مصرع عبد الرحمن بن الأشعث

(١) كيف صرع

وما زال في سيره هاربًا حتى لحق بخراسان، ورجا في لحوقه بها النجاة من الحجاج والحذر لنفسه، ولم يشعر بالخيل التي في طلبه حتى غشيته، فلم تزل تطلبه من موضع إلى موضع حتى استغاث بقصر منيف، فحصره ابن عم الحجاج فيه، وأحاطت به الخيل من كل جانب حتى ضيق عليه، ودعا بالنار ليحرقه في القصر، فلما رأى ابن الأشعث أنه لا محيص له ولا ملجأ وخاف النار رمى بنفسه من أعلى القصر، وطمع أن يسلم ولا يشعر به، فيدخل في غمار الناس فيخفى أمره ويكتم خبره، فسقط فانكسرت ساقه وانخذل ظهره ووقع مغشيًا عليه، فشعر به أصحاب الحجاج فأخذوه — وقد أفاق بعض الإفاقة ولا يقدر على النهوض — فأتوا به إلى ابن عم الحجاج، فلما رآه بتلك الحال أيقن أنه لا يقدر أن يبلغ الحجاج حتى يموت، فأمر به فضربت رقبته وانطلق برأسه إلى الحجاج.

(٢) مقدمات المصرع

وهكذا انتهت حياة هذا الجبار المزهو الذي لم تقف أطماعه عند حد، والذي كان يأبى إلا ازدراء الحجاج والتكبر عليه، ولقد حاول الحجاج أن يترضاه بكل وسيلة، واحتال على استمالته إليه بألف حيلة فلم يفلح، فلم ير الحجاج أمامه إلا أن يمهد له الأسباب ليتعرف حقيقه نواياه بصراحة، ويغريه بالثورة عليه فيشتبك معه في موقعة حاسمة، أو يظل بعيدًا عنه حتى يستريح من رؤيته ولا يضايق نفسه بما يبديه له من صلف.

ولقد أراد الحجاج أن يستعين بأسرة ابن الأشعث حين ولي العراق ليكونوا له قوة يعتز بها على أعدائه، فلم يكد يقدم العراق أميرًا حتى زوج ابنه محمد من ميمونة بنت محمد الأشعث ليستميل بذلك أهلها وقومها إليه، وقد أفلح في ذلك، وإن أخفق في استمالة أخيها عبد الرحمن بن محمد الأشعث. قالوا: وكان له أبهة في نفسه وكان جميلا بهيًّا منطيقًا — مع ما كان له من التقدم والشرف — فازدهاه ذلك كبرًا وفخرًا وتطاولًا. وقد قربه الحجاج، وألحقه بأفاضل أصحابه وخاصته وأهل سره — كما يقولون — وأجرى عليه العطايا الواسعة؛ صلة لصهره وحبًّا لإتمام الصنيعة إليه وإلى جميع أهله، فأقام عبد الرحمن كذلك حينًا مع الحجاج لا يزيده الحجاج إلا إكرامًا ولا يظهر له إلا قبولًا، وفي نفس الحجاج من عجبه ما فيها، لتشمخه زاهيًا بأنفة حتى إنه كان ليقول إذا ما رآه مقبلًا: «أما والله يا عبد الرحمن، إنك لتقبل عليَّ بوجه فاجر وتدبر عني بقفاء غادر، وأيم الله لنبتلين حقيقة أمرك على ذلك.»

قالوا: فمكث بهذا القول منه دهرًا حتى إذا عيل صبر الحجاج من صلف عبد الرحمن أراد أن يبتلي حقيقة ما يتفرس فيه من الغدر والفجور، وأن يبدي منه ما يكتم من غائلته، فكتب إليه عهده على سجستان.

وإنما أراد الحجاج بذلك أن يمهد له سبيل الثورة حتى يحسم أمره، وقد أدركت أسرة ابن الأشعث ما يريده الحجاج، وذعرت من ذلك أشد الذعر، فتوسلوا إلى الحجاج أن يرجع عن عزمه فلم يقبل، فقالوا له: «أصلح الله الأمير، إنا أعلم بك منك فإنك به غير عالم ولقد أدبته بكل أدب، فأبى أن ينتهي عن عجبه بنفسه، ونحن نتخوف أن يفتق فتقًا أو يحدث حدثًا يصيبنا فيه منك ما يسوءنا.»

فقال لهم الحجاج: «القول كما قلتم والرأي كالذي رأيتم، ولقد استعملته — على بصيرة — فإن يستقم فلنفسه نظر.»

وقد صدق رأي الحجاج فيه، فقد توجه ابن الأشعث وهو مصر على الغدر.

رسالة الخلع

ولم يكد يمر عليه عام حتى بعث إلى الحجاج برسالة يخلع بها طاعته ويقول فيها:١

سلام على أهل طاعة الله وأوليائه الذين يحكمون بعدله ويوفون بعهده ويجاهدون في سبيله ويتورعون لذكره ولا يسفكون دمًا حرامًا، ولا يعطلون للرب أحكًاما …

إلى أن يقول:

إن الله أنهضني لمصاولتك وبعثني لمناضلتك حين تحيرت أمورك وتهتك ستورك فأصبحت عريان حيران مهينًا لا توافق وفقًا ولا ترافق رفقًا ولا تلازم صدقًا، أؤمل من الله الذي ألهمني ذلك أن يصيرك في حبالك وأن يجيء بك في القرن ويسحبك للذقن، وينصف منك من لم تنصفه من نفسك ويكون هلاكك بيد من اتهمته وعاديته، فلعمري لقد طال ما تطاولت وتمكنت … إلخ.

وهكذا بدأت الحرب بين ابن الأشعث والحجاج.

ولقد حاول «سعيد بن جبير» أن يرد ابن الأشعث وأصحابه عن عزيمته الجريئة فلم يستطع، فقال لهم: «إن الخلع فيه الفتنة والفتنة فيها سفك الدماء واستباحة الحرم وذهاب الدين والدنيا.»

فقالوا له: «إنه الحجاج وقد فعل ما فعل!»

قالوا: «وما زالوا يذكرون له من مساوئ الحجاج حتى صار معهم وهو كاره.»

•••

قالوا وبعث الحجاج «الغضبان الشيباني» ليأتيه بخبر «ابن الأشعث» فتوجه الغضبان إليه وأفضى إليه بسره، وقال له: تغد الحجاج قبل أن يتعشاك.٢
وقد عرف الحجاج ما قاله الغضبان فسجنه٣ مدة طويلة ثم أطلق سراحه فيما بعد.

(٣) بين الحجاج وابن الأشعث

وكان الحجاج وليس بالعراق رجل أبغض إليه من عبد الرحمن بن الأشعث، وكان يقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله.٤
المؤرخون

أعد الحجاج جيوشه لمحاربة ابن الأشعث، فجعل ابن الأشعث لا يلقى خيلًا إلا هزمها، قالوا: وعلم المهلب بشقاق عبد الرحمن فكتب إليه:

(٣-١) كتاب المهلب إلى عبد الرحمن

أما بعد، فإنك وضعت رجلك يا ابن محمد في غرر طويل الغي على أمة محمد الله الله فانظر لنفسك فلا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تغرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه عليها من الناس، فلا تعرضها لله في سفك دم ولا استحلال محرم والسلام.

(٣-٢) كتاب المهلب إلى الحجاج

وكتب المهلب إلى الحجاج:

أما بعد، فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل المنحدر من علٍ، ليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شرة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يسقطوا إلى أهليهم ويشموا أولادهم ثم واقفهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم إن شاء الله.

ولكن حقد الحجاج على عبد الرحمن وغيظه منه كان قد بلغا أقصى مدى، فأعمياه عن سماع هذه النصيحة الحكيمة، كما أعميا خصمه عبد الرحمن عن الرجوع إلى سبيل الرشد، فكانت الحرب الهوجاء الطاحنة التي كادت تعصف بالحجاج فتهلكه، ثم دار القدر دورة أخرى في الساعة الحاسمة فانهزم عبد الرحمن وغنم الحجاج الفوز في ساعة اليأس المميت.

ولقد استهان الحجاج برأي المهلب وظنه يخدعه، فقال بعد قراءته: «فعل الله به وفعل، لا والله ما لي نظر، ولكن لابن عمه نصح.»

والحق أن المهلب قد نصح ابن عمه كما نصح الحجاج، وكان بعيد النظر سديد الرأي موفق التدبير، وقد ظهر للحجاج بعد نظر المهلب وصدق رأيه حين هزمه ابن الأشعث فقال: «لله أبوه، أي صاحب حرب هو! أشار علينا بالرأي ولكن لم نقبل.»

ولقد امتلأ ابن الأشعث غرورًا بعد هزيمة الحجاج، وظهرت مطامعه الجريئة واضحة في قوله وهو يخطب أصحابه: «أما الحجاج فليس بشيء، ولكنا نريد غزو عبد الملك.»

(٣-٣) وقعة الزاوية

قال أبو الزبير الهمداني: كان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة، واقتتلوا في المحرم من سنة ٨٢، فتزاحفوا ذات يوم، فاشتد قتالهم، ثم إن أهل العراق هزموهم حتى انتهوا إلى الحجاج وحتى قاتلوهم على خنادقهم وانهزمت عامة قريش وثقيف.

ثم إنهم تزاحفوا في المحرم في آخره — في اليوم الذي هزم فيه أهل العراق أهل الشام — فنكصت ميمنتهم وميسرتهم واضطربت رماحهم وتقوَّض صفهم حتى دنوا منا.

(٣-٤) ساعة حرجة

قال الهمداني: فلما رأى الحجاج ذلك جثا على ركبتيه وانتضى نحوًا من شبر من سيفه وقال: «لله در مصعب ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل!»

فعلمت أنه والله لا يريد أن يفر، فغمزت أبي بعيني ليأذن لي فيه فأضربه بسيفي فغمزني غمزة شديدة فسكنت.

(٣-٥) انتصار الحجاج

قال: وحانت مني التفاتة فإذا سفيان بن الأبرد قد حمل عليهم فهزمهم من قبل الميمنة فقلت: «أبشر أيها الأمير فإن الله قد هزم العدو.»

فقال لي: «قم فانظر». فقمت فنظرت، فقلت: «قد هزمهم الله.»

قال: «قم يا زياد فانظر.» فنظر، فقال: «الحق — أصلحك الله — يقينًا قد هزموا.» قال: فخر الحجاج ساجدًا.

فلما رجعت شتمني أبي وقال: «أردت أن تهلكني وأهل بيتي؟!»

وهكذا كسب الحجاج المعركة بعد أن تحقق خسرانها، وأدرك الفوز — وهو على حافة الهلاك — وحاطته العناية والتوفيق في ساعة تشيب فيها النواصي وتنخلع القلوب.

(٣-٦) وقعة دير الجماجم

ونزل دير الجماجم، واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور وغيرهم بدير الجماجم على حرب الحجاج، وجمعهم عليه بغضهم والكراهية له.

كان موقف الحجاج حرجًا جدًّا في هذه الموقعة، فقد علم أن عبد الملك يهم بخلعه وتولية غيره حتى تستتب الأمور، وقد كاد يتم خلعه، ورأى الحجاج أن خسران هذه الوقعة البوار أهون منه، ففرق الأعطيات واستحث الجند وتخير للموقعة الحاسمة يوم الأربعاء.

قالوا: «وهو يوم يتطير به أهل العراق؛ فلا يتناكحون ولا يسافرون فيه ولا يدخلون من سفر ولا يبايعون فيه بشيء.»

وقد حمي وطيس الحرب واشتد القتال وكسرت ميسرة جيش الحجاج.

قالوا: «فحمل سفيان على جيش ابن الأشعث وهم بالميسرة مشغولون قد طمعوا فيها فهزمهم وكانت الغلبة له.»

ساعة النصر

ولما انهزم ابن الأشعث دعا الحجاج بدابته فركبها — بعد سجود ودعاء وشكر — وكبر الحجاج وكبر أصحابه معه تكبيرًا عاليًا.

قالوا: ثم انتهوا إلى ربوة فأومأ إليها ثم استقبل ناحيتهم والسيوف تأخذهم، وحسر بيضته عن رأسه، فجعل يقرع رأسه بخيزران في يده وهو يتمثل بهذه الأبيات:٥
كيف ترجون سقوطي بعدما
جلَّل الرأسَ بياضٌ وصلع
ساء ما ظنوا وقد أريتهم
عند غايات المدى كيف أقع
رب من أنضجت غيظًا قلبه
قد تمنى لي موتًا لم يطع
ويراني كالشجا في حلقه
عسرًا مخرجه ما ينتزع
مزيد يهدر ما لم يرني
فإذا أسمعته صوتي انقمع
ويحييني — إذا لاقيته —
وإذا يخلو له لحمي رتع
ورث البغضاء عن والده
حافظًا منه الذي كان استمع
ولساني صيرفي صارم
كذباب السيف ما مس قطع

هلاك ابن الأشعث

وما زال ابن الأشعث يمعن في فراره وجيوش الحجاج تتبعه، حتى لحق بخراسان ورجا في لحوقه بها النجاة من الحجاج والحذر لنفسه، ولم يشعر بالخيل التي في طلبه حتى غشيته، فلم تزل تطلبه من موضع إلى موضع حتى استغاث بقصر منيف.

فحصره ابن عم الحجاج وأحاطت به الخيل من كل جانب حتى ضيق عليه. ودعا بالنار ليحرقه في القصر، فلما رأى ابن الأشعث أنه لا محيص له ولا ملجأ، وخاف النار، رمى بنفسه من القصر وطمع في أن يسلم ولا يشعر به فيدخل في غمار الناس، فيخفى أمره ويكتم خبره، فسقط فانكسرت ساقه وانخذل ظهره ووقع مغشيًا عليه.

فشعر به أصحاب الحجاج فأخذوه — وقد أفاق بعض الإفاقة — ولا يقدر على النهوض، فأتوا به إلى ابن عم الحجاج، فلما رآه بتلك الحال أيقن أنه لا يقدر على أن يبلغ الحجاج حتى يموت، فأمر به فضربت رقبته وانطلق برأسه إلى الحجاج.

وهكذا انتهت حياة هذا الجبار، وانقضت مطامعه الجريئة، التي لم تقف عند حد الانتصار على الحجاج بعد تعدته إلى دك الرغبة في عرش الخلافة الأموية وعزل عبد الملك بن مروان، ولكن:

تقفون والفلك المسخر دائب
وتقدرون فتضحك الأقدار

هوامش

(١) كتبها لابن الأشعث أحد خلصائه.
(٢) وقد ذكر الرواة عنه أقصوصة طريفة ممتعة لا بأس من إثباتها هنا لما فيها من الطرافة والخيال. قالوا: إنه بعد أن انصرف من عند ابن الأشعث نزل «رملة كرمان» وهي أرض شديدة الحر، فضرب بها قبة وجلس فيها. فبينما هو كذلك إذ ورد أعرابي — من بكر بن وائل — فقال له: «السلام عليك.» فقال له الغضبان: «السلام كثير وهي كلمة مقولة.» قال الأعرابي: «من أين أقبلت؟» قال: «من الأرض الذلول.» قال: «وأين تريد؟» قال: «أمشي في مناكبها، وآكل من رزق الله الذي أخرج لعباده منها.» ثم قال له الأعرابي بعد حوار قصير: «أتقرض؟» قال: «إنما تقرض الفأرة» قال: «أتنشد؟» قال: «إنما تنشد الضالة.» قال: «أفتسجع؟» قال: «إنما تسجع الحمامة.» قال: «أفتنطق؟» قال «إنما ينطق كتاب الله.» قال: «أفتقول؟» قال «إنما يقول الأمير.» قال: «تالله ما رأيت مثلك قط!» قال: «بلى ولكنك نسيت.» قال الأعرابي: «فكيف أقول؟» قال: «أخذتك القول في العاقول وأنت قائم تبول.» قال: «أتأذن لي أن أدخل عليك.» قال «وراءك أوسع لك.» قال: «قد أحرقتني الشمس.» قال: «الآن يفيء عليك الفيء إذا غربت الشمس.» قال: «إن الرمضاء قد أحرقت قدميَّ.» قال: «بل عليه يبردان.» قال: «إن الوهج شديد.» قال: «ما لي عليها سلطان.» قال: «إني والله ما أريد طعامك ولا شرابك.» قال: «لا تعرض بهما، فوالله لا تذوقهما.» قال: «وما عليك لو ذقتهما؟» قال: «تأكل وتشبع، فإن فضل شيء من الأكرياء والغلمان فالكلب أحق به منك.» قال: «سبحان الله!» قال: «نعم، قبل آن يطلع رأسك وأضراسك إلى الدنيا». قال الأعرابي: «ما عندك إلا ما أرى؟!» قال: «بلى، عندي هراوتان أضرب بهما رأسك حتى ينتثر دماغك.» قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون.» قال: «أظلمك أحد؟» قال: «ما أرى.» ثم تركه وانصرف.
(٣) قالوا: وقد ذكره الحجاج بقوله لابن الأشعث: «تغدَّ الحجاج قبل أن يتعشاك.» فاعتذر إليه الغضبان بقوله: «أما إنها لا تنفع من قيلت له ولا تضر من قيلت فيه.» وهنا يروي القصاص رواية أخرى طريفة، فيقولون: إن الحجاج قال له: «ولكن أتراك تنجو مني بهذا، والله لأقطعن يديك ورجليك وأضربن بلسانك عينيك.» فقال: «قد آذاني الحديد وأرهق ساقي القيود، فما يخاف من عدلك البريء ولا يقطع من رجائك المسيء.» قال الحجاج: «إنك لسمين.» فقال: «من يك ضيف الأمير يسمن.» قال: «لأحملنك على الأدهم.» قال: «مثل الأمير — أصلحه الله — يحمل على الأدهم والأشقر.» قال الحجاج: «إنه لحديد.» قال: «لأن يكون حديدًا خير من أن يكون بليدًا.» قال الحجاج: «اذهبوا به إلى السجن.» قال: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ. قالوا: وما زال في السجن حتى بنى الحجاج خضراء واسط فقال لجلسائه: «كيف ترون هذه القبة؟» قالوا: «ما رأينا مثلها قط.» قال الحجاج: «أما إن بها لعيبًا، فما هو؟» قالوا: «ما نرى بها عيبًا.» قال: «سأبعث إلى من يخبرني به.» فبعث فجاء الغضبان وهو يرسف في قيوده، فلما مثل بين يديه قال له: «يا غضبان كيف قبتي هذه؟» قال: «أصلح الله الأمير نعمت القبة حسنة مستوية.» قال: «أخبرني بعيبها.» قال: «بنيتها في غير بلدك، لا يسكنها ولدك، ومع ذلك فإنه لا يبقى بناؤها، ولا يدوم عمرانها، وما لا يبقى ولا يدوم فكأنه لم يكن.» قال الحجاج: «ردوه إلى السجن.» فقال: «أصلح الله الأمير، قد أكلني الحديد، وأوهت ساقي القيود، وما أطيق المشي.» قال: احملوه. فلما حمل على الأيدي، قال: سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ ﻟنَا هَذَا وَمَا ﮐنا لَهُ مُقْرِنِينَ قال: «أنزلوه.» قال: وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ. قال الحجاج: «جروه.» قال الغضبان وهو يجر: بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ. قال الحجاج: «اضربوا به الأرض.» فقال: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ. فضحك الحجاج حتى استلقى على قفاه ثم قال: «ويحكم! قد غلبني والله هذا الخبيث، أطلقوه إلى صفحي عنه.» فقال الغضبان: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ.
(٤) قال الشعبي: «كنت عند الحجاج جالسًا حين دخل عليه عبد الرحمن بن الأشعث، فلما رآه الحجاج قال: انظر إلى مشيته، والله لهممت أن أضرب عنقه. قال: فلما أخبرت عبد الرحمن بما قاله الحجاج فيه. قال: أنا كما زعم الحجاج إن لم أحاول أن أزيله عن سلطانه فأجهد الجهد إذا طال بي وبه بقاء.»
(٥) والأبيات لسويد بن أبي كاهل اليشكري من قصيدة طويلة له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤