إلمامة

١

قلت في كتاب مصارع الخلفاء:

ليس أروع للنفس من تمثل مصارع الناس، والاستماع إليهم في ساعاتهم الأخيرة وتعرف ما قالوه — وقت حلول الأجل — وآخر ما تفوهوا به من الكلم قبل أن يفارقوا هذا العالم — خيره وشره — فراقًا أبديًّا لا عودة لهم بعده.

واذا كان هذا هو شعورنا بجلال الموت وروعته، فلا جرم أنه يعظم ويزداد — إلى أقصى حد — حين يقترن بعظمة الملك وأبهته.

وليس أشجى للنفس من تمثل مصرع خليفة أو قائد كبير أو شاعر عظيم من أولئك الذين تركوا في هذا العالم أكبر أثر، ونقشوا في تاريخه صفحات لا يمحوها الزمن.

ولعل خير ساعة يستعرض فيها المتأمل تاريخ حياة إنسان هي ساعة احتضاره، فإنه ليرى — حينئذ — أمام كل صورة من صور الضعف صورة أخرى من صور القوة، ويلمح بجانب تلك الصور المشجية الحزينة ما يقابلها من الصور الماضية البسامة المشرقة.

٢

وقد كانت هذه التأملات — هي الباعث الأول الذي حداني — كما قلت في تلك المقدمة لإخراج كتاب «مصارع الخلفاء» أولًا وكتاب «مصارع الأعيان» الذي بين أيدي القراء الآن.

وقد حاولت جهدي — كما ذكرت — أن أدون فيهما طائفة من أروع المشاهد التي ذكرها لنا التاريخ، كما حاولت أن أرسم في ذهن القارئ صورًا واضحة مشرقة بالحياة، ولعلي وفقت — في هذه المحاولة — بعض التوفيق.

•••

وقد سلكت في هذا الكتاب نهج سابقه متوخيًا الإيجاز الشديد في عرض حوادثه وتعليلها، فأنا أعرف زهد الكثيرين وعزوفهم عن قراءة التاريخ المطول، وأعلم — إلى ذلك — أنني إذا أفلحت في تحبيب التاريخ إلى نفوس بعض النافرين منه، بنشر مثل هذه الصور الرائعة التي تركها لنا المؤرخون، فقد أدركت غاية من أجل الغايات التي أسعى إلى تحقيقها.

•••

وقد لقي كتاب «مصارع الخلفاء» من عطف القراء وإقبالهم ما فاق كل ما قدرته له، وألح عليَّ الكثيرون — وفي مقدمتهم حضرة الصحفي القدير ناشر الكتاب الذي أشكر له حسن ظنه بأدبي — أن أسرع بإنجاز هذا الكتاب، وأنا أشكر لحضرات القراء إقبالهم وتشجيعهم، كما أشكر لصديقي الأستاذ سليم قبعين عنايته بإظهار هذا الكتاب في أحسن مظهر، وحسن ظنه بصاحبه، وأرجو أن لا تكون حالي معه كما يقول الحريري:

لقد استسمنت ذا ورم ونفخت في غير ضرم.

ولا كما يقول المتنبي:
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

على أنني بذلت جهد المقل، ولم يثنني عن إظهار هذا الكتاب ضيق الوقت وازدحامه بما تنوء به صحتي المعتلة وبنيتي الضعيفة من الأعباء المرهقة، متأسيًا بقول الطغرائي:

«ولولا تكاليف العلى ومغارم
ثقال وأعقاب الأحاديث في غد
لأعطيت نفسي في التخلي مرادها
فذاك مرادي — مذ نشأت — ومقصدي»
كامل كيلاني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤