الدولة العليَّة

خلاصة تاريخية

أسَّس هذه الدولة العظيمة أمير اسمه أرطغرل، كان قد نزح مع أبيه وقبيلته على عهد جنكيز خان من بادية خراسان إلى جهات الأناضول في أواخر القرن السابع للهجرة، وكان في أول أمره تابعًا لأمير قونية السلجوقي، فلمَّا مات ورث الإمارة ابنه عثمان وهو جدُّ هذه الدولة الذي أورثها اسمه، كان حاكم قضاء صغير في إمارة قونية، فلمَّا مات أميرها علاء الدين استقلَّ عثمان بولايته سنة ١٢٩٩ مسيحية و٦٩٩ هجرية، وجعل من بعد ذلك يوسِّع دائرة ملكه، ويسطو على الأقوام المجاورة له، حتى إنه توصَّل إلى فتح مدينة بروسة (بورصة) المشهورة على يد ابنه أورخان، وجعلها مقر إمارته إلى يوم مماته في سنة ١٣٢٦ / ٧٢٦ﻫ.

وخلف عثمان ابنه أورخان، وكان محبًّا للفتح وله ميل إلى تحسين الإدارة الداخلية، فهو أول مَن نظَّم الحكومة العثمانية وَوَضَعَ أساس الجيش العثماني والإنكشارية الذين اشتُهروا بعد ذلك في تاريخ هذه الدولة، وأصلهم من أسرى الحروب ومن أولاد النصارى، جعل السلطان يربِّيهم تربية إسلامية؛ ليكونوا عُدَّته في الحروب القادمة، وبقي وجاقهم ذا شأن كبير يولِّي السلاطين أحيانًا ويخلع السلاطين إلى أواسط القرن التاسع عشر حين أفناهم السلطان محمود، وأراح البلاد من عنادهم وتحكمهم.

وتعاقب السلاطين بعد أورخان، وكلٌّ منهم في أوائل هذه الدولة يوسِّع أملاكها ويفتح أقطارًا جديدة حتى وَقَعَتْ آسيا الصغرى كلها في قبضتهم وبعض أوروبا، ثم قام محمد الثاني فاتح القسطنطينية وتمكَّن من الاستيلاء عليها بعد حصار شديد سنة ١٤٥٣ فجعلها قصبة ملكه، فهي دار السلطنة والخلافة الإسلامية إلى اليوم، وكان الأتراك يتشوَّقون من زمان طويل إلى فتح هذه المدينة واستخلاصها من يد الروم، وقد قُتِلَ الملك قسطنطين باليولوغوس في أثناء الحصار، وهو آخر ملوك السلطنة البزنطية، وعُرِفَتْ جثته بعد دخول الأتراك إلى المدينة، فأمر السلطان محمد أن تُدفن بالإكرام. ثم استولى السلطان على خزائن الآستانة وعظم شأنه في الأرض، وبدأت أوروبا تخاف من سلامتها من الفاتحين العثمانيين؛ لأنه من يوم تولَّى السلطنة سليم الأول صار فتح أوروبا أمنية السلاطين، وسليم الأول هذا هو الذي مَلَكَ سورية ومصر وكردستان وبلاد العرب، وورث الخلافة عن العباسيين فبلغت السلطنة العثمانية في عهده مقامًا رفيعًا، ولمَّا آلت الدولة إلى ابنه سليمان الأول، وهو المعروف بالكبير أو القانوني كان آل عثمان في أوجِ عزِّهم حتى إن نفس هذا السلطان سوَّلت له أن يفتح أوروبا برمَّتها؛ فاكتسح بلاد البلقان وضمَّها إلى ملكه وتقدَّم على بلاد المجر فأثخن في أهلها، وزَحَفَ بعد هذا على فيينَّا سنة ١٥٢٩ فحاصرها وضيَّق عليها الخناق، ولكنه لم يتمكَّن من فتحها، ولو هو فعل لوقع معظم أوروبا في قبضة الأتراك.

figure
السلطان محمد الخامس.

وكان السلطان سليمان معاصرًا لشارلكان إمبراطور ألمانيا وإسبانيا وفرانسوا الأول ملك فرنسا، وقد تداخل مرة في الحروب بينهما نصرة لملك الفرنسيس، ولم ترَ الدولة عزًّا مثل الذي رأته على أيامه؛ لأنها بلغت حدًّا بعيدًا في أملاكها؛ ولأن سلطانها كان حكيمًا في الإدارة قديرًا في حروب، فلمَّا آلت السلطنة إلى مَنْ جاء بعده بدأت بالهبوط لما أنَّ الخمول والانغماس في اللذات تغلَّبا على السلاطين، هذا غير أنَّ الاضطرابات الداخلية كثرت من بعد أيام السلطان سليم، وعاث الإنكشارية في البلاد فسادًا، وصيَّروا السلطان ألعوبة في أيديهم حتى أبادهم السلطان محمود كما تقدَّم القول، وقد ضعفت الدولة بتوالي الحروب مع روسيا وسواها، وجعلت أملاكها الأوروبية تضيع من قبضتها شيئًا بعد شيء حتى إذا كانت سنة ١٨٧٨، وعُقِدَ مؤتمر برلين بعد حروب روسيا وتركيا الأخيرة انتهى عمله بفصْلِ معظم الولايات الأوروبية وتحريرها، ثم تلا ذلك أنَّ كريت استقلَّت إداريًّا على إثر حرب الأتراك والأروام الأخيرة، وأنَّ القلاقل الداخلية كثرت وتجسَّمت على عهد السلطان عبد الحميد الثاني، حتى رأى عقلاء الأمَّة أنه لا ينقذ هذه السلطنة من الاضمحلال غير الإصلاح على القاعدة الدستورية، فظلُّوا يستعدُّون سرًّا لهذه الغاية، والسلطان يبطش بكلِّ ذي صراحة منهم حتى استمالوا إليهم قسمًا عظيمًا من الجيش، وأكرهوا السلطان على قبول الدستور وإعادة القانون الأساسي الذي نُودي به في أوائل حكمه، وكان ذلك في ٢٤ يوليو سنة ١٩٠٨ ففرِحَ العثمانيون بهذه النعمة فرحًا عظيمًا في سائر الأقطار، وأقاموا الحفلات الشائقة، وسارت الحكومة العثمانية سيرًا دستوريًّا بضعة أشهر سوَّلت النفس في خلالها للسلطان عبد الحميد أن يعيد استبداده السابق؛ فانتفض عليه الجيش مرة أخرى وتغلَّب على أعوانه وخَلَعَه بفتوى من شيخ الإسلام يوم ٢٨ أبريل من سنة ١٩٠٩، ثم ارتقى العرش مكانه جلالة السلطان الحالي محمد الخامس، وهو أول ملك دستوري رَقِيَ عرش عثمان وأعلن رغبته مرارًا في الحكم على الطريقة الدستورية، وميله إلى الاختلاط بالأمَّة والسياحة في الأقطار، وقد قُلَّد جلالة السلطان محمد الخامس سيف آل عثمان يوم ١٠ من شهر مايو سنة ١٩٠٩ في حفلة باهرة، هي بمثابة حفلات التتويج عند ملوك الإفرنج، ورأيت أن أنقلَ هنا تفاصيل هذه الحفلة العثمانية إتمامًا للفائدة فأقول:

لمَّا عزمت الحكومة العثمانية على تقليد جلالة السلطان سيف جدِّه عثمان أرسلت منشورًا إلى سكان الآستانة، بيَّنَتْ لهم فيه مواضع الاحتفال المئوي وآياته، وأشارت بتزيين الطرق والمنازل، ثم اهتمَّت بإعداد الدواوين والجوامع والميادين وبقية المواضع العمومية التي مرَّ بها الموكب، أو تمَّ فيها شيء من حفلات التتويج، ونصبت السرادقات الخصوصية للسفراء والأمراء والرؤساء الروحيين ونواب الصحف، حتى إذا تمَّ الاستعداد رسا يختان عثمانيَّان قرب سراي طولمه بغجه، وهي منزل السلطان الحالي، فلمَّا جاء موعد القيام خرج أمراء البيت السلطاني وجلسوا في أحد اليختين المذكورين، وركب حرم القصر العربات السلطانية وسِرْن محفوفات بالخدم والأغوات إلى استامبول. وفي الساعة الحادية عشرة والدقيقة ٣٥ خرج جلالته فصَدَحَت الموسيقى بنغم الحرية، وركب يخت سيودلي فسار إلى بستان أسلكه سي، وحيَّتْه المراكب الحربية العثمانية بإطلاق المدافع، وفي مقدِّمتها المدرعة مسعوديه.

ولمَّا وصل جلالته بستان أسكله سي استقبله الوكلاء وشيخ الطريقة المولوية جلبي أفندي، وهو الذي له حق تقليد السلطان سيف عثمان وبعض المشايخ، وسار الموكب إلى جامع أيوب الأنصاري مشيًا على الأقدام فدخل، جلالته المكان المعد له وجلس الوكلاء في أماكنهم. وبعد أن استراح قليلًا دخل إلى التربة حيث كان السيف موضعًا على نمرقة فأخذه بحضور رئيس الأعيان والمبعوثان والصدر الأعظم وشيخ الإسلام، وأعطاه لجلبي أفندي فقلَّده إياه، وقرأ دعاء لجلالته، وكان الانفعال باديًا على جلالته، ثم خرج الناس وتركوا جلالته يؤدي الصلاة لله شكرًا على هذه المنة.

ولمَّا اجتمع الموكب خارج الجامع دخل السر تشريفاتي وأخبر جلالته بذلك فخرج وحيَّا المدعوين في صحن الدار، وركب العربة وسار الموكب في ثلاث ألايات على الترتيب التالي:
  • (١)

    سيارة مصفحة تقل جماعة من الضُّبَّاط سارت أمام الجميع لفتح الطريق.

  • (٢)

    فصيلة صغيرة من فرسان سلانيك.

  • (٣)

    فصيلة من الفرسان أيضًا.

  • (٤)

    الموظفون الذين رتبتهم بالا راكبين العربات.

  • (٥)

    ثلاثة فرسان وراءهم.

  • (٦)

    الرؤساء الروحيون غير المسلمين.

  • (٧)

    العلماء بالجبات الزرق.

  • (٨)

    وفد المبعوثان.

  • (٩)

    وفد الأعيان.

  • (١٠)

    فصيلة من الرماحة.

  • (١١)

    الوزراء كل اثنين منهما في عربة.

  • (١٢)

    رئيسا النُّوَّاب والأعيان.

  • (١٣)

    الصدر الأعظم وشيخ الإسلام.

  • (١٤)

    فصيلة من الفرسان.

  • (١٥)

    سر ياور.

  • (١٦)

    سر تشريفاتي.

  • (١٧)

    حرس سلانيك.

  • (١٨)

    قومندان الجندرمة.

  • (١٩)

    فصيلة رماحة.

  • (٢٠)

    قائد الجيش العام.

  • (٢١)

    أنور بك بطل الدستور العثماني.

  • (٢٢)

    فرقة رماحة.

  • (٢٣)

    أركان الحرب.

  • (٢٤)

    السلطان في عربة سلطانية مقابله مختار باشا الغازي أقدم الضُّبَّاط العثمانيين عهدًا.

  • (٢٥)

    جنود من سلانيك ومعهم عدد من الرماحة.

  • (٢٦)

    ضياء الدين أفندي نجل جلالة السلطان ولطفي بك تشريفاتي جلالته.

  • (٢٧)

    نجم الدين نجله الثاني.

  • (٢٨)

    عمر حلمي نجله الثالث.

  • (٢٩)

    نيازي بك بطل الدستور.

  • (٣٠)

    فرقة من المدفعية.

  • (٣١)

    الفرسان.

  • (٣٢)

    الداماديون أو هم أصهار السلطان.

  • (٣٣)

    طوبجية الفيلق الثالث.

وقد رجع السلطان بهذا الموكب الباهر، والناس محتشدة ألوفًا مؤلَّفة في كلِّ موضع مرَّ به، وقضى ساعتين بعد خروجه من قصر طولمه بغجه حتى بلغ طوب قبو حيث تُحْفَظ الآثار النبوية، وهنالك نزل من العربة وتبعه الأمراء والوكلاء والعلماء، فزار تلك الآثار متبرِّكًا بها، ثم رجع من هنالك إلى قصره في الطريق التي جاء منها، وبذلك انتهى الاحتفال بتتويج سلطان آل عثمان.

الآستانة

برحتُ أدوسا وهي آخر المدن الروسية، قاصدًا الآستانة في البحر الأسود، وركبتُ باخرة روسية ظلَّت ثلاثة أيام في هذا البحر حتى وصلتُ أول البوسفور، فوقفتُ قليلًا وجعلتُ أتأمَّل تلك الحصون المنيعة التي أقامتها الدولة العلية إلى جانبَي البوغاز، وصوَّبت مدافعها إلى حيث تجري البواخر، ولمَّا سارت الباخرة في البوسفور ظهرت بدائعه من الجانبين، سواء المناظر الطبيعية أو القصور الشمَّاء والرياض الفاخرة التي رُصِّعت بها جوانب الأرض، مما سنصف بعضه حتى وصلنا جسر غلطه، وهو الذي نزلنا من الباخرة إليه. وبعد التفتيش ذهبنا إلى فندق رويال في حي بك أوغلي حيث أقمت مدَّة وجودي في الآستانة.

وقد كان موقع الآستانة ذا شُهْرَة من قِدَمٍ، وعُرِفَ باسم بزانتيوم ورد ذكرها في القرن السادس قبل التاريخ المسيحي حين محاربة الفرس والروم، وتوالت عليها الدول، فيومًا كانت تقع في حوزة الروم ويومًا يملكها الفرس حتى إذا دالت دولة الإيرانيين الأولى صارت من المدن الرومية، وظلَّت على ذلك إلى أنْ فتحها قياصرة الرومان مع بقية الولايات الرومية، ولكنها لم تشتهر بشيء كبير حتى قام الإمبراطور قسطنطين الأول سنة ٣٠٦ مسيحية وأُعجب بموقعها، فشاد بها العمائر وجعلها مقرَّ سلطنته وسمَّاها «رومة الجديدة»، إلا أنَّ الخلف أطلقوا عليها اسم الإمبراطور الذي أسَّس دور عظمتها، فهي تُعْرَف باسم القسطنطينية إلى هذا اليوم.

وفي سنة ٣٩٥ قُسِّمَتْ سلطنة الرومان هذه جزأين، أحدهما غربي عاصمته رومة، والثاني شرقي عاصمته الآستانة، فصارت هذه المدينة الجميلة مركز سلطنة كبيرة تُعْرَف باسم المملكة الشرقية لم يشتهر عنها شيء يوجب الفخر؛ لأن الضعف كان من صفات ملوكها والفساد عمَّ بين أهلها إلى أنْ قام إمبراطور اسمه جوستنيانوس في سنة ٥٢٧ فأصلح بعض أمورها، وطهَّر حكومتها من الفساد السابق ورَفَعَ منزلة جيشها وإدارتها، ونشَّط العلم وأكرم العلماء، وأحيا بعض الصناعات، فدخلت المملكة الشرقية على عهدِهِ في دور جديد من الحياة، ولم تزل آثار ذلك العصر البهي يرى السائح شيئًا منها في أكثر المعارض الحديثة. وَحَدَثَ بعد هذا بقليل أنَّ الإسلام انتشر في الشرق، فجاء جنود العرب عاصمة الدولة الشرقية هذه وهاجموها مرارًا، ولكنهم لم يقووا على فتحها مع أنَّهم أخضعوا عدَّة أقطار كانت تابعة لها، وظلَّت هذه المدينة محافظة على استقلالها مع الضعف الظاهر فيها حتى حصلت الحروب الصليبية المشهورة، فمرَّ جنود من الفرنجة بها وملكوها وأتلفوا شيئًا كثيرًا من عمائرها ونفائس الصناعة القديمة فيها، ثم عادوا عنها واسترجع الروم استقلالها فظلَّت على ذلك حتى قيام الدولة العثمانية. وكان أول من هاجمها من سلاطين آل عثمان السلطان مراد الثاني أتاها من أدرنه في سنة ١٤٢٢ فلم يُفْلِح وخلفه ابنه السلطان محمد الثاني، وهو الملقَّب بالفاتح، فوجَّه همَّه من يوم ارتقاء العرش إلى افتتاح هذه المدينة، وحاصرها في اليوم السادس من شهر مايو سنة ١٤٥٣، ففتحها في التاسع والعشرين منه بعد قتالٍ شديدٍ وحربٍ عنيفة قُتِلَ فيها الإمبراطور قسطنطين باليولوغوس، وهو آخر ملوك الدولة الشرقية وصارت الآستانة من ذلك العهد مقرَّ السلطنة العثمانية.

figure
خارطة الآستانة.

ولا حاجة إلى القول إن الآستانة دخلت في دور جديد من العظمة والأهمية بعد هذا الفتح؛ لأن سلاطين آل عثمان أرهبوا أوروبا وأرجفوها، وكانت عاصمة بلادهم تعتزُّ بعزِّهم فلمَّا اشتُهر أمر قوتهم الهائلة صارت هي أعظم مدائن الأرض وأشهرها، وعدد سكانها الآن مع ضواحيها مليون ونصف مليون نفس، وعُني السلاطين ببناء الآثار فيها فسارت في خطة الارتقاء، وهي زينة البرَّين ودرة البحرين والصلة الحسنى ما بين القارَّتين؛ فإنها وُجِدَت في أجمل المراكز وأمنعها، إذا تأمَّلتها من وجه سياسي رأيتَ أنها في مركز العمران هي الحدُّ الفاصل ما بين أوروبا وآسيا، حتى إن نصفها بُني في أوروبا والنصف الآخر في آسيا، والذي يملك مركزها يعد مالك أحسن المراكز الحربية في الوجود، وهذا الذي قلناه رأي أكبر أهل السياسة والنظر من عهد بعيد. وأمَّا من حيث الأهمية الجغرافية فقليل بين مدائن الأرض ما يحيط به كلُّ هذا العدد الغريب من الممالك والولايات. وأمَّا في جمال المنظر فأجمع أهل العلم على وضع الآستانة في الموضع الأول.

وقد زاد الآستانة بهاءً وجمالًا أنها بُنِيَتْ على تلال، فهي تُعْرَف باسم مدينة التلال السبعة، فالقادم إليها من جهة البوسفور يسحره جمال هاتيك الروابي البهيَّة، رُصِّعت بالمنازل وازدانت جوانبها بالخضرة النضرة من فوق ماء نقي في مجرى البوسفور. وقد قسمت الطبيعة هذه العاصمة قسمين كبيرين: شرقي في آسيا وهو المعروف باسم أسكودار وأهله جُلُّهم أتراك، وقسم آخر في الناحية الأوروبية، وبين القسمين بوغاز البوسفور وبحر مرمرا، وقد توسَّط ما بين البوسفور ومرمرا متَّسع من الماء سُمِّيَ قرن الذهب، وهو يقسم الشطر الأوروبي من الآستانة قسمين: أولها قسم بيرا (بك أوغلي) وغلطة، وسكانهما خليط من الفرنجة والأرمن وبقية السكان غير الأتراك، وهو أهمُّ أجزاء المدينة. والثاني وهو المدينة الأصلية يُعْرَف باسم استامبول وسكانه أتراك ونزلاء على اختلاف الأجناس. وتمتاز هذه العاصمة البهيَّة بأمور عدَّة، منها اجتماع الأجناس الكثيرة من كلِّ لون وشكل في ربوعها، فهنالك الجنس الأوروبي من أهل النسقِ الحديث، والجنس الشرقي من أواسط آسيا وأقاصيها وأطرافها بالملابس الآسيوية، والأفريقي يسير إلى جانب الشركسي، والرومي يقيم مع الداغستاني، والأسوجي يلتقي في كلِّ حين بالإيراني، فما ترى في مدينة من مدائن الأرض موضعًا ضمَّ كلَّ هذه الأجناس المتباينة، وليس بين المدائن واحدة فيها من الأزياء الغريبة ما في هذه العاصمة العظيمة، التي لم يبنِ الناس موصلًا بين الشرق والغرب أهم منها، ولا عثروا على مركز أجمل من مركزها.

وقد مرَّ بك أنِّي توجهتُ حال وصولي من غلطه إلى الفندق في بك أوغلي، وهذان القسمان أهم أجزاء الآستانة، يمكن الوصول من أحدهما إلى الآخر بثلاثة طرق: أولها نفق تحت الأرض حفروه ومدُّوا فيه خطوط الحديد تسير عليها العربات بقوة الضغط، فإذا شاء المرء أن ينزل من بيرا إلى غلطه وضفَّة البوسفور، دخل محطَّة هذا النفق وقعد في عربة مع غيره حتى إذا جاء موعد الحركة تحرَّكت العربات هاوية تحت الأرض، فلا تستقرُّ إلا في محطَّة غلطه. وأمَّا الطريقة الثانية فالسير على الأقدام والشوارع التي تمرُّ بها هنا مهملة مثل أكثر شوارع الآستانة، لا يُسْتَثْنى منها غير شارع بيرا. والطريق الثالث تجري فيه عربات الأمنبوس مارَّة أمام البنك العثماني.

ولمَّا كان منظر الآستانة — بوجه الإجمال — من أبهى مناظر الأرض سبق إلى ذهني أنْ أراها في لحظة من الزمان قبل أن أبدأَ بالتفاصيل، وذلك متيسِّر فيها من عدَّة أماكن؛ نظرًا إلى وضعها البديع، وأحسن ما يكون منها برج غلطه المشهور، وهو برج مرتفع بُني على مقربة من البوسفور، وكان القصد من بنائه الإشراف على نواحي المدينة كلها لإيصال أخبار الحريق أينما شبَّت النار إلى رجال المطافئ، والحرائق كثيرة هنالك؛ لأن المدينة مبنية أكثر منازلها بالخشب، وفي بعض جهاتها ازدحام يساعد على انتشار النار، فإذا رأى الرجل الواقف في أعلى هذا البرج نارًا لوَّح براية حمراء في يده يراها رجل آخر في برج السردارية هو أبدًا يرقب ما حوله ولا يبْرَح مكانه حتى يأتي سواه لاستلامه، فإذا لاحت الراية أُطلق مدفع يسمعه رجال المطافئ وأُعطيت إشارة بالجهة المقصودة فيهبُّ الرجال ولا هبوب الرياح، وهم يحملون المطافئ على أكتافهم، ولهم حين يقومون لمثل هذه الغاية منظر غريب؛ لأن أكثرهم من أقوياء الرجال يعدون في الطريق وعلى وجوههم جرأة الأسود الكواسر، فلا يقف في طريقهم شيء ولا يردُّهم عن أمرهم رادٌّ حتى يصلوا النار، ويبدءوا بإطفائها، وأكثرهم يتشاركون ويتعاونون على هذا العمل، ولهم أجرة يتقاضون على كلِّ نار يطفئونها، وما هم بفرقة منظَّمة تحت إمرة الحكومة مثل رجال المطافئ في أكثر النواحي الأوروبية؛ ولذلك قصدتُ برج غلطه المذكور بعد وصولي بيوم واحد وارتقيتُ القمة فَرَاقَ لي منظر هذه المدينة العظيمة وضواحيها الباهرة من كلِّ جانب، وأنت إذا صعدتَ قمة هذا البرج وجدتَّ نفسك في دار أو رحبة لها ١٤ طاقة كبرى تريك ما حولك من الأرض في كلِّ جهة، ففي الشمال جهة قاسم باشا ونِظَارة الحربية وقرن الذهب، وفيه الباخرات العثمانية راسية، وفي الشرق ترى حارة الطوبخانة وحي فندقلي، وفيه سفارة ألمانيا وحي نشان طاش قامت في أواخره سراي يلدز العظيمة، ثم إذا تلفتَّ يمينًا بعد هذه المناظر لاح لك البوسفور البهي بمائه المترقرق والسفائن التجارية ذاهبة وآيبة فوق سطحه تحدِّثك بغريب أمره، ويلي ذلك طاقات ترى منها الباب الهمايوني ومركز الصدارة العظمى ووزارات الدولة العليَّة من ورائها أسواق الآستانة، تنتهي بمنظر آيا صوفيا وجامع السلطان أحمد بمآذنه الست وجامع نور عثمان ثم سراي السر عسكرية وسراي شيخ الإسلام وبعض الجوامع المشهورة والمشاهد الأخرى التي سنعود إليها، وجملتها تؤثِّر في النفس تأثيرًا عظيمًا يشهد بما لهذه العاصمة من فريد الجمال وغرابة الموقع الطبيعي وعظيم المشاهد.

figure
جامع آيا صوفيا.

ولا بدَّ لكلِّ مَنْ يقيم يومًا واحدًا في الآستانة ويسمع بشطريها العظيمين وبحرَيها البديعين أن ينتقل من أحد قسمَيها إلى الآخر فوق جسر غلطه المشهور، وهو ينتقل عليه الناس بين غلطه واستانبول، ويُعَدُّ الحدَّ الفاصل بين البوسفور وقرن الذهب يمرُّ عليه كل يوم ألوف من الناس أكثرهم مشاة على الأقدام وبعضهم في العربات أو على ظهور الخيل، وكلُّ ذاهب أو آيب يدفع عشر بارات رسم العبور على هذا الجسر، فيجتمع عند الحكومة من إيراده مبلغ يستحقُّ الذكر كل يوم، وما رأيتُ نقطة في الأرض ترى فيها أشكال الناس المتباعدة مثل جسر غلطه هذا، فإن الذي يقف فوقه ويتأمَّل المارَّة ساعة من الزمن يرى الذي لا يراه بعض السائحين في أشهر طوال، ولا عجب فهنالك الحلقة الموصلة بين العالمين كما قدَّمنا. والجسر مبنيٌّ من الخشب على عُمُد من الحجر متينة، يقف عند طرفيه خادمون يتقاضون الرسم من المارَّة باليدين، فكلَّما امتلأت يدُ واحدٍ منهم أفرغها في مكتب من الخشب عند طرف الجسر يقيم فيه عامل من الحكومة يدفع إليها المجموع في آخر النهار، وقد اعتاد هؤلاء العمال جمع الضريبة حتى إنهم لا يوقفون المارَّ لحظة بل يقبضون من هذا باليمين ويصرفون لذلك القطع الكبيرة باليسار ولا يخطئون، وكلٌّ سائر في طريقه لا يقف لدفع ما عليه.

ولا بدَّ أنْ يعلم القُرَّاء ما لجامع آيا صوفيا من الشُّهْرَة وهو أقدم جوامع الآستانة، كان أصله كنيسة بُنِيَتْ على عهد الإمبراطور جوستنيانوس الذي مرَّ ذكره، وكان في نيته أن يجعلها أعظم ما بُني من نوعها، فاستحضر لها الأعمدة الثمينة من الهياكل القديمة في أثينا ورومة وبعلبك ومن بعض الهياكل المصرية، واستخدم في البناء عشرة آلاف رجل أقام عليهم المقدمين والوكلاء، وكان هو يأتي بنفسه من حين إلى حين ليراقب الأعمال وينشِّط العمال؛ لفرط اهتمامه بتلك الكنيسة، ثم إن هذا الإمبراطور أراد أن يجعل قُبَّة الكنيسة من غرائب البناء، فصَنَعَ له عماله نوعًا من الآجر أو القرميد خفيف الوزن لا يزيد عن عُشْرِ غيره وزنًا، وجدوا ترابه في جزيرة رودس، ونقشوا على كلِّ قطعة منه جملة معناها: «إن الله جبلها وهو يحفظها»، وكانوا يصلُّون إلى الله مدَّة البناء أن يؤيد دعائمه ويوطِّد أركانه فما أخطأوا؛ لأن البناء قاوم فعل الطبيعة مدَّة القرون الطوال، ولم يزل إلى يومنا الحاضر شاهدًا على اجتهاد بانيه وغرابة وضعه وتقدُّم الصناعة في تلك الأيام، ثم إن القوم أنفقوا على تذهيب هذه الكنيسة مقادير وافرة من الذهب، فإن أدوات العبادة و٢٤ إنجيلًا كانت كلها من الذهب الخالص، وكان الهيكل قطعة من الذهب الثمين مرصَّعًا بالحجارة الكريمة، ومائدته قائمة على أربعة عُمُد من هذا المعدن النفيس، ووزن سقفها ١١٨ رطلًا من الذهب الخالص، وعليها صليب وزن ذهبه ٨٠ رطلًا مصريًّا ولا حصر للأموال التي أُنْفِقَتْ على هذا المعبد العظيم، واحتُفل بتدشينه رسميًّا بعد الفراغ من البناء والزخارف وعمل ١٦ عامًا متواصلًا، وكان الإمبراطور حاضرًا في ذلك الاحتفال فوَقَفَ في ختامه، وقال: «الحمد لله الذي اختارني لإتمام هذا العمل، وها إنِّي قد غلبتك يا هيكل سليمان»، ثم ما زالوا يفرِّقون الصدقات ويرتِّلون ويسبِّحون بعد ذلك مدَّة ١٤ يومًا كاملًا.

ولمَّا فُتِحَت الآستانة في ٢٩ مايو سنة ١٤٥٣ دخل السلطان محمد الفاتح هذه الكنيسة وهو على جواده والسيف مشهر في يده، ونادى «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ثم جعلها جامعًا للمسلمين وأبقاها على أصلها، فلم يخرِّب منها إلا الذي لا يجوز في الشرع الإسلامي؛ ولذلك ترى داخل الجامع الآن على شكل الكنائس وفيه من آثار العبادة النصرانية شيء كثير، وأضاف هذا السلطان الفاتح مئذنة إلى الجامع الجديد ثم أضاف السلاطين من بعده مآذن أخرى، وكان آخر مَنْ أنفق الأموال الطائلة عليه السلطان عبد المجيد، فإنه أصلح فيه كثيرًا، واستخدم لذلك مهندسًا إيطاليًّا مشهورًا، فلمَّا تمَّ الترميم والبناء احتفل السلطان بذلك احتفالًا عظيمًا في سنة ١٨٤٩، وهو الآن من أعظم جوامع الأرض وأشهرها، دخلتُهُ من أحد أبوابه التسعة ومشيتُ في رواق طوله ٦٠ مترًا وعرضه عشرة أمتار، وفي جدرانه قطع من الفسيفساء تلمع وتسطع مع قِدَمِ عهدها — والفسيفساء قطع من الزجاج تلصق بعضها ببعض وتُدهن بالذهب فيكون لها منظر شهي رائق — فظللت أسير في ذلك الرواق وأتأمَّله حتى انتهيتُ إلى ساحة الجامع الداخلية، وهي لا تقلُّ عن ٧٥ مترًا في الطول و٧٠ في العرض، ولها قبَّة مركزية علوها ٦٥ مترًا وقطرها ٣١ مترًا، قامت على ستين عمودًا ولها منظر غاية في الفخامة والبهاء، وقد كُتِبَ على جدران القبة وجوانبها آيات من القرآن بخطٍّ جميل، ومن حولها اسم الجلالة واسم النبي وأسماء الصحابة، وكل ذلك بأجمل أنواع الخط، وفي الوسط نقوش وزخارف فاخرة نفيسة، وإلى جانب المحراب سِجَّادة قديمة يُقال إن محمدًا الفاتح صلَّى عليها يوم دخوله هذه الكنيسة، وهناك مكان خاص بجلالة السلطان يحجبه حاجز من الشعرية المحلَّاة بماء الذهب. وصعدتُ الطبقة العليا من الجامع وهي التي كانت على عهد النصرانية موضع النساء حين الصلاة.

figure
محمد الفاتح على جواده يوم فتح القسطنطينية.

وفي صحن الجامع من الخارج مدفن السلطان سليم الثاني، وسبعة عشر من أولاده، وكذلك قبر السلطان مراد الثالث هذا وأولاده التسعة عشر.

ويقرب من هذا الجامع في الأهمية والشُّهْرَة جامع الأحمدية، بناه السلطان أحمد سنة ١٦١٠، واهتمَّ لأمره حتى إنه كان يحضر مرة في الأسبوع؛ ليشاهد العمل بنفسه وينشط العمال؛ ولهذا الجامع ست مآذن وباب كبير دخلنا منه إلى رُوَاقٍ عظيم يعلوه أربعون قبَّة صغيرة قامت على عُمُدٍ من الرُّخَام، وفي وسطه بِرْكَة جميلة من الرُّخَام البديع، وانتهينا من هذا الرُّوَاق إلى صحن الجامع طوله ٧٢ مترًا وعرضه ٦٤، وفوقه قبَّة فخيمة قائمة على أربع عضائد ضخمة متينة، وقد نُقِشَتْ عليها الآيات القرآنية، وأمَّا المنبر فمن المرمر وقد صُنِعَ على شكل منبر الجامع النبوي في مكة، وفي قمَّته تاج من فوقه هلال والتاج والهلال مذهبان، وقد اشتُهر هذا المنبر في التاريخ؛ لأنَّ الأمر القاضي بإلغاء وجاق الإنكشارية في أيام السلطان محمود تُلي عليه، وكان ذلك بدء انقلاب عظيم في نظامات الدولة العليَّة العسكرية. وفي هذا الجامع شيء كثير من الشمعدانات الكبيرة تشبه العُمُد منصوبة في اليمين وفي اليسار، وفوقها قناديل ضخمة ذات مناظر بديعة وله عدَّة شبابيك مغشاة بالزجاج الملوَّن لا يقلُّ عدد قطعها عن المائة، وهي زاهية الألوان عليها أسماء الصحابة، وفي سقف القبَّة ثريات ومصابيح وعدد كبير من بيض النعام علق بسلاسل من النحاس المذهب، وإذا أُنيرت مصابيح هذا الجامع في شهر رمضان كان لنورها رونق وبهجة خاصَّة لا يتخلَّف عنها أحد من أهل الآستانة، وقد دُفِنَ السلطان الذي بنى هذا الجامع في صحنه الخارجي.

ومثل هذا يُقال في جامع السليمانية بناه السلطان سليمان القانوني وجعل له أربع مآذن، وظلَّ العمال ستة عشر عامًا في بنائه، فما انتهوا منه إلا سنة ١٥٦٦ وقد أُخذت أدوات كثيرة له من بعض الكنائس. ولهذا الجامع قبَّة جميلة قطرها ٢٦ مترًا، وهي قائمة على أربع عضائد ضخمة من الرُّخَام السماقي طولها ٢٠ مترًا، ومحيط الواحدة منها أربعة أمتار، وجدران هذا الجامع من داخلها مدهونة كلها بلونٍ أبيض ضارب إلى الزُّرْقَة وقد حُلي بعروق ورسوم من الذهب في كلِّ جانب، فكان لمنظره بهجة تشرح الصدور، وفي جميع نوافذه وكواه زجاج ملوَّن أتوا به من بلاد إيران، وعليه كتابات دينية، وفي صدره منبر عظيم القدر والقيمة ومصلَّى خاص بجلالة السلطان عليه نقوش بديعة، وفي كلِّ جانب منه آيات بيِّنَات تشهد بالاعتناء ووفرة المال الذي أُنْفِقَ عليه، وهو لا يقلُّ عن عشرة ملايين فرنك، هذا غير الذي يُنفق عليه كل سنة من أوقافه الكثيرة، وقد دُفِنَ باني هذا الجامع في ساحته من الخارج، والضريح يحيط به رواق قائم على ٢٩ عمودًا دخلناه من دهليز قائم على أربعة عُمُد، وفوقه قبَّة خضراء بديعة لها أربعة عُمُد من الرُّخَام الأبيض وأربعة من الرُّخَام السماقي. وفي القبة نقوش من الزجاج الملوَّن تلمع وتسطع، وقد تدلَّت منها ثريَّات غاية في حسن الصناعة والبهاء، وتحت تلك القبَّة ضريح السلطان وأضرحة بعض خلفائه وكلها مغطَّاة بالشالات الكشميرية والخدم من حولها يعتنون بأمرها في كلِّ حين.

figure
جامع السلطان أحمد.

ولمَّا انتهيتُ من رؤية هذه الجوامع المشهورة عُدْتُ إلى غلطه، ومشيتُ صعدًا إلى أعلاها؛ لأن الآستانة أكثرها صعود ونزول — كما قدَّمنا — يعسر على العربات أن تسير فيها بغير قلقلة وقرقعة، فدخلت حديقة البلدية، وهي أشهر حدائق الآستانة ومقر المتنزِّهين من أهل غلطه وبك أوغلي (بيرا)، وفيها موسيقى عسكرية تَصْدَح كلَّ مساء وبعض المطاعم والحانات وموقعها جميل معروف. وبعد أن خرجتُ من هذه الحديقة سِرْتُ إلى شارع بيرا، وهو قريب منها يُعَدُّ أكبر شوارع الآستانة وأعظمها وأكثرها إتقانًا ترى فيه من الأبنية الحديثة والمخازن الكبرى مُلِئَتْ بالأبضعة النفيسة ما بين شرقية وغربية ما لا تراه في ناحية أخرى من نواحي الآستانة. وشارع بك أوغلي هذا ملتقى الهيئة الاجتماعية في الآستانة، وأكثر ما يكون وجود النُّزَلاء الإفرنج في حاناته ومخازنه وجوانبه حتى إن بعضهم ليَعُده من الشوارع التي تستحقُّ الذكر بين الشوارع الأوروبية.

ولمَّا كان اليوم التالي عُدْتُ إلى استامبول بطريق النفق وجسر غلطه اللذين ذكرناهما، وقصدتُ جامع السلطان بيازيد، وهو من الجوامع المشهورة، بناه السلطان بيازيد سنة ١٤٩٨. له باب من الرُّخَام الأحمر والأبيض قائم على عشرين عمودًا، ولم أزل أذكر أسراب الحمام الغريبة في هذا الجامع تُعَدُّ بالألوف، ويُنفق على طعامها من أوقاف الجامع، ولها خَدَمَة ينقطعون لخدمتها، وهي إذا جاء الجامع غريب التفَّت من حوله غير وجِلَة ولا حافلة حتى إنك لتمسك بعضها بيدك، وهي لا تحاول الفرار بل تتناول ما يُنثر لها من الحبوب فتسرُّ بمرآها الناظرين، ويُرْوَى من أمر هذا الحمام أنَّ السلطان بيازيد ابتاع زوجًا من فقير كان واقفًا على باب الجامع، وأمر أن يكون ذلك الزوج وقفًا فما زال يتناسل ولا يمسُّه أحدٌ بسوء حتى بَلَغَ ذلك القدر.

ولمَّا تمَّ لي بذلك رؤية أشهر الجوامع سِرْتُ لمشاهدة أثر قديم هو مسلَّة مصرية تُعْرَف باسم الإمبراطور ثيودوسيوس الذي مرَّ ذكره، وكان هذا الإمبراطور قد نقلها إلى عاصمته من معبد الشمس (هليوبولس) في المطرية سنة ٣٩٠ مسيحية، وقد نُصِبَتْ على قاعدة من الرُّخَام مربَّعة الشكل ونُقِشَ على أحد جوانبها ثيودوسيوس جالسًا على عرشه مع زوجته وأولاده، وعلى الجانب الآخر رسمه يستقبل وفود الحكام ومعهم الهدايا، وفي الجانبين الباقيين رسوم له وهو يكلِّل الظافر في ألعاب أولمبياد وقد صُنِعَتْ هذه المسلَّة من الرُّخَام الأحمر، وهي الآن في وسط ساحة صغيرة يراها كلُّ زائر لعاصمة الممالك العثمانية.

ومن الآثار القديمة في الآستانة — أو هي أقدم الآثار التاريخية — عمود الحية، بناه الروم الأقدمون في سنة ٤٧٨ قبل التاريخ المسيحي تذكارًا لانتصارهم على جموع الفرس في معركة بلانا، وأنفقوا عليه مما سلبوه من جيش أعدائهم، ونصبوه أمام هيكل دلفي حيث كانوا يعبدون آلهتهم الكثيرة، وقد سُمِّيَ عمود الحية؛ لأنه عبارة عن ثلاث حيَّات من النحاس الأصفر المذهب، كسر اثنتين منها أحد بطاركة الآستانة على عهد الإمبراطور ثيودوسيوس؛ لأنه تشاءم منهما، ولمَّا دخل فاتح الآستانة ورأى الحيَّة الثالثة كَسَرَهَا وظلَّ الناس من بعده يكسرون قطعًا من نحاس هذا العمود، وقد أهملوا أمره فقوي على كلِّ الأيادي التي عبثت به، وهو باقٍ إلى الآن أقدم آثار الآستانة، وعليه أسماء ٣١ مدينة من مدائن اليونان القديمة، وكتابات عن حرب الروم مع الفُرْسِ في أيام داريوس وزركسيس قبل التاريخ المسيحي بنحو خمسمائة سنة.

وتوجَّهت بعد ذلك إلى أثر جليل، هو تربة السلطان محمود الثاني الذي أَلْغَى وجاق الإنكشارية، وقد بُني الضريح من الرُّخَام الأبيض تحت قبَّة فخيمة وغُطِّيَ بشال من الكشمير نفيس ووُضِعَ عند الرأس طربوش غُرِسَتْ فيه ريشة آل عثمان المشهورة بجواهرها. وفي ذلك المدفن قبور للبعض من آل عثمان، منهم السلطان عبد العزيز عند رأسه طربوش عزيزي من النسقِ المعروف، وقد غُطِّي الضريح بشال بديع الصنع أيضًا، وفي هذه التربة مصاحف قديمة العهد في جملتها مصحف جيء به من بغداد قيل إنه كُتِبَ من ألف سنة، ومن حول المدافن فقهاء يوردون الأذكار ويجوِّدون.

وظللتُ على المسير من هنالك إلى صهريج العماد، وهو من المشاهد القديمة في الآستانة، حُفِرَ في أوائل الدولة الشرقية، ويُقال إن أول بادئ به قسطنطين الكبير باني هذه المدينة، وكان القصدُ منه جمع ماء الأمطار لحين الحاجة، فإن الآستانة خالية من الأنهار الجارية، وكان أهل المدينة كلَّما أصابهم بلاء أو هاجمهم عدو يطمرون تحفهم وأموالهم في نواحي هذا الصهريج، ونزلتُ ذلك الصهريج منحدرًا إلى أسفله فرأيتُ أنه لم يبقَ منه غير القليل، وقد كان له ألف عمود، بقي منها نحو مائتين، على كلٍّ منها رسم الصليب، وهي على الجملة من الآثار القديمة، ولا يبعد أن يكون فيما تردَّم منها بقايا ثمينة.

ومن مشاهد الآستانة التي تُذْكَر، سوقها الكبرى المشهورة، وهي مرجع الذين يبتاعون الأبضعة الاستامبولية، سواء من أهل الآستانة أو من الذين يقصدونها لشراء الأبضعة المعروفة عنها، كالمناديل وأشكال الحرير والمقصب. وقد قُسِّمَتْ هذه السوق الطويلة أقسامًا لكلِّ نوعٍ من البضاعة قسم، وتفرَّع منها عدَّة أسواق صغيرة ضيِّقة المجال حتى إن الغريب إذا قصدها يضيع فيها، ولا بدَّ لكلِّ مَنْ يريد الوقوف على حالة الآستانة الحقيقية من زيارة هذه السوق التي ينتابها الأتراك رجالًا ونساءً، والسيدات يساومنَ الباعة من داخل البراقع ويشترين المطلوب كما تفعل نسوة الإفرنج، وهنَّ على غاية من التأدُّب والاحتشام.

وقصدتُ في ذلك اليوم وزارات الحكومة، فذهبتُ بادئ بدء إلى أهمِّها وأجملها — أريد به سراي السر عسكرية — ودخلتُ ميدانًا واسعًا جدًّا يستعرض به الجند، وحدث أنَّ وزير الحربية جاء في تلك الساعة فاستقبله رجل الجند بالإكرام والاحترام، ودخل من باب كبير ودخلنا نحن من باب آخر وَقَفَ على بابه خادم بيده بعض ريش ينظِّف به أحذية الداخلين، ويغلب أن يتقاضى منهم شيئًا أجرة ذلك، وأمَّا الموظَّفون في هذه النِّظَارات فإنهم يلبسون حذاء فوق حذاء — كما يعْرِف القراء — فيتركون الحذاء الخارجي عند الباب ويعودون إلى لبسه حين الخروج. والسراي من داخلها واسعة جميلة كثيرة الأجزاء والغُرَف، كُتِبَ على أبوابها وظائف المقيمين فيها، هذه للوزير وهذه للوكيل وهذه للقلم الفلاني حسب ما تراه في أكثر الدواوين المنظَّمة. وقد بُنِيَتْ هذه السراي من الحجر المنحوت طولها ٤٣٠ مترًا وعرضها ٢٨٠، وهي منفردة عن سواها داخل سور متين، وقائمة على رأس أكمة بديعة تجعلها أجمل سرايات الحكومة في هذه العاصمة المشهورة، وفيها برج يقرب من برج غلطه في ارتفاعه إذا ارتقيتَه رأيتَ الآستانة كلها تحت يدك، وراقَ لك ذلك المنظر البديع.

figure
ناووس الإسكندر.

وسِرْتُ بعد ذلك إلى باب همايون، وهو بابٌ عظيم بُني من الرُّخَام الأبيض والأسود، وفوقه الطغراء العثمانية، يُوصل منه إلى بعض النِّظَارَات، منها سراي الصدارة العظمى وفيها الأقلام التي تكاتب الولايات، ونِظَارة الخارجية ونِظَارة الداخلية ونِظَارة النافعة، وفي الآستانة نِظَارات أخرى مثل نِظَارة الضابطة، ونِظَارة الخزينة السلطانية الخاصَّة في جانب من سراي طولمه بغجه على ضفَّة البوسفور يبلغ عدد عمالها ستة آلاف، ونِظَارة البحريَّة في قرن الذهب، وتتبعها المدارس البحرية وإدارة الترسانات والفنارات وسواها، ونِظَارة الحربية في السر عسكرية، ونِظَارة العدليَّة في ميدان آيا صوفيا ونِظَارة المالية في ميدان بيازيد بسراي فؤاد باشا، ونِظَارة المعارف بالقرب من جامع محمود باشا. وأكثر جلسات الوزراء في الآستانة تُعْقَد في سراي يلدز برئاسة جلالة السلطان وبعضها في الباب العالي في مقرِّ الصدارة العظمى تحت رئاسة الصدر الأعظم، ولكن الأمور المهمة كلها تُقرَّر في الجلسات التي يرأسها جلالة السلطان.

ويستحقُّ الذكر في هذا المقام موضع يُقال له طوب قبو، كان مقر الحكومة السابقة على عهد الدولة الرومية، وفيه قصورها وكنائسها ودواوينها، وصار بعد ذلك مقر حكومة آل عثمان، بنى فيه السلطان محمد الفاتح عدَّة أبنية وبنى السلطان محمود قصرًا من الرُّخَام وكذلك السلطان عبد المجيد.

وفي هذا الموضع قصور ومنازل كثيرة الإتقان والزخرف، منها كشك السلطان عبد المجيد وهو من بدائع الصناعة الحديثة، ومنها قصر قديم لسلاطين آل عثمان لا يقيم فيه الآن أحد، ولكنه مستودع لكنوز هؤلاء السلاطين العظام وما جمعوا من تُحَفِ الممالك التي دوَّخوها، فإنهم — كما لا يخفى — ورثوا ثروة الروم والعرب والفُرْس وبعض الإفرنج، وملكوا أطيب الأراضي ووصلوا إلى الذي لم ينله سواهم، وقد جمعوا بعض هذه التُّحف في السراي التي نحن في شأنها، وأقاموا عليها الحُرَّاس واحتفظوا بها احتفاظًا يجدر بشأنها وقيمتها، فما رآها من الناس غير قليلين قدَّروا قيمتها بعدة ملايين، وهي مجموع من المثمنات والنفائس يندر مثاله. ولقد أُتيح لرجل إنكليزي اسمه السر وليم روبنصن أن يدخل هذا المتحف العظيم بأمر خاص من جلالة السلطان فكَتَبَ عنه ما يأتي:

رافقني أحد الياوران يحمل الإرادة السَّنيَّة المؤذِنة بدخولي تلك السراي، فسلَّمها عند وصولنا إلى كخيا الخزانة، وهذا تناولها ورَفَعَها إلى رأسه وقبَّلها، وأعلن المستخدمين تحت إدارته بفحواها ثم تقدَّم نحو باب الخزنة فصلَّى ونزع ختمه عن بابها بعد أن حدَّق به طويلًا وتحقَّق سلامته، ولمَّا فتح الباب ودخل الكخيا تبعه جميع المستخدمين باحترام وهدوء حتى وقفوا حول الخزائن الحاوية للنفائس، وكنت أنا وراء هذا المأمور، فأول ما رأيت في القاعة الأولى عرش من الذهب الخالص مرصَّع بألوف من الحجارة الكريمة كالألماس والياقوت والزمرد واللؤلؤ، وأكثر هذه الجواهر غنمها السلطان سليم في حربه مع إسماعيل شاه صاحب دولة إيران في سنة ١٥١٤، ويليه عرش آخر من الأبنوس والصندل مطعم بعرق اللؤلؤ والعاج وعروق الذهب، وفيه مئات من أنقى الحجارة الكريمة، وكان السلاطين السابقون يجلسون على هذا العرش متربِّعين، وفيه سلسلة من الذهب في طرفها زمردة بديعة طولها عشرة سنتمترات وسُمْكُها أربعة، وأمامه جبة ثمينة مزركشة كان السلطان مراد الرابع يلبسها بعد الاستيلاء على بغداد سنة ١٦٣٨، وفيها حجارة ثمينة كثيرة العدد، وإلى جانبها سيف ثمين مرصَّع بنحو ألفَي حجر، وهنالك خناجر وسيوف لا تُعَدُّ كلها من الذهب مرصَّعة قبضاتها وأنصبتها بأثمن الجواهر، وسروج ركابها وأدواتها من الذهب وكلها مرصَّعة ترصيعًا يبهر الأنظار، فضلًا عن أقداح من الذهب المرصَّع وملابس السلاطين السابقين من محمد الفاتح إلى محمود الثاني — أي من سنة ١٤٢٣ إلى ١٨٣٩ — وعلى كل كسوة عمامة غُرِسَتْ فيها الريشة المعروفة عن سلاطين آل عثمان، وهي مجموعة حجارة ساطعة غالية الأثمان.

هذا بعض ما قيل في تُحَفِ آل عثمان وهو — بلا ريب — قليل فإنه يمكن للمرء أن يبقى أيامًا ينتقل بين تلك المثمنات الباهرة ولا تشبع العين من النظر إليها؛ لكثرتها وجمالها، ولكنها مخفيَّة عن الأنظار مع أنَّ مثل هذه الجواهر في أوروبا تُعْرَض لعامة الناس وخاصتهم يتفرَّجون عليها في مواضعها كما علمت من فصولنا السابقة، فيا حبَّذا لو دَرَجَ أولياء الأمر في الآستانة على هذه العادة، فإن تحف هذا القصر من أثمن ما في الأرض وأوفره جمالًا.

وفي هذه الجهة بناءً يُدْعَى «خرقة شريف أوداسي» فيه الآثار النوية المحمدية، في جملتها الخِرْقَة الشريفة، وهي رداء أسود من شعر الإبل قيل إن محمدًا كان يضعها على منكبيه، والراية النبوية أخذها السلطان سليم الأول من مصر لمَّا فَتَحَ هذه البلاد في سنة ١٥١٧ ونقلها إلى دمشق، وفي سنة ١٥٩٥ نقلها السلطان مراد الثالث إلى غاليبولي، وفي سنة ١٥٩٧ نقلها السلطان محمد الثالث إلى الآستانة، وقد كان الأتراك يحملونها معهم إلى ساحات الحرب، وهناك أيضًا شعرات من لحية النبي حُلِقَتْ بعد موته، وسنٌّ من أسنانه، ونعاله، ونُسَخ من القرآن الشريف منقولة بخطِّ بعض كبار الصحابة. وفي الخامس عشر من شهر رمضان كل عام يذهب جلالة السلطان بموكب عظيم يسير فيه سماحة شيخ الإسلام والوزراء والكبراء جميعهم بالملابس الرسمية والنياشين، فيدخلون المكان لزيارة هذه الآثار، وهي داخل صندوق من الفضة فيقبِّلها، ثم يتقدَّم أمين السراي السلطانية ولديه مناديل يمسح بها المخلَّفات النبوية ويوزِّعها على الحاضرين، ثم يعيد هذه الآثار إلى صندوقها، وبذلك تنتهي هذه الحفلة الفريدة.

ومما يُذْكَر من هذا القبيل، متحف الآثار القديمة في الآستانة بُني من عهد قريب، وكان أول الذين وجَّهوا العناية إلى تنظيمه مديره الأول سعادة حمدي باشا بن أدهم باشا بعد أنْ دَرَسَ سنين طويلة في مدارس ألمانيا، وعُني بذلك من سنة ١٨٨١، فجمع في هذا المعرض أشكال الآثار الغريبة من ممالك الدولة العليَّة وهي — كما تعلم — أغنى أراضي الدنيا بآثارها الفاخرة، وكل معارض أوروبا التاريخية لا تقوم بغير آثار مصر وآشور وفينيقيا والروم والفُرْس وهاتيك الدول الشرقية القديمة، ومعظمها واقع في حوزة الدولة العليَّة إلى الآن، وأكثر ما في هذا المتحف آثار آشورية وفينيقية لا حاجة إلى وصفها بالإسهاب، وبعضها نواويس من الرُّخَام جميلة الصنع غالية الثمن وجدوها على مقربةٍ من صيدا، وعلى أكثرها نقوش بارزة ورسوم نسوة تنوح، وقد ظهرت ملامحها ظهورًا غريبًا، ويُستفاد من بعض الكتابات التي عليها أنَّ أحد تلك النواويس كان مدفن تبنت بن أشمنصر ملك صيدا.

ولكنَّ المتحف الذي نحن في شأنه لم يزل صغيرًا قليل الأهمية بالنسبة إلى ما يماثله من متاحف أوروبا، ولمَّا كانت بلاد الدولة العليَّة هي مقرُّ الآثار القديمة وفيها ما ليس في سواها، فإذا زيد الاعتناء بهذا المتحف وأُنفق عليه مال يُذْكَر صار من متاحف الطبقة الأولى في الأرض، وحُق للدولة العليَّة أن تفاخر سواها بما جَمَعَتْ من آثار الأولين.

ولما عُدْتُ من زيارة هذا المتحف عرَّجتُ على البنك العثماني، وهو بناءٌ فخيمٌ من أجمل أبنية الآستانة، له ثلاث طبقات وأشغاله كثيرة مع الأهالي والحكومة؛ لأنه يُعَدُّ البنك الرسمي للحكومة العثمانية باتفاق تمَّ بينها وبين الشركة الإنكليزية التي أنشأته، وقد قابلت مديره العام، وهو يومئذٍ السر أدجر فنسنت، وكنت أعرفه من أيام وجوده في مصر مستشارًا ماليًّا.

السلاملك: وحضرتُ بعد هذا حفلة السلاملك، وهي موكب صلاة الجمعة تجري في الآستانة كل أسبوع حين يذهب جلالة السلطان للصلاة، وكان السلطان عبد الحميد الذي شهدتُ هذه الحفلة في أيامه لا يصلِّي صلاة الجمعة إلا في الجامع الذي بناه على مقربةٍ من قصره في يلدز؛ ولهذا الاحتفال أبَّهة وبهاء لا مثيل لهما؛ فقد شهد الإفرنج وغيرهم ممن حضره أنه من أعظم أشكال الاحتفال الرسمي، ولا عجب فإن الأمر متعلِّق بسليل آل عثمان والأمَّة العثمانية المعروفة بالمفاخر والمآثر، ومعلوم أنَّ السلاملك أو البناء الذي يُسْتَقْبَل فيه الضيوف كائن إلى يسار هذا الجامع، ولكنه لا يؤذَن لأحد بالدخول فيه إلا إذا كان من أهل المقام المعروف في الآستانة، فإذا كان الزائر أجنبيًّا فلا بدَّ له من واسطة سفير دولته، أو مصريًّا فبواسطة حضرة قبوكتخدا الخديوية المصرية، ولكنني لم أطلب وساطته لبُعْدِ محلِّه، فأوصيتُ سائق العربة أن يسير بي توًّا إلى السلاملك ففعل حتى أتيتُ سُلَّم السلاملك، وقدمتُ رقعة عليها اسمي إلى عامل على بابه بقصد الاستئذان بالدخول، فأخذها الخادم وأطال الغياب ثم جاءني في سعادتلو شفيق بك من ياوري الحضرة السلطانية، فحيَّاني برقة ولطف، ودعاني للدخول فدخلتُ ورأيتُ ذلك الاحتفال العظيم من أحسن موضع.

وبدأ الموكب بقدوم فرقة عسكرية تلوح على رجالها لوائح البسالة والنجابة، مثل أكثر فرق الجيش العثماني الذي طارت شهرته في البسالة وفي تحمُّل المشاقِّ والصبر على الكريهة. وكانت الفرقة العثمانية التي ذكرناها تحمل البنادق، فحالما وصلت الساحة الكائنة بين السلاملك والجامع أحاطت بالجامع من كلِّ جهة ووقفتْ تحرس جوانبه، ثم جاءت فرقة أخرى تتقدَّمها الموسيقى مثل الفرقة الأولى ووقفتْ في متَّسع من الأرض ما بين الجامع والقصر، ثم جاءت فرقة من الجنود العربية تلبس السراويل الضيِّقة والسترة الصغيرة ولها عمامات خضراء وتوجَّهتْ إلى القصر، وتلتها فرق أخرى من الفرسان يحملون المزاريق والمشاة بالبنادق والحراب والبحرية بملابسهم الخاصَّة، وتفرَّقتْ في جوانب ذلك المكان الفسيح فكان عددُ الجنود الذين وقفوا في ذلك الموكب العظيم يومئذٍ لا يقلُّ عن عشرة آلاف، ودخلتْ فرقة من الحرس الخاص إلى ساحة الجامع وأحاطتْ بالباب الذي يدخل منه جلالة السلطان، ثم دخل وراءهم عدد كبير من كبراءِ الآستانة وأصحاب الرُّتَبِ والوظائف العالية، وجُلُّهم من رجال المابين والعسكرية والرُّقباء وبعض المشايخ والعلماء، فلمَّا تمَّ عقد الجماعة على مثل ما ذكرنا أقبلت عربة الحرم السلطاني، ومن ورائها عربتان أخريان فدخلتا الجامع، وجاء بعد ذلك أنجال السلطان السابق وجلالة السلطان الحالي وأنجال السلطان عبد العزيز، وكان دولتو نجايتلو سليم أفندي بكر السلطان عبد الحميد أشهر الذين رمقتهم الأنظار، وهو يومئذٍ شاب في مقتبل العمر ضئيل الجسم أبيض الوجه يلبس النظَّارات المقرِّبة لقِصَر نظره، وعلى وجهه دلائل الأنَفَة والذكاء، وهو كثير الظهور في متنزَّهات الآستانة، وكان هؤلاء الأمراء العِظَام على ظهور الجِيَاد الكريمة، فدخلوا ساحة الجامع الخارجية ووقفوا على جيادهم كأنهم البدور، ولمَّا حدقت بهم الأبصار كلها سمعنا بوقًا وحركة تشير إلى اقتراب جلالة السلطان، فتحفَّز كلُّ مَنْ حضر ذلك الاحتفال وتهيَّأ لإبداء مظاهر الإكرام حتى إذا تمَّ ذلك فُتِحَ باب القصر على عجل، وظهرت عربة فاخرة يجرُّها فَرَسَان كريمان، وفيها جلالة السلطان بسترة إسلامبولية بسيطة، وأمامه في المركبة دولة الغازي عثمان باشا جالسًا مكتف اليدين إجلالًا لمولاه واحترامًا، ومن حول العربة حوالي ستين كبيرًا من كبراء الدولة يمشون على الأقدام وهم بأفخر الحُلَلِ الرسمية والوسامات العليَّة، فما بقي بين تلك الأبصار عين إلا واتجهت إلى جلالة السلطان وجعلت فرق الجيش العثماني كلما اقترب جلالته من أحدها يهتف رجالها بالدعاء «أفندمز جوق يشاه»، وكان جلالته يحيِّي الحاضرين برَفْعِ يده، وبدأ بتحيَّة الواقفين في السلاملك، فكان لبساطته في وسط ذلك الموقف الرهيب والمناظر الباهرة تأثير عظيم في النفوس.

ودخل جلالة السلطان الجامع في عربته، وأولئك الكبراء يحفُّون به على ما تقدَّم، والموكب على أبهى حالاته، فلمَّا وَقَفَت العربة عند الباب نَزَلَ جلالته منها، ولم يساعده أحد عند النزول كما هي عادة بعض الملوك والأمراء، ولمَّا دخل بدأت الصلاة، وبعد نحو نصف ساعة عادت الحركة؛ لأن جلالة السلطان خرج من الجامع مارًّا بين صفوف الجند فنادت بالدعاء لجلالته، وكان جلالته في الرجوع وحده راكبًا عربة غير الأولى، وهي من نوع الفيتون يجرُّها فَرَسَان كريمان أبيضان، ويسوقها جلالة السلطان بيده الكريمة، وهو يمسك بالأزِمَّة بيساره ويحيِّي الجماهير بيمينه إلى أن يدخل باب القصر ويتوارى عن العيان، ويرجع من عند حضرته أحد الياوران فيبلِّغ تحيَّته للذين في السلاملك ويأمر الجنود بالانصراف إلى ثكناتها فيتفرَّق الجَمْع وتعود الجنود وأمامها الموسيقى العسكرية تَصْدَح بشهي الأنغام إلى أن تصلَ مواضعها، وينتهي بذلك احتفال السلاملك أو موكب صلاة الجمعة المشهور.

ولمَّا رأيت السلطان السابق تأمَّلْتُهُ طويلًا فإذا هو صغير الجسم نوعًا، أصفر الوجه تلوح عليه لوائح الاشتغال العقلي والفكر الكثير، ولا عجب فإن الذي يدير أمور سلطنة آل عثمان ولا يشاركه في الرأي كبير أو صغير في معظم المسائل الداخلية والخارجية لا بدَّ من ظهور أدلَّة الفكر والاهتمام على وجهه، ورأيتُ له عينين برَّاقتين لونهما أسود ولهما تأثير غريب في الناظرين، اشتُهر به بين العالمين، وقد عَرَفَه الذين تشرَّفوا بمقابلته باللطف الزائد والذكاء الكثير، وكان إذا أذِنَ لضيف أن يتشرَّف بالمثول بين يديه أكرمه ورفع مقامه حتى إنه ليقدِّم السجاير إلى ضيوفه بيده الكريمة، ويحدِّث كل ضيف على حسب ذوقه، فيُظْهِر علمًا بأحوال الممالك غريبًا، وقلَّ أن يخرج من حضرته شخص إلا وهو معتقد باقتداره.

وقد آن لي أنْ أصف ملتقى البحرين والصلة الجامعة بين القارَّتين، أريد به بوغاز البوسفور الشهي الذي يمتدُّ من البحر الأسود إلى البحر المتوسط طوله نحو ٣٨ كيلومترًا وعرضه يختلف ما بين ٥٠٠ متر و٣٢٠٠، وله تاريخ مشهور، فكم من أسطول شراعي مرَّ به! وكم من معركة حَدَثَتْ على ضفافه في أيام داريوس الفارسي إلى هذه الأيام! ولقد أقمتُ في الآستانة شهرًا ما مرَّ عليَّ من أيامه يوم إلا وأنا فوق ماء البوسفور، فرأيتُ في آخر الأمر أنْ أركب إحدى بواخر الشركة الخيرية التي تطوف نواحيه، ولها مكتب تُباع فيه التذاكر على طرف جسر غلطه، وبواخرها ترفع أعلامًا مختلفة، منها الأخضر وهو دليل أنَّ الباخرة تمرُّ على الشاطئ الأوروبي من ضفاف البوسفور، والأحمر دليل أن الباخرة تقصد الجهة الآسيوية، والاثنان معًا معناهما التنقُّل ما بين الضفتين.

ذهبتُ أول الأمر في باخرة علمها أخضر تتنقل بين المحطات الأوروبية فقط إلى محطَّة قباطاش، فمرَّت بنا السفينة بإزاء سراي طولمه بغجه المشهورة، بناها السلطان عبد المجيد من الرُّخَام الأبيض سنة ١٨٥٥ وأنفق مالًا لا يُحْصَى مقداره حتى جعلها حيرة للألباب في فَرْطِ جمالها وثمن مفروشاتها ودقَّة زخارفها، وهي على ضفَّة البوسفور داخل سور جميل تحيط بها الأشجار والأزهار البديعة، يراها المارُّ فوق الماء من أكبر آيات الجمال في تلك البقعة الطيبة، وواجهتها بديعة الجمال من الرُّخَام الأبيض النفيس المزخرف بأدقِّ أنواع النقش، ويقرب طول هذه السراي من ٨٠٠ متر، وقد كانت مقرَّ السلطان عبد العزيز وأُولمت فيها الولائم الفاخرة للإمبراطورة أوجيني حين زارت الآستانة، وفيها اجتمع مجلس المبعوثين الأول حين صدور الأمر باجتماعه في أوائل حكم السلطان عبد الحميد، ومن قاعاتها واحدة يمكن اجتماع خمسة آلاف نفس فيها، وقد أُتيح للناس عامَّة دخول ساحة هذا القصر المنيف ولم يكن ممكنًا قبلُ إلا بإرادة سَنِيَّة من السلطان السابق.

ومررنا بعد ذلك بمحطة باشكطاش، وهو اسم الحي الذي بُنِيَتْ فيه سراي يلدز حيث أقام جلالة السلطان السابق، وفي تلك المحطة قبْر أمير البحر خير الدين باشا المعروف عند الإفرنج باسم بارباروسا أو ذو اللحية الحمراء، ورأينا بعد ذلك سراي جراغان، وهي جميلة بُنِيَتْ بالرُّخَام الأبيض وأُحيطت بسور عالٍ منيع، ويقرب طول هذه السراي من ألف متر، وبعد ذلك محطَّة أورنه كوي فيها جامع والدة السلطان، وهي ملاصقة لجدار يلدز، وهنالك منازل فخيمة وقصور عديدة لسراة الآستانة وكبراء السلطنة. ومثلها محطَّة ببك التي تليها وهي مرصَّعة بأجمل القصور والديار تملأ جوانب تلك الأرض البهيَّة من شاطئ البوسفور إلى قمة الجبل، وفي قمَّة الجبل المذكور كشك بديع الإتقان كان السلاطين فيما مرَّ يختلون بسفراء الدول فيه ويتداولون بمهامِّ الملك، وعلى مقربة منه مدرسة للأميركان كلية تُعْرَف باسم روبرت، أسَّسها مرسل أميركي اسمه روبرت سنة ١٨٦٣، وهي من أكبر المدارس في السلطنة السَّنِيَّة إذا لم تكن أكبرها وأعلاها يقصدها الطلاب من كلِّ نواحي السلطنة ومن بلغاريا والسرب ورومانيا وبلاد اليونان، وبين وزراء بلغاريا كثيرون تلقوا العلوم في هذه المدرسة المشهورة، أشهرهم الوزير ستامبولوف الذي قُتِلَ من بضعة أعوام، وهو أشهر بلغاري رَأَسَ الوزارة في بلاده، ولهذه البقعة — أي محطَّة بيك — شهرة في التاريخ؛ فإن جنود داريوس وزركسيس وهي مئات من الألوف كانت تمرُّ منها قاصدةً بلاد الروم لمحاربتها في القرن الخامس قبل المسيح، والصليبيون لمَّا عرَّجوا على الآستانة جعلوا بيك هذه نقطة مركزية لحركاتهم، ومحمد الفاتح هاجم الآستانة وملكها من تلك النقطة بعد أنْ أقام الحصون وركب المدافع مصوِّبًا كراتها إلى عاصمة الروم، ورَسَت الباخرة بعد ذلك في محطَّة بوياجي كوي، وأكثر سكانها روم وأرمن، ثم محطَّة ميركون وفيها قصر للخديوي الأسبق إسماعيل باشا أُهدي إليه من جلالة السلطان عبد الحميد، ثم وَقَفْنَا في يكي كوي، وهي بلدة فيها نحو عشرة آلاف نفس أكثرهم من الروم والأرمن أيضًا، وتليها محطَّة طرابيه المشهورة واسمها رومي معناه الشفاء سُميت بذلك؛ لجودة هوائها وجمال مناظرها؛ ولذلك أصبحت مقرَّ الهيئة العالية من سكان الآستانة واختارها أكثر السفراء لمنازلهم فبنوا هنالك القصور المنيفة والصروح الأنيقة، وقامت من حولها الفنادق العظيمة، فالذي يمرُّ تجاه هذه البقعة يرى سفارات إنكلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا في وسط حدائق غنَّاء تتصل خضرتها النضرة برأس الجبل، ومجموع طرابيه هذه جمال مدهش وبهاء مفرط، وأمَّا عامة السكان في طرابيه فأكثرهم أروام يقربون من خمسة آلاف نفس عدًّا، ومنازلهم درجات بعضها فوق بعض في ذلك المنحدر البهي، فهي متواصلة ما بين قمَّة الجبل وضفَّة البوسفور، ولها رونق وحسن بديع.

figure
خارطة البوسفور.

ويلي هذه البقعة الجميلة محطَّة بيو كدره فيها سفارات أميركا والنمسا وروسيا ومساكن بعض التجار الأغنياء، وهي تقرب من طرابيه في جمالها الفتَّان. وآخر هذه المحطات قاواق، وهي في طرف البوسفور من جهة البحر الأسود أُقيمت حولها الحصون المنيعة والقلاع الكبرى، فلمَّا انتهينا إلى هذا الحدِّ عُدْنَا إلى مقرِّنا في العاصمة، وقد رأينا من جمال البوسفور ما تحفظه الذاكرة ولم يخطر لنا ببال.

وفي اليوم التالي عُدْنَا إلى بواخر الشركة الخيرية، واخترنا واحدة علمها أحمر حتى نرى الشاطئ الشرقي أو الجهة الآسيوية من البوسفور العجيب، فقمنا أولًا إلى أسكودار وهي القسم الشرقي من المدينة ذكرناه قبل الآن، وسِرْنَا منها إلى قوز غنجق فمررنا من أمام سراي بكلر بك، وهي من أعظم قصور الآستانة، تُعَدُّ ثانية طولمه بغجه بناها السلطان عبد العزيز سنة ١٨٦٥ من الرُّخَام الأبيض النقي على شاطئ البوسفور في وسط حديقة غنَّاء تمتدُّ أغراسها البهيَّة إلى حدود الجبل، ولها سور مذهب وزخارف يطول المقام لو أردنا وصفها، يكفي أن يُقال إن الإمبراطورة أوجيني أقامت في هذا القصر، وإن السلطان عبد العزيز أنفق على إضافتها والهدايا التي قُدِّمت لها مبلغًا كبيرًا، ثم لمَّا جاء إمبراطور ألمانيا سنة ١٨٨٩، أقام هنا أيضًا ولا غرو؛ فإنها تليق بأعظم ملوك الزمان. ثم جئنا محطَّة جنكل كوي، وفيها حديقة واسعة لها ذِكْر في التاريخ، هو أنَّ السلطان سليمان المشهور اختبأ فيها ٣ سنوات فرارًا من والده السلطان سليم، وكان السلطان قد أمر بقتله فلمَّا عَرَفَ بعد طول المدة أن ابنه حي في تلك الحديقة فرِح فرحًا لا يُوصف وأقام الأفراح في عاصمة بلاده، وظللنا على المسير نتنقَّل بين محطات البوسفور الشرقية حتى انتهينا منها عند آخر محطَّة في فم البوسفور وعُدْنَا إلى المدينة.

figure
قصر طولمه بغجه.

بقي علينا الخط الثالث لهذه البواخر وهم يسمُّونه الزقزاق؛ لأنه يمرُّ على النقط الشرقية والغربية معًا في البوسفور، فقصدناه في يوم ثالث وجعلنا نقف تارةً في الشرق وطورًا في الغرب، وقد ذكرنا أسماء المحطَّات في الجهتين فلا حاجة إلى التكرار، وقضينا في ذلك خمس ساعات متواليات، فما رأت عيني مثل الذي رأيناه من بهيِّ الحراج وشهيِّ المناظر الطبيعية، وقد رصَّعتها يد الصناعة بالقصور الشمَّاء والطرق الحسناء فما البوسفور إلا معجزة من معجزات الزمان، وما أخطأ الذي قال إن الآستانة وضواحيها زينة البرَّين ودرَّة البحرين.

ولقد ذكرنا قرن الذهب كثيرًا، وهو مجرى من الماء بديع جميل يفصل بين القسمين الأوروبيين من أقسام الآستانة، نريد بهما غلطه وبيرا من ناحية، واستامبول من ناحية أخرى، والموصل بين هذين القسمين جسر غلطه المشهور وقد مر ذكره. طول هذا المجرى ١١ كيلومترًا وعرضه ٤٥٠ مترًا، وهو يتَّصل عند طرفه الواقع في غلطه بالبوسفور وبحر مرمرا، وأمَّا في الطرف الآخر فإنه ينتهي بجبال بهيَّة سِرْنَا إليها في أحد الأيام ورأينا في الطريق بواخر الأسطول العثماني، وعلى الشاطئ من تلك الناحية سراي وزارة البحر (طوبخانة)، وهو بناء شاهق فخيم تتبعه المدرسة البحرية والترسانة، ثم وقفت الباخرة في محطَّة آيا قبو في سفح الجبل، وعلى قمَّة الجبل المذكور جامع السلطان سليمان، وتليها محطَّة الفنار فيها بطرخكانة الروم الأرثوذكس ومدرستهم، ثم انتهينا إلى آخر قرنِ الذهب في محطَّة أيوب فنزلنا إلى البرِّ وتقدَّمنا إلى جامع أيوب، بناه السلطان محمد الفاتح تذكارًا لمقتل أبي أيوب الأنصاري حامل الراية النبوية، وكان قد جاء في جملة المسلمين الذين هاجموا الآستانة في صدر الإسلام سنة ٦٦٨ وقد وُضِعَ سيف النبي في هذا الجامع، فكلما بويع سلطان بالخلافة احتفلوا بتقليده السيف هنا، وهم لا يسمحون لواحد من الأجانب أن يدخله ولو يكون من السفراء، هذا مع أن لسفراء الدول في الآستانة مقامًا خطيرًا وامتيازًا لا نظير له في العواصم الأوروبية، فإن لكل سفير هنا باخرتين حربيتين تقومان بخدمته وحراسة السفارة والرعايا حين اللزوم، وفي كلِّ سفارة من القواصة والأعوان عدد كبير، حتى إن السفير في الآستانة يُعد بمثابة ملك صغير، وقد بُني هذا الجامع من الرُّخَام الأبيض وصُنِعَتْ له قبَّة عظيمة ومئذنتان، ودُفِنَ حامل الراية النبوية فيه. وبرِحْنَا أرض هذا الجامع فصعدنا قمة الجبل، وأشرفنا من هنالك على متنزَّه يُعْرَف باسم كاغدخانة، والإفرنج يسمُّونه الماء الحلو؛ لأن النهر يلتقي عنده بالبحر، وهذا الموضع مصيف لبعض الناس يكثر تردُّدهم إليه في أيام الربيع.

هذا بعض ما يُذْكَر بين ضفَّتي قرن الذهب، ولكن الآستانة — كما علمت — قسمان: أحدهما في أوروبا، وقد وصفنا ما فيه، والقسم الآخر في آسيا يُعْرَف باسم أسكودار وهو مدينة لا يقلُّ عدد سكانها عن خمسين ألفًا كلهم من المسلمين ومعظمهم أتراك، وأبنية أسكودار منتشرة ما بين ضفَّة البوسفور والجبل على شكل طبقات بعضها فوق بعض، وفيها عدد ليس بقليل من الصروح والمنازل الفخيمة، والبواخر تسير إلى هذه الجهة ومنها في كلِّ ساعة، فلمَّا وطأنا أرضها أخذنا عربة وسِرْنَا في طرق عوجاء متعرِّجة إلى مقبرة المسلمين، وهي من أوسع مقابر الأرض وأكبرها، طولها ثلاثة أميال، وفي كلِّ جوانبها شجر من السرو باسق كثير العدد، وفي تلك الجهة مقبرة صغيرة للذين قُتِلُوا من جيش إنكلترا في القرم سنة ١٨٥٤ و١٨٥٥، وقد كُتِبَتْ أسماء المدفونين هنالك من الإنكليز على الأضرحة والأرض هبة من الدولة العليَّة.

وهنالك ثكنة (قشلاق) السليمانية، وهي من أكبر الثكنات العسكرية وأجملها بناها السلطان سليمان وحسَّنها السلطان مراد الرابع، فتأمَّلنا هذا البناء الكبير ثم تقدَّمنا صعدًا حتى وقفنا أسفل جبل بولغورلو، وهو الذي كنَّا نقصد الوصول إليه فترجَّلنا ومشينا ربع ساعة حتى بلغنا القمة، وهنالك تجلَّتْ لنا عروس الطبيعة بأبهى أشكالها، ورأينا سهولًا زُرِعَتْ بالعنب والتين والزيتون وغيره ممتدَّة إلى داخل القارَّة الآسيوية العظيمة، ومن ورائها عدد كبير من القرى والمزارع والطرق تتشعَّب من هنا ومن هناك بين تلك السهول الأريضة، وتتصل بأطراف العمائر ترصِّع جوانب البر الفسيح، فلا ترى من جانب البرِّ إلا مثل ما ذكرنا من أدلَّة الخَصْب ومشاهد الجمال الطبيعي حتى إذا تحوَّل الطَّرْف إلى الناحية الأخرى رأيت البوسفور العجيب كأنَّما هو خطٌّ من اللجين بين خطَّين من السندس، وكلُّ هاتيك المناظر البديعة التي عددناها واقعة فوق مَجْرَى الماء تسير من فوقه السفن والباخرات لا عداد لها، وقد قامت من الجانبين قباب القصور والمآذن تَشْهَد بتعاقد الطبيعة والصناعة في ذلك الموضع على إيصاله إلى أعلى درجات الجمال، كلُّ هذا والموضع الذي تُرى منه تلك الغرائب ليس فيه جماهير الناس ولا معدَّات للراحة من مثل الذي تراه في الجبال المجاورة للمدن الأوروبية مع أنَّ هذا الموضع أحق بالالتفات والعناية من كلِّ مكان، ولو أقام الواحد فيه أشهرًا وأعوامًا لما ملَّ النظر إلى تلك المشاهد التي تُحْدِثُ في النفوس فتنة وتُحدِّث بعظمة الباري الكريم.

ولمَّا عُدْتُ في المساء إلى فندقي رأيتُ ألوف الناس عند جسر غلطه تحتشد أفواجًا وهي في حركة كبرى، علمتُ منها ومن إطلاق المدافع ذلك الحين أنَّ الغد — وهو الجمعة — سيكون موعد الاحتفال بميلاد النبي ، ويكون السلاملك حينئذٍ أفخم منه في بقية الأسابيع وأعظم، فما تأخَّرت عن الذهاب إليه وسِرْت على ما تقدَّم في المرة الماضية إلى باب السلاملك رأسًا، حيث قدَّمت بطاقتي وجاءني سعادة نادر بك أحد الياوران الكرام فأدخلني القصر مرحِّبًا، وقد أوضحت هيئة السلاملك فيما مرَّ فلا لزوم للتكرار، غير أنِّي رأيتُ في هذه المرة فوق ما رأيت قبلًا من توافُدِ العظماء والقُوَّاد ووقوفهم في خدمة جلالة السلطان حين وصوله أمام باب الجامع، وكان في صَدْرِ المحتفلين حضرات الوزراء الفخام يتقدَّمهم دولة الصدر الأعظم، فلمَّا ظهر جلالة السلطان طأطئوا الرءوس وانحنوا إلى الأرض إجلالًا وتكريمًا، ثم دخل جلالة السلطان جامعه وأقام فيه ساعة كاملة فلمَّا عاد إلى قصره دار العمال يوزِّعون على الناس علبًا فيها من الحلوى والملبس شيء يسمُّونه المولدية يأخذونه هدية تذكارًا لذلك العيد، وكانت الآستانة يومئذٍ في عيد عظيم لاسيَّما في الليل؛ إذ أُنيرت جهاتها أنوارًا ساطعة وخرجت ربَّات الخدور في عرباتها المتوالية، فكان لمنظرها فوق ما يُوصف من التأثير.

وخرجتُ بعد حضور هذا الاحتفال قاصدًا زيارة المغفور له إسماعيل باشا خديوي مصر الأسبق وصاحب المآثر العظيمة في هذه البلاد، فذهبتُ في باخرة تركتها في محطَّة ميركون وفيها قصره المشهور، فلمَّا وصلتُ القصر استأذنتُ على يد التشريفاتي بمقابلة سموِّه؛ فأذِنَ — رحمه الله — بذلك وارتقيتُ سُلَّمًا بديعًا إلى الطبقة العليا من القصر، حيث وجدتُ ذلك الأمير العظيم في صدر قاعة فخيمة، وقد ظهرت عليه لوائح الكبَر، ولكن هيبة الملوك لم تفارقه، فرحَّب بي وسألني أين كنت؟ ولمَّا أجبتُ أنِّي زُرْتُ معظم العواصم الأوروبية، قال: إذًا أنت زرت أكثر العواصم المشهورة مع زيارتك للولايات المتحدة السابقة، قلت: إنِّي لن أنسى تعطف سموه وثقته بي حين ندبني للنيابة عن حكومته السَّنِيَّة في معرض أميركا سنة ١٨٧٦، ثم دار الحديث بيننا عن أمور كثيرة، أهمها مصر والنيل، فلمَّا أخبرت سموَّه أن الفيضان زاد عن حدِّه المعتاد في العام السابق حتى خيف على البلاد من الغرق، قال: إن الزيادة في الفيضان لها دواء، وأمَّا الشح فلا دواء له غير بناء الخزَّان، فهو إذا بُنِيَ أفاد مصر فائدة عظيمة، وخرجتُ من حضرة هذا الأمير الجليل وأنا أفكِّر في عِبَرِ الدهر وتقلُّب أحواله، كيف أوصل إسماعيل الذي دانت له رقاب الملايين وجمع من المال ما لم يجمعه ملك قبله، ورأى من أشكال العزِّ ما يعزُّ نظيره على أكابر الملوك صار إلى قصر واحد في الآستانة لا يبرحه، وسبحان الذي يغيِّر ولا يتغيَّر!

وقصدتُ في ذلك النهار قاضي كوي عند رأس البوسفور من جهة آسيا، عدد سكانها نحو عشرين ألفًا أكثرهم أروام، ولها موقع بديع يقصدها الناس من أهل بيرا وغلطه لقضاء فصل الصيف ويفضِّلونها على غيرها؛ لأنها قريبة سهلة الاتصال بقلب الآستانة، وقلَّ أن يوجد هنالك بيت بلا حديقة صغيرة أو كبيرة أمامه، والناس ينتابون هذا المصيف البهي في يوم الأحد من كلِّ أسبوع، فيجتمع فيه من أشكال الساكنين في الآستانة ما ترتاح إلى مشاهدته العيون وتنشرح لمَرْآه الصدور، وهنالك كنيسة للروم الأرثوذكس بُنِيَتْ على أطلال كنيسة قديمة اجتمع فيها المجمع الخلكيدوني سنة ٤٥١ لتقرير بعض المبادئ الدينية، فلمَّا فَتَحَ البلاد آل عثمان هدموها واستُعْمِلَتْ حجارتها في بناء جامع السلطان سليمان. وشوارع قاضي كوي مبلَّطة بالحجر، وهي نظيفة منظَّمة ظللتُ أتمشَّى فيها حتى آن وقت الرجوع إلى مقري في بيرا.

على أنَّ هذه المصايف والمتنزَّهات كلها ليست بالشيء الذي يُذْكَر عند جوهرة المصايف وزينة المتنزَّهات طُرًّا، أريد بها برنكبو أو جزيرة الأمراء. ولهذه الجزيرة شُهْرَة طائلة في الآفاق؛ فإنها فريدة في الموقع المفرِط جماله وفي طِيبِ الهواء والماء وما حوت من أشكال الحسن والبهاء، وهي في بحر مرمرا تبعد عن الآستانة نحو ساعتين فيها قصور الأمراء ومنازل السراة الأغنياء، وفيها يتألَّب الألوف يومًا وراء يوم لرؤية الذي امتازت به هذه الجزيرة من المحاسن الطبيعية والزخارف الصناعية، ولست أذكر أنَّ بين الضواحي الأوروبية ما يزيد عن برنكبو هذه في جمالها وجودة هوائها؛ فإنه إذا كانت ضواحي باريس وبرلين وبطرسبرج وفيينَّا ولندن معروفة بالمحاسن الكثيرة والإتقان الفائق، فشتَّان بين بردها وغيمها ومطرها وبين الهواء الرقيق في هذه الجزيرة والسماء الرائقة ووسائل الرَّغَدِ والهناء المتوفِّرة في كلِّ جانب.

وبرنكبو إحدى جزر عدَّة، أولها من ناحية الآستانة جزيرة بيروتي، وتليها جزيرة إنتغوني، وبعدها خالكي وهي مبنيَّة بين جبال صغيرة كثيرة الجمال، وعلى قمَّة أحدها دير للروم الأرثوذكس على اسم الثالوث الأقدس جعلوه سنة ١٨٤٤ مدرسة لاهوتية فيها نحو مائة طالب، وقد كان من ضمن المتخرِّجين في هذه المدرسة سيادة الأرشمندريتي جراسميوس مسره المشهور بمؤلَّفاته الدينية، وهو الآن مطران بيروت، وآخر هذه الجزر، بل أعظمها وأبهاها وأكبرها، جزيرة برنكبو، هي مجموع غياض وحراج وحدائق وبساتين وقصور صغيرة أو كبيرة وطرق منظَّمة وفنادق جميلة ومناظر بديعة في كلِّ جانب، يصلها الزائر فينزل إلى شارع فسيح تحفُّ به الأشجار من الجانبين، ويمتدُّ ذلك الشارع حول الجزيرة برمَّتها، فتارةً فيه شجر غُرس للتظليل على مثل ما في بقية الشوارع، وطورًا يخترق حراجًا من شجر الصنوبر البهي تتضوَّع منه الروائح العطرة أو حدائق وكرومًا وأغراسًا نافعة، وحينًا يُشْرِف على البحر أو تحدق به الهضاب والآكام وما فيها من نَبْتٍ وشجر من كلِّ ناحية، فكأنَّما المرء في برنكبو يتقلَّب في نعيم الجنة أو هو في بلاد مسحورة كلها جمال رائع وبدائع في بدائع، هذا غير أنَّ الموسيقى تَصْدَح هنالك والمطاعم كثيرة نظيفة، والقهاوي والحانات والأماكن العمومية — بوجه الإجمال — لا تُبْقِي حاجة في نفس يعقوب، فإن شئتَ عيشًا هنيئًا فعليك بجزيرة الأمراء، إنها مركز الجمال والهواء الطيِّب بلا مراء، ولطالما تغنَّى الشعراء بمدح هذه البقعة العجيبة وأطال كُتَّابُ الشرق والغرب في وصفها مهما أقُلْ في مدحها فإنِّي مقصِّرٌ لا أفيها بعض حقها، فأكتفي بما تقدَّم وأقول إنِّي ارتقيتُ قمَّة جبل فيها من فوقه دير للقدِّيس جورجيوس وهو للروم الأرثوذكس أيضًا، كلُّ طرقه مرصَّعة بالبطم والآس وهاتيك الأعشاب والأشجار العطرة تعبق روائحها الطيبة في وجوه الزائرين فتزيد المكان حُسْنًا على حسن وغرابة على غرابة. ثم قصدتُ في اليوم التالي الجبل الآخر من جبال هذه الجزيرة الحسناء، فكنت أحمد الله على روائح الآس والبطم وبخور الأعشاب المختلفة، وعلى الذي اكتحلتْ عيني بمرآه من غريب المشاهد البرِّيَّة والبحرية، حتى إذا وصلتُ قمة الجبل ورأيتُ دير المخلص وسرَّحتُ النظر في هاتيك البدائع المحيطة به برًّا وبحرًا؛ عُدْتُ إلى موضعي وكلِّي إعجاب بجزيرة الأمراء، وقد حدَّثتني النفس أن أسمِّيَها أميرة الجزر أو ملكة الضواحي، وأقمتُ فيها يومين كنا كطرفة عين، ثم عُدْتُ إلى الآستانة لأتمِّمَ الذي شرعتُ به من دَرْسِ مشاهدها.

ولمَّا انتهيتُ من أشهر المتنزَّهات الحديثة في الآستانة على مثل ما رأيت تذكَّرت تاريخها الأول ومتنزَّهاتها السابقة، فذهبتُ إلى حيث كان ملوك الدولة اليونانية قبل الفتح العثماني يسكنون، ورأيت السور الذي قُتِلَ من ورائه آخر ملوك القسطنطينية في حربه مع العثمانيين على ما ذكرنا في صدر هذا الفصل، والسور طوله ٦٦٧١ مترًا وعرضه أربعة أمتار، وعليه ٦٤ برجًا و٧١ متراسًا، وله أبواب سبعة من الحديد، وهو يحيط بالمدينة القديمة أو القسم المعروف الآن باسم استانبول، أخذه العثمانيون عن لفظ رومي معناه المدينة وهو «ستي بولي»، فمرَّت بنا العربة في شوارع مهملة داخل هذا السور المتهدِّم، وما بقي منه غير أجزاء قليلة وخنادق تُمْلَأ بالماء حين الحاجة؛ منعًا للمتقدِّم عليها من الوصول، ووقفنا عند باب هليوبولس (اسم مدينة الشمس المصرية واسمه الآن باب مولانا)، فرأيتُ فوقه رسومًا دينية مسيحية وكتابات يونانية، ورأيتُ بعد ذلك طوب قبو؛ أي باب المدفع، سُمِّيَ بذلك؛ لأن العثمانيين نصبوا فوقه مدفعًا كبيرًا وقت فتح الآستانة، وكانت المدافع يومئذٍ في أول عهدها، وأول مَن استعملها العثمانيون في حربهم مع إيران أولًا ومع ملوك الدولة اليونانية ثانيًا. ومما يُرْوَى عن طوب قبو هذا أنَّ قسطنطين باليولوغوس آخر ملوك القسطنطينية مات وراءه وهو يحارب مع جنوده، فماتت الدولة بموته وصارت البلاد إلى قبضة محمد الفاتح ومَنْ خلفه.

وخرجت من السور إلى جامع القاهرية الذي كان كنيسة مشهورة قبل الفتح وصار جامعًا، ولكن بعض رسومه الدينية في الرواق الخارجي باقية على حالها يقصدها الناس للتأمُّل بمحاسنها من أبعد الأنحاء حتى إن إمبراطور ألمانيا زار هذا الجامع لمشاهدتها، ومن هذه الصور، رسم السيد المسيح يحيط به الحواريون والرسم كله مصنوع بقِطَع الفُسَيفِساء النفيسة في سقف الرواق، وصورة العذراء والرسل وصور بعض الملائكة والقدِّيسين والحوادث المذكورة في الإنجيل، مثل قتل الأطفال بأمر هيردوس، وفرار يوسف النجَّار مع عائلته إلى مصر وقيام إلعازر من الموت، وغير هذا كثير كله باقٍ على حاله الأصلي ولم يزل شيء من رونقه وجماله.

figure
الإمبراطور ثيودوسيوس يقدم الكنيسة إلى المسيح في جامع القاهرية (القعرية).
figure
مريم العذراء وابنها في جامع القاهرية (القعرية).

وعُدْتُ من تلك الناحية بطريق قرن الذهب، فاغتنمتُ تلك الفرصة لمشاهدة حارة الفنار، حيث كان الأشراف يقيمون على عهد الدولة اليونانية، وقد سُمِّيَتْ بهذا الاسم؛ لأنها كانت تحصن مدَّة الحصار في الليل على نور الفنار، وأشهر ما فيها منزل غبطة البطريرك القسطنطيني للروم الأرثوذكس، كان من حسن حظِّي أنِّي زُرْتُهُ، ولمَّا دخلت الدار رأيتُ في الدور الأول كنيسة عليها شعار الدولة الروسية حامية حِمَى الديانة الأرثوذكسية، والمنزل في الدور الأعلى، حيث رأيتُ غبطة البطريرك يواكيم في غرفة واسعة، وكان ساعة دخولي جالسًا إلى كرسيٍّ كبير وأمامه منضدة تراكمت فوقها الأوراق، ولديه كاتبان يقدِّم أحدهما لغبطته المحرَّرات التركيَّة فيختمها بختمه التركي، والآخر يعرض الأوراق اليونانية فيكتب البطريرك اسمه عليها باليونانية، وقد قابلني غبطته بالتَّرحاب، ثم حدَّثني عن عدَّة شئون، ولمَّا هممتُ بالانصراف دعاني لزيارة المدرسة التابعة لذلك المكان فزرتُهَا ورأيتُ فيها ستمائة تلميذ، وهي تُعْرَف بلونها الأحمر وارتفاع مركزها حتى إنه ليمكن مشاهدتها من معظم نواحي الآستانة.

ويُذْكَر بين مناظر الآستانة حديقة تقسيم في آخر شارع بيرا إلى جهة الشمال، ولهذه الحديقة مركز عظيم؛ لأنها تطلُّ على البوسفور وما يليه، والناس يقصدون هذا المكان عند الغروب للتفرُّج على انعكاس أشعَّة الشمس عن زجاج المنازل المحيطة بالبوسفور، وهي تشبه النار المتقدة في شكلها، ولها منظر غريب، ولكن الشجر هنالك قليل والاعتناء ليس على ما يُذْكَر، ولو وُجِّهَ الاعتناء إلى هذه الحديقة لصيَّرها من أجمل متنزَّهات الآستانة.

ومما يُذْكَر أيضًا مصادر مياه الآستانة وغابة بلغراد تبعد عن طرابيه ثلاث ساعات ذهابًا وإيابًا، والطريق إليها من أجمل الطرق يكثر فيها شجر السنديان القديم والصنوبر والحور والصفصاف، وتُعَدُّ تلك الغابات حدود جبال البلقان المشهورة. وأمَّا مصدر الماء الذي يستقي منه أهل الآستانة فإنه خزَّان كبير بناه السلطان محمود الأول سنة ١٧٢٢ وهو قائم على ٢١ قنطرة متينة، وتحيط بذلك الماء حدائق بهيَّة وأغراس بديعة الأشكال فترى العائلات تقصد هذا الموضع الأنيق، وتقضي فيه نهارًا بطوله في نعيم وصفاء، ولا عجب فإن منظره من المناظر التي تستحقُّ الذكر على نوع خاص.

ومن هذا القبيل أيضًا سان ستفانو، وهي من أشهر ضواحي الآستانة يقصدها الناس في أيام الآحاد والأعياد كما يقصدون سان ستفانو في الإسكندرية، ولا بدَّ أن يذكر القرَّاء ما لهذا الموضع من الشهرة البعيدة، فإن جنود الدولة الروسيَّة وصلت إليه بعد حرب ١٨٧٦ وعسكرت فيه، ولم ترجع عنه إلا بعد إبرام معاهدة سُمِّيَتْ باسم هذا المكان، وقد أُبْدِلَتْ معاهدة سان ستفانو هذه في السنة التالية بمعاهدة برلين المشهورة، وهي أهمُّ المعاهدات الدولية الحديثة، كلُّ موادِّها متعلِّقة ببلاد الدولة العليَّة وممالك البلقان وكيفية استقلالها وتصرف الدولة في أمورها، ولها شهرة تغني عن التطويل.

ومما يُذْكَر عن الآستانة كثرة كلابها؛ فإنها تكاد لا تُعَدُّ في كلِّ قسم منها، والناس يرأفون بها ويعدُّون الشفقة عليها من أكبر الفضائل، حتى إن بعضهم أوْقَفَ لها رزقًا يُوزَّع عليها من مواضع معينة، والبعض يأخذ بيده الطعام ويلقيه بين جماعة الكلاب من حين إلى حين، وقد ألِفَ أهل الآستانة منظر هذه الكلاب وعواءها، فهم لا ينكرونه، ولكن النُّزَلاء يضيق صدرهم منها ولا سيما من نُبَاحها المتواصل في الليل، ويُعِدُّ السياح هذا من مميزات العاصمة العثمانية ولهم فيه أحاديث ونكات.

وجملةُ القول إن الآستانة وضواحيها مجموع محاسن طبيعية وصناعية ليس في الإمكان تصويرها بالكتابة أو الإصابة التامَّة في وصف جمالها وبدائعها، وقد ذكرت شيئًا منها ولم أذكر أشياء أخرى؛ لأنَّ عاصمة الدولة العليَّة معروفة عند الأكثرين والذين سبقوني إلى الكتابة عنها ليسوا بقليلين، وقد أقمتُ في هذه العاصمة الزاهرة شهرًا حتى إذا حان موعد السفر تركتُهَا وقصدتُ مدينة بورصة، وهي التي يأتي الكلام عنها في الفصل الآتي.

بروسة (بورصة)

سمعتُ مرارًا عن أهمية بورصة قاعدة ولاية خداوندكار، وعن صناعتها وجمال مناظرها وما لها من الذكر الكثير في تاريخ آل عثمان ومَنْ تقدَّمهم؛ فعزمتُ على السفر إليها وهي التي كانت عاصمة الدولة العثمانية، جعلها السلطان أورخان مقرَّ ملكه في القرن الخامس عشر قبل أن تملك العثمانيون مدينة أدرنه (أدريانوبل) ونقلوا إليها مركز قوتهم، ولم تزل مدينة بورصة فيها آثار السلاطين العظام الذين أسَّسوا هذه الدولة القوية وسكانها ثمانون ألفًا، وهي في موقع له شأن قديم في حوادث البشر، فإنها وسط جبال شهيرة اسم أحدها أولمبوس وله ذِكْر في تاريخ اليونان عظيم ارتفاعه ٢٦٠٠ متر، وعلى مقربة منه كانت مدينة طروادة الشهيرة التي حاربت بلاد اليونان تلك الحرب العظيمة في أيام أشلس وعولس وغيرهم من الأبطال الذين ورد ذكرهم في الإلياذة وفي تواريخ اليونان القدماء. وقد اكتشف العلَّامة الألماني شليمان آثار طروادة هذه من نحو ثلاثين عامًا، ولقي فيها من الآثار والتُّحَف ما طيَّر شهرته في الخافقين، ولا عجب فإن مدينة بورصة وُجِدَتْ في بقعة رقيت سلَّم الحضارة حين كانت ممالك اليوم كلها طامسة الذكر وغير معروفة.

والمسافة بين الآستانة وبورصة هذه خمس ساعات، بعضها بالبحر وبعضها بالبر، ركبتُ باخرة من بواخر الشركة المخصوصة، وسِرْنَا في بحر مرمرا البهي نمر بالضواحي المشهورة مثل جزائر الأمراء وغيرها، ثم تجاوزت السفينة هذه المناظر الفاتنة وأطلَّت على غيرها لا تقلُّ عنها بهاءً وحسنًا حتى رَسَتْ في موادنيه وهي فرضة بورصة وأسكلتها، نزلتُ إليها مع اثنين من وُجَهاءِ الروس: أحدهما الموسيو ماكسيموف الذي كان قنصل دولته الجنرال في مصر، والثاني طبيب السفارة، وكان الرجلان مثلي يقصدان مدينة بورصة وغايتهما من السفر الاستحمام في حمَّاماتها المعدنية؛ لأن هذه المدينة امتازت بأشياء كثيرة كالحَمَّامات المعدنية وصناعة الحرير والطنافس وآثار الذين أسَّسوا دولة آل عثمان وغير هذا مما تراه في هذا الفصل القصير.

وأمَّا فرضة موادنيه فإنها بلدة صغيرة لا يزيد عدد الساكنين فيها عن خمسة آلاف نفس، وكل أهميتها قائمة في أنها الصلة ما بين بورصة والجهات الأخرى، فمنها تُنْقَل الأبضعة الصادرة والواردة؛ ولهذا أصبحت من المراكز التجارية المعروفة عند تجار الزيت والزيتون والعنب والكستناء والحرير والدخان، ودَخْلُ الدولة العليَّة من جمركها ليس بالشيء القليل، والمسافة بينها وبين بورصة ساعتان ونصف في القطار الحديدي كلها وسط محاسن طبيعية من الطبقة الأولى، فإن البلاد هنا جبلية والقطار يقضي مدَّة السفر في صعود ونزول وتعرُّج وتفتُّل بين هاتيك المسالك كأنَّما هو الأفعى تنساب في وسط الجبال؛ ولهذا جعلنا نتطالُّ لنمتِّع الطَّرْف بمناظر الجبل وما حوله حين كان القطار يتسلَّقه، فنرى بساتين الزيتون وكروم العنب وحقول الزرع والفاكهة، تدلُّ ثمارها الشهية على خصب الأرض وجودة التربة، ثم إذا انحدر القطار دخلنا في وادٍ شهي بهيَّة أرجاؤه ومن ورائه سهول ومروج تنشرح لمرآها الصدور وقد مُلِئَتْ زرعًا، وما زال القطار يخترق هذه المناظر ويقف في محطات صغرى آنًا بعد آخر حتى وصل بورصة فتركناه وقصدنا فندق سيدة فرنسوية عند مدخل المدينة في حديقة كثيرة الشجر والفواكه.

ولمَّا كانت بورصة مركز قوة آل عثمان في بدء عهدهم؛ فإن كثيرًا من شُهْرَتها يُنسب إلى ما فيها من الترب وآثار السلاطين السابقين؛ ولهذا فإنِّي قصدتُ تربة السلطان عثمان مشيِّد أركان هذه الدولة القوية وجدها الكريم، والتربة محاطة بسور جميل مرتفع وهي في وسط حديقة غنَّاء فيها بِرَك يتدفَّق منها الماء تُشْرِف على وادي بورصة الشهير، وقد أقام على بابها حارس أمين فَتَحَ لنا الباب حين وصولنا فدخلناها وإذا هي حسنة البناء عريضة الجوانب عالية الأركان لونها أزرق جميل ولها ثمان نوافذ، وفي سقفها ثريا بديعة الصنع مدلَّاة على شكل بهي، وفي جدرانها مصابيح جميلة والأرض مفروشة بفاخر الطنافس والضريح في الوسط بُنِيَ من الرُّخَام وغُطِّيَ بشال كشميري أبيض ثمين حسب العادة التركية، وعند الرأس عمامة كالتي كان يلبسها هذا السلطان العظيم، وقد كُتِبَ فوق الضريح تاريخ ولادة السلطان ومدة حياته وتاريخ ارتقائه العرش وتاريخ وفاته. وهنالك مصاحف قديمة وبعض الآثار النبوية، وليس يمكن لزائر هذا الضريح أن يقفَ أمامه إلا ويخطر في باله أنه واقف أمام أثر الرجل العظيم الذي أسَّس دولة من أقوى دول الأرض، فيتأثَّر الواقف لذكره وذكر أمور الدهر الذي لم يقوَ على طيِّ عظمته.

ويلي هذه التربة مدفن السلطان أورخان ابن السلطان عثمان الأول وفاتح بورصة، وهو يشبه التربة التي ذكرناها في شكلها، وإلى يمين هذا المدفن ضريح السلطان قورقور ابن السلطان بيازيد، وإلى يساره ضريح قاسم جلبي ابن السلطان أورخان، كلُّ هذه الأضرحة النفيسة في وسط حديقة بديعة — كما تقدَّم القول — غُرِسَتْ على قمَّة جبل يُشْرِف الواقف فيها على وادي بورصة وما حوله من الجبال والمزارع والوديان، والجداول تخترق هاتيك الحقول والبساتين حيث ينمو ألذ أشكال الفاكهة الكثيرة ومنظرها فاتن الجمال. وهنالك ترى جبل أولمبيا الذي مرَّ ذكره والماء يتدفَّق من جوانبه البهيَّة، فيسعى في جوانب السهل الممتد من تحته ويروي تلك الأراضي الطيبة، ناهيك عما يتدفَّق من الينابيع في قاع الوادي فتجري الجداول متشعِّبة في كلِّ ناحية ما بين الأغراس النضرة والشجر الغضيض ويحلو للمرء أن يقيم أيامًا في تلك البقعة يتفرَّج على محاسنها، فذكَّرني ذلك بمحاسن سويسرا والفرق بين الجهتين في كثرة الذين ينتابونهما، فإن أراضي سويسرا حافلة بالسائحين والمتفرِّجين يأتونها ألوفًا كل حين، وأمَّا بورصة فقليل مَنْ يزورها غير أصحاب الحاجة مع أنَّها أجود تربةً وأطيب هواءً وأعذب ماءً، وفيها غير الجمال الطبيعي تلك الحَمَّامات المعدنية، والمعيشة فيها أرخص وأسهل من المعيشة في مصايف أوروبا؛ فإن أقة العنب تُبَاع في السوق بعشر بارات، والفاكهة فيها كبيرة الحجم لذيذة الطعم رخيصة الثمن، فيا حبَّذا لو قام من يعني بتسهيل سُبُل السفر والإقامة في تلك الناحية البهيَّة.

وذهبتُ بعد ذلك إلى جامع المرادية، بناه السلطان مراد الثاني، سِرْنَا إليه برواق قام على أعمدة من الرُّخَام، وكُتِبَ فوق بابه: «يا خفيَّ الألطاف نجِّنا مما نخاف.» ومحراب الجامع من الخشب الدقيق الصنع، وعلى جدرانه قطع من القيشاني غالية المقدار، وإلى جانب هذا الجامع تربة بانيه في حديقة جميلة، والضريح مبني بالرُّخَام، وقد زرعوا في أعلاه قمحًا وفتحوا سقف البناء حتى يسقي الغمام هذا الزرع فينمو فوق عظام السلطان العظيم، وذلك قيامًا بأمره؛ لأنه أوصى أن يبْقَى قبره مفتوحًا لتمطر عليه السماء من بركاتها، وهو السلطان الذي أوْصَى قومه بفتح الآستانة وكَتَبَ ذلك بيده على لوح حُفِظَ عند ضريحه، وعند الضريح التواريخ المعتادة والشال والعمامة وبعض الآثار النبوية على مثل ما تقدَّم في وصف غيره من الأضرحة. وفي حديقة التربة أشجار قديمة العهد كبيرة الحجم يبلغ محيط بعضها ٤٠ قدمًا و٤٦، ومنها واحدة أحرق الغلمان ساقها ليجعلوا داخلها ملعبًا لهم يمكن أن تضمَّ عشرة أولاد داخل ساقها.

وقصدتُ بعد هذا الجامع الأخضر (أشل جامع) سُمِّيَ بذلك؛ لأن ظاهره بُني بالقيشاني الأخضر النفيس، وبعض آثاره باقية إلى الآن، بناه السلطان محمد الأول سنة ١٤٢٠، وهو في سفْحِ جبل يُشْرِف على وادي بورصة، وقد امتنع لمتانة بنائه على الزلازل ومرور القرون فما تهدَّم، وله شُهْرَة عظيمة في جهات السلطنة، وداخل الجامع مكسو بالقيشاني الأزرق عليه آيات قرآنية، ولهذا القيشاني ثمن عظيم؛ لأنه قلَّ وجوده وضاع سرُّ صناعته وله جمال كثير لا يمكن وصفه، والأوروبيون إذا عثروا على قطعة منه أحلُّوها محلًّا عظيمًا.

هذا أشهر ما يُذْكَر عن الأضرحة والتُّرَب العظيمة في العاصمة الأولى لسلطنة آل عثمان، ولكن شهرة المدينة الحالية قائمة بصناعتها ومتاجرها وبحماماتها المعدنية. فأمَّا الصناعة فأشهرها الحرير؛ فإن لأهل هذه المدينة علمًا دقيقًا بصناعة المناشف الحريرية، وهي مختلفة الأثمان لا يقلُّ ثمن الطاقم منها عن خمسين ليرا إذا كانت من الصنف الأول، وتُعَدُّ من أفخر المنسوجات الشرقية وأجملها، وللناس هناك عناية بزرع التوت وتربية دود القز لاستخراج الحرير، وقد نزحت عائلات فرنسوية كثيرة إلى هذه المدينة من عدَّة أعوام لإنماء هذه الصناعة، وهي تسكن في حيِّ النصارى فإن المدينة قسمان: أولهما للمسلمين وهم نحو سبعة أثمان الساكنين، والثاني للنصارى وهم الثُّمُن وأكثرهم أروام وأرمن. وفي بورصة الآن خمسون معملًا للحرير أكثر عمالها من البنات لا يقلُّ عددهنَّ عن ثلاثة آلاف بنت، قصدتُ مرة أحد هذه المعامل فرأيتُ البنات على غاية من السكينة والاحتشام يتكلَّمنَ بصوتٍ منخفض، وقد عكفن على صناعتهنَّ وعلمتُ من الإحصاء الرسمي أنَّ صادرات الحرير من بورصة تبلغ قيمتها ١٢ مليون فرنك في السنة، وليس هذا القليل على مدينة مثلها.

وأمَّا متاجر بورصة الأخرى فأهمها بالحاصلات والحبوب والفاكهة الطريَّة والناشفة. والذي يزور السهول والوديان المحيطة بهذه المدينة لا يعْجَب من اتساع تجارتها بغلَّة الأرض؛ لأن ضواحيها في كلِّ جهة ملأى بالمزارع والحقول، وقد ظهرت آثار الاعتناء إلى حدٍّ عجيب حتى إن الصخور لم تُتْرَك جرداء بل زُرِعَ فوقها شيء يستفيد منه الناس، وعلمت أنَّ أكثر الهمة في ذلك لقوم من الجراكسة هجروا بلادهم وأَقْطَعَتْهم الدولة العليَّة بعض أرضها هنا كما فَعَلَتْ في عدَّة نواحي من سلطنتها الواسعة، وقد صارت تلك الجبال جنَّات بحسن اجتهادهم واشتُهرت غلَّتها وفاكهتها شهرة زائدة كما اشتُهرت زراعة إخوانهم في جنوبي سورية، حيث أقاموا بأمر الحكومة وصيَّروا البراري جنات فسيحة تشهد لهم بالهمَّة والاجتهاد.

وأمَّا الحَمَّامات المعدنية في بورصة فهي على مسيرة ثُلُث ساعة من المدينة قصدتُّها مع الموسيو ماكسيموف — وقد مرَّ ذكره — فإذا هي سبعة مختلفة الأشكال بعضها ماؤه حديدي والبعض كبريتي يفيد في الأمراض الجلدية، وبعضها بارد الماء نقيه والبعض حار مثل أكثر الحَمَّامات المعدنية، لا تقلُّ في بعض الأحيان حرارته عن ٨٠ درجة بقياس سنتغراد. وقد أُتْقِنَ بناء هذه الحَمَّامات وأكثرها مبلَّط بالرُّخَام والخدمة فيه متقنة، ولو أنَّ وسائل الانتقال والإقامة متيسِّرة في بورصة لأمَّ هذه الحَمَّامات آلاف مؤلَّفة من السائحين تستدرُّ البلاد منهم مالًا وفيرًا في كلِّ عام؛ لأن الذين جرَّبوا ماء حمَّامات بورصة شهدوا بنفعه وجودته وفضَّلوه على ماء حمَّامات النمسا، وهي لا يُعَدُّ المتقاطرون إليها من كلِّ جهات الأرض.

ولمَّا فرغتُ من رؤية ما في بورصة خرجتُ إلى ضواحيها على جوادٍ مع ترجمان رافقني نريد الوصول إلى جبل أولمبيا، فمررنا بكثير من الربض والآجام راق لي فرْط جمالها، ورأيتُ بعض الحراج محروقًا فعلمتُ أنَّ الرعاة يفعلون ذلك لينبت عشب في موضع الشجر ترعاه مواشيهم، وكثيرًا ما كنت ألتقي بهؤلاء الرعاة وتثور كلابهم علينا مثل الضواري، وهم لا يردُّونها عنا، وأشرفتُ من سفح الجبل على عدَّة أماكن مشهورة في التاريخ القديم والحديث، منها: بحيرة أبولونيا وسهول مسينيا وجبال أيدا وطروادة، وغير هذا مما يذكِّر المرء بعِبَرِ الدهر وحوادث الأيام، حتى إذا انتهيتُ من ذلك عُدْتُ إلى الآستانة في الطريق الذي جئتُ منه، وبعد أيام رجعت إلى القُطْرِ المصري، وقد أقمتُ في الآستانة وضواحيها شهرًا كاملًا وقطعتُ المسافة بين تلك العاصمة وثغر الإسكندرية في باخرة روسية مرَّت على بيريا وهي أسكلة أثينا، وما نزلنا لنراها بسبب الحجر الصحي، ثم وصلنا ميناء الإسكندرية حيث استقرَّ بي النَّوى بعد سفر طويل وسياحة عظيمة رأيتُ فيها من مشاهد أوروبا شيئًا كثيرًا، فما سطرت منه في هذه الفصول إلا القليل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤