكَّان القُطْرِ المصري يصطافون في أوروبا، فإذا اتخذوا طريقهم إليها من بخارست رأوا جانبًا من أوروبا لا تخلو رؤيته من الفائدة واللذة، أمَّا نفقات السفر فتكاد تكون واحدة.

السفر من بخارست إلى بلغراد: يجب على المسافر أنْ يرْكبَ قطار سكَّة الحديد من بخارست إلى مدينة أورسوفو الواقعة في آخر حدود رومانيا من جهة الغرب، وذلك مسافة ١٠ ساعات. والمدينة المذكورة مبنية على نهر الطونة، ومنها يركب الوابور إلى بلغراد، والسياحة في نهر الطونة تستغرق ١٥ ساعة إلى بلغراد، فبناءً عليه قام القطر بنا يمرُّ في بلاد رومانيا في أراضٍ منبسطة، مثل أراضي القُطْرِ المصري، ومزروعة كلها كأنها مرجة خضراء. وزراعتها نامية جدًّا، معظمها الدرة الشامية، رأيتُ منها على يمين القطار وشماله قدر مدِّ البصر مدَّة عشر ساعات، في نهايتها وصلنا إلى أورسوفو. ورأينا في هذه المدينة ما يُقال له في أوروبا بالاصطلاح العسكري أبواب الحديد (بورت دي فير)، أعني الجبال الواقعة ما بين المجر والسرب ورومانيا، فدخلنا مع الرُّكَّاب على الجمرك؛ لعرض تذكرة المرور والأمتعة، وهم يرون ذلك بطريقة لطيفة، ثمَّ ركبنا عربة في طريق لطيف مسافة نصف ساعة تقريبًا إلى الباخرة الراسية في نهر الدانوب المستعدَّة للسفر إلى بلغراد.
السفر في نهر الدانوب: قامت الباخرة تمخر في هذا النهر الجميل قبل شروق الشمس بقليل، على نية أن تصل بنا إلى بلغراد في الساعة التاسعة مساءً، فتكون المسافة ١٥ ساعة. وعلى القارئ أن يتصوَّر قدر النُّزْهة التي تُقْضَى في طول هذه المسافة من تنوُّع المناظر في كلِّ آونة، فإن نهر الطونة (الدانوب) الشهير في العالم ينساب كالأفعى ما بين الجبال على اليمين وعلى الشمال. فالجبال التي على يمين المسافر هي للمجر، والجبال التي على يساره هي للسرب، وقد أجمع العارفون على أنَّ أجمل السياحات في الأنهر السياحة في نهر الطونة، وأجملها ما بين أورسوفو وبلغراد. وتأييدًا لذلك أقول إنِّي كنت قد سافرتُ في نهر الطونة من فيينَّا إلى بودابست مسافة ١٢ ساعة، فلم أجد في الطريق الجبال التي تطاول السحاب، لا سيَّما على الحدود السربية، وهي تُعَدُّ بالعشرات بعضها وراء بعض. وكنا نرى الجبال في بعض الجهات تلاصق ضفاف النهر، وأمامنا جبل آخر فنحسب نفسنا محصورين في بحيرة لا منفذ للباخرة منها، ثمَّ لا نشعر إلا والباخرة اخترقت لنفسها منفذًا وأتبعت سيرها. ويبلغ عرض النهر على مسافة ١٥ ساعة ٥٠٠ متر إلى ٨٠٠ متر فأكثر. وتبعد الجبال من ضفافه في بعض الجهات من ٢٠٠٠ إلى ٣٠٠٠ متر، حيث تُغرس الأرض أشجارًا مثمرة، وتُزْرَع من مزروعات أخرى، وتَظْهَر فيها عدة قرى ومزارع ومعامل.

ويُرى على ضفافه في بعض الجهات أشجار الحور الباسقة صفوفًا ممتدَّة مسافات طويلة كأنها حائط. وهناك طيور مائية كثيرة ترفرف فوق النهر، وكلَّما وصلت الباخرة إلى بلدة ألقت المرساة يصعد من الركاب مَن يريد الصعود، وينزل مَن يريد النزول. وأبهج ما يكون في هذه السياحة الجُزُر القائمة في وسط النهر، مزروع بعضها أشجارًا مثمرة وذرة، وفي بعضها الآخر غابات من أشجار الصنوبر. وربَّما شاهد الناظر في بعض الجهات عشرات من الجُزُر الصغيرة والباخرة تمرُّ على يمينها أو يسارها. وهناك شلَّالات اصطناعية، هي كناية عن جسور من صخور وحجارة تعترض مَجْرَى المياه لأغراض يقصدها القوم، فالمياه تمرُّ من فوقها، ثمَّ تنحدر ويُسمع لها دوي وخرير. وبينما كانت الباخرة سائرة رأيت الرُّكَّاب ينظرون إلى أسفل الجبل مما يلي السرب، وإذا هناك طريق قد أنشأه في طول الجبل قيصر الرومانيين تريانونس، ومرَّت منه عساكره. وفي جبل المجر اليوم طريق آخر فتحتْه حكومة المجر يفضي إلى حدود رومانيا، رأيت الناس فيه بين ذهاب وإياب. وتكملة للفائدة أقول إن نهر الطونة هذا نبعه الأصلي من جبال فريبور في ألمانيا، أعني الغابات السوداء (التي سبق أنِّي ذهبت إليها وذكرتها في هذا الكتاب)، وهو أطول نهر في أوروبا ما عدا نهر فولكا في روسيا، وتصبُّ فيه أنهر وجداول. وقد عرفت النمسا كيف تنتفع منه عكس حكومة مصر؛ فإن وابوراتها تمخر فيه وهي تنقل الركاب والبضائع، عدا الوابورات التي تقطر الصنادل مشحونة بالبضائع. وكنتُ أرى العدد العديد من هذه الوابورات، يقطر كل واحد منها صندلين فثلاثة وأربعة توصلها إلى المدن القائمة على النهر لحدِّ البحر الأسود.

فلمَّا اقتربنا من بلغراد بعدت عنا الجبال، وكانت الأراضي هنا سهلة ومزروعة، وهناك البقر والغنم والثيران، لا سيَّما في برِّ السرب. وفي الميعاد المعيَّن ظهرت لنا بلغراد، وهي مبنيَّة على جبل، أنوارها منتشرة ومنظرها جميل من النهر، فتركنا الباخرة ودخلنا الكمرك، ولا يحسُّ السائح بانزعاج؛ لأن عماله يكتفون بالسؤال، وإذا فتحوا صندوقًا أقفلوه بسرعة، فذهبنا منه بالعربة، وكانت تجري بنا صعدًا على لوكندة موسكو التي بَنَتْهَا شركة روسية، وتُعَدُّ أجمل فنادق البلقان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤