مصارع الخوارج

(١) مصرع صالح بن مسرح١

فلما شد عليهم الحارث بن عميرة في جماعة أصحابه انكشف سويد وضارب شبيب حتى صرع، وثبت صالح بن مسرح فقتل.

(١-١) كيف أوقد نار الفتنة

ما أدري ما تنتظرون؟

حتى متى أنتم مقيمون؟

هذا الجور قد فشا، وهذا العدل قد عفا، ولا تزداد الولاة على الناس إلا غلوًّا وعتوًّا وتباعدًا عن الحق وجرأة على الرب، فاستعدوا وابعثوا إلى إخوانكم الذين يريدون من إنكار الباطل والدعاء إلى الحق مثل الذي يريدون، فيأتوكم فنلتقي وننظر فيما نحن صانعون، وفي أي وقت إن خرجنا نحن خارجون.

صالح بن مُسرَّح

هكذا كان يوقد صالح نار الفتنة ويحتث أصحابه من الخوارج ويذيع دعوته بين الناس ويتخذ من زهده ونسكه — أو من تظاهره بالزهد والنسك على الأصح — وسيلة إلى استنفار المسلمين لقتال إخوانهم من المسلمين وتمزيق وحدتهم وشق عصا الطاعة على الحكام، وإيقاظ نار فتنة هوجاء طالما أيقظها أضرابه من الخوارج، فشغلت الأمم الإسلامية بعضهم ببعض، وأضاعت من قواها ما لو وجهت بعضه إلى الغزو لتضاعف انتصارها أو إلى الإصلاح لأتى بأطيب الثمار.

نموذج من قصصه

وإليك نموذجًا من قصصه الذي كان يذيعه بين الناس مؤيدًا به مذهبه ووجهة نظره، فقد كان يكثر من حمد الله والصلاة على نبيه وعلى أبي بكر وعمر ليمهد بذلك إلى الطعن على عثمان وعلى كافة المسلمين، والتحريض على سفك الدماء وقتل الأبرياء، ومما نذكره من كلامه قوله: إن فراق الفاسقين حق على المؤمنين، قال تعالى في كتابه: وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ.

إلى أن يقول: «ألا إن من نعمة الله على المؤمنين أن بعث فيهم رسولًا من أنفسهم، فعلمهم الكتاب والحكمة وزكاهم وطهرهم ووفقهم في دينهم، وكان بالمؤمنين رءوفًا رحيمًا. حتى قبضه الله ثم ولي بعده النقي الصديق — على الرضى من المسلمين — فاقتدى بهديه واستن بسنته حتى لحق بالله — رحمه الله — واستخلف عمر فولاه الله أمر هذه الرعية، فعمل بكتاب الله وأحيا سنة رسول الله ولم يخف في الله لومة لائم حتى لحق به رحمة الله عليه.»

ومتى أتم مدحه الرسول وخليفتيه انتقل إلى بيت القصيد الذي مهد إليه بهذا التمهيد، وهو الطعن على كل مسلم لا يرى رأي الخوارج وسب الخليفتين عثمان وعلي ومن تلاهما من الخلفاء، فيقول: «وولي المسلمين — من بعده — عثمان فاستأثر بالفيء وعطل الحدود وجار في الحكم واستذل المؤمن وعزز المجرم، فسار إليه المسلمون فقتلوه فبرئ الله منه ورسوله وصالح المؤمنين.

وولي أمر الناس — من بعده — علي بن أبي طالب فلم ينشب أن حكم في أمر الله الرجال، وشك في أهل الضلال، فنحن من عليّ وأشياعه برآء.»

ومتى انتهى من هذه المرحلة الثانية، وهي الطعن على عثمان وعلي ومن سار على أثرهما، اتخذ من طعنه تكأة للوصول إلى غرضه الذي أراد التمهيد إليه، وهو الثورة وإشعال نار الفتنة عن طريق التظاهر بالغضب للدين والغيرة عليه والحث على طاعة الله، فيقول: «فتيسروا — رحمكم الله — لجهاد هذه الأحزاب المتحزبة وأئمة الضلال الظلمة، وللخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق إلى إخواننا المؤمنين الموقنين الذين باعوا الدنيا بالآخرة، وأنفقوا أموالهم التماس رضوان الله في العاقبة.

ولا تجزعوا من القتل في الله فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم غير ما ترجم الظنون، فمفرق بينكم وبين آبائكم وأبنائكم وحلائلكم ودنياكم، وإن اشتد لذلك كرهكم وجزعكم.

ألا فبيعوا الله أنفسكم وأموالكم طائعين تدخلوا الجنة آمنين وتعانقوا الحور العين.

جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.»

كتاب شبيب إلى صالح

نشط أصحاب صالح يذيعون دعوته ويتراسلون، وإنهم لكذلك إذ جاءهم كتاب من شبيب بن يزيد يحتثهم على الإسراع في الجهاد، ويقول لصالح:

أما بعد فقد علمت أنك أردت الشخوص، وقد كنت دعوتني إلى ذلك فاستجبت لك، فإن كان ذلك اليوم من شأنك فأنت شيخ المسلمين ولن نعدل بك منا أحدًا، وإن أردت تأخير ذلك اليوم أعلمتني، فإن الآجال غادية ورائحة ولا آمن أن تخترمني المنية ولما أجاهد الظالمين. فيا له غبنًا ويا له فضلًا متروكًا.

جعلنا الله وإياك ممن يريد بعمله الله ورضوانه والنظر إلى وجهه ومرافقة الصالحين في دار السلام. والسلام عليك.

رد صالح على شبيب

وقد كتب إليه صالح يقول:

أما بعد، فقد كان كتابك وخبرك أبطأ عني حتى أهمني ذلك، ثم إن امرأ من المسلمين نبأني بنبأ مخرجك ومقدمك فنحمد الله على قضاء ربنا.

وقد قدم عليَّ رسولك بكتابك فكل ما فيه قد فهمته، ونحن في جهاز واستعداد للخروج، ولم يمنعني من الخروج إلا انتظارك، فأقبل إلينا ثم اخرج بنا متى أحببت، فإنك ممن لا يُستغنى عن رأيه ولا تُقضى دونه الأمور. والسلام عليك.

انضمام شبيب إلى صالح

لم يكد يصل كتاب صالح إلى شبيب حتى بعث إلى نفر من أصحابه فجمعهم إليه ثم خرج إلى صالح فلما لقيه قال له: «اخرج بنا — رحمك الله — فوالله ما تزداد السنة إلا دروسًا ولا يزداد المجرمون إلا طغيانًا.»

فأجابه صالح إلى ذلك وبعث إلى أصحابه وواعدهم الخروج في هلال صفر سنة ٧٦. فلما كانت الليلة التي اتفقوا عليها اجتمعوا وخرج صالح بهم وكانوا مائة وعشرين رجلًا.

دواب محمد بن مروان

هذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق فابدءوا بها فشدوا عليها فاحملوا أرجلكم وتقووا بها على عدوكم.

صالح

ولقد كانوا متعطشين إلى الشر فبدءوا عدوانهم بأخذ تلك الدواب فحملوا رجالتهم عليها وصاروا فرسانًا، وتحصن منهم أهل دارا وأهل نصيبين.

المعركة الأولى

واستخف بهم محمد بن مروان حين بلغه أمرهم فبعث إليهم أحد قواده٢ في ألف رجل. وأراد القائد أن يهادنهم فبعث إليهم رسولًا يخبرهم أنه يلقاهم وهو كاره، ويطلب إليهم أن ينصرفوا عن هذا البلد إلى غيره، فحبسوا الرسول ودهموا ذلك الجيش — وهو على غير تعبئة وقائدهم يصلي الضحى — فهزموه وهرب عديٌّ وأصحابه وانتهبوا أموالهم وأسلابهم.

الموقعة الثانية

لم يكد يعلم محمد بن مروان بهزيمة الجيش حتى غضب وأرسل قائدين من قواده على جيشين: عدد كل جيش منهما ألف وخمسمائة فارس وطلب إلى القائدين التعجيل بالخروج إليه، وقال لهما: «اخرجا إلى هذه الخارجة الخبيثة، وعجلا الخروج وأغذا السير، فأيكما سبق صاحبه فهو الأمير على صاحبه.»

قالوا: فخرجا من عنده فأغذا السير وجعلا يسألان عن صالح بن مسرح فيقال لهما: «إنه توجه نحو آمد.»

فاتبعاه حتى انتهيا إليه — وقد نزل على أهل آمد — فنزلا ليلًا فخندقا وانتهيا إليه — وهما متساندان — كل واحد منهما في أصحابه على حدته. فوجه صالح شبيبًا إلى أحدهما في شطر أصحابه وتوجه إلى الآخر في الشطر الثاني.

رواية شاهد عيان

وبدأ القتال من العصر إلى المساء.

قال أحد أصحاب صالح: صلى بنا صالح العصر ثم عبأنا لهم فاقتتلنا كأشد قتال اقتتله قوم قط. وجعلنا — والله — نرى الظفر، يحمل الرجل منا على العشرة منهم فيهزمهم وعلى العشرين فيهزمهم. وجعلت خيلهم لا تثبت لخيلنا. فلما رأى أميراهم ذلك ترجلا وأمرا جلَّ من معهما فترجل. فعند ذلك جعلنا لا نقدر منهم على الذي نريد.

إذا حملنا عليهم استقبلتنا رجالتهم بالرماح ونضحتنا رماتهم بالنبل، وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك، فقاتلناهم إلى المساء حتى حال الليل بيننا وبينهم وقد أفشوا فينا الجراحة وأفشيناها فيهم.

ووالله ما أمسينا حتى كرهناهم وكرهونا، وقد قتلوا منا نحوًا من ثلاثين رجلًا وقتلنا منهم أكثر من سبعين، فوقفنا مقابلهم ما يقدمون علينا وما نقدم عليهم. فلما أمسوا رجعوا إلى عسكرهم ورجعنا إلى عسكرنا.

وقد اجتمع صالح وأصحابه للشورى فقال شبيب: «إنا قد لقينا هؤلاء القوم فقاتلناهم وقد اعتصموا بخندقهم، فلا أرى أن نقيم عليهم.»

فوافقه صالح على رأيه وخرجوا في ليلتهم سائرين حتى وصلوا إلى أرض الموصل ثم قطعوها ومضوا حتى قطعوا الدسكرة.

الموقعة الحاسمة

ولم يكد يعلم الحجاج بذلك حتى بعث إليهم «الحارث بن عميرة» في ثلاثة آلاف رجل، فلقيهم في إحدى قرى الموصل — وصالح في تسعين رجلًا — فعبأ صالح أصحابه في ثلاثة كراديس في كل كردوس ثلاثون رجلًا؛ فهو في كردوس وشبيب في كردوس في ميمنته وسويد في كردوس في الميسرة.

مصرع صالح

قالوا: «فلما شد عليهم الحارث بن عميرة — في جماعة أصحابه — انكشف سويد وثبت صالح بن مسرح فقتل وضارب شبيب حتى صرع.»٣

(٢) مصرع شبيب٤

فأقبل شبيب على فرسه — وكانت بين يديه فرس أنثى — فنزا عليها فرسه وهو فوق الجسر فاضطربت ونزل حافر فرسه على حرف السفينة فسقط في الماء وسقط معه شبيب — وهو مثقل بالحديد من درع ومغفر وغيرهما — فقال: لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.

وارتمس في الماء ثم ارتفع فقال له بعض أصحابه وهو يغرق: «أغرقًا يا أمير المؤمنين؟!»

فقال: ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.

(٢-١) شجاعة شبيب

ليت شعري أي مصرع كان يلقاه شبيب لو لم يهلك غرقًا؟

لقد كان شبيب قوة لا تقهر، وقد أظهر من ضروب البسالة والإقدام ما سلكه في عداد القوم العالمين الذين كتبوا في سجل الخلود، ولست أدري إلى أي مدى كان يتغير التاريخ الاسلامي لو لم يعاجله القضاء.

ويأتي قضاء ما لكم عنه حاجز
فألقوا إلى مولاكم بالمقالد

لقد كان يهزم الجيش المكون من ألوف الفرسان وهو — في عشرات من رجاله — وكان مُلهم الخاطر فطنًا بطرق النصر، بطلًا في انتصاره وهزيمته على السواء، لا يكاد يرى أن حربه مع خصمه غير مجدية حتى يولي وجهه إلى مكان آخر تجدي فيه الشجاعة والإقدام، ولا يضعف إلا ريثما يستريش وينجبر ويعود بعد قليل من الزمن أقوى منه من قبل. ومن الناس من تقرأ تاريخه فتشعر من أعماق نفسك أن مثل هذا لا يغلب ولا سبيل إلى هزيمته، ولو تألبت عليه قوى الأرض كلها، وهذا هو شعور كل من يتتبع أخبار شبيب وحروبه المظفرة.

ولو كان شبيب رجلًا غربيًّا لكان رجلًا عالميًّا لا يجهله أحد من خاصة الناس وعامتهم في أقطار الأرض قاطبة، ولكنه عربي أولًا، وخارجي ثانيًا.

(٢-٢) النصر الأول

رأينا في مصرع صالح بن مسرح كيف انتهت الموقعة الأخيرة بقتل صالح وكادت تنتهي بقتل شبيب معه، فقد صرع عن فرسه، ولكن شجاعته الخارقة لم تفته في هذا الموطن الحرج، فشد على أعدائه فكشفهم، ثم نادى أصحابه فلاذوا به فقال لهم: «ليجعل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه وليطاعن عدوه إذا أقدم عليه؛ حتى ندخل هذا الحصن ونرى رأينا.»

وقد استطاع أصحابه — وعدتهم سبعون رجلًا — أن يصلوا إلى الحصن ويدخلوه بفضل هذه النصيحة الحكيمة، وكان ذلك في المساء. ولم يلبثوا في الحصن إلا قليلا حتى قال لهم شبيب: «ما تنتظرون؟ فوالله لئن صبحكم هؤلاء غدوة إنه لهلاككم.»

فقالوا له: «مرنا بأمرك.»

فقال لهم: «إن الليل أخفى للويل، بايعوا من شئتم ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم، فإنهم لذلك منكم آمنون وأنا أرجو أن ينصركم الله عليهم.»

قالوا له: «فابسط يدك فلنبايعك.»

فبايعوه، ثم خرجوا، فلم يشعر أعداؤهم إلا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم، فضاربوهم حتى صرع قائدهم «الحارث» فاحتمله أصحابه وانهزموا وخلوا لهم المعسكر وما فيه.

وهكذا استطاع شبيب — بفضل شجاعته وإقدامه وبعد نظره — أن يغنم موقعة خاسرة وأن ينتصر في موقف كل ما فيه ينطق بأن الهزيمة لا بد حائقة به، والخذلان لا بد مكتوب عليه، كما استطاع أن يهزم الجيش الذي قتل صالحًا وكاد يقضي على أصحاب صالح وشبيب، وتم لشبيب النصر بفضل إقدامه وحزمه.

قالوا: «وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب.»

(٢-٣) نصر جديد

وعظم أمر شبيب بعد هذه الوقعة، ولم يلبث أن رأى فيه الحجاج مناوئًا خطرًا وخصمًا لدودًا، وبعث الحجاج إلى «سفيان الخثعمي» أن يسير حتى ينزل بالدسكرة فيمن معه، ثم يقيم حتى يأتيه جيش الحارث بن عميرة الهمداني «الذي قتل صالح بن مسرح» فيسيروا جميعًا إلى شبيب لمناجزته.

ولكن سفيان عجل الارتحال في طلب شبيب فلحقه بخانقين في سفح جبل.

قالوا: وأصحر لهم شبيب ثم ارتفع عنهم — كأنه يكره لقاءه — وكان شبيب قد أكمن له أخاه ومعه خمسون، فحسبوا شبيبًا قد هرب فأسرعوا خلفه، حتى إذا جازوا الكمين عطف عليهم وخرج الكمين من خلفهم، فحمل شبيب عليهم من أمامهم وصاح بهم الكمين من ورائهم، فكانت الهزيمة لهم والنصر لشبيب. وقد خر سفيان بين القتلى ثم حمل جريحًا، بعد أن استبسل في قتاله، وأخبر الحجاج بما كان من أمره فقبل عذره وكتب إليه الحجاج:

أما بعد فقد أحسنت البلاء وقضيت الذي عليك، فإذا خف عنك الوجع فأقبل مأجورًا إلى أهلك والسلام.

وخرج «سورة بن أبجر» في طلب شبيب كما أمره الحجاج، قالوا: تخير ثلاثمائة رجل من أهل القوة والجلد والشجاعة، ولكن شبيبًا انتهى بالتغلب عليه وهزمه وجيشه.

(٢-٤) حربه مع الجزل بن سعيد

ودعا الحجاج إليه «الجزل عثمان بن سعيد» فقال له: «تيسر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق ولا تحجم إحجام الواني الفرق، هل فهمت.»

فقال: «نعم أصلح الله الأمير، قد فهمت.»

فقال: «فاخرج فعسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج إليك الناس.»

فقال: «أصلح الله الأمير، لا تبعثن معي أحدًا من أهل الجند المفلول المهزوم فإن الرعب قد دخل قلوبهم.»

فقال له: «ذلك لك، ولا أراك إلا قد أحسنت الرأي ووفقت.»

وجمع له الحجاج أربعة آلاف رجل، ثم نادى منادي الحجاج فيهم أن «بُرئت الذمة من رجل أصبناه من هذا البعث متخلفًا.»

وما زال الجزل بن سعيد يسير في أثر شبيب — وشبيب يريه الهيبة — ويخرج من رستاق إلى رستاق، وإنما أراد شبيب بذلك أن يفرق الجزل أصحابه ويتعجل إليه فيلقاه في يسير من الناس على غير تعبئة. ولكن الجزل كان حريصًا فلم يكن يسير إلا على تعبئة، ولا ينزل إلا خندق على نفسه خندقًا.

وطال الزمن عليهم، وأراد شبيب أن يبيته، ولكنه وجد الجزل حذرًا وقد بث العيون والأرصاد فلم يظفر منهم بطائل، قالوا: فلما رأى شبيب أنه لا يصل إليهم تركهم بعد أن أعاد الكرة فلم يفلح.

وجد الجزل في أثرهم، وكان — كما يقولون — يتبعهم فلا يسير إلا على تعبئة ولا ينزل إلا على خندق، وكان شبيب يدعه ويضرب فيما يليه من الأراضي يكسر الخراج، وطال ذلك على الحجاج، فكتب إلى الجزل:

أما بعد، فقد بعثتك في فرسان أهل المصر ووجوه الناس وأمرتك باتباع هذه المارقة الضالة المضلة حتى تلقاها فلا تقلع عنها حتى تقتلها وتفنيها، فوجدت التعريس في القرى والتخييم في الخنادق أهون عليك من المضي لما أمرتك به من مناهضتهم ومناجزتهم والسلام.

قال أحد جنود ذلك الجيش: «فقرئ الكتاب علينا، فشق ذلك على الجزل، وأمر الناس بالسير، فخرجوا في طلب الخوارج جادين، وأرجفنا بأميرنا وقلنا: يعزل.»

•••

وبعث الحجاج «سعيد بن المجالد» على ذلك الجيش وعهد إليه: «إن لقيت المارقة فازحف إليهم ولا تناظرهم ولا تطاولهم، واستعن بالله عليهم، ولا تصنع صنيع الجزل، واطلبهم طلب السبع، وحد عنهم حيدان الضبع.»

حماسة سعيد بن المجالد

وسار سعيد حتى وصل عسكر أهل الكوفة، وكان الجزل قد أدرك شبيبًا في النهروان، ولزم عسكره وخندق عليه، فقام سعيد فيهم خطيبًا متحمسًا، فقال: «يا أهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم وأغضبتم عليكم أميركم وأنتم في طلب هذه الأعاريب العجف منذ شهرين، وقد خربوا بلادكم وكسروا خراجكم، وأنتم حاذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلى أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم ونزلوا بلدًا سوى بلدكم! اخرجوا على اسم الله إليهم.»

قالوا: فخرج وأخرج الناس معه وجمع إليه خيول أهل العسكر، فقال له الجزل: «ما تريد أن تصنع؟»

قال: «أريد أن أقدم على شبيب في هذه الخيل.»

فقال له الجزل: «أقم أنت في جماعة الجيش — فارسهم وراجلهم — وأصحر له، فوالله ليقدمن عليك، فلا تفرق أصحابك فإن ذلك شر لهم وخير لك.»

ولكن سعيدًا المتحمس أبى أن يصيخ إلى هذه النصيحة القيمة المؤسسة على الروية والتجربة وأصالة الرأي، فقال للجزل: «قف أنت في الصف.»

فقال له الجزل: «يا سعيد بن مجالد، ليس لي فيما صنعت رأي، أنا بريء من رأيك هذا، سمع الله ومن حضر من المسلمين.»

فقال سعيد: «هو رأيي، إن أصبت فالله وفقني له، وإن يكن غير صواب فأنتم منه برآء.»

وهكذا تأهب سعيد للحرب وأخرج الجند من الخنادق. ليعجل بقتل شبيب وأصحابه — فيما يزعم — وهو في الحقيقة إنما يتعجل الهلاك لنفسه والهزيمة لجيشه من حيث لا يعلم.

مثال على شجاعة شبيب

وكان شبيب قد أمر بإغلاق باب المدينة وأمر الدهقان بإحضار طعام لهم، وصعد الدهقان السور، فنظر إلى الجند مقبلين قد دنوا من الحصن، فنزل وقد تغير لونه، فقال له شبيب: «ما لي أراك متغير اللون؟!»

فقال له الدهقان: «قد جاءتك الجنود من كل ناحية.»

قال: «لا بأس، هل أدرك غداؤنا؟»

قال: «نعم.» قال: «فقربه.»

وأتي بالغداء فتغدى وتوضأ وصلى ركعتين، ثم دعا ببغل له فركبه، ثم اجتمعوا، وأمر بالباب ففتح ثم خرج على بغله.

مصرع سعيد بن مجالد

وحمل عليهم شبيب وهو يقول: «لا حكم إلا للحكم الحكيم، اثبتوا إن شئتم.»

قالوا: وجعل سعيد يجمع قومه وخيله ثم يدلفها في إثره وهو يقول: «ما هؤلاء؟ إنهم أكلة رأس؟»

ولم يلبث شبيب أن شد عليهم فهزمهم، وثبت سعيد بن مجالد وظل ينادي أصحابه: «إليَّ، إليَّ، أنا ابن ذي مروان!»

قالوا: «فأخذ قلنسوته فوضعها على قربوس سرجه، وحمل عليه شبيب فعممه بالسيف فخالط دماغه فخر ميتًا.»

وهكذا هزم الجيش وقتلوا كل قتلة حتى انتهوا إلى الجزل، وقد قاتل الجزل قتالًا شديدًا حتى حمل من بين القتلى جريحًا. ثم كتب إلى الحجاج بما حدث.

كتاب الجزل إلى الحجاج

أما بعد، فإني أخبر الأمير — أصلحه الله — أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني فيه إلى عدوه، وقد كنت حفظت عهد الأمير إليَّ فيهم ورأيه؛ فكنت أخرج إليهم إذا رأيت الفرصة، وأحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة، فلم أزل كذلك.

ولقد أرادني العدو بكل إرادة فلم يصب مني غرة، حتى قدم عليَّ «سعيد بن مجالد» رحمة الله عليه، ولقد أمرته بالتؤدة ونهيته عن العجلة، أمرته أن لا يقاتلهم إلا في جماعة من الناس عامة فعصاني وتعجل إليهم في الخيل، فأشهدت عليه أهل المصرين أني بريء من رأيه الذي رأى، وأني لا أهوى ما صنع، فمضى فأصيب — تجاوز الله عنه — ودفع الناس إليَّ فنزلت ورفعت لهم رايتي وقاتلت حتى صرعت، فحملني أصحابي من بين القتلى، فما أفقت إلا وأنا على أيديهم — على رأس ميل من المعركة — فأنا اليوم بالمدائن في جراحة قد يموت الرجل من دونها ويعافى من مثلها.

فليسأل الأمير — أصلحه الله — عن نصيحتي له ولجنده، وعن مكايدتي عدوه، وعن موقفي يوم البأس، فإنه يستبين له — عند ذلك — أني قد صدقته ونصحت له، والسلام.

كتاب الحجاج إلى الجزل

أما بعد، فقد أتاني كتابك، وقرأته وفهمت كل ما ذكرت، وقد صدقتك في كل ما وصفت به نفسك من نصيحتك لأميرك، وحيطتك على أهل مصرك، وشدتك على عدوك.

وقد فهمت ما ذكرت من أمر سعيد وعجلته إلى عدوه، فقد رضيت عجلته وتؤدتك، فأما عجلته فإنها أفضت به إلى الجنة، وأما تؤدتك فإنها لم تدع الفرصة إذا أمكنت، وتركُ الفرصة — إذ لم تمكن — حزم.

وقد أصبت وأحسنت البلاء وأجرت، وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحة، وقد أشخصت إليك «حيان بن أبجر» ليداويك ويعالج جراحتك، وبعثت إليك بألفي درهم فأنفقها في حاجتك وما ينوبك والسلام.

(٢-٥) بين شبيب وسويد بن عبد الرحمن

ورأى الحجاج أن يبعث سويد بن عبد الرحمن إلى شبيب ليحاربه في ألفي فارس مختارين، وقد قال له الحجاج: «إذا خرجت إلى شبيب فالقه، واجعل ميمنة وميسرة، ثم انزل إليه في الرجال، فإن استطرد لك فدعه ولا تتبعه.»

•••

أما شبيب فقد كان على عادته يذهب إلى حيث يجد مجالًا للفتك والنهب، ويرحل عن كل مكان يستعصي عليه أو يمتنع دونه؛ فقد سار شبيب إلى المدائن فوجد أهلها متحصنين فيها ولا سبيل إليهم، فراح إلى الكرخ ثم عبر دجلة. وما زال سويد بن عبد الرحمن يطارده حتى قطع بيوت الكوفة إلى الحيرة. وما زال شبيب يفعل ذلك حتى أضجره وأيأسه.

ومما يؤثر عن شبيب أن أكثر الجيوش التي كانت تحاربه «كانت تذهب إليه — كما يقولون — وكأنما كانت تساق إلى الموت».

وليس يتسع المقام للتفصيل والإسهاب في ذكر الوقائع التي شهدها شبيب فلنجتزئ بالقليل منها ما وجدنا إلى الإيجاز سبيلًا.

(٢-٦) مصرع محمد بن موسى

كان عبد الملك قد ولى محمد بن موسى «سجستان» قالوا: «وكانت أخته تحت عبد الملك بن مروان» فلما مر بالكوفة — وبها الحجاج — قيل للحجاج: «إن صار هذا إلى «سجستان» مع نجدته وصهره لعبد الملك فلجأ إليه أحد ممن تطلب منعك منه.»

قال: «فما الحيلة؟»

قيل: «تأتيه وتسلم عليه، وتذكر نجدته وبأسه، وأن شبيبًا في طريقه وأنه قد أعياك وأنك ترجو أن يريح الله منه على يده فيكون له ذكر ذلك وشهرته.»

وقد رأى الحجاج في هذه النصيحة فرصة سانحة، وانخدع بها محمد بن موسى وذهب لمحاربة شبيب وقد كتب إليه الحجاج: «إنك عامل كل بلد مررت به، وهذا شبيب في طريقك.»

قالوا: فلما التقى بشبيب أرسل إليه: «إنك امرؤ مخدوع قد التقى بك الحجاج وأنت جار لك حق، فانطلق لما أمرت به ولك الله لا آذيتك.»

ولكن محمد بن موسى أبى إلا محاربته، وزين له الغرور أن شبيبًا إنما يتحامى لقاءه خشية من بأسه وقوته.

قالوا: فواقفه شبيب وأعاد إليه الرسول، فأبى إلا قتاله فدعا إلى البراز، فبرز إليه «البطين» ثم «قضب» ثم «سويد» فأبى إلا شبيبًا.

فقالوا لشبيب: «قد رغب عنا إليك.» فبرز إليه شبيب وقال له: «إني أنشدك الله في دمك فإن لك جوارًا.» فأبى إلا قتاله.

فقال له: «إني قد علمت خداع الحجاج، وإنما اغترك ووقى بك نفسه، وكأني بأصحابك قد أسلموك فصرعت مصرع أصحابك، فأطعني فإني أنفس بك عن الموت.» فأبى محمد بن موسى إلا قتاله.

قالوا: «فحمل عليه شبيب، فضربه بعصا حديد فهشم بها رأسه، فسقط ثم كفنه وابتاع ما غنموه من عسكره فبعث به إلى أهله.»

(٢-٧) بين شبيب وعبد الرحمن بن الأشعث

ولما رأى شبيب أنه لا يصيب لعبد الرحمن غرة، جعل يخرج حتى إذا دنا منه رحل عن مكانه ونزل في أرض غليظة جدبة، فيجيء عبد الرحمن فإذا بلغه ارتحل وهكذا، حتى أحفى دوابهم ولقوا منه كل بلاء.

هي رواية لا تكاد تتغير فصولها، ولا يكاد شبيب يغير تمثيل دوره فيها. تتألب عليه الجيوش بالغة ما بلغت من الكثرة فلا يقف أمامها وقفة حاسمة، ولكنه يتنقل من مكان إلى آخر مترقبًا فرصة سانحة لمهاجمة تلك الجيوش الكبيرة أجزاء متفرقة بعد أن رأى من العبث مهاجمتها مجتمعة.

يبعث إليه الحجاج بجيوش — ملء السهل والجبل — فيطاولها شبيب ويبيتها الفينة بعد الفينة، فإن كان قائدها حذرًا عاد شبيب من حيث أتى، وإلا هاجمها واشتبك معها في موقعة حاسمة تنتهي بهزيمة أعدائه ومحاربيه.

ولا معدى لمحاربه عن أحد أمرين: أن يخندق على عسكره ولا يترك وسيلة من وسائل الحيطة إلا اتخذها، أو ينفد صبره فيهاجمه في حيثما كان.

فإن كانت الأولى فقد تمضي الأيام والأسابيع، بل والشهور بلا طائل. وإن كانت الأخرى فقد تعجل الهزيمة أو الهلاك لنفسه وجيشه جميعًا.

•••

قالوا إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فقال له: «انتخب الناس واخرج في طلب هذا العدو.»

منشور الحجاج

وكتب الحجاج إلى رجال جيشه المنشور التالي:

أما بعد، فقد اعتدتم عادة الأذلاء، ووليتم الدبر — يوم الزحف — وذلك دأب الكافرين، وإني قد صفحت عنكم — مرة بعد مرة، ومرة بعد مرة — وإني أقسم لكم بالله قسمًا صادقًا، لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعًا أشد عليكم من هذا العدو الذي تهربون منه في بطون الأودية والشعاب وتستترون منه بأثناء الأنهار وألواذ الجبال، فخاف من له معقول على نفسه ولم يجعل عليها سبيلًا، وقد أعذر من أنذر.

وقد أسمعت لو ناديت حيًّا
ولكن لا حياة لمن تنادي

والسلام عليكم.

وقد خرج عبد الرحمن بجيشه حتى مر بالمدائن فنزل بها يومًا وليلة وتشرى أصحابه حوائجهم، ثم ارتحلوا حتى وصلوا إلى «الجزل بن سعيد».

نصيحة الجزل

فقال الجزل لعبد الرحمن: «يا ابن عم، إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب وأحلاس الخيل، والله لكأنما خلقوا من ضلوعها ثم بنوا على ظهورها.

ثم هم أسد الأجم، الفارس منهم أشد من مائة، إن لم تبدأ به بدأ بك، وإن هجهج أقدم. فإني قد قاتلتهم وبلوتهم، فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني، وكان لهم الفضل عليَّ، وإذا خندقت عليهم وقاتلتهم في مضيق نلت منهم بعض ما أحب، وكان لي عليهم الظفر. فلا تلقهم — وأنت تستطيع — إلا في تعبئة أو في خندق.»

في أثر شبيب

خرج عبد الرحمن بجيشه — بعد أن شكر الجزل على نصيحته القيمة — فلما دنا من شبيب ارتفع عنه شبيب إلى مكان آخر، فخرج عبد الرحمن في طلبه حتى إذا كان على التخوم أقام وقال: «إنما هو في أرض الموصل فليقاتلوا عن بلادهم أو ليدعوه.»

ولكن كتابًا من الحجاج جاءه يقول:

أما بعد فاطلب شبيبًا واسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين والجند جنده والسلام.

قالوا: «فخرج عبد الرحمن — حين قرأ كتاب الحجاج — في طلب شبيب فكان شبيب يدعه، حتى إذا دنا منه بيته، فيجده قد خندق على نفسه وحذر، فيمضي ويدعه، فيتبعه عبد الرحمن، فإذا بلغه أنه تحمل وأنه يسير أقبل في الخيل، فإذا انتهى إليه وجده قد صف الخيل والرجال وأدنى الرامية فلا يصيب له غرة، فيمضي ويدعه.»

قالوا: «ولما رأى أنه لا يصيب لعبد الرحمن غرة ولا يصل إليه جعل يخرج حتى إذا دنا منه عبد الرحمن في خيله فينزل عن مسيرة عشرين فرسخًا ثم يقيم في أرض غليظة جدبة، فيجيء عبد الرحمن فإذا دنا من شبيب ارتحل.»

وما زال شبيب يعذبهم حتى شق عليهم وأحفى دوابهم ولقوا منه كل بلاء. ولما التقى الجيشان في «جوخا» أرسل شبيب إلى عبد الرحمن: «إن هذه الأيام أيام عيد لنا ولكم، فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضي هذه الأيام فافعلوا.» فرضي بذلك عبد الرحمن.

قالوا: «ولم يكن شيء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة.»

من عثمان بن قَطن إلى الحجاج

أما بعد، فإني أخبر الأمير — أصلحه الله — أن عبد الرحمن بن محمد قد حفر جوخا كلها خندقًا واحدًا، وخلى شبيبًا وكسْرَ خراجها، وهو يأكل أهلها والسلام.

من الحجاج إلى عثمان بن قطن

أما بعد، فقد فهمت ما ذكرت لي عن عبد الرحمن، وقد لعمري فعل ما ذكرت، فسر إلى الناس فأنت أميرهم، وعاجل المارقة حتى تلقاهم، فإن الله ناصرك عليهم والسلام.

بين عثمان بن قطن وشبيب

وهكذا ظفر عثمان بإمارة الجيش وبعث الحجاج إلى المدائن مكانه «مطرف بن المغيرة» وحسب عثمان أنه أقدر من عبد الرحمن على قتل شبيب وهزيمة جيشه وأظهر من الحماسة مثلما رأيناه من «سعيد بن مجالد» الذي كان سببًا في هزيمة جيش «الجزل» وهلاك نفسه. وقد كانت عاقبة عثمان كعاقبة سعيد بن مجالد، وحاق به البوار وحلت الهزيمة بالجيش.

فقد ذهب عثمان متحمسًا يريد مناجزة الخوارج — في الحال — وألح عليه الناس أن يتريث قليلًا — وكان الجو عاصفًا والرياح شديدة تهب على الجيش — فأقام يومًا وليلة حتى إذا انتهت العاصفة عبأ جيشه وزحف على شبيب وثبت وجيشه أمامه قليلًا. ثم كر عليه شبيب وأصحابه فقتلوه وهزموا أصحابه، وتشتت شمل الجيش بعد أن انهزم عبد الرحمن بن الأشعث — فيمن انهزم — وغنم شبيب من هذه الموقعة أكبر الغنائم، وزاد جيشه وأقبل عليه كثيرون من الناقمين على الحجاج والراغبين في المغانم وقوي شأنه.

ورأى الحجاج أن أمر شبيب قد استفحل وأن توالي انتصاراته يضاعف أعوانه ويفت في عضد محاربيه، فأعد جيشًا كبيرًا مختارًا من صفوة الرجال وأفذاذ القواد وجعل على رأس ذلك الجيش عتاب بن ورقاء.

(٢-٨) عتاب بن ورقاء

يا أهل الكوفة اخرجوا مع عتاب بن ورقاء بأجمعكم، لا أرخص لأحد من الناس في الإقامة إلا رجلًا قد وليناه من أعمالنا. ألا إن للصابر المجاهد الكرامة والأثرة. ألا إن للناكل الهارب الهوان والجفوة، والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذا الموطن — كفعلكم في المواطن التي كانت — لأولينكم كنفًا خشنًا ولأعركنكم بكلكل ثقيل.

من خطبة للحجاج

كان الحجاج قد أمر عتابًا بطاعة المهلب، فكبر ذلك على عتاب، ووقع بينه وبين المهلب شر كبير، حتى كتب عتاب إلى الحجاج يستعفيه من ذلك ويضمه إليه، وقد أحضره الحجاج ووجهه لمحاربة شبيب على رأس ذلك الجيش. وقد اختاره الحجاج بعد أن رأى توالي انتصارات شبيب.

قالوا: وقام الحجاج في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، والله لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم، أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأسمع وأصبر على اللأواء والقيظ منكم، فيقاتلون عدوكم، ويأكلون فيأكم.»

قالوا: فقام إليه الناس من كل جانب فقالوا: «نحن نقاتلهم ونُعتب الأمير، فليندبنا الأمير إليهم فإنا حيث سره.»

نصيحة زهرة بن حَوية

وقام إليه زهرة بن حوية، قالوا: وهو شيخ كبير لا يستقيم قائمًا حتى يؤخذ بيده، فقال: «أصلح الله الأمير، إنك إنما تبعث إليهم الناس متقطعين، فاستنفر الناس إليهم كافة، وابعث عليهم رجلًا ثبتًا شجاعًا مجربًا للحرب، ممن يرى الفرار هضمًا وعارًا، والصبر مجدًا وكرمًا.»

فقال الحجاج: «فأنت ذاك فاخرج.»

فقال: «أصلح الله الأمير، إنما يصلح للناس — في هذا — رجل يحمل الرمح والدرع ويهز السيف ويثبت على متن الفرس. وأنا لا أطيق من هذا شيئًا، وقد ضعف بصري وضعفت.

ولكن أخرجني في الناس مع الأمير، فإني إنما أثبت على الراحلة، فأكون مع الأمير في عسكره وأشير عليه برأيي.»

فقال له الحجاج: «جزاك الله عن الإسلام وأهله — في أول الإسلام — خيرًا، وجزاك الله عن الإسلام وأهله — في آخر الإسلام — خيرًا، فقد نصحت وصدقت، أنا مخرج الناس كافة.» ثم دعا الحجاج — بعد أن اختار عتاب بن ورقاء أشراف الكوفة وفيهم زهرة بن حوية — فقال لهم: «من ترون أبعث على هذا الجيش؟»

فقالوا: «رأيك أيها الأمير أفضل.»

قال: «فإني قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء، وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة، فيكون هو الذي يسير في الناس.»

قال زهرة بن حوية: «أصلح الله الأمير، رميتهم بحجرهم، لا والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل!»

(٢-٩) قبيل المعركة

ولما التقى شبيب بعتاب، وتأهب جيشاهما للحرب، أخذ عتاب يحمس جنوده وينظم صفوفهم، وقد ذكر بعض جنوده شيئًا مما فاه به عتاب قبيل المعركة فقال: وقف علينا عتاب فقص علينا قصصًا كثيرًا، كان مما حفظت منه ثلاث كلمات قال: «يا أهل الإسلام، إن أعظم الناس نصيبًا في الجنة الشهداء، وليس لأحد من خلقه أحمد منه للصابرين، ألا ترون أنه يقول: وَاصْبِرُوا إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ.

فمن حمد الله فعله فما أعظم درجته، وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي.

ألا ترون أن عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه، لا يرون إلا أن ذلك قربة عند الله، فهم شرار أهل الأرض وكلاب أهل النار!»

ثم قال: «أين القصاص؟»

قال ذلك فلم يجبه — والله — منا أحد.

فلما رأى ذلك قال: «أين من يروي شعر عنترة؟»

فلا والله ما رد عليه إنسان كلمة.

•••

وهكذا عقد الخوف ألسنتهم وقلوبهم فلم يجيبوا قائدهم بشيء، وثمة أدرك عتاب أنهم لا بد خاذلوه، ولكن ماذا يصنع وليس أمامه إلا أن يستميت في قتاله حتى ينتصر أو يقتل؟ وقد كانت الثانية.

(٢-١٠) مصرع عتاب

هذا يوم كثر فيه العدد وقل الغناء! وا لهفي على خمسمائة فارس — من نحور رجال تميم معي — من جميع الناس!

عتاب
وقد بدأت المعركة شديدة حامية الوطيس٥ وحمل عليهم شبيب وهو يقول: «أنا أبو المدله، لا حكم إلا للحكم، اثبتوا إن شئتم.»

فأدخل الرعب في قلوب الكثيرين واستبسل جماعة من أصحاب عتاب حتى قيل لهم: «مات عتاب» فتفرقوا.

قالوا: ولم يزل عتاب جالسًا على طنفسة في القلب — وزهرة بن حوية معه — إذ غشيهم شبيب، فقال له عتاب: «هذا يوم كثر فيه العدد، وقل فيه الغناء! وا لهفي على خمسمائة فارس — من نحو رجال تميم — معي من جميع الناس!»

وقد ظل عتاب ينادي جنوده: «ألا صابر لعدوه؟ ألا مؤاس بنفسه؟» ولكن:

لقد أسمعت لو ناديت حيًّا
ولكن لا حياة لمن تنادي

فقد انفض من حوله الجند وتركوه وهو يقاتل قتال الأبطال. وماذا تجدي الشجاعة بعد أن خذله ناصروه؟ على أن زهرة بن حوية كان له خير رفيق وكان إلى جانبه مثلًا من أمثلة البسالة العجيبة والاستهانة بالموت، فقال له زهرة: «أحسنت يا عتاب فعلت فعل مثلك، والله والله لو منحتهم كتفك ما كان بقاؤك إلا قليلًا، أبشر فإني أرجو أن يكون الله قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا.»

فقال له عتاب: «جزاك الله خير ما جزى امرأً لمعروف.»

وقال له أحد أصحابه: «إن عبد الرحمن بن محمد قد هرب عنك فانصفق معه أناس كثير.»

فقال عتاب: «قد هرب قبل اليوم وما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع!»

كيف صرع عتاب

وقد قاتلهم عتاب ساعة وهو يقول: «ما رأيت كاليوم قط موطنًا — لم أبتل بمثله قط — أقل مقاتلًا ولا أكثر هاربًا خاذلًا!»

وما زال يقاتل حتى علم شبيب مكانه، فحمل عليه فطعنه فوقع.

(٢-١١) مصرع زهرة بن حوية

أما زهرة بن حوية فقد وطئته الخيل، فأخذ يذب بسيفه — وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يقوم — فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله٦ وهكذا تمت هزيمة الجيش، وانتصر شبيب وأصحابه أبهر انتصار.

(٢-١٢) خروج شبيب إلى الكوفة

وكأن شبيبًا لم يكتفِ بما أحرزه من انتصارات باهرة فتطلعت نفسه إلى الفوز الأكبر والاستيلاء على الكوفة نفسها، فسار شبيب حتى قطع الجسر وعسكر دونه إلى الكوفة.

(٢-١٣) الحجاج يشاور أصحابه

قال شاهد عيان: لما فض شبيب كتائب الحجاج أذن لنا فدخلنا عليه في مجلسه الذي يبيت فيه — وهو على سرير وعليه لحاف — فقال: «إني دعوتكم لأمر فيه أمان ونظر، فأشيروا عليَّ، إن هذا الرجل قد تبحبح بحبوحتكم ودخل حريمكم وقتل مقاتلكم فأشيروا عليَّ.»

فأطرقوا، وفصل رجل من الصف بكرسيه فقال: «إن أذن لي الأمير تكلمت.»

فقال: «تكلم.»

فقال: «إن الأمير — والله — ما راقب الله قط، ولا حفظ أمير المؤمنين، ولا نصح للرعية.»

ثم جلس بكرسيه في الصف — وإذا هو قتيبة — فغضب الحجاج وألقى اللحاف ودلى قدميه من السرير — كأني أنظر إليهما — فقال: «من المتكلم؟»

فخرج قتيبة بكرسيه من الصف فأعاد الكلام، قال الحجاج: «فكيف ذلك؟»

فقال: «تبعث الرجل الشريف، وتبعث معه رعاعًا من الناس فينهزمون عنه، ويستحيي فيقاتل حتى يقتل.»

قال: «فما الرأي؟»

قال: «أن تخرج بنفسك ويخرج معك نظراؤك فيواسونك بأنفسهم.»

قال بعضهم: «فلعنه الحجاج» وقال آخر: «وخنقه الحجاج بعمامته خنقًا شديدًا» ثم قال الحجاج: «والله لأبرزن له غدًا.»

وهكذا أُحْرِجَ الحجاج في قتال شبيب إحراجًا.

(٢-١٤) بين شبيب والحجاج

فلما جاء اليوم التالي فرق الحجاج كثيرًا من رجال جيشه على أفواه السكك، ثم أقبل الحجاج — وقد رأى أمامه جيش شبيب — وكان شبيب في ستمائة فارس.

ودعا الحجاج بكرسي له فقعد عليه، ثم نادى: «يا أهل الشام، أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين، لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار واجثوا على الركب واستقبلوا القوم بأطراف الأسنة.»

فجثوا على الركب وأشرعوا الرماح وكأنهم حرة سوداء. وأقبل شبيب حتى إذا دنا منهم عبأ أصحابه ثلاثة كراديس:
  • (١)

    كتيبة مع سويد بن سليم.

  • (٢)

    وكتيبة مع المحلل بن وائل.

  • (٣)

    وكتيبة مع شبيب.

فشل الكتيبة الأولى

فأمر شبيب الكتيبة الأولى أن تحمل عليهم، فحمل عليهم سويد فثبتوا له، حتى إذا غشي أطراف الأسنة وثبوا في وجهه ووجوه أصحابه، فطعنوهم قُدمًا حتى انصرف.

وصاح الحجاج: «يا أهل السمع والطاعة هكذا فافعلوا. قدم كرسيّ يا غلام.»

فشل الكتيبة الثانية

وأمر شبيب قائد الكتيبة الثانية «المحلل بن وائل» أن يحمل، فكان نصيبه من الفشل مثل ما مني به سلفه.

فشل الكتيبة الثالثة

فلما رأى شبيب فشل سابقيه حمل على أعدائه في كتيبته فثبتوا له حتى إذا غشي أطراف الرماح وثبوا في وجهه فقاتلهم طويلًا، ثم إن أهل الشام طعنوه قدمًا حتى ألحقوه بأصحابه.

الهزيمة الشاملة

فلما رأى شبيب هذا الفشل قال لأصحابه: «إنما شرينا الله، ومن شرى الله لم يكن يكبر عليه ما أصابه من الأذى والألم في جنب الله. الصبر الصبر، شدة كشداتكم في مواطنكم الكريمة.»

ثم جمع أصحابه فلما ظن الحجاج أنه حامل عليهم قال لأصحابه: «يا أهل السمع والطاعة، اصبروا لهذه الشدة الواحدة، ثم ورب السماء ما شيء دون الفتح.» فجثوا على الركب، وحمل شبيب — بجميع أصحابه — فلما غشيهم نادى الحجاج بجماعة الناس فوثبوا في وجهه، فما زالوا يطعنون ويضربون وهم مستميتون في القتال.

قالوا: وخرج «خالد بن عتاب بن ورقاء» الذي وتره شبيب، فسار في عصابة من أهل الكوفة حتى دخل عسكرهم من ورائهم فقتل «مصادًا» أخا شبيب وقتلت غزالة امرأته وحرق خالد في عسكر شبيب.

فكبر الحجاج وأصحابه تكبيرة واحدة، وفت في أعضاد شبيب وأصحابه وقال الحجاج لأهل الشام: «شدوا عليهم فإنهم قد أتاهم ما أرعب قلوبهم.» فشدوا عليهم فهزموهم.

قالوا: ثم إن الحجاج دخل الكوفة حين انهزم شبيب ثم صعد المنبر فقال: «والله ما قوتل شبيب قط قبلها مثلها! ولي — الله — هاربًا وترك امرأته يكسر في استها القصب!»

(٢-١٥) المعركة الأخيرة

ذهب شبيب إلى الأهواز ثم إلى فارس ثم ارتفع إلى كرمان، وكان الحجاج قد أمر سفيان بن الأبرد أن يسير إليه فلحقه بالأهواز بجسر دجيل، وانضم إليه زياد بن عمر العتكي في أربعة آلاف.

ثم نشبت المعركة عنيفة وأظهر فيها شبيب من ضروب البسالة والإقدام والافتنان في الحرب ما بهر أعداءه وحير ألبابهم. قال السكسكي: «فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم ولا يأمن — مع ذلك — ظفرهم، دعا الرماة فقال: «ارشقوهم بالنبل.» وذلك عند المساء — وكان التقاؤهم نصف النهار — فرماهم حينئذ أصحاب النبل بالنبل. فلما رشقوهم بالنبل ساعة شدوا عليهم. فلما شدوا على رماتنا شددنا عليهم فشغلناهم عنهم. فكر شبيب وأصحابه على أصحاب النبل كرة صرع منهم أكثر من ثلاثين رجلًا. ثم عطف بخيله علينا فطاعناه حتى أتى المساء ثم انصرف عنا. فقال سفيان لأصحابه: «أيها الناس دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم غدوة.» فكففنا عنهم وليس شيء أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا.»

فانظر إلى عبارة السكسكي الأخيرة التي تعبر عن شعور الجيش كله وبغضه قتال شبيب وأصحابه!

•••

ولما انتهت المعركة أمر «شبيب» أصحابه أن يعبروا جسر «دجيل» حتى إذا أصبحوا باكروا أعداءهم، فعبروا أمامه وتخلف في آخرهم.

(٢-١٦) كيف صرع شبيب

قالوا: فأقبل شبيب على فرسه، وكانت بين يديه فرس أنثى فنزا عليها فرسه وهو على الجسر فاضطربت أمامه ونزل حافر فرسه على حرف السفينة فسقط في الماء وسقط معه شبيب — وهو مثقل بالحديد من درع ومغفر وغيرهما — فقال: لِّيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا.

وارتمس في الماء ثم ارتفع، فقال له بعض أصحابه وهو يغرق: «أغرقًا يا أمير المؤمنين؟»

فقال: ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.

•••

ثم غرق شبيب وتنادى أصحابه: «غرق أمير المؤمنين.» وانصرفوا راجعين وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد.

قالوا: «فكبر سفيان وأصحابه، ولما أصبح الصبح طلبوا شبيبًا حتى استخرجوه.»

(٢-١٧) أمثلة من شجاعة شبيب

قال شبيب: قتلت أمس «من الأعداء» رجلين، أحدهما أجبن الناس والآخر أشجع الناس.

خرجت — عشية أمس — طليعة لكم، فلقيت ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجكم. فاشترى أحدهما حاجته ثم خرج قبل أصحابه — وخرجت معه — فقال: «كأنك لم تشتر علفًا؟»

فقلت: «إن لي رفقاء قد كفوني ذلك.»

ثم قلت له: «أين ترى عدونا هذا نزل؟»

قال: «بلغني أنه نزل منَّا قريبًا، وايم الله لوددت أني قد لقيت شبيبهم هذا.»

قلت: «فتحب ذلك؟»

قال: «نعم.»

قلت: «فخذ حذرك، فأنا واللهِ شبيب.»

وانتضيت سيفي، فخر — واللهِ — ميتًا. فقلت له: «ارتفع ويحك!»

وذهبت أنظر، فإذا هو قد مات، فانصرفت راجعًا.

•••

ولقيت الآخر خارجًا من القرية فقال: «أين تذهب هذه الساعة، وإنما يرجع الناس إلى عسكرهم؟»

فلم أكلمه، ومضيت يقرب بي فرسي، واتبعني حتى لحقني، فقطعت عليه، فقلت له: «ما لك؟»

فقال: «أنت والله من عدونا!»

فقلت: «أجل والله!»

فقال: «والله لا تبرح حتى تقتلني أو أقتلك!»

فحملت عليه وحمل علي، فاضطربنا يسيفنا ساعة فوالله ما فضلته — في شدة نفس ولا إقدام — إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه فقتلته. ا.ﻫ.

•••

وما نحسب القارئ في حاجة إلى أن نسهب في التعليق على هذا الخبر، فهو وحده غني عن كل تعليق.

فقد كان اسم شبيب وحده كافيًا للقضاء على فارس محارب، وما نظن الفارس الآخر الذي وصفه شبيب بالشجاعة كان يستطيع أن يثبت أمامه لو علم أنه يواجه شبيبًا الذي كان يكفي اسمه في ترويع الجيوش الجرارة وهزيمتهم — بالغًا ما بلغ عددهم — وقد بغت الفارس الأول حين علم أن مخاطبه هو شبيب الذي هزم الجيوش وقتل أفذاذ القواد وأذكى الرعب في كل نفس، وأقلق بال الحجاج وذعره وأقض عليه مضجعه، والحجاج — هو من يعرف القارئ — جبار العراق ومدوخ جبابرته وثائريه.

وما نحسب الحجاج كان قادرًا على هزيمة شبيب لو لم يستعن بجند الشام الذي لم تروعه فتكات شبيب وشداته العنيفة التي روعت جيوش الكوفة وخلعت قلوبهم، فأصبحوا يلقونه كارهين وكأنهم يلقون الموت أمامهم، وصاروا لا يثبتون أمامه إلا ريثما يلوذون بأكناف الفرار.

وما كان الحجاج يخرج لمحاربة شبيب إلا محرجًا مضطرًّا. وقد رأى الحجاج مجده يترجَّح في كفة الأقدار، وأحس أن هزيمته أمام شبيب معناها اندحاره وضياع هيبته؛ فألهب قلوب الجند حماسة ولم يدخر وسيلة من وسائل التشجيع واستثارة الحمية والنخوة إلا سلكها، وقد أعانه خالد بن عتاب الذي قتل شبيب أباه «عتاب بن ورقاء» البطل الكمي المنقطع النظير، فقد قتل خالد أخا شبيب وزوجه أثناء اشتغال شبيب بمحاربة الحجاج وجيشه، ففت ذلك في عضد شبيب، وكان من أسباب هزيمته.

على أن الحجاج لم يستطع أن يظهر مكانه أمام شبيب، فتوارى عن عينه وأجلس مكانه فارسًا آخر، لم يفت شبيبًا أن يضربه بعمود من الحديد فيقتله، ظانًّا أنه إنما يقتل الحجاج.

فلما انهزم جيش شبيب لم يعبأ شبيب بشيء، بل خرج شبيب وتبعه خيل الحجاج وهو لا يكترث بهم.

قال أحد أصحابه: فجعل شبيب يخفق برأسه، فقلت له: «يا أمير المؤمنين، التفت فانظر من خلفك!» فالتفت شبيب غير مكترث، ثم أكب يخفق برأسه، ودنوا منَّا، فقلنا: «يا أمير المؤمنين قد دنوا منك.»

فالتفت — والله — غير مكترث ثم جعل يخفق برأسه.

وقد هابه جند الأعداء فلم يجرأ على قتله أحد منهم — والفرصة سانحة تناديهم — وهم يتهيَّبون الدنو منه، فلما أفلتت منهم الفرصة راحوا يتعقبونه بعد فوات الوقت.

•••

وانظر إلى ابن الأشعث يسأله شبيب أن يوادعه في أيام العيد «فلا يكون شيء أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة» كما يقولون.

ويشتبك شبيب — ومعه ثلاثون شخصًا — مع جيش كبير جدًّا فيصمد صمود الأبطال حتى يضطر قائد الجيش إلى أن يقول: «لو كان هؤلاء الخوارج يزيدون على مائة رجل لأهلكونا.»

•••

وقد رأى القارئ كيف كان اسم شبيب وحده كافيًا في ذعر الجيش الكثير العدد، وكيف كان عتاب بن ورقاء يحمس جيشه ويستنفرهم لمهاجمة شبيب، ويبذل جهده في إلهاب قلوبهم، فلا يصل إلى ذلك، ولا يرى أمامه إلا خورًا أو هلعًا من لقاء شبيب.

ينادي: أين القصاص، فلا يجيبه أحد، وينادي: أين من يروي شعر عنترة؟ «فلا والله ما يرد عليه إنسان كلمة.» فيعلم عتاب أنهم خاذلوه ويفت ذلك في عضده وهو البطل الكمي العظيم الخطر.

•••

ومن الأمثلة الدالة على حزم شبيب تظاهره بالزهد في المال؛ خوفًا على الجند أن يفتتنوا به فيعوقهم ذلك عن الاستماتة في الجهاد.

قالوا: إن شبيب حين وجه من يأتيه برأس عامل «سورا» جاءوا برأسه فقال لهم شبيب: «ماذا أتيتمونا به؟»

فقالوا: «جئناك برأس الفاسق وما وجدنا من مال.» والمال على دابة في بدوره، فقال شبيب: «أتيتمونا بفتنة المسلمين! هلم الحربة يا غلام فخرق بها البدر.»

قالوا: وأمر فنخس بالدابة والمال يتناثر من بدوره حتى وردت «الصراة».

فقال: «إن كان بقي شيء فاقذفه في الماء.»

لقد خشي شبيب أن يشتغل أصحابه بالمال فيفتنوا به وينسوا واجبهم الأول الذي يستميتون في سبيل تحقيقه.

وقد أذاع العامة كثيرًا من المزاعم التي لا تخفى دلالتها على تهيبهم له وإكبارهم لشجاعته الخارقة إكبارًا جعلهم يفتتنون في نسبه المعجزات إليه. والعامة لا يكادون يتمثلون المزايا المعنوية إلا في قالب مادي ملموس. لذلك راحوا يروجون أن شبيبًا حين أخرج من الماء وشق بطنه وأخرج قلبه وجدوه مجتمعًا صلبًا كأنه صخرة، وأنه كان يضرب به الأرض فيثب قامة إنسان؛ لأن العامة لم يستطيعوا أن يتصوروا مثل هذه الشجاعة الخارقة التي امتاز بها شبيب في قلب كقلب الأناسي.

ولو أن شبيبًا لم يمت غرقًا ولو أنه كان من أنصار الخليفة لكان للتاريخ شأن آخر — في كلتا الحالتين — وإن كان في إحداهما يناقض الأخرى مناقضة تامة.

•••

ولقد نعي شبيب لأمه فلم تصدق، وكانوا يقولون لها «قتل شبيب» فلا تقبل.

فلما قيل لها: إنه غرق صدقت كلامهم وقالت: «أما الآن فقد صدقت ما تقولون.»

ثم قصت عليهم حلمًا كانت رأته حين ولدته، فقد رأت أنه خرج قُبيلها شهاب نار ثاقب ما زال حتى بلغ السماء وبلغ الآفاق كلها.

قالت أم شبيب: «فبينما هو كذلك إذ وقع في ماء كثير حار فخبا.»٧

فإذا صحت هذه الرواية فإن هذه الرؤيا تعد من أصدق الأحلام، وربما كانت من أسباب هذا الإقدام العجيب الذي عرفناه من شبيب في الحروب وتلك الثقة المدهشة التي امتلأ بها قلبه، وربما كانت هذه الرؤيا أيضًا سببًا في استسلامه للموت غرقًا، ذلك الاستسلام الذي نراه في قوله حين صاح به أحد أتباعه، وهو يغرق: «أغرقًا يا أمير المؤمنين؟»

فقال شبيب مستسلمًا: «ذلك تقدير العزيز العليم!»

وهكذا طويت صفحة خالدة من صفحات البطولة والإقدام، وانتهت حياة طالما هزئت بالموت وروعت الجيوش ودوخت الأبطال.

(٣) مصرع قطري بن الفجاءة

كيف صرع

ورأى علج من أهل البلد «قطريًّا» حين تدهدى من الشعب، فقال له قطري: «اسقني من الماء!» وكان قد اشتد به العطش، فقال له: «أعطني شيئًا حتى أسقيك.» فقال: «ويحك، والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأنا مؤتيكه إذا أتيتني بماء.» قال: «لا، بل أعطنيه الآن.»

قال: «لا، ولكن ائتني بماء.»

فانطلق العلج حتى أشرف على قطري، ثم حدَّر عليه حجرًا عظيمًا من فوقه دهدأه عليه فأصاب إحدى وركيه فأوهنته، وصاح بالناس فأقبلوا نحوه — والعلج حينئذ لا يعرف قطريًّا غير أنه يظن أنه من أشرافهم لحسن هيئته وكمال سلاحه — فدفع إليه نفر من أهل الكوفة فابتدروه فقتلوه وأتوا برأسه إلى الحجاج.

مقدمات المصرع

لما تشتت شمل الأزارقة بسبب الخلاف الذي دب بينهم بعد حروبهم الطويلة مع المهلب انضم بعض الأزارقة إلى قطري بن الفجاءة وانضم آخرون إلى عبد ربه الكبير.٨

قالوا وتوجه قطري يريد «طبرستان» وبلغ أمره الحجاج، فوجه إليه سفيان بن الأبرد ومعه جيش كبير من أهل الشام حتى لحقه في شعب من شعاب طبرستان، فقاتلوه قتالا شديدًا انتهى بتفرق أصحاب قطري عنه، قالوا: ووقع عن دابته في أسفل الشعب فتدهدى حتى خر إلى أسفله، فقال معاوية بن محصن الكندي: «رأيته حيث هوى ولم أعرفه، ونظرت إلى خمس عشرة امرأة عربية هن في الجمال وحسن الهيئة كما شاء ربك، ما عدا عجوزًا فيهن، فصرفتهن إلى سفيان بن الأبرد، فلما دنوت بهن منه انتحت لي بسيفها العجوز فضربت به عنقي فقطعت المغفر وقطعت جلده من حلقي، فضربتها بالسيف فأصاب قحف رأسها فوقعت ميتة، وأقبلت بالفتيات حتى دفعتهن إلى سفيان، وإنه ليضحك من العجوز وقال: ما أرادت أخزاها الله؟ فقلت: أَوما رأيت أصلحك الله ضربتها إياي؟ والله إن كادت لتقتلني! قال: قد رأيت، فوالله ما ألومك على فعلك. قال: ورأيت قطريًّا حيث تتهدى من الشعب، وقد جاءه علج من أهل البلد، فقال له قطري: «اسقني ماء!» وقد كان اشتد عطشه فقال: «أعطني شيئًا حتى أسقيك.» فقال: «ويحك والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأنا مؤتيكه إذا أتيتني بماء.» قال: لا، بل أعطنيه الآن.» قال: «لا، ولكن ائتني بماء قبل.» فانطلق العلج حتى أشرف على قطري ثم حدَّر عليه حجرًا عظيمًا من فوقه دهدأه عليه، فأصاب إحدى وركيه فأوهنته، وصاح بالناس فأقبلوا نحوه، والعلج حينئذ لا يعرف قطريًّا، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لحسن هيئته وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة فابتدروه فقتلوه.

أسباب الخلاف

قلنا في مقدمة مصرع قطري: إن الخلاف قد وقع بين الأزارقة، فانضم قوم إليه، وانضم آخرون إلى عبد ربه الكبير، فما سبب هذا الخلاف؟

قالوا: إن المهلب بعد قتاله الطويل مع الخوارج من غير أن ينال منهم أو ينالوا منه قتل عاملًا لقطري على ناحية من كرمان يقال له: «المقعطر الضبي»، رجلًا من الخوارج كان ذا بأس وكان كريمًا عليهم، فجاءوا إلى قطري يسألونه أن يسلم إليهم الضبي ليقتلوه فأبى، فأنكروا عليه ذلك، وكان رجل من الأزارقة حداد يسمى أبزي يعمل لهم نصالًا مسمومة فيرمون بها أصحاب المهلب، فشكوا إليه ذلك، فقال لهم: سأكفيكموه إن شاء الله، ثم وجه رجلًا من أصحابه إلى أبزي بألف درهم ومعه كتاب نصه بعد الديباجة: أما بعد، فإن نصالك قد وصلت إلي وقد وجهت إليك بألف درهم فاقبضها. وقال للرجل: «ألق هذا الكتاب والدراهم في عسكر قطري واحذر على نفسك.» فوقع الكتاب والدراهم إلى قطري فدعا بأبزي فقال: «ما هذا الكتاب؟»

قال: لا أدري. قال: فهذه الدراهم؟ قال: ما أعلم علمها. فأمر به فقتل، فجاء عبد ربه الكبير فقال له: أقتلت رجلًا على غير ثقة ولا تبين؟ فقال له: ما حال هذه الدراهم؟ قال: يجوز أن يكون أمرها كذبًا، ويجوز أن يكون حقًّا. فقال له قطري: قتل رجل في صلاح الناس غير منكر وللإمام أن يحكم بما يراه صلاحًا، وليس للرعية أن تعترض عليه. فتنكر له عبد ربه وجماعته ولكنهم لم يفارقوه.

فلما بلغ ذلك المهلب دس إلى قطري رجلًا نصرانيًّا، وقال له: إذا رأيته فاسجد له فإذا نهاك فقل: إنما سجدت لك. ففعل النصراني ذلك، فقال قطري: إنما السجود لله! فقال: ما سجدت إلا لك. فقال له رجل من الخوارج: قد عبدك من دون الله وتلا قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ. فقال قطري: إن النصارى قد عبدوا عيسى بن مريم فما ضر ذلك عيسى شيئًا. فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله، فأنكر قطري عليه ذلك وقال: أقتلت ذميًّا؟ فكان ذلك مما قوى الاختلاف بين الخوارج، وبلغ المهلب فوجه إليهم رجلًا يسألهم عن رجلين خرجا مهاجرين إليهم، فمات أحدهما في الطريق ووصل إليهم الآخر، فامتحنوه في عقيدتهم فلم يؤمن بها فقتلوه، فقال بعضهم: أما الميت فمؤمن من أهل الجنة وأما الآخر فكافر. وقال آخرون: بل هما كافران. فاشتد الخلاف بينهم، فثاروا على قطري وخلعوه وولوا عليهم عبد ربه الكبير، وبقي مع قطري عصابة قليلة منهم ووقع القتال بينهم نحو شهر.

حزم المهلب

ولما علم المهلب خبر تفرقهم كف عن محاربتهم وألح عليه الحجاج في كتبه أن يناهضهم، ولكن المهلب لجأ إلى الحزم والحكمة، ورد على الحجاج بقوله: إن الرأي أن نتركهم يقتل بعضهم بعضًا، فإن في ذلك هلاكهم أو إضعافهم، وليس من الرأي أن نناهضهم لئلا يتفقوا علينا.

ولما اشتد إلحاح الحجاج على المهلب أعاد الكرة عليهم ثم حاربهم حتى قهرهم فاختلفت كلمتهم مرة أخرى.

سبب الخلاف

قالوا: وكان سبب خلافهم أن عبيدة بن هلال كان يختلف إلى امرأة رجل حداد في بيته ويدخل عليها بغير إذن، فشكوه إلى قطري فقال لهم: إن عبيدة من الدين بحيث علمتم ومن الجهاد بحيث رأيتم. فقالوا: إنا لا نقاره على الفاحشة. فبعث إليه قطري فقام فيهم وقال: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ. فبكوا واعتنقوه وقالوا: استغفر لنا. فقال لهم عبد ربه الكبير: لقد خدعكم. فرجعوا إلى اعتقادهم الأول، ولكنهم لم يجدوا سبيلًا إلى إقامة الحد عليه، وكان قطري قد استعمل رجلًا من الدهاقين، فظهرت له أحوال كثيرة، فقالوا لقطري: إن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا. فقال قطري: إني استعملته وله ضياع وتجارات. فأوغر ذلك صدورهم وقالوا له: ألا تخرج بنا إلى عدونا؟ فقال: لا، ثم خرج. فقالوا: كذب وارتد. فاتبعوه يومًا فأحس بالشر منهم فدخل دارًا مع جماعة من أصحابه، فصاحوا به: يا دابة اخرج إلينا. فخرج إليهم وقال: رجعتم بعدي كفارًا؟ فقالوا: أما أنت فإنك دابة. قال الله تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى الله رِزْقُهَا وأما نحن فلسنا كفارًا، فأنت كافر بتفكيرك إيانا. فقال له بعض أصحابه: قل لهم إني استفهمت ولم أخبر. فقبلوه منه، ولما رأى منهم هذا التغير بايع المقعطر العبدي، فكرهت الخوارج ذلك وسألوه إعفاءهم من مبايعة المقعطر فأبى، فاختلفوا وتهايجوا، وحمل فتى من العرب على صالح بن مخراق فقتله، ثم اقتتلوا فيما بينهم قتالًا شديدًا، وارتحل قطري مع أتباعه إلى طبرستان.

وجلس المهلب للناس بعد ارتحال قطري فدخل إليه وجوههم.

•••

ولعل القارئ يرى من هذه الأمثلة ولع الخوارج بالتمسك بالمجادلات اللفظية الفارغة، والجدال فيما لا طائل تحته، وهذه ظاهرة تبدو لكل من يقرأ تاريخ الخوارج، وحسبك أن تعلم كيف خرجوا على علي بن أبي طالب متمحلين أوهى الأسباب، ثم تتبع منازعتهم فيما بعد، وكيف كانوا يثيرون مسألة عرضية فارغة، فتثور معها حروب طاحنة تطيح فيها الرءوس وتزهق النفوس، وإن الباحث ليحار في التوفيق بين براعة هؤلاء الرجال وتفوقهم في أساليب الحرب والدين معًا، وبين ما يتمسكون به من سفساف الأمور وما يرتكبونه من الأخطاء التي لا يقع فيها الأطفال، على أن حل هذه المشكلة وذلك التناقض في نظرنا يسير، إذا أعملنا الرؤية واصطنعنا الأناة والفكر؛ فقد كان زعماء الخوارج — ويجب أن نفرق بين زعماء الخوارج وجمهرتهم — ذوي أغراض سياسية بعيدة ومطامح جريئة لا تقل عن التفرد بالملك والاستئثار بالأمر، وكانوا خطباء مهرة يلهبون الحماسة في نفوس أصحابهم إلهابًا، ويدفعونهم باسم الورع والصلاح ونصرة الدين وقهر أعدائه الألداء وإقامة حدود الله، فتنخدع الجمهرة وتقدم — بما فيها من شجاعة وقوة وتفان في نصرة العقيدة — إلى اقتحام الموت، ويندفع سادتهم وأشرافهم، بما في نفوسهم من مطامح بعيدة المدى وآمال كبار في تحقيق مآربهم الجريئة، بحماسة زائدة إلى خوض غمار الحروب واقتحام الصفوف والاستهانة بالموت حتى لتقول إحدى نسائهم وهي تخوض الحرب:٩
أحمل رأسًا قد مللت حمله
وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عني ثقله

وكان يكفي زعيم الخوارج أو المتطلع للزعامة أن يثير مشكلة دينية لفظية فارغة؛ لينتقم من زعيم آخر، فينزله من زعامته ويسقط مكانته الدينية ليحل مكانه ويتولى الزعامة بعده، ولولا هذه الخلافات ما علم إلا الله وحده كيف كانت تكون عاقبة أمرهم.

•••

وما نحسب أن ثورة زعماء الخوارج على علي بن أبي طالب إلا تطلعًا للملك وتمحلًا لأسباب الكيد من قريش حسدًا وغيرة لما نالته قريش من السلطان والرفعة، فقد طالما حاول الخوارج أن يجدوا فرصة يتحينونها لإشباع رغباتهم ومطامعهم حتى أتيحت لهم فرصة التحكيم فانتهزوها للانشقاق والفتنة.

•••

ولولا ما سلكه المهلب بن أبي صفرة من ضروب الشجاعة والحزم مع ما وهبه من خبرة بالحرب وبعد نظر، لاستفحل أمر الخوارج استفحالًا ما كان أجدره أن يغير وجه التاريخ.

وفي يقيننا أن المهلب لو كان خارجيًّا كشبيب، أو لو كان شبيب من أنصار بني أمية كالمهلب، لكان لحوادث التاريخ مجرى يخالف كل المخالفة ما وقع، وليس في قدرتنا في هذه الكلمات الموجزة أن نوضح ما امتاز به المهلب من المزايا الباهرة وما أبلاه في حروب الخوارج من البلاء الحسن؛ فإن هذا يخرج بنا عن موضوع الكتاب، وما أجدر المهلب بسفر مطول يتناول فيه المؤرخ شخصيته العظيمة وتاريخه المجيد، وحسبنا أن نختم هذا الفصل بوصف أحد الشعراء المجيدين المهلب بعد انتصاره على الخوارج في قصيدة طويلة نجتزئ منها بقوله:

أمسى العباد بشر لا غياث لهم
إلا المهلب — بعد الله — والمطر
كلاهما طيب ترجى نوافله
مبارك سيبه يرجى وينتظر
هذا يذود ويحمي عن ذمارهم
وذا يعيش به الأنعام والشجر
واستسلم الناس إذ حل العدو بهم
فلا ربيعتهم ترجى ولا مضر
وأنت رأس لأهل الدين منتخب
والرأس فيه يكون السمع والبصر
إن المهلب في الأيام فَضَّلَهُ
على منازل أقوام إذا ذكروا
حزم وجود وأيام له سلفت
فيها يعد جسيم الأمر والخطر
ماض على الهول ما ينفك مرتحلًا
أسباب معضلة يعيا بها البشر
شهاب حرب إذا حلت بساحته
يخزي به الله أقوامًا إذا عذروا
تزيده الحرب والأهوال إن حضرت
حزمًا وعزمًا ويجلو وجهه السفر
ما إن يزال على أرجاء مظلمة
لولا يكفكفها عن مصرهم دحروا
سهل إليهم حليم عن مجاهلهم
كأنما بينهم عثمان أو عمر
كهف يلوذون من ذل الحياة به
إذا تكنفهم من هولها ضرر
أمن لخائفهم فيض لسائلهم
ينتاب نائله البادون الحضر

هوامش

(١) قتل سنة ٧٦ﻫ، وكان ناسكًا زاهدًا مصفر الوجه صاحب عبادة، وكان يقيم بأرض الموصل، وله أصحاب يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين ويقص عليهم القصص، وكان صالح بن مسرح التميمي هذا يرى رأي الصفرية. وقد حج في سنة ٧٥ مع شبيب بن يزيد الشيباني وسويد والبطين وغيرهم من الخوارج — وكان عبد الملك قد حج في تلك السنة — فهم شبيب أن يفتك به، ولكنه لم يجد فرصة سانحة لقتله. قالوا: وعلم عبد الملك بأخبارهم فكتب إلى الحجاج بطلبهم.
(٢) هو عدي بن عدي بن عميرة.
(٣) قالوا: إن شبيبًا صرع عن فرسه فوقع في رجاله، فشد عليهم فانكشفوا، فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح بن مسرح فأصابه قتيلًا فنادى: «إليَّ يا معشر المسلمين!» فلاذوا به. فقال لأصحابه: «ليجعل كل منكم ظهره إلى ظهر صاحبه وليطاعن عدوه إذا أقدم عليه حتى ندخل هذا الحصن ونرى رأينا.» ففعلوا حتى دخلوا الحصن.
(٤) هو شبيب بن يزيد التميمي وكانت أمه من سبايا الروم اشتراها أبوه وهي جارية حمراء شهلاء زرقاء طويلة جميلة تأخذها العين، ولدت شبيبًا في عيد الأضحى من سنة ٢٥ﻫ. وقد لقي مصرعه في سنة ٧٨ﻫ.
(٥) بدأت المعركة بين المغرب والعشاء حين أضاء القمر.
(٦) وقد تألم شبيب لمصرع زهرة بن حوية وبات يتوجع له، وقد قال شبيب حين رآه صريعًا: «أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة، لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك وعظم فيه غناؤك، ولرب خيل للمشركين قد هزمتها وسرية لهم قد أغرتها وقرية من قراهم — جم أهلها — قد افتتحتها، ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرًا للظالمين.»
(٧) وكانت أم شبيب قد ولدته في عيد الأضحى، قالت: «وقد ولدته في يومكم هذا الذي يهريقون فيه الدماء، وإني قد أولت رؤياي هذه أني أرى ولدي هذا غلامًا أراه سيكون صاحب دماء يهريقها، وإني أرى أمره سيعلو ويعظم سريعًا.»
(٨) يذكر الطبري دائمًا أن اسمه عبد رب الكبير وهي تسمية صحيحة لا غبار عليها ولك أن تذكره بأحد الاسمين.
(٩) هي أم حكيم زوج قطري بن الفجاءة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤