أسوج ونروج

خلاصة تاريخية

إن هاتين المملكتين في أقصى الشمال من القارَّة الأوروبية، وهما مرتبطتان جغرافيًّا ارتباطًا أوجب أن يكون تاريخهما — بوجه التقريب — واحدًا، ولكنهما افترقتا سنة ١٩٠٥ — كما سيجيء الكلام — وقد علم القارئ أنَّ أصل الأهالي في هاتين المملكتين مثل أصل الدنماركيين، وقد اشتُهروا مثلهم بالغزو والسطو، ولكن نروج صارت مملكة منظَّمة قبل غيرها وتبعتها الدنمارك ثم أسوج، فصارت هذه الممالك الثلاث ذات مركز معروف وقوة مشهورة، وكثرت بينها الحروب والمنافسات إلى أنْ ملك بلاد الدنمارك رجل اسمه ولدمار الرابع في سنة ١٣٧٥، ولم يكن له وريث من أولاده فخَلَفَه ابن ابنته مرغريتا، وهي أميرة اقترنت بملك نروج ورُزِقَت ابنًا هو أولاف الذي ورث عنها وعن أبيه بعدئذٍ مملكة نروج؛ فصار ملكًا للبلِادَين، وكان ذلك بدء الاتحاد المشهور بين ممالك الشمال الثلاث. ومات أولاف هذا سنة ١٣٨٧ فانتخب أمراء الدنمارك والدته مرغريتا — وهي ابنة ملكهم كما تقدَّم — لتكون نائبة الملك إلى أن يقع الانتخاب على ملك سواها، وكان تعيين الملوك بالانتخاب شائعًا يومئذٍ في الممالك الشمالية. وفي السنة التالية — أي ١٣٨٨ — أجمع سراة نروج على انتخاب مرغريتا أيضًا وصيَّة أو نائبة للملك في بلادهم إلى أن يقوم ملك سواها، وكان ذلك بعد مساعٍ كثيرة منها وبدعوى أنها أمُّ الملك المتوفَّى وزوجة أبيه، فعاد بذلك الاتحاد بين نروج والدنمارك، ووجَّهت مرغريتا همَّها إلى امتلاك أسوج فخدمها السعد؛ لأن أهالي تلك البلاد شقُّوا عصا الطاعة وقاموا على ملكهم ألبرت سنة ١٣٨٨، حتى إذا هاجمت البلاد ساعدها أكثر الأهالي؛ فانتصرت على ألبرت وأَسَرَتْهُ مع ابنه ثم أطلقت سراحه على أن يعيش بعيدًا عن بلاده، وأقرَّ الأسوجيون انتخاب مرغريتا وصية للملك في بلادهم أيضًا، وبذلك اتحدت هذه الممالك الثلاث تحت حكم ملكة واحدة اشتُهرت بالحزم والسياسة حتى لقيت بسميراميس الشمال على ما تقدَّم في تاريخ الدنمارك. ولمَّا تمَّ الاتحاد انتخبت كلُّ مملكة ملكًا لها على شرط أن يحكمَ البلاد بعد وفاة مرغريتا، وظلَّت هي نائبة الملك وحاكمة مستبدَّة ولم يسموها ملكة؛ لأن قانون أكثر الممالك الأوروبية المعروف باسم «القانون الساليكي» يمنع النساء من الحكم، وأكثر ممالك أوروبا خاضعة لهذا الناموس ما خلا إنكلترا وهولندا، وقد أبطلته البورتوغال من عهدٍ غير بعيد، وعادت روسيا إلى نوعٍ منه بعد أيام القيصر بولس، وهو قانون لا يُعْرَف لمبدئه تاريخ، ولا يدري المؤرِّخون اسم واضعه ولكنه بقية آداب الأولين الذين كانوا يظنُّون أن المرأة لا تليق للأحكام.

وقام بعد ذلك ملوك كثيرون ورثوا مملكة الدنمارك وأسوج ونروج عن مرغريتا هذه، لم يشتهر لهم ذكر حتى أوائل القرن السادس عشر حين عمَّت المبادئ البروتستانتية في هذه الممالك، وكان الملك يومئذٍ كرستيان الثاني — تقدَّم ذكره في تاريخ الدنمارك — فلمَّا اشتد ظلمه وأمر بذبح سراة أسوج في ستوكهولم قام عليه الأهالي تحت قيادة جوستافوس فاسا أحد أبناء ملوكهم الأولين، واستقلُّوا في سنة ١٥٢١، وبذلك انفصلت أسوج عن المملكة الشمالية، وأمَّا نروج فظلَّتْ مع الدنمارك إلى سنة ١٨١٤ كما سيجيء القول.

وتقدَّمت أسوج بعد استقلالها هذا، واشتُهر قُوَّادها في حروب الأجيال الوسطى، وأعظمهم الملك جوستافوس أدولفوس، وهو بطل ضرغام انتصر للمذهب البروتستانتي وحارب أعداءه واحتلَّ بلاد ألمانيا، ففلَّ جنودها وفرَّق مواكب أمرائها، وجعل لدولته مقامًا عظيمًا، ثم قُتِلَ في معركة لوتزن سنة ١٦٣٢ بعد أن ملك البلاد من عام ١٦١١، فكانت مدَّة حكمه عزًّا عظيمًا لبلاد أسوج، وخلفته ابنته كرستينا على العرش، ثم تنازلت عنه لابن عمها شارل العاشر سنة ١٦٥٤، وحدثت في أيامه حروب كثيرة مع بولونيا كان النصر في أكثرها لجنوده، ومَلَكَ بعده ابنه شارل الحادي عشر سنة ١٦٦٠ واشتُهر بالعمل على تمدين بلاده وتنقيح نظاماتها وترقية شئون فقرائها، ولمَّا مات في سنة ١٦٦٧ خلفه ابنه شارل الثاني عشر وهو يومئذٍ فتًى في الخامسة عشرة من عمره، وكان ذكي الفؤاد همامًا حازمًا باسلًا في الحروب، ولكنه قليل الحظ سيئ البَخْتِ، فإن ملك الدنمارك وملك بولونيا حارباه فانتصر عليهما ثم حاربه بطرس الكبير قيصر روسيا المشهور؛ فكان النصر في أول الأمر لجنود أسوج ولكن الروس انتصروا في آخره انتصارًا عظيمًا في بولتافا سنة ١٩٠٧، فاضطرَّ شارل إلى الفرار من بلاده والإقامة مدَّة ٥ سنين في مدينة بندر من مدائن تركيا، فلمَّا عاد إلى بلاده مكرَّمًا بعد هذه المدة هاجت الأمَّة وماجت واستقبلته استقبالًا حماسيًّا عظيمًا فعاد إلى سابق همَّته وعوَّل على قهر الأعداء، ولكن القدر المحتَّم أصابه بقنبلة مدَّة حصار فردركشاد سنة ١٧١٨ في حربه مع الروس فمات مأسوفًا عليه، والأسوجيون يعدُّونه من أعظم أبطالهم وأشهر ملوكهم.

ولم يُعْرَف عن أسوج شيء يستحقُّ الذكر بعد هذا إلا سنة ١٨٠٩ حين تولَّى الملك شارل الثالث عشر، ولم يكن له وريث من آله فتبنَّى البرنس بونت كورفو من أمراء فرنسا، وهو المشهور في التاريخ باسم المارشال برنادوت، كان قائدًا عظيمًا من قواد الجيش الفرنسوي على عهد نابوليون بونابارت، وهو الذي صار ملكًا لأسوج سنة ١٨١٢، وما عتم أن رَقِيَ العرش حتى انضمَّ إلى روسيا وبروسيا وإنكلترا وحارب معها رئيسه نابوليون الذي كان السبب في ترقيته؛ فكافأته الدول بعد سقوط نابوليون بتأييده على عرش أسوج، وأهدت إليه مملكة نروج أيضًا وكانت تابعة إلى ذلك الحين للدنمارك، ولكنَّ النروجيين لم يرضوا بالمُلك لبرنادوت فانتخبوا أميرًا ألمانيًّا بدله، فتقدَّم برنادوت بجيش قوي عليهم اضطرَّهم إلى الرضوخ على شرط أن تكون بلادهم مستقلَّة في أمورها الداخلية تمام الاستقلال ولها النظامات القديمة، فقبِلَ برنادوت رأيهم. ومن ذلك الحين صارت أسوج ونروج مملكة واحدة يحكمها آل برنادوت، ولكلِّ مملكة من المملكتين نظامات خاصَّة بها تقرب من النظامات الجمهورية أو الملكية المقيدة، وقد ارتقت الأمَّتَان بعد ذلك، فصار الأسوجيون والنروجيون الآن في طليعة المتمدِّنين؛ لأن التعليم عندهم إجباري، فلا تجد أميًّا في طول البلاد وعرضها ما خلا بعض أقسام شمالية من أسوج، والقوم أهل همَّة وعزيمة وحب للعلم أو المعارف. وقد اشتُهر من النروجيين كثيرون شُغفوا بالاكتشاف، ومن أشهرهم الدكتور نانسن الذي جاب الأقطار الشمالية، والأستاذ أندريه الذي طار إلى القطب في قُبَّة أو بالون ولم يسمع الناس بأخباره إلى الآن، والنروجيون أصحاب متاجر واسعة، ولبلادهم مناظر غاية في الفخامة يقصدها السياح من كلِّ البلاد، ولهم اختلاط كثير ببلاد الإنكليز، وأهل البلاد — بوجه الإجمال — معروفون بالنشاط والصدق والأمانة، حتى إنه ليُضْرَب بهم المثل في الشهامة وكره الخداع، وهي صفات لا توجد إلا في المترقين.

وقد مَلَكَ أسوج ونروج من آل برنادوت خمسة، هم: شارل الرابع عشر الذي أسَّس الدولة، خلفه أوسكار الأول سنة ١٨٤٤، وتلاه شارل الخامس عشر سنة ١٨٥٩، ثم خلفه الملك أوسكار الثاني سنة ١٨٧٢، اشتُهر بحب العلم والمعارف شهرة لا تحتاج إلى الذكر، وعكف على درس التاريخ القديم والحديث حتى صار من الثقات في هذا العلم الجليل، وعُرِفَ بالميل إلى اللغات الشرقية وآدابها، فرأس مَجْمَعَ المستشرقين وجَمَعَ علماء اللغات الشرقية في عاصمته على مثل ما يعلم الجمهور، وجاد بالصلات والوسامات على أهل العلم والمؤرِّخين، وقد اشتُهر فوق علمه ومعارفه برقَّة القلب وبساطة المعيشة ولُطْف المعاشرة والحب الشديد لبلاده وأهلها، وأمَّا الملك الخامس من آل برنادوت فهو جوستافوس أدولفوس الحالي، وسنعود إلى ذكره بعد أن نذكرَ حادثة انفصال أسوج عن نروج؛ لأن هذه الحادثة تمَّت على عهد أبيه.

قلنا إن أسوج ونروج كانتا مملكة واحدة إلى عهد قريب، ولكن النفار كان شديدًا مزمنًا بين الأمَّتين حتى إذا خالف الملك أوسكار رغبة أهل نروج في سنة ١٩٠٥ اشتدَّ النزاع وزاد ميل النروجيين إلى الاستقلال، فلمَّا كان يوم ٧ يونيو من السنة المذكورة قرَّر البارلمان النورويجي انفصال أمَّته عن السويد، وكان الشعب قد أظهر ميلًا إلى هذا الانفصال ما عدا قسمًا منه صغيرًا أراد بقاء الاتحاد، فلمَّا عُرِضَتْ هذه المسألة في البارلمان تقرَّر فيه أن تُؤخذ أصوات الشعب، وضُرِبَ يوم ١٣ أوغسطس موعدًا لهذا الغرض فكانت النتيجة أن ٣٦٨٢٠٠ من الأهالي أقرُّوا الانفصال، وخالفهم في ذلك ١٨٤ صوتًا فقط، وبذلك أصبحت نروج مملكة مستقلَّة بموجب هذا القرار الذي حمله، وقد ذهب به إلى ملك السويد في عاصمته استوكهولم، فلمَّا اطَّلع الملك عليه قال متأسِّفًا إنه كان يودُّ الاتحاد؛ لأن الاتحاد يولِّد القوة أو على الأقل أن يؤجَّل تنفيذ هذا القرار إلى ما بعد وفاته؛ لأنه صار في أواخر العمر، وهو لا يريد سفك الدماء بسبب ذلك كما حدث في الممالك الأخرى، فإذا كان الانفصال طلب الشعب النورويجي فهو يقبل به، فأجابه الوفد أنه وإن يكن الانفصال أصبح عندهم أمرًا مقرَّرًا ولكنهم حبًّا بالملك يريدون أن يكون ابنه البرنس شارل ملكًا عليهم ترضيةً لجلالته واعترافًا بجميله، ولكن الملك لم يشأ أن يقْبَلَ ولده التاج، وبعد انصراف الوفد أمر ملك السويد بنزع الإشارة الموجودة في العلم السويدي التي تدلُّ على اتحاد النورويج معها، وأن يعيَّن يوم أول نوفمبر لرفع العالم السويدي بطريقة رسمية خاليًا من هذه الإشارة علامة الانفصال، فتمَّ ذلك في اليوم المذكور وكان ذلك آخر عهد المملكتين بالاتحاد.

عاد الوفد النورويجي إلى كريستيانا عاصمة بلاده وبلَّغ البارلمان نتيجة مأموريته، وكان قسم من الشعب يريد أن تكون الحكومة جمهورية، وآخرون يريدونها مملكة فاتفق الفريقان على أن تُؤخَذَ أصوات الشعب، وعُيِّنَ يوم الأحد ١٢ نوفمبر لأخذ الأصوات فبلغ عدد الطالبين للجمهورية ٦٩٢٤٦، وعدد الطالبين للملكية ٢٥٩٥٦٣؛ فبناءً عليه ذهب وفد إلى عاصمة الدنمارك وقابل ملكها كريستيان وعَرَضَ التاج على حفيده البرنس شارل، فأرسل ملك الدنمارك تلغرافًا إلى ملك السويد يرجوه بإلحاح أن يقبل لابنه تاج النورويج، فأجابه الملك بالإصرار على رأيه السابق وتمنَّى للأمير الدنماركي كلَّ سعادة وهناء، فاستدعى ملك الدنمارك حفيده بحضور الوفد الذي جاء ليعرض عليه تاج نروج، وألقى عليه خطبة مؤثِّرة قال فيها إن حمل التاج وراءه مسئولية، فما عليه إلا أن يتدبَّر بحكمة في الأمور التي تُسْنَدُ إليه؛ فأجاب بالقبول ووعد أنه وزوجته يوقفان حياتهما على ارتقاء شأن الشعب النورويجي، وعلى هذا صار البرنس شارل ملك نروج، واسمه الآن هاكون كما سيجيء، وُلِدَ في ١٣ أوغسطس سنة ١٨٧٢ واقترن بالبرنسيس مود ابنة إدورد السابع ملك إنكلترا، وله منها ولد عمره الآن ٥ سنين واسمه أولاف.

وصل الملك الجديد في مدرَّعة دنماركية إلى عاصمة النورويج في يوم السبت ٢٥ نوفمبر؛ فأُطْلِقَت المدافع من القلعة، وبادر لمقابلته رئيس البارلمان وأعضاؤه ثم ذهب إلى قصره مع الملكة وابنه، وسار في شوارع ازدحمت بجماهير الناس وهم يحيُّونه حتى دخل القصر وتمَّت فيه المقابلات الرسمية، وفي الغد — أي يوم الأحد — ذهب هو وزوجته وابنه إلى قاعة البارلمان حيث حَلَفَ يمين الأمانة لدستور البلاد بحضور المطران والإكليروس ولُقِّبَ بالملك هاكون السابع، وهو اسم بعض من ملوك النورويج السابقين، وكان هاكون السادس آخر هؤلاء الملوك تُوفِّي منذ خمسمائة سنة، وسُمِّي ابنه ولي العهد أولاف وهو أيضًا اسم الملك أولاف الذي جَمَعَ القبائل ووحَّد مملكة النورويج في القرن العاشر، وجُعل راتب الملك ٣٨٨٨٨ جنيهًا في السنة، وكان الازدحام شديدًا في ساحة البارلمان، فلمَّا خرج الملك إلى الشُّرْفة ورآه الشعب صاحوا مرارًا وتكرارًا بصوت واحد: «فليحيا هاكون.» وكان ولي العهد الصغير إلى جانب والده وفي يده العلم النورويجي، فلمَّا حرَّكه بيده الصغيرة أمام الجمهور الواقف في الميدان زاد الهتاف وتعاظَمَ سرور الناس من هذا المنظر حتى بكوا من شدَّة السرور، وبعد ذلك أرسل الملك تلغرافات إلى القياصرة والملوك ورؤساء الجمهوريات يُعْلِمهم بارتقائه عرش النورويج؛ فوردت له التهاني من الجميع وآيات النصح من جدِّه ومن حميه ملك إنكلترا، وهو الآن من الملوك الذين تعلَّقت الرعية على حبهم، وله شهرة بحب البسالة والفضائل مثل أكثر أقاربه العظام.

figure
غوستاف ملك السويد.

وتُوفِّي الملك أوسكار الثاني في ٩ ديسمبر سنة ١٩٠٧ بعد أنْ بَلَغَ من العمر ٧٩ سنة، وخلفه ابنه الأكبر وهو الملك الحالي، وله ولدان: أولهما البرنس غوستاف وهو الآن ولي العهد تزوَّج بابنة الديوك أوف كنوت شقيق ملك إنكلترا، وكان هذا البرنس وابنة الديوك قد حضرا للسياحة في مصر؛ حيث حَصَلَت المقابلة وتمَّ الاتفاق بينهما على الاقتران. والملك جوستافوس مشهور بالأدب والعلم مثل أبيه، وأهل بلاده يحبونه ويكرمونه غاية الإكرام، وأمَّا عدد سكان مملكته فقد بلغ خمسة ملايين ونصف مليون من النفوس حسب الإحصاء الأخير.

استوكهولم

لمَّا تركتُ بلاد الدنمارك قمتُ في باخرة إلى أسوج، ومرَّت الباخرة في خليج السوند الفاصل بين البلادين، فوصلت بعد مسير ساعتين أو أقل إلى مالمو، وهي أولى الفرض الأسوجية من ناحية الجنوب، ومركز ولاية سكان التي اشتُقَّ منها اسم سكاندنافيا، وهو اسم ممالك الشمال الثلاث وبعض ما يجاورها. ومالمو هذه بلدة صغيرة فيها ٥٠ ألف نسمة، ولكنها نظيفة مرتَّبة مثل أكثر المدن الأسوجية، ولها بعض الشهرة بصنع القفاز (الجوانتي أو الكفوف)، وهي على بُعْدِ ٦١٨ ميلًا من العاصمة ستوكهولم أو ١٦ ساعة في القطار تفرِّق بينهما أراضٍ بديعة المناظر كثيرة الجمال، ويزيدها رونقًا أنَّ بحر البلطيق إلى جانب من الطريق الذي يمرُّ به القطار والجبال إلى الجانب الآخر، فلا يشعر المسافر بشيء من التعب أو الملل في كلِّ تلك المسافة؛ لأنَّ تغيير المناظر المفرحة يتبعه انقطاع الغبار لصلابة الأرض وكثرة الأمطار وإتقان العربات في القطار، ومررنا باثنين وثلاثين محطَّة بين مالمو وستوكهولم، هذا غير القرى الأخرى التي لم يقف الرتل فيها فكنَّا نرى في كلِّ ناحية الحراج الفخيمة والبساتين الجميلة والمزارع النضرة والبيوت البهيَّة، والناس يشتغلون بزراعتهم اشتغال الذي خلا باله من الهمِّ وأمِنَ غدرات الدهر، والأشجار تتدلَّى منها الأثمار المختلفة في كلِّ جهة، وهي دليل اجتهاد الأهالي في إنمائها فأثَّر فينا منظر هذه البلاد تأثيرًا عظيمًا.

وأمَّا مدينة ستوكهولم عاصمة أسوج فعدد سكانها ٣٥٠٠٠٠ نفس، ويُضْرَب المثل بجمالها وبهائها؛ لأنها واقعة في أرض بعضها جزر يصلون من إحداها إلى الأخرى بالزوارق المتْقَنَة أو الجسور البديعة، وبعضها في منبسط من الأرض فسيح المجال وبعضها على مرتفعات وهضبات متدرِّجة في الارتفاع، ولها منظر يقرب من منظر البندقية في جزرها، ومن منظر الآستانة في قرنها الذهبي وروابيها البهيَّة، وقد زادها حسنًا ورونقًا أنَّ معظم أبنيتها من الحجر المنحوت، لا طلاء يكسوه ولا دهان، وبعضها من الطوب الأحمر تفصل بين طبقاتها خطوط بيضاء من الكلس، وفي حدائقها وبعض طرقها أيضًا صخور صوانية كبرى تُرِكَتْ على حالها الأصلية عند تنظيم المدينة، وأشياء أخرى غير هذه تميِّز ستوكهولم عن سواها وتجعلها من أجمل مدائن الأرض بلا مراء، هذا غير أنها نظيفة في كلِّ جوانبها لا رائحة تُعْرَف عنها ولا أقذار متراكمة ولا تراب يطير غبارًا فيعمي الأبصار، ولا دخان ينعقد في الجوِّ من كثرة المعامل التي تدور بالبخار، ولا بليَّة أخرى من مثل ما يُعْرَف عن أكثر مدائن الشرق، فلا غرو إذا تغنَّى الشعراء بمدحها ونَظَمُوا القصائد الحِسَان في وصفها، فإنها تستحقُّ الذي قالوا عنها، وقد أوصلها الملوك الحديثون من آل برنادوت إلى درجتها الحالية بالدأب والاجتهاد وحسن الإدارة، فإنها لم تكن شيئًا يُذْكَر قبل أول هذا القرن، بُنِيَتْ سنة ١٢٥٥ واسم مؤسِّسها جارل برجر جعل من حولها حصونًا تردُّ غارات الأعداء، وكان هجوم الدنماركيين عليها في العصور الخالية كثيرًا؛ فإن الملكة مرغريتا غَزَتْهَا سنة ١٣٨٩، وكرستيان الأول فَعَلَ مثل ذلك أيضًا في سنة ١٥٢٠، وغيرهما أغار عليها كثيرًا، فلم يترك هؤلاء المهاجمون لها وقتًا تتقدَّم فيه وتنمو، إلا أنها لما استقلَّت من بعد أيام جوستافوس فاسا — الذي ذكرناه في فصل التاريخ — نَمَتْ وتقدَّمت حتى إذا تولَّى برنادوت أمرها في أول هذا القرن — وهي يومئذٍ لا يزيد عدد سكانها عن ٧٥ ألفًا من النفوس — زادت في العمران واتسع نطاقها، وبُنِيَتْ فيها المنازل والشوارع والحوانيت الكثيرة خارج دائرة الحصون الأولى، فصار عدد سكانها الآن حوالي ٣٥٠ ألفًا كلهم يُعْرَفون بالتهذيب وصدق الوفاء والاجتهاد والأمانة.

ويزيد ستوكهولم جمالًا أنه يرِد إلى مينائها شيء كثير من البواخر والسفن الشِّراعية تنقل الأبضعة والمسافرين إلى هذه المدينة ومنها، ثم إن السفن الصغيرة تَمْخُرُ ما بين الجزر التي تتكوَّن منها بعض أحياء المدينة، فترى في مياه ستوكهولم أينما سِرْتَ حركة وحياةً تحبِّب إليك الإقامة فيها طويلًا، وإنِّي عند وصولي إليها والتمتُّع بهذه المشاهدة من وجه عام قصدتُ درس ما فيها فجعلتُ وجهتي في بادئ الأمر قصر الملك، وهو في جزيرة شتادن حيث كانت مدينة ستوكهولم القديمة، وهذه الجزيرة يمكن الوصول إليها من بقية أجزاء المدينة إما بحرًا أو من فوق جسر عظيم الشان اسمه جسر نوربرو، وهو ذات سبع قناطر مبنيَّة من الصوَّان كثير الزُّخرف والارتفاع بحيث إنك إذا وقفتَ عليه رأيتَ المدينة من هنا ومن هنا بين يديك، والبواخر سائرة فوق الماء من كلِّ جهة ما بين صغيرة وكبيرة فتتجلَّى لك المدينة بكلِّ محاسنها من تلك النقطة. والقصر هذا بناء فخيم له ثلاث طبقات، مربع شكله طول كل جهة منه ٤١٨ قدمًا وفيه ٥١٦ غرفة، وهو ثلاثة أقسام: أولها للملك والثاني للملكة والثالث لولي العهد، وفيه قسم للحرس الملوكي والأعوان الكثيرين، ولكلٍّ من هذه الأقسام عمال وخَدَمَة خصُّوا بالخدمة فيه، وهم يقومون بخدمة السياح والمتفرِّجين من الذين يقصدون التمتُّع برؤية ما في هذا القصر، وقد كان يوم دخولي إليه جمع من السائحين يتفرَّجون على نفائسه، وجُلُّهم من الإنكليز والأميركان، فجعلنا ندور في جوانب القصر، ورأينا في الطبقة الأولى منه ملابس ملوك أسوج وأسلحتهم في الزمان السابق وأكثرهم من بدء القرن السابع عشر إلى الآن، وفي جملة ذلك: سروج من الذهب والفضة على النمط الشرقي، وسيوف وخناجر مذهبة ومرصَّعة قبضاتها بثمين الحجارة الكريمة، ورأيتُ هنالك فرسًا مصبرة كان يركبها الملك جوستافوس أدولفوس الذي قُتِلَ في معركة لوتزن على مثل ما رأيت في الخلاصة التاريخية، وسيف الملك شارل الثاني عشر كان في يده حين وَقَعَ قتيلًا في معركة فردركشاد، وهناك رايات وأسلحة وأشياء أخرى يُعْرَف منها تاريخ أسوج أو بعضه، ولأكثرها علاقة بحروبها الماضية مع الدنمارك وبولونيا وروسيا وغيرها من الممالك الأوروبية.

ثم ارتقينا سُلمًا من الرُّخَام الجميل أوصلنا إلى الطبقة الثانية من البناء، فدخلنا قاعة الموسيقى فقاعة الاستقبال، وفي سقفها نقوش بديعة تمثِّل تاريخ الإسكندر ذي القرنين وحروبه، وقاعة الصور فيها من الرسوم الزيتية شيء لا يُعَدُّ، فقاعة الولائم وهم يسمُّونها البحر الأبيض إشارةً إلى لون جدرانها وكلها بيضاء ناصعة يتخلَّلها عروق من الذهب، ولها منظر ترتاح إليه النفوس، وقاعة المجلس الخاص يجتمع فيها الوزراء وأهل الشورى تحت رئاسة الملك، والقاعة الحمراء جدرانها مطليَّة بالألوان الحمراء المعرقة بالذهب، وفيها صور لأفراد الأسرة المالكة، وقاعة سرافين سُمِّيت باسم وسام أسوجي قديم هو إلى الآن أرفع ما عند الدولة الأسوجية من النياشين، وقاعات أخرى غير هذا لكلٍّ منها غرض خاص، وقد مُلِئَتْ جوانب القصر كله بأفخر أنواع الرياش وزُخْرِفَت بأبهى الألوان حتى أنه ليُعَد من أحسن القصور في أوروبا وأكثرها جمالًا وإتقانًا.

ورأيتُ معظم ما في الأقسام الثلاثة من فاخر التحف وبديع المناظر، فلمَّا وصلتُ القسم المخصَّص لولي العهد رأيتُ سريرًا للأطفال سوري الشكل صُنِعَ من خشب الجوز ورُصِّع بالعاج والصدف، وقد استعملته زوجة ولي العهد لغَرْسِ الأزهار الجميلة فيه ورأيتُ هنالك أيضًا صورة سعادة أحمد باشا زكي الياور الخديوي الأول، أخذتها قرينة ولي العهد تذكارًا لقيام سعادته بخدمتها مدَّة وجودها هنا، فإنها — كما يذكر القراء — جاءت مصر مرتين وأقامت هنا مدَّة الشتاء كله عامين مراعاةً لصحتها، فكانت الحكومة المصرية تعني براحتها وتقوم بواجب إكرامها، وهي حفظت لمصر وأميرها كلَّ ذكر جميل.

وإلى جانب القصر ميدان واسع جميل في مسلَّة علوها مائة قدم نصبها الملك جوستافوس الرابع تذكارًا لانتصاره على روسيا سنة ١٧٧٨، وفيه تمثال جوستافوس على قاعدة تشبه دفَّة السفينة تذكارًا لانتصاره على الأعداء في الحروب البحرية، ومن هذا الميدان يمكن الوصول إلى السوق الكبرى، وهي التي جَرَتْ فيها المعارك المشهورة في التاريخ والحوادث المريعة أشهرها حادثة قتل الأمراء والأعيان على عهد كرستيان الثاني، وهي التي ذكرناها في باب التاريخ، وقد سُمِّيَ الموضع من بعدها «حمَّام الدماء»؛ لكثرة ما أُريق فيه من دماء النبلاء والأبرياء.

وقد مرَّ بك القول أن ستوكهولم يحيط بها البحر من ناحية وآكام وروابٍ من ناحية أخرى، فهي جامعة لأعظم المشاهد الطبيعية؛ ولهذا فإنها لم تشتهر بحدائقها اشتهار غيرها من المدن التي تحتاج إلى الحدائق، ولكن فيها حديقة بارسيلي الجميلة ينتابها الألوف بعد الأصيل من كلِّ يوم وتَصْدَح فيها الأنغام الشجيَّة، وفيها مطعم فاخر له طبقتان: في الأول منهما أنواع المشروبات تُؤخذ على موائد نُصِبَتْ بين صفوف الشجر وفي الطبقة العليا موائد الطعام تُشْرِف على أبهى مناظر المدينة.

وفي هذه المدينة أيضًا متحف عظيم الشأن هندسه ستولر المهندس الألماني المشهور، وهو استُقْدِم إلى ستوكهولم لهذه الغاية، وظل العمال على بنائه وزخرفته ١٦ سنة من ١٨٥٠ إلى ١٨٦٦، وللملك عناية كبيرة بهذا المتحف وما فيه، وهو جامع للآثار الكثيرة لا تخرج في وصفها عما تقدَّم ذكره من المعارض التي شرحنا أمرها في غير هذا الموضع، ولا يسمح لنا المقام بالإسهاب فيها الآن.

وفي هذه المدينة نَفَق تحت شاهق الجبل يخترق الأرض ما بين المدينة وأطرافها في الناحية المقابلة لها، كان الغرض من حفره تسهيل الانتقال بين الجهتين، وقام بعمله مهندس من مهندسي البلاد على نفقة نفسه بطلب من الحكومة، اشترطت عليه ألَّا يجبي لنفسه من المارَّة رسمًا يزيد عن عشر بارات على كلِّ فرد منهم، وأن يتمتَّع بأرباح مشروعه مدَّة عشرين عامًا، ثم يصير النفق مِلْكًا لبلدية ستوكهولم فتمَّ ذلك، وأثرى صاحب المشروع، ثم انتقل النفق إلى المجلس البلدي، فهو ينفق إيراده على ما يفيد المدينة ويزيدها نظامًا وقد تسهَّل المرور على الناس في تلك الناحية كثيرًا.

ولمَّا انتهيت من المرور في النفق سِرْتُ في آخر النهار إلى قهوة تُعْرَف باسم ستومبارتر، وهي واقعة على ضفَّة الخليج ينزلون إليها بسُلَّم، وفيها حديقة شهية يقعد فيها الناس ويمتِّعون الطَّرْفَ بمنظر الخليج وما يمرُّ فيه من السفن والبواخر الكثيرة، ومنظرها في الليل لا يقلُّ بهجة عنه في النهار؛ لأنهم ينيرونها بأجمل الأنوار موضوعة على أشكال شتَّى، وبينها كثير صُنِعَ على شكل الراية الأسوجية بالمصابيح الملوَّنة.

والمدينة هذه مشهورة بجزرها على ما تقدَّم وقد ذكرنا بعضها، ومن أجملها جزيرة دجورجارد فيها القصور والمنازل لكبراء القوم، وفيها غابات كثيرة من شجر القرو، وهو كثير في هذه البلاد، تمتدُّ أغصانه وتتكاثف أوراقه، فيشبه أرز لبنان في امتداد عروقه، ويتخلَّل هاتيك الحراج طرق فسيحة نظيفة تخترق الشجر في الجهات الأربع؛ لتسهيل المرور والانتقال ولها منظر يشرح الصدور. ولقد سِرْنَا في أحد هذه الطرق فانتهينا إلى قصر روزندال الذي بناه الملك شارل الرابع عشر، وفي ذلك القصر يقيم الكونت برنادوت وهو ثاني أنجال الملك، اعتزل الدنيا وتنازَلَ عن كل حقوقه في المُلْكِ والأُبَّهة؛ لأنه شغف بحبِّ فتاة إنكليزية فائقة الجمال، وهي ابنة ضابط من ضباط الجيش الإنكليزي، فاقترن بالفتاة بعد أنْ نهاه أبوه الملك أوسكار عن الاقتران، وتغلَّب الحب للفتاة على كل أمر آخر، فغضب الملك غضبًا شديدًا على ابنه وأصدر أمرًا بحرمانه من كلِّ حقوق الأمراء حتى إنه سَلَخَ عنه لقب الإمارة، فما أثَّر ذلك في الأمير، وهو إلى الآن مع عروسه في هذا القصر يتنعَّم؛ لأنه ورث عن أمه مالًا كثيرًا والفتاة غنية أيضًا؛ ولهذا القصر حديقة غنَّاء وعلى مقربة منه برج بناؤه شاهق، وعلو قمته عن الأرض ١١٠ أقدام، صعدتُه فرأيتُ المدينة بجميع أجزائها تحت نظري، والبرج مبني على أكمة علوها ٢٥٠ قدمًا فكان منظر تلك الجهة بديعًا.

وتحوَّلت من ذلك البرج إلى غربي الجزيرة، وهناك أماكن الاجتماع أُقيمت في جوانبها الحانات والملاهي والمطاعم، ومرسح بُني على مثال القصور العربية في بلاد المغرب الأقصى وله جدران خضراء عليها أشعار عربية بالقلم الأبيض، وكان النهار قد انقضى فأُنيرت المصابيح الكثيرة، وبدأت في المكان حركة من توافد الألوف إلى تلك الملاهي والحانات لقضاء السهرة، فكنتَ ترى من أشكال الأسوجيين كبارًا وصغارًا رجالًا ونساءً ما يمثِّل لك حال البلاد برُمَّتها، وقد ظهرت على الجميع علامات التأدُّب والتهذيب وراحة البال من عناء المشاكل الداخلية والخارجية، فإن هذه المملكة من الممالك القليلة التي لا تشتدُّ فيها حدَّة الأحزاب السياسية، وليس لها من العُقَد الخارجية ما يشغل البال ويقطِّب الجبين.

وقضيتُ السهرة في مسرَّة وحبور في تلك الجزيرة حتى إذا انقضت عُدْتُ بالترامواي إلى الفندق، والطريق كله حدائق ومشاهد جميلة وأصبحت في اليوم التالي على نيَّة الاستقصاء في التفرُّج ودرس المناظر، فكان الدليل ينتظرني وسِرْتُ معه إلى قصر دروتنغولم، ومعنى الاسم قصر الملكة، سُمِّيَ بذلك؛ لأن الملكة حنة الثالثة بَنَتْهُ في أواخر القرن السادس عشر وأتمَّ زخارفه الملوك الذين جاءوا من بعدها، والقصر في جزيرة من الجزر المحيطة بالعاصمة فسِرْنَا إليها في باخرة جميلة تشقُّ عباب بحيرة مارلان التي ورد ذكرها من قبل، وطفقت هذه الباخرة تمرُّ بقصور وحدائق ومتنزَّهات جمَّة وباخرات أخرى تنقل الناس من جهة إلى جهة في نواحي ستوكهولم، وكنا إذا مررنا بإحدى الجزر البهيَّة مثل التي كنت بالأمس فيها نرى الناس هنالك يطربون ويسرُّون، وقد دبَّ في بعض الرءوس تأثير بنت الحان فجعل القوم يرقصون ويتخاصرون، وإذا مرت بهم سفينتنا لوَّحوا لها بالمناديل تسليمًا وتحيَّةً فيردُّ الركاب التحية بمثل ما فعلوا من رفع الأكفِّ والقُبَّعات وتلويح المناديل، وبعض الأحيان يفعلون ذلك بالهتاف والصياح والتصفيق، وفي كلِّ هذا دليل على ما يرتع به القوم من الرخاء وصفاء البال، وما زالت الباخرة في مسير بين مثل هذه المناظر ونحن نتمنَّى لو تطول مدَّة المسير حتى رست بعد ساعة في آخر البحيرة، فنزل الركاب وأنا معهم على رصيف من الخشب وسِرْنَا من هنالك في طريق كثرت محاسنه إلى القصر، ودخلنا القصر بعد أن بلغناه فرأينا جوانبه وقاعاته، ولا حاجة إلى القول إنه كامل الجمال والإتقان من حيث النقش والرياش وغيرهما. وفي القسم المعد للملك منه صور ملوك أوروبا الحاليين وقياصرتها بالحجم الطبيعي، وفي قسم الملكة صور الملكات والقيصرات بقدهنَّ الطبيعي أيضًا، والقصر يقيم فيه الملك بعض أشهر الصيف، وهو قديم العهد مملوء بالتُّحَف والنفائس وله حديقة غنَّاء تستحقُّ الذكر على نوعٍ خاص، فإنها جمعت من أشكال الزهر والشجر كلَّ جميل وغريب، وغُرِسَتْ فيها الأشكال على نمط بديع يحيط بها طرق مرصوصة بالحصى ومتقنة الوضع، يزيدها جمالًا أنواع النُّصب والتماثيل الكثيرة وبِرَك الماء المتدفِّق من الأنابيب المختلفة، وفوق هذا فإن الحديقة تُشْرِف على البحيرة فيتمُّ بذلك رونقها وبهجتها.

ومن أجمل ما اكتحلت بمرآه العين وأبهى ما وصفه الواصفون ضاحية من ضواحي ستوكهولم لا مشاحة في أنَّها لها رونق وجمال ما رأيتُ أعظم منه تأثيرًا في النفس، ولا سمعت بأكثر غرابة وفخامة، أُريد بها ضاحية سولتجون، هنالك جمعت الطبيعة كلَّ قواها ووفَّقَتْ بين غرائب جمالها، وساعدتها يد الصناعة والاجتهاد على إيصال البدائع الموجودة فيها إلى حدِّ النهاية، فصار الموضع بإقرار كلِّ مَنْ رآه آية فتانة من آيات الجمال الرائع والمنظر المؤثِّر، لا تنسى النفوس ذكراه، هنالك الجبل الشامخ والبحر الخضمُّ والجدول المنحدر والصخر الصلد والحرجة الغضَّة والأكمة البهيَّة، والوادي القشيب والبحيرة النقية مياهها، وكل حسنة من حسنات الطبيعة تتوقَّف إلى رؤيتها النفس وتشتاق سماع أخبارها الآذان، وقد سِرْتُ إليها في باخرة من هاتيك البواخر الحسناء والمسافة بينها وبين العاصمة ساعتان في مضيق من الماء أو هو بوغاز يضارع البوسفور فيما يليه من تنوُّع المناظر وجمال الضفَّتين وغرابة المحاسن من هنا ومن هنا. ولقد كان هذا البوغاز البهي يضيق تارةً ويتسع أخرى، وسواء ضاق أو اتسع فإن الذي يراه الراكب ليسحر العابد من حراج وغياض وخضرة نضرة ترصِّعها قصور شمَّاء لأكابر الناس، تطلُّ كواها وشرفاتها على ذلك المنظر الفخيم، وأعجبني فوق هذا كله تلك الصخور الصوانية الباقية من عهد تكوين الأرض شاهدة بفضل الطبيعة وقوَّتها، وهي قائمة إلى جانبَي الطريق تليها الأعشاب وأشكال الشجر المدلَّاة أغصانه، ولا سيما إذا ما ضاق مجرى الماء وصار مثل شارع غير متَّسع المجال، فإن هاتيك الغصون تتقابل من الجانبين ويتكوَّن منها أقواس من الخضرة فوق الماء المترقرق فتمرُّ الباخرات من تحت تلك الأقواس البهيَّة، ويا له من ممرٍّ عجيب! ثم إن ذلك البوغاز غير مستقيم السير، وهنا نقطة أخرى للجمال فإنه يتعرَّج في بعض أجزائه تعرُّجًا كثيرًا يوهم الراكب أنَّ الطريق سُدَّت في وجه الباخرة، فلا يظهر للرائي من الماء غير الذي تسير السفينة فوقه، وتعترضها صخور وغياض، ثم هي تنساب في تلك المسالك الشهيَّة انسياب الأفعى فما يشعر الراكب إلا وقد انفرج المجال وصار إلى وسط بحيرة ماؤها نقي ومنظرها شهي، ولها ضفاف نُقِشَتْ بمحاسن البناء في وسط الحدائق أو على رءوس الآكام، وفي وسطها جزيرات لطيفة كلها معارض لما اجتمع في هذا الصقع من بدائع الطبع والصنع.

تلك حالة الطريق ما بين ستوكهولم وسولتجون، لما وصلناها نزلنا من السفينة إلى الأرض على رصيف من الخشب دخل في الماء دخول اللسان من الأرض في شواطئ البحار، فسِرْنَا منه صعدًا إلى قمة جبل بُنِيَتْ عليها المنازل والمطاعم وأماكن الاجتماع، وهنالك مطعم تفنَّنوا في إتقانه وأنفقوا على معدَّاته الألوف، فجعلوا الأدوات والآنية كلها من الفضة والذهب والبلُّور والموائد نظيفة بالغة حد الإتقان، يقف من حولها الخدم بأجمل هندام. وأذكر أنِّي رأيتُ عبدًا أسود في ذلك المطعم عرفت بعد السؤال أنه سوداني أُخِذَ من بلاده صغيرًا ورُبِّي في ذلك الموضع البهي، فما ينطق بغير الأسوجية، وصعدت برجًا في ذلك المطعم أطللت منه على تلك المناظر البديعة، فارتسمت في ذهني وذكرها لا يزول؛ لأني لم أجد أكثر منها غرابة وجمالًا، ثم عُدْتُ في المساء إلى المدينة بعد أن قضيتُ النهار كله متنقِّلًا بين هاتيك الغياض والمشاهد، وكان رجوعي في قطار سكَّة الحديد والطريق لا يقلُّ غرابة وجمالًا عن طريق البحر الذي وصفناه.

وأُعجبت في ستوكهولم بالأمن العام والنظام الشامل؛ فإن حكومتها الدستورية من أرقى أنواع الحكومات في الأرض، ولها بوليس لم أرَ في الشرطة أجمل منه منظرًا ولا أكثر لطفًا وعلمًا في كلِّ العواصم الأوروبية، فإن الجندي البسيط من أولئك الرجال يلبس لبس ضابط كبير له بنطلون أسود من الجوخ اللامع، ومن فوقه سُتْرَة من نوعه لها صفَّان من الزرائر المطليَّة بالذهب، وحزام مقصب يتدلَّى منه السيف، وقبعة سوداء صغيرة لها خطوط، ونحاسة لامعة في مقدِّمها شعار الدولة الأسوجية، وقفاز أبيض في اليدين، والناس يحترمون رجال البوليس ويصعدون بإشارتهم، وهم أصحاب علم وذوق وتربية مثل كل الأسوجيين، فلا عَجَبَ إذا شمل النظام وعمَّ الأمن واستراحت قلوب الناس في هذه البلاد من الهم والمشاغل.

ويُقال — بوجه الإجمال — إن هذه المدينة من مدائن الطبقة الأولى بجمال مناظرها الطبيعية وغرابة وضعها وبهاء ضواحيها، ولكنها باردة الهواء في أكثر فصول السنة ما خلا فصل الصيف، وهو لا يزيد فيها عن أربعة أشهر أو ثلاثة، والماء يتجمَّد فيها مدَّة الشتاء فتصبح هاتيك البحيرات البهيَّة صفائح من الجليد يزحف عليها الناس بالقباقيب الدراجة، ويعد ذلك عند أكثر أهل الشمال من أحسن ما يروض الأبدان ويسلِّي العقول. هذا غير أنَّ قرب أسوج من الشمال الأقصى يجعل أكثر أيام السنة فيها قصيرة والليل طويلًا، فلا يزيد طول النهار في معظم أيام السنة عن ٦ ساعات لأسباب طبيعية يعلمها القارئون، وهو من غرائب البلاد، وفي جملة محاسنها الكثيرة. وأهل هذه البلاد من الطبقة الأولى في حسن التربية، بعيدون عن الغشِّ والخداع في أمورهم وأعمالهم، وإذا تزوَّج المرء منهم أعطى عروسه يوم الزواج نسخة من الإنجيل مع بقية الهدايا، وأمَّا العروس فتهدي زوجها قميصًا للنوم تخيِّطه بيدها، يلبسه مرَّة ثم يغسله ويطويه فيبقى محفوظًا إلى يوم الممات ليُدفنَ فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤