مصرع عبد الله بن الزبير

فجاءه حجر من حجارة المنجنيق وهو يمشي فأصاب قفاه فسقط.

المؤرخون

(١) الليلة الأخيرة

جمع القرشيين في الليلة التي قتل في صبيحتها فقال لهم: «ما ترون؟»

فقال رجل منهم: «والله لقد قاتلنا معك حتى ما نجد مقاتلًا! والله لئن صبرنا معك ما نزيد على أن نموت معك. إنما هي إحدى خصلتين: إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا ولك، وإما أن تأذن لنا فنخرج!»

فقال عبد الله: «قد كنت عاهدت الله ألا يبايعني أحد فأقيله بيعته.»

فقال رجل آخر: «اكتب إلى عبد الملك.»

فأجابه: «كنت أكتب إليه: «من عبد الله أمير المؤمنين» فوالله لا يقبل هذا مني أبدًا. أو أكتب إليه: «لعبد الله أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير؟»١ فوالله لأن تقع الخضراء على الغبراء أحب إليَّ من ذلك!»

حواره مع أخيه

فقال «عروة» أخوه: «يا أمير المؤمنين، قد جعل الله لك أسوة.»

فقال له: «من هو أسوتي؟»

قال: «الحسن بن علي بن أبي طالب، خلع نفسه وبايع معاوية.»

قالوا: فرفع عبد الله بن الزبير رجله وضرب «عروة» حتى ألقاه، ثم قال: «يا عروة، قلبي إذن مثل قلبك؟ والله لو قبلت ما تقولون ما عشت إلا قليلًا وقد أخذت الدنية، وما ضربةٌ بسيف إلا مثل ضربة بسوط! لا أقبل شيئًا مما تقولون.»

(٢) في اليوم الأخير

فلما أصبح دخل على بعض نسائه فقال: «اصنعي لي طعامًا.»

فصنعت له كبدًا وسنامًا، فأخذ منها لقمة فلاكها ساعة ثم لم يسغها، فرماها.

وقال: «اسقوني لبنًا.» فأتي بلبن فشرب، ثم قال: «صبرًا عليَّ غسلًا.»

فاغتسل، ثم تحنط وتطيب. ثم تقلد سيفه وخرج وهو يقول:

ولا ألين لغير الحق أسأله
حتى يلين لضرس الماضغ الحجر

حواره مع أمه

ثم دخل على أمه «أسماء بنت أبي بكر الصديق» — وهي عمياء من الكبر قد بلغت من السن مائة سنة — قالوا: فدخل عليها وسلم، فقالت: «من هذا؟» فقال: «عبد الله.» ثم قال: «ما ترين؟ قد خذلني الناس، وخذلني أهل بيتي!»

فقالت: «يا بني، لا يلعبن بك صبيان بني أمية، عش كريمًا ومت كريمًا!»

فقال لها: «إن الحجاج قد أمنني.»

قالت: «يا بني، لا ترض الدنية؛ فإن الموت لا بد منه.»

قال: «إني أخاف أن يمثل بي!»

قالت: «إن الكبش إذا ذبح لا يؤلمه السلخ!»

ساعة المصرع

قالوا: فخرج، فأسند ظهره إلى الكعبة — ومعه نفر يسير — فجعل يقاتل بهم أهل الشام، فهزمهم وهو يقول: «ويل أمه، فتح لو كان له رجال.»

فجعل «الحجاج» يناديه: «قد كان لك رجال، ولكنك ضيعتهم.»

قالوا: «فجاءه حجر من حجارة المنجنيق — وهو يمشي — فأصاب قفاه فسقط.» فما درى أهل الشام أنه هو حتى سمعوا جارية تبكي وتقول: «وا أمير المؤمنين!» فاحتزوا رأسه، فجاءوا به إلى الحجاج، فبعث به إلى عبد الملك.

(٣) الأسباب التي أدت إلى مصرعه

إن فيه لثلاث خصال، لا يسود بها أبدًا:
  • (١)

    عجب قد ملأه.

  • (٢)

    واستغناء برأيه.

  • (٣)

    وبخل التزمه.

فلا يسود بها أبدًا.
عبد الملك بن مروان

لا نستطيع أن نصف أسباب انكسار ابن الزبير وقتله بأكثر من هذه الخلال التي لا ينال صاحبها نجاحًا، فقد أفقدته هذه الصفات كل أنصاره وأضاعت منه فرصًا ثمينة، لو انتهزها لعرف كيف يثبت ملكه ويوطد أسس خلافته.

فقد لاحت لعبد الله بن الزبير فرصة لا تعوض، وهي موت خصمه اللدود «يزيد» وبدأت الأمور تضطرب حين تنازل خلفه معاوية عن الخلافة بعد أن لبث فيها أيامًا.

وكاد يتم الأمر لعبد الله بن الزبير — رغم مناوأة مروان الذي نازعه الأمر — وكانت كفة ابن الزبير في البداية راجحة، فقد بايعه أهل البصرة وأهل مصر واجتمعت له العراق والحجاز واليمن وبايع له بعضهم في الشام سرًّا. ثم أصبح الناس في الشام فرقتين: اليمانية مع مروان، والقيسية مع دعاة ابن الزبير.

وتهاون ابن الزبير في الأمر واستنام لأعدائه، فانتصر الفريق الأول — بعد قتال — ودخل مروان دمشق دخول الظافر.

ولما مات مروان لاحت لعبد الله بن الزبير فرصة أخرى، فلم ينتهزها وأضاعها بتوانيه وبخله. ولقد صدق الحجاج في قولته المشهورة:

قد كان لك رجال ولكنك ضيعتهم.

وصدق عبد الملك بن مروان في قولته التي صدرنا بها هذا الفصل، حين هدده مصعب بن الزبير بأخيه عبد الله، فأجابه عبد الملك بهذه الجملة التي تلخص لنا أخلاق عبد الله بن الزبير، وتشرح لنا — بأوجز عبارة — السر في انهزامه وانفضاض الناس من حوله وانتصار خليفة أموي عليه — رغم كره جمهرة الناس ومقتهم الأمويين — لاعتقادهم أنهم أخذوا الخلافة اغتصابًا، وقتلوا الحسين بن علي كما جنوا على أبيه، وأوقدوا نيران الفتن التي أودت بكثير من أجلّ المسلمين وكبار رجالهم المعدودين.

ولقد قال عبد الملك وهو على فراش الموت: «ما أعلم أحدًا أقوى على الخلافة مني؛ إن ابن الزبير لطويل الصلاة كثير الصيام، ولكنه لبخله لا يصلح للسياسة.»

•••

والحق أن الفرق بين عبد الملك وبين ابن الزبير عظيم جدًّا، نوجزه في أن عبد الملك أقام ملكًا ثابتًا على أنقاض مهدمة، وفي وسط فتن وقلاقل، حينما هدم ابن الزبير ملكًا وطيدًا بتهاونه وإضاعة الفرص الثمينة التي مرت به. كان عبد الملك لا يتعفف عن كبيرة في سبيل توطيد ملكه، وكان خصمه عبد الله بن الزبير يتحرج من كل ما يظن فيه أية مخالفة.

ألا ترى أن عبد الملك يظهر لعمرو بن سعيد أنه يرضى بالصلح معه على أن يعهد إليه بالخلافة من بعده، فيفرح ابن سعيد بذلك ويقبل الصلح، ثم يخدعه عبد الملك فيقتله غدرًا،٢ ثم يلقي برأسه إلى شيعته وصحبه ومعها دنانير ودراهم ليشغلهم بها، ويمنيهم بالوعود الخلابة فينسيهم بهذه الرشا ثأر صاحبهم؟
فقد كان عبد الملك — كأكثر خلفاء بني أمية — جوادًا سمحًا يغدق المال إغداقًا في سبيل تحقيق مآربه، ويبذل الوعود الكاذبة والأماني المعسولة ليظفر بغايته، غير متورع عن كذب ولا مداهنة، مستهينًا بكل وسيلة — مهما كانت مرذولة — في سبيل إدراك أوطاره. وكان عبد الله بن الزبير كأخيه «مصعب بن الزبير»٣ بخيلًا، لا يستميل الجنود بمال، ولا يغريهم بوعد كاذب.

كان عبد الملك — كمعاوية — يعتقد ضعف مركزه الشرعي فلا يترك وسيلة لتثبيته وتوثيق أساسه.

وكان عبد الله بن الزبير — كعلي بن أبي طالب — يعتقد أنه على حق فلا يعنى بالحيل السياسية، واهمًا أن الحق منتصر وحده، دون أن يفتقر إلى مداورة أو خداع.

لقد كان عبد الملك يقتدي بمعاوية في بذل المال واستخدامه في قضاء أغراضه، لتيقنه من سحره العجيب في تذليل العقبات، وتسهيل الصعاب.

وكثيرًا ما اقتدى بعبد الملك عماله في استخدام المال في تذليل المستحيلات.

•••

ألا ترى إلى الحجاج — وهو يحاصر الكعبة، وفيها عبد الله بن الزبير — فيأمر رجاله أن يرموها بالمنجنيق، فيحجمون، فإذا رأى ترددهم جاء بكرسي وجلس عليه وقال: «يا أهل الشام، قاتلوا على أعطيات عبد الملك.»

فلا يكادون يسمعون منه ذلك حتى يسرعوا إلى تلبية أمره إسراعًا.

•••

لقد أغفل عبد الله استخدام المال — كما أسلفنا — واكتفى بأن يعلم أنه محبوب من الناس، وأن أعداءه الأمويين مبغضون إليهم، وأنه في جانب الحق والأمويون في جانب الباطل.

ونسي أن الباطل إذا تعهده المبطل وقوى دعائمه وثبت أركانه تغلب — ولو إلى حين — على الحق الذي أهمله صاحبه واستهان بنصرته ولم يعن بتدعيمه.

ومن رعى غنمًا في أرض مأسدة
ونام عنها، تولى رعيها الأسد

لقد كان عبد الله بن الزبير شجاعًا مقدامًا لا يهاب الموت، ولكن ماذا تجديه الشجاعة أمام الدهاء السياسي والحيل العجيبة التي كان يلجأ إليها أعداؤه؟

والرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول، وهي المحل الثاني

(٤) حصار مكة

حاصرت جنود يزيد مكة وقذفت الكعبة بالحجارة والصخور ثم أحرقتها وحطمت الحجر الأسود، ومات يزيد فاضطر جنوده — بقيادة الحصين — إلى الرجوع إلى بلادهم مدة من الزمن، حتى إذا انقضت الفوضى وقمعت الاضطرابات وأخضع عبد الملك البلاد إخضاعًا وجه الحجاج إلى مكة لمحاصرة عبد الله بن الزبير ففعل.

قال العلامة دوزي: «ذهب الحجاج إلى تلك البقاع المقدسة وحاصر المدينة٤ وطفق يرمي الكعبة بالصخور والحجارة ليدكها دكًّا.

وبينما كان يقذفها بالنار — ذات يوم — هبت عاصفة شديدة فأحرقت النار اثني عشر جنديًّا.» قال: فرأى الجيش في ذلك عقابًا من الله على انتهاك حرمة ذلك المكان المقدس فأحجم رجال الحجاج وكفوا عن ذلك. وثمة اغتاظ الحجاج وخلع بعض ملابسه وتقدم من المنجنيق فأخذ بيده حجرًا ووضعه فيه ثم أطلقه بعد ذلك وهو يقول: «لقد أخطأتم الفهم، فليس معنى ما حدث هو ما دار بإخلادكم. ألا إنني جد خبير بطبيعة هذه البلاد التي نشأت فيها وربيت، ولكم رأيت لهذه العاصفة من أشباه!»

قال: «وظل يشدد الحصار عليها عدة أشهر حتى فتحها بعد أن قتل عبد الله بن الزبير سنة ٩٣٢م.»

•••

وحسب القارئ أن يعرف أن خصم عبد الله بن الزبير هو الحجاج ليدرك حرج الموقف وصعوبته، ونحسبنا في غير حاجة إلى وصف الحجاج. بعد أن وصفه الفرزدق بقوله:

ومن يأمن الحجاج — والجنُّ تتقي
عقوبته — إلا ضعيف عزائمه

وقد رأى القارئ كيف أغرى الحجاج جنوده بالمال وأطمعهم في أعطيات عبد الملك ليشجعهم على اقتحام هذه البقاع المقدسة ودكها دكًّا.

وقد انتهت المعركة الفاصلة بهلاك عبد الله بن الزبير وانتصار الأمويين عليه كما رأيت.

هوامش

(١) قتل في ١٧ جمادى الأولى سنة ٧٣ﻫ.
(٢) مصرع عمرو بن سعيد
قالوا: إن عبد الملك حينما تحفز لقتال ابن الزبير، وخرج من دمشق أغلق عمرو بن سعيد بابها فقيل لعبد الملك: «ماذا تصنع؟ أتذهب إلى أهل العراق وتدع دمشق؟ أهل الشام أشد عليك من أهل العراق.» قالوا: فأقام مكانه فحاصر أهل دمشق أشهرًا حتى صالح عمرو بن سعيد على أنه الخليفة بعده، ففتح دمشق. ثم أرسل عبد الملك إلى عمرو — وكان بيت المال في يد عمرو — أن أخرج للحرس أرزاقهم. فقال عمرو: «إن كان لك حرس فإن لنا حرسًا.» فقال عبد الملك: «أخرج لحرسك أرزاقهم أيضًا.» قالوا: وفي إحدى الليالي أرسل عبد الملك إليه — في نصف الليل — فلما أراد الذهاب إليه قالت له امرأته: «لا تذهب إليه فإني متخوفة عليك وإني لأجد ريح دم مسفوح.» ولم تزل تلح عليه حتى سئم إلحاحها، ثم ضربها بقائم سيفه فشجها، فتركته. وأخرج معه أربعة آلاف رجل من أهل دولته — لا يقدر على مثلهم — متسلحين، فأحدقوا بخضراء دمشق — وفيها عبد الملك بن مروان — فقالوا لعمرو: «إذا دخلت على عبد الملك، ورابك منه شيء، فأسمعنا صوتك.» فقال لهم: «إن خفي عليكم صوتي ولم تسمعوه فالزوال بيني وبينكم ميعاد. إن زالت الشمس ولم أخرج إليكم فاعلموا أني مقتول أو مغلوب فضعوا أسيافكم ورماحكم حيث شئتم، ولا تغمدوا سيفًا حتى تأخذوا بثأري من عدوي.» ثم دخل، وجعلوا يصيحون: «يا أبا أمية، أسمعنا صوتك.» وكان معه غلام أسحم شجاع فقال له: «اذهب للناس فقل لهم: ليس عليهم من بأس.» وإنما أراد بذلك أن يسمع عبد الملك أن وراءه ناسًا. فقال له عبد الملك: «أتمكر يا أبا أمية عند الموت؟ خذوه!» ثم نشروه إلى الأرض نشرة فكسرت ثنيته، فجعل عبد الملك ينظر إليه. فقال عمرو: «لا عليك يا أمير المؤمنين عظم انكسر.» فقال عبد الملك لأخيه عبد العزيز: «اقتله حتى أرجع اليك.» فلما أراد عبد العزيز أن يضرب عنقه قال له عمرو: «تمسك بالرحم يا عبد العزيز، أنت تقتلني من بينهم؟» فتركه، فجاء عبد الملك فرآه جالسًا، فقال له: «لمَ لم تقتله لعنه الله ولعن أمًّا ولدته.» فقال له: «إنه تمسك بالرحم فتركته.» فأمر جلادًا عنده فضرب عنقه. ثم أدرجه في بساط ثم أدخله تحت السرير.

•••

فدخل عليه «قبيصة بن ذؤيب الخزاعي» وكان أحد الفقهاء وكان رضيع عبد الملك وصاحب خاتمه ومشورته، فقال عبد الملك: «كيف رأيك في عمرو بن سعيد؟» فأبصر «قبيصة» رجل عمرو تحت السرير فقال: «اضرب عنقه يا أمير المؤمنين.» فقال عبد الملك: «جزاك الله خيرًا، فما علمتك الا ناصحًا إلينا موفقًا.» ثم قال له: «فما ترى في هؤلاء الذين أحدقوا بنا وأحاطوا بقصرنا؟» قال قبيصة: «اطرح رأسه إليهم يا أمير المؤمنين، ثم اطرح عليهم الدنانير والدراهم يتشاغلون بها.» فأمر عبد الملك برأس عمرو أن تطرح إليهم من أعلى القصر، فطرحت إليهم، وطرحت الدنانير ونثرت الدراهم، ثم هتف عليهم الهاتف ينادي: «إن أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ، ولكم على أمير المؤمنين عهد الله وميثاقه أن يحمل راجلكم ويكسو عاريكم ويغني فقيركم، ويبلغكم إلى أكمل ما يكون من العطاء والرزق، ويبلغكم إلى المئتين في الديوان.» فصاحوا به: «نعم نعم، سمعًا وطاعة لأمير المؤمنين.»

•••

وهكذا غدر عبد الملك بن مروان بعدوه — بعد أن عاهده على الصلح — ولم يبال بميثاقه وعهده.
(٣) كذلك كان أخوه مصعب بن الزبير بخيلًا على الجند، وإن كان مصعب مبذرًا في شئونه الخاصة مسرفًا على نفسه وأهله. فقد روى المؤرخون أنه أنفق ألف ألف درهم في زواج سكينة بنت الحسين. والعجيب أنه أنفق هذا المال كله في الوقت الذي كان جنوده يطلبون منه المال فلا يعطيهم. وقد كتب أحد الشعراء إلى عبد الله بن الزبير يقول:
بلغ أمير المؤمنين رسالة
من ناصح لك لا يريد خداعا
بَضْعُ الفتاة بألف ألف كامل
وتبيت سادات الجنود جياعا
(٤) قالوا: «وكان السبب في توجيهه الحجاج إلى ابن الزبير دون غيره — فيما ذكر — أن عبد الملك لما أراد الرجوع إلى الشام قام إليه الحجاج بن يوسف فقال: «يا أمير المؤمنين إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه وولني قتاله.» فبعثه في جيش كثيف من أهل الشام، فسار حتى قدم مكة. وقد كتب إليهم عبد الملك بالأمان ليدخلوا في طاعته.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤