النَّدَّاهة

حين دفع «حامد» الباب، وفُوجئ بالمشهد الهائل المُروِّع مات، بالضبط مات؛ وجد نفسه فجأةً قد سَكنَت فيه كل خلَجة أو حركة أو فكرة، ولم يعُد يرى أو يسمع أو يشعر، والدنيا من حوله هي الأخرى سَكنَت تمامًا، وماتت، وانتهى كل شيء.

كانت «فتحية» زوجته راقدةً على أرض الغرفة، والولد الصغير ملتصق برأسها العاري ينتحب مرعوبًا وهو يجذب شعرها بشدة، بينما هي عارية الرأس، عارية الساقَين والفخذَين، عارية كلها أو تكاد، وفوقها يرقد أفندي بجاكتة وبلا بنطلون أو سروال، وإنما مؤخرته العالية قد ذابت في عُرْي «فتحية» وانتهى الأمر.

مشهدٌ صامت، غارق في ظلام الظهر الذي اعتاد الحجرة واعتادته، لا صوت فيه ولا صراخ ولا مقاومة. الصوت التالي تمامًا، وكأنه جاء بعد عام، كان صوت شهقة، شهقة بشعة هائلة البشاعة، شديدة اللهفة، مشحونة بالذعر والدهشة والرعب، شهقة كأنها صادرة عن كل الجسد بأقوى ما يستطيعه من استنكار: حامد!

شهقة انتفض لها الطفل خائفًا، وراح بأعلى ما يستطيعه من صراخٍ يبكي، ومع هذا فلم يعُد أحدٌ يسمع صُراخه؛ إذ أخذ كل شيء يَشْحب ويَصْفَر ويَبيَض، حتى الظلام، أبيض وعاد مثله مثل كل شيء في الحجرة أو البيت أو الدنيا كلها إلى مواته، وظل ميتًا وكأنما لعامٍ آخر، إلى أن عادت الحركة إلى الحجرة، وكان أول من تحرك فيها هو الأفندي، إذ في قفزةٍ واحدةٍ كان قد رفع بنطلونه، وأصبح خارج الحجرة، وفي القفزة التالية كان البنطلون في مكانه المعتاد، وكان هو خارج البيت!

وحينئذٍ فقط تحرك «حامد»؛ لأن الحياة حين عادت لم تعُد لعقله، إنما عادت فقط لأقدامه، فإنه وجد نفسه يقفز هو الآخر، وقد أَودَع القفز كل حياته، قفزة حملَتْه خارج الحجرة، وفي القفزة الثانية كان قد أصبح مثل الأفندي خارج البيت، ولكنه وصل متأخرًا قفزة.

وهكذا حين وصل إلى الشارع كان «الأفندي» الواحد قد أصبح عشرة، أو عشرين، كلهم بجاكتَّات، وكلهم ذوو مؤخراتٍ تُغطِّيها البنطلونات، ومعظمهم يمشون بأسرعَ من الجري، وأوسعَ من القفز، وكلٌّ منهم في اتجاه!

في تلك اللحظة — فقط — كانت الحياة قد عادت لعقل «حامد» وأفكاره، وأحس — من أول وهلة — أنه لم ينطلق في أثَر الأفندي إلا لأنه انطلق، ولأنه كان عليه أن يقفز خلفه؛ فمنذ الثواني الأولى وهو يعرف أن هدفه ليس الأفندي أبدًا — ولا أي أفندي — ولا في الشارع كله، أو حتى المدينة بأسرها، هدفه في حجرته، في زوجته، بل يكاد يكون في ذلك الجزء منها الذي طالما عمر بيوتًا وخرب بيوتًا، واقتتل من أجله الناس، جنة الخلق وجحيمها ومثواها.

وهكذا استدار، هذه المرة لم يقفز فقط استدار، ورفع قدمه بادئًا خطواته، وكاد يبقيها في الهواء مُعلَّقة؛ فعقله والحياة حديثة العودة إليه يأبى أن يعمل إلا كما يعمل عقل طفلٍ صغيرٍ واجهَتْه مشكلة، ومشكلته هذه اللحظة أنه خائف، بل مرعوب تمامًا. إن هدفه هو أن يعود إلى بيته — الحجرة — هذا صحيح، ولكن ليس في كيانه كله ذرةُ رغبةٍ واحدة في العودة، كيف يعود ليواجه زوجةً نصفها الأسفل عارٍ؟ جسدها مبطَّط لا يزال يحمل آثار كتلة الأفندي وبهيميته؟ أي إنسانٍ في الدنيا، أي زوجٍ يمكن أن تطيعه قدمه ليخطو بها تجاه مشهدٍ كهذا؟

ولكن، لأن رعبه هذه المرة هو الذي يُحرِّكه للعودة، لحظة فيها ألفُ لحظة! أقواها وأقساها جميعًا لحظة غدرٍ أَحسَّ فيها أنه أُخذ غدرًا. لم تَغدر به «فتحية» فقط أو الأفندي، ولكن الدنيا كلها بأرضها وسمائها أخذَتْه غدرًا. وحينما تغدر بنا الدنيا ونحن صغار، فإننا نلجأ لأمهاتنا لنجد في أحضانهن ما يُعيد إلينا الثقة في الوجود، وإذا غَدرَت بنا وكنا كبارًا سارعنا إلى زوجاتنا ليؤدِّين لنا نفس المهمة، فإذا كان الغدر هذه المرة مصدره الأم — ذاتها — أو الزوجة، فويلك يا «حامد»! حينئذٍ وأنت مشدودٌ مصلوبٌ ممزق بين رغبتك أن تفر من «فتحية»، ومن الدنيا كلها فلا تعود تراها أبدًا، ورغبتك في أن تُسرع بأقصى ما تقدر وترتمي في أحضانها وتشكو إليها، حتى لو كانت هي المشكو منها، رغبتك أن تستجير بها من الدنيا لتجد أن الأَوْلى أن تستجير بالدنيا منها، بما هو أبشع منها.

أجل! أحس «حامد» أن «فتحية» امرأته، زوجته نصفه الأنثى، تلك التي كان يعرفها كما يعرف ويضمن يده ورجولته وشهامته، «فتحية» قد تحوَّلَت، بل انتفض منها كائنٌ غريب مرعب كأنما سُخِطَت وحشًا راوغه، ثم نهشه من ظهره وهو آمنٌ مسلم مستسلم، وحش من فَرْط رعبه منه لا يجد ملجأً آخر سواه. ولو كان «حامد» قد قتلها في تلك اللحظة — وفكرة القتل نبتَت منذ أول ثانيةٍ عاد إليه فيها عقله، بل ربما قبل عودة عقله، ورغم أي شيءٍ آخر ظلَّت تدور في رأسه منفصلة تمامًا، تعمل عملها باستمرار، ولا يريد أن تفارقه أو يفارقها لحظة — لو كان قد قتلها في تلك اللحظة بالذات لكان قد فعل هذا ليس لأنها خانته أو انتقامًا لشرفه المهدر، أبدًا، لا بدافع الغضب أو الجنون أو الحنق، إنما ومعها جميعًا — بل وفي أحيان قبلها بكثير — بدافع الرعب المُروِّع منها، كأنما هي قد استحالت في نظره إلى غُولٍ أو حيةٍ رقطاءَ تقتلها قبل أن تقتلك، تقتلها ليس دفاعًا عن شرفك، وإنما دفاعًا عن نفسك أولًا، كتمًا لأنفاس ذلك الوحش الذي غافلك ونهشك وخانك، ومن يخونك يقتلك، ومن يقتلك لا مأمن لك إلا بقتله، بل أحيانًا ما هو أكثر! أحيانًا يصبح الإحساس المُمِض القاتل أن شيئًا في الكون قد اختل، ولا نجاةَ إلا بوأد الخلل في مكانه ولحظته. إن شيئًا حدث لذمة الدنيا والعالم، وملكوت السماء والأرض، فخَرِبَت، ثُقِبَت فجأة، وما لم نسارع بسد الثقوب لفغَرت الأبدية فاها، وابتلعَتْك أنت والكون الخرب.

كان مرعوبًا حقًّا! حتى لقد بدأ يرتجف وتصطكُّ أسنانه، ويُحس أكثر وأكثر بالطعنة القاتلة. ثَمَّةَ سكينٌ صُوِّبَت بيدٍ تعرف تمامًا خباياه وأسراره، وأصابت فيه أعزَّ ما في داخله. ألم الطعنة لا يزال لا يُحسُّه، فالسكين ما تزال سارقاه. إن ما يُحِسُّه هو الثقب العميق الغائر الذي خلَّفَتْه الطعنة، والذي كلما حدَّق فيه داخ وأحس أن في أعماق هذا الجرح نهايته. بغموضٍ ودوشةٍ وازدحامٍ كان يُحس بأن حادثًا خطيرًا وقع داخله، وبالضبط حين وقف على عتبة الباب المفتوح.

وكانت «فتحية» قد قفزَت قفزتَها الأُولى، وأحسَّت وهي تفعل وكأن آلافًا من قِطَع الزجاج المكسور تستجمع نفسها، وتتشكل وتقفز، قفزة لم تفلح في رفع جسدها، إنما فقط استطاعت بالكاد رفع يدها، والإمساك برأس السرير الضيق المنخفض. ولقد أرادت بالقفزة الثانية أن تجري مغادرة الغرفة، أو تقف، أو حتى تجلس، أو بالقليل تجلب ثيابها وتُغطِّي ما تَعرَّى من جسدها، وهو كل ما استطاعت — دون ما أرادته جميعًا — أن تفعله؛ إذ كان «حامد» قد وصل إلى العتبة، ووقف ممسكًا بكالون الباب ينظر أول ما ينظر إلى الطفل الذي كان قد سكت، وانطرح أرضًا، وبدا أنه نام، أو يغالبه النوم.

هو واقف ممسك بالكالون، وهي ممدَّدة مفتوحة الساقَين مبعثرة الجسد تستنجد برأس السرير ممسكةً به، وهو ينظر إلى الطفل، وكأنما قد أصبح أهم شيءٍ عنده، وهي تتجه بوجهها إلى السقف، ولكنها لا ترى إلا عينَي «حامد». هو ليس في عقله، مشهدٌ واحد لم يَرَ منذ أن عادت إليه القدرة على الرؤية سواه، وكأنما انطبع في عقله، وأبى أن يزول، مشهد مؤخرة الأفندي العارية وعري «فتحية»، وقد اندمجا في كتلةٍ بيضاءَ واحدة، وهي ليس في عقلها إلا نظرة «حامد» — أول وآخر نظرة تراها منه — لحظة اكتشاف حضوره، نظرة قد استحالت في رأسها إلى كابوس لا يرحم تكاد تصرخ من هوله مستنجدة، ولكنَّ قوةً قادرة قاهرة تُخرس صرخاتها وتكتمها. كابوس ترى فيه عَينَي «حامد»، وقد استحالتا إلى سيخَين من حديدٍ محمي إلى درجة تطاير الشرر تقتربان بسرعةٍ ثابتةٍ مستمرةٍ من عينَيها الاثنتَين، وحالًا وحتمًا هما مخترقتاهما.

كل الفارق بينهما أن «حامد» — كما هي العادة دائمًا — مطالب أن يكون صاحب البادرة الأُولى. أجل لا بد رغم كل الفجيعة والموت والرعب والطعنة والتأمل أن يعمل شيئًا، ويعمله حالًا، وفي التو؛ إذ إن أي تأخرٍ يُفسِده ويُلغيه ويقضي عليه. وهي خلاص وصل كل شيءٍ إلى منتهاه، ووقع المحظور الذي كانت تخشاه وطول عمرها تخشاه، ولم يَبقَ سوى العقاب، ما أجمل أن يسرع به «حامد»! فكل إبطاءٍ منه يُهدِّد بأن يمضي بها التفكير، فتتأمل ما كان وما حدث! وأبشع عقابٍ في الدنيا أهون ألفَ مرة من أن تعود مرةً أخرى لتفكر أو تتأمل أو تستعيد ما حدث.

كانت فكرة القتل قد دفعَت نفسها من قاع عقله إلى سطحه، كبيرة الآن مكتملة لا يمكن تجاهلها. لو قتلها فأقصى ما سيناله من عقابٍ هو الحبس سنة، أو ربما أقل، أو يقولون براءة، فهل يقتلها الآن؟

هل يتناول عصاه التي كان يُسمِّيها «الزقلة» من تحت السرير، وينهال بها عليها حتى يتطاير مُخها قِطعًا؟

هل يفعلها الآن؟ الآن؟ أو يستجوبها؟ أو لا يقتلها أبدًا؟ السؤال رهيبٌ مستمر دائر لا يتوقف في خواطره أبدًا.

والشيء الذي كان يغيظه ويكاد يكتم أنفاسه حقًّا أن انفعالته المحيية المميتة الصاعقة الأُولى قد مرت، وأنه الآن في لحظة أخرى، لحظة لا يرى فيها إلا المشهد الذي تسمَّر عنده بصره لا يريد أن يبرحه، بينما عقله يُقلِّب فكرة القتل مغيظًا؛ فقد كان القتل يبدو هنا شيئًا لا يمُتُّ إلى اللحظة أو المشكلة أو الموضوع أو المشهد الدائر في عقله ولا علاقة له به، وليس الحل الهدف ولا ما يريده تمامًا، كيانه كله في وادٍ آخر مشغول بما هو أهم وأخطر، والقتل يبدو شيئًا خارج الصورة تمامًا كما لو كان يواجه خطر قطار السكة الحديد وهو قادم يريد أن يسحقه، وعقلُه مشغولٌ بتقليب فكرة الدواء الذي وصفَه له حكيم المستوصف، وهل الأجدى أن يأخذه قبل الأكل أو بعده؟ الآن لا يريد لها أن تموت، وهو قطعًا لا يريد لها أن تحيا، وليست مشكلته أبدًا أن تحيا أو تموت، أو حتى كل هذا الطوفان من الأحداث الذي داهمه منذ دفع الباب وفتحه، مشكلته الحادَّة المُلحَّة في نفسه في هذا الجُرح الغائر العميق الذي لا قاع له، في هذا النزف الهادر الذي انهمر داخله، ولا يزال متزايدًا متعاظمًا يُقرِّبه في سرعةٍ رهيبةٍ من النهاية، نهايته؛ إذ ها هو ذا يراها تقترب اقترابًا حثيثًا مرعبًا، حتى ليجعله يُحس أنه في اللحظة التالية تمامًا سيموت، وينتهي «حامد» الذي يعرفه ينتهي تمامًا نهايةً مفاجئة غادرة، تتربص له وراء اللحظة التالية، بينما عقله الهايف الغبي لا يريد أن يتزحزح قيد أُنملة عن فكرة هل يقتلها أو يؤخر القتل إلى ما بعد الاعتراف؟ وهو يعلم تمامًا أنه غير قادر الآن على قتل بعوضة، وبعد غمضة عين لن يكون قادرًا على أي شيءٍ بالمرة؛ إذ سيكون بمثل هذه السرعة المُروِّعة التي يمضي بها قد انتهى.

الغريب أن النهاية نفسها هي المسألة التي كانت مُستوليةً على عقل «فتحية» تمامًا في هذا الوقت بالذات، ولكنها نهايةٌ لا رعب فيها، ولا خوف متزايد من خطرٍ ساحقٍ ماحقٍ يقترب في سرعةٍ خرافية، نهايةٌ لا تخاف منها وتقشعر وترتجف مثلما كان يحدث ﻟ «حامد»، بالعكس! هي هنا تطلبها وتريدها وتتمناها، والمهم أن تأتي حالًا، حتى تُجهِز عليها قبل أن يمتد الوقت ومضةً أخرى، وتجد نفسها مُضطرَّةً أن تُفكِّر، وبالذات أن تعود ترى نفس النظرة في عينَي «حامد». وبمثلِ ما كان «حامد» يتشبَّث تشبُّث المستميت ليُمسِك بآخر أهداب الحياة، حتى لا تفلت منه قبل أن يستمر في مواجهة الموقف، فهي بكل إرادة الحياة فيها كانت تتمنَّى أن تنتهي هذه الحياة وتموت قبل أن يحدث أي شيءٍ آخر.

إما الموت الداهم السريع، وإما أن تحدث المعجزة — أجل المعجزة — وتمحو كل ما حدث، وكأنما تمسحه ﺑ «أستيكة»، وكأنه ما حدث، وتعود الحياة إلى مثل ما كانت عليه قبل ساعة، أو بالدقة قبل شهر، لا بل لا بُد أن تعود كما كانت من خمسة أعوام مضت، بل حبذا لو عادت إلى العمر الذي بدأت فيه تعي وتهتف لها الهواتف. إنها على استعدادٍ لأن تملأ بحر النيل دمعًا، مستعدةٌ أن تظل تبكي وتستغفر من يومنا هذا إلى يوم القيامة في مقابل ليس حتى أن يغفر لها الله، ولا أن يمحو تمامًا كل ما حدث، وإنما في مقابل أن يجعلها تعيش و«حامد» ليومٍ واحد، بل لساعةٍ واحدة، بل للحظةٍ واحدة، واحدة يا رب، وكأن شيئًا مما حدث لم يحدث. ولكن المؤلم، المؤلم ألمًا لا يحتمله بشر أنَّ شيئًا مما تتمنى لن يكون، وأن السهم قد نفذ، وأن ما حدث كان وانتهى وقضى القضاء؛ فالمصيبة الكبرى أن هذا الذي كان ودار ليس غريبًا عليها، فلقد شاهدته بعينَي رأسها، كله، يحدُث طَوالَ الأعوام الخمسة الماضية، وبالذات طَوالَ العام الكئيب الماضي، والفكرة تُراودها وتُطاردها، والهاتف يهتف بها، ونفس هذا المشهد الذي دار بنفس تفاصيله الدقيقة، صحيحٌ لم يكن نفس الأفندي، ولكنه أفندي، وبنطلون مخلوع، ورقدة، والباب يُدفع ويدخل «حامد»، كله بالضبط رأته، وكانت متأكدة تمامًا أنه سيحدث؛ ولهذا هي تعيش هذا كله كما تعيش الحادث المعاد، وكأنه جرى قبل هذا مرة، بل ربما جرى مرات، لم يحدث شيءٌ واحد غريبٌ عنها، أو عما كان في رأسها وما رأته لسنين، بل إن هذا الأفندي كان دائم التربُّص لها، وأيضًا يترقَّبُها في حقل مشغولياتها اليومية الكثيف. فجأةً والطفل على صدرها تُرضِعه، والآخر فوق كتفها ينهَش شَعرها طلبًا للطعام، والطعام على النار، ويداها مشغولتان بطهوه، وعقلها مشغول بتدبير كساء الشتاء ومطالب رمضان، فجأةً يخرج لها الأفندي عاريًا إلى منتصفه! باركًا فجأة فوقها، حتى لتموت رعبًا، وفي اللحظة التالية تمامًا يُفتَح الباب، ويقف «حامد» على عتبته، تمامًا مثلما وقف، ويتم كل شيءٍ مثلما تم الآن كل شيء.

أتكون شيخة؟ أفي أعماقها التي أصبحت نجسةً مُدنَّسة ترقد قدِّيسةٌ مكشوف عنها الحجاب، ترى المستقبل؟

وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف تم هذا كما رأته مرارًا وعاشته؟

إنه لأمرٌ فوق قدرتها على التفكير والفهم. إنه لشيء يتوه فيه العقل، وقد تاه فيه عقلها وضل، حتى تاه عن تحديد ذنبها إن كانت مذنبة؛ فقد كانت تؤكد لنفسها إذا هتف بها الهاتف، وارتسمَت الصورة أنها بجماعِ نفسها ستُقاوم وستموت حتمًا قبل أن يستطيع — إنسيًّا كان أو أفنديًّا — أن يلمسها. ومع أن الهاتف نفسه كان يؤكد لها أن مقاومتها لن تُفلِح، وأنها حتمًا ولا بد في النهاية سترضى وتستسلم، بحيث تقع الكارثة ويكون المُقدَّر، إلا أنها كانت تُقاوِم وسوسة الهاتف نفسها وتُقسِم، وتموت غيظًا مؤكدةً لنفسها أن شيئًا مما يقوله لن يكون، ليعود الهاتف يؤكِّد لها أنه حتمًا سيكون، برضاها أو بعدم رضاها سيكون، بل هو كائن وحادث فعلًا، ودائم الحدوث، إن هي إلا لحظة يغيب عقلها في أدغال مطالب حياتهم ومشاكلها لتُفاجأ — كمجيء يوم القيامة — بالأفندي يخرج لها عاليًا لترتجف منه وترتعش ارتعاش ستنا مريم، وتقع لها الواقعة!

إنها لم تكن معتوهة أو ذات لوثة، وليس في سيرها أو سلوكها ما يخدش. إنها بنتٌ طيبة من بنات ريفنا ذات عقلٍ راجح، نفس العقل الذي جعلها تُفضِّل «حامد» على «مصطفى»، مع أن «مصطفى» خفيرٌ نظامي ماهيته مضمونة، خمسة جنيهات وتسعون قرشًا، ويزرع نصف فدانٍ أيضًا، وله «عِجْلة»، بينما «حامد» ليس «حيلته اللضى» وأكبر من «مصطفى» في العمر بخمسة أعوام على الأقل، وأسمرُ غامق السمرة، ولكنها تظلم عقلها أي ظلمٍ إذا قالت إنه هو الذي اختار، فمن وراء عقلها كان دائمًا أصبعٌ يشير، أصبعٌ ضبابي غامض يكاد يهمس لها ويُصِر ويطالبها أن تأخذ «حامد»، وتترك «مصطفى»؛ ﻓ «حامد» يعمل في مصر، وهي على يقينٍ دائمٍ أن حياتها في بلدهم محدودة، وأنها حتمًا بطريقةٍ أو بأخرى سيُكتَب لها أن تعيش في مصر، ذلك المكان الرائع الواسع «أم الدنيا» الفخم الفاخر الذي يجلو الصدأ عن الجلد، ويُحيل من يعيشون فيه إلى «سنايير». ألم تعُد منها «فاطمة» بنت خالتها التي كانت تعمل «خادمة»، وهي كالخواجات بالكاد استطاعت أن تتعرف عليها وهي هابطة من القطار بالفستان والشنطة؟ فما بالك وهي لن تكون «خادمة»، وإنما زوجة وزوجة لبواب يسكن في عمارة أعلى من السماء من عشرة طوابق؟

يا لله! إن الهاتف الذي يهتف بها، ويؤكِّد أن مُقامَها سيكون في القاهرة عنده حق، فهي — كما يؤكِّد لها الكل — ليست مخلوقةً لتنغرز من طلعة الشمس إلى مغيبها في الطين. إن جسدها الأبيض الناصع البياض مخلوقٌ للبندر، وحلاوتها من حلاوة مصر؛ فبمقاييس القرية كانت «فتحية» حلوة، بل من أحلى البنات؛ فقد كانت بيضاء وكأنها ابنة أحد الأغنياء؛ إذ الأغنياء وحدهم هم البيض، بيضاءُ طويلةٌ نحيفة هذا صحيح، ولكنها نحافة سببُها الزيت والأذرة، غدًا حين تأكل العيش الخاص الغلة، وتُغمِّس بالسمن «ستسمن». مُقامُها لا بد في مصر، هكذا راح يُؤكِّد لها هاتف، والغريب أنه لم يكن من خارجها، وإنما من داخل نفسها ذاتها كان يُوسوِس ويهتف. هناك تقيم حيث الشوارع الواسعة الحلوة النظيفة التي تنام على أسفلتها دون أن تعلَق بك ذرةُ ترابٍ واحدة؛ حيث النور الكثير البرَّاق في الليل يحيل الظلام إلى نهارٍ ساطعٍ، بل إلى ما هو أحلى وأروع من النهار الساطع. هناك حيث الستات حلوين وكأنهن من أوروبا، والرجال حمر الوجوه أغنياء يركبون العربات، ويصرفون بالجنيه الكامل في اليوم الواحد دون أن يُحسُّوا والنقود تغادر جيوبهم بلذعة الحسرة. هناك حيث الطعام الكثير والكباب والروائح الحلوة واللوكاندات وبحر النيل الأعظم، حيث يبدأ النيل وينبع.

هناك في تلك الجنة سيكون مُقامُها، هكذا كان يؤكِّد لها الهاتف الخفي باستمرار، ولهذا لم تَعجَب أبدًا والأمور تُرتِّب نفسها و«حامد» يتقدم لها وأهلها يتردَّدون، ولكنها هي التي تتحمَّس وتوافق.

وبعد أسبوعٍ واحد تسافر، وتصبح أخيرًا وكما حلمَت ألف مرة ومرة في قلب مصر، وفي العمارة التي طالما حاولَت تصوُّر أدوارها العشرة، صحيحٌ أن مُقامَها لم يكن في دورٍ منها، وإنما في حجرة «حامد» التي بناها له صاحب البيت على عجل تحت «السلم»، بناها بتحريضٍ من زوجته على أمل أن يجدوا في زوجة «حامد» حين يتزوج «خادمة» تحل لهم مشكلة الخدم.

ولكن معلهش، الحجرة فسيحةٌ رغم كل شيء، وفيها سرير بمرتبةٍ حقيقية، ودولابٌ صغير، وتُضاء بالكهرباء، واللمبة لها «زر» تدوس عليه هكذا، فإذا ﺑ «تك» ويغمر النور الوهَّاج الحجرة.

وصحيح أن «فتحية» الحلوة في قريتهم بدت غريبةً في القاهرة، وبدت لسكان العمارة كعروس من مسرح العرائس؛ فقد كانت بيضاءَ طويلة، هذا حقيقي، وملامحها جميلة في حد ذاتها، عيناها جميلتان وأنفها صغيرٌ جميل، لا يمكن أن يكون أنف فلاحة، وفمها دقيقٌ بالضبط كخاتم سليمان، ولكن المشكلة أن ملامحها تلك تبدو غير مناسبةٍ مطلقًا لقامتها ولحجمها، وكأنها وجه طفلةٍ صغيرة ورأسها قد رُكِّبا لامرأة، أو كأن الرأس قد صُغِّر بطريقةٍ ما ووُضِع فوق جسد عادي.

ولكن المهم أن «حامد» راق مزاجه، وانقلب من «الكلب الكشر» الذي يعوي طول النهار ويصيح، إلى إنسانٍ مرح ضاحك كالنحلة، صاعدٍ هابط، واقفٍ قاعد، يُحيِّي، ويُوصل، ويُلبِّي الطلبات.

أما «فتحية» فقد قبعَت في مكانها المواجه للباب من الحجرة ترقُب المدخل العريض الواسع، والباب الضخم الزجاجي، باب العمارة، ترقب مصر، أو بالضبط ذلك القطاع من الشارع المواجه الذي يُكوِّن «مصر» في نظرها.

قبعَت منكمشة على نفسها تتفرج وهي لا تزال أسيرة الرحلة من باب الحديد إلى العمارة التي واجهَت فيها لأول مرة ذلك الحُلم الذي عاشت تحلُم به، ويهتف بها الهاتف من أجله، مصر! مصر التي وجدتها أروع بكثيرٍ مما تخيَّلَت أو استطاعت بنت خالتها أن تصف، أروع وأكبر وأعظم ألف مرة، مليون مرة. أيمكن أن تكون الدنيا بهذا الازدحام، أو الشوارع بذلك العرض، أو الميادين بهذا الاتساع؟

أيستطيع الناس أن يعيشوا وسط هذا الحشد الرهيب من العربات التي تمضي بسرعة البرق، بحيث تلهفُك إحداها حتمًا إذا سهوتَ وتلفَّتَّ خلفك مرة؟ والدكاكين، والمحلات، والصور، والنور، النور ذو الألوان السبعة الذي ينطفئ ويولع بالكهرباء وعلى «الواحدة» كالمزيكة، والهيصة، والدوشة، والمولد. لقد خُيِّل إليها حين أفلح «حامد» بعد جهادٍ أن يجُرَّها إلى وسط ميدان باب الحديد، وهي مُروَّعة مذهولة تكاد تُجن، أنه لا بد في مصر عيد أو مولد أو شيءٌ آخر لا تعرفه يزدحم له الناس كل هذا الازدحام، وتصدُر عنه كل هذه الضجة الهائلة التي ترتجف لها الأذن، فقال لها «حامد» وهو يضحك ضحكة العارف العالم: «إنها حال كل يوم.» فيا لها من مدينة تلك التي يحيا الناس فيها كل يوم في مولد وعيد!

ولكنَّها في مُنكمَشِها خلف باب الحجرة المُوارَب، وهي ترى من بعيد هذه المرة وتتأمل، بدأَت ترى في مصر، تلك التي تلخَّصَت في قطاع الشارع المقابل، أشياءَ لم تتصوَّر مطلقًا أن تجدها في المدينة الحُلم. رأت فقراء، فقراء تمامًا وجوعى وشحَّاذين، حتى في قريتهم نفسها لا يُوجد الفقر فيها على هذه الدرجة من البشاعة، وفيها كذب أيضًا وشتيمة وقلة أدب وحرامية ونشَّالون، حرامية هم السبب في وجود أمثال زوجها الذي يُحدِّثها عنهم وعن حوادث السرقات المجاورة والبعيدة. وستات مصر اللاتي تصوَّرَتهُن أوَّلَ ما رأتهن خواجات سنايير، فيهن قبيحاتٌ كثيرات، بل معظمهن قبيحاتٌ لولا الأحمر والأبيض والطلاء الذي يَطلِين به وجوههن، فتحمر كالأحذية اللامعة، وتترك صاحباتها أشد قُبحًا، سيدات بدأَت «فتحية» من كثرتهن تُحس بنوعٍ من الرضا عن نفسها، تلك التي اعتقدَت أوَّلَ الأمر أنها لن تصلُح في سوق النساء في مصر إلا خادمة لأقل سيدة من سيداتها. ووصل الغرور إلى درجة الاعتقاد أنها لو لبست مثلهن لأصبحت محط أنظار الناس جميعًا، ولاعتبروها مثلما كانوا يرونها في البلدة ملكة من ملكات الجمال، حتى «حامد» نفسه وعمله ذلك الذي لم تفهمه تمامًا حين قالوه لها، إنها تصوَّرته شيئًا كخفيرٍ نظامي للبوابة عليه حراستها في الليل، له نفس احترام وهيبة الخفير ذي البندقية في بلدهم. ها هي تراه شيئًا أقرب ما يكون إلى الخدَّام، ينحني لهذا، ويُسرِع في تلبية طلبات الست «أم فلان»، ويشخط فيه صاحب البيت ويؤنِّبه ويشتمه بألفاظٍ غريبةٍ لعلها ألفاظ الشتيمة في مصر، ألفاظ لم تعرف لها «فتحية» مطلقًا أي معنًى مثل يا «أحمق» أنت «مياس»! حتى موقفه يوم ألحَّ صاحب البيت عليه أن يجعلها تعمل عندهم، ورفض هو بإباء وشمم مُقسمًا أنه لو حكمَت ألا يعمل عندهم أو عند غيرهم، لم تستطع أن تهضم ذلك الموقف وهي ترى الحال البائس وترتيبهم في «سُلم» الناس في العمارة أو خارجها لا يسمح بهذه «العُنجُهية» التي لا يقفها إلا إنسانٌ على الأقل في جيبه خمسة جنيهات؛ تلك فرصة لأكل العيش ولهدمة كستور تلبسها في الشتاء، ولأكلةٍ حلوة نظيفة من المحتمل جدًّا أن ينالوها بين الحين والحين، ولكن «حامد» يرفُض ويركب رأسه، وحين تفتح فمها لتناقشه يصرخ فيها وكأنه صاحب البيت وهي ساكنة الدور الثامن عنده.

والحقيقة أنها في رغبتها للعمل كان أكل العيش حُجَّة، كانت في الواقع تريد أن «تتعرف» على أهل مصر أكثر، وأن تدخل بيتًا من بيوتهم، وتُحادث ناسًا منهم؛ إذ هي في حبستها في الحجرة هكذا لن تُمكِّنها طبيعتها الخجول المنطوية أن تفعل شيئًا من هذا، بل لا تملك إزاء نظرات سكان العمارة التي تمتد عابرة المدخل مقتحمة الباب، رامقةً إياها أنَّى تكون، مستطلعة شكلها وجلستَها وزيَّها باسمة أو مغمغمة أو ساخرة، لا تملك إلا أن تزداد انغلاقًا وانكماشًا وتزداد القيود حولها أحكم، قيود من صنعها، فليس سكان العمارة فقط، ولكن المدينة من حولها حافلةٌ متحركة مائجة، كل شيءٍ فيها يجري ويختلط مكهربًا ويكهرب. وهي إلى درجةٍ ما، وزوجها «حامد» لم يكن باستطاعتهما ليس فقط أن يتركا أنفسهما للمدينة وحركتها تفعل بهما ما تفعل بالآخرين، وإنما هذه الحركة الهائجة المائجة نفسها لا تفعل أكثر من أن تُخيفَهما وتُروِّعهما وتدفعَهما للانكماش أكثر، أو بالأصح تدفعها هي؛ «فحامد» — وبالتحديد منذ أن تزوَّجَها وجاءت — استطاع وبطول العهد أيضًا أن يتحرر بعض الشيء، ويتحرك ويذهب إلى السيدة زينب ويجوب شبرا مصر، ويعرف أن تُغيِّر إذا كنتَ ذاهبًا إلى الحسين، وليست حركة فقط، إنما فهم أيضًا ودردحة، فقد بدا ﻟ «فتحية» وكأنه أصبح إنسانًا آخر غير «حامد» الأسمر شابِّ بلدتهم الصامت الخجول، الذي يدير وجهه إلى الناحية الأخرى إذا قابل موكب حاملات الجِرار في الصباح، الآن باستطاعته أن يُهزر مع عمال الجراج، ويضحك، ويجمع إيجار العمارة كلها ويحسبه بالمليم، بل وأصبح له أصدقاءُ من أهل مصر نفسها ومن غير بلدياته وأقاربه. هي وحدها الباقية أسيرة الحجرة، أسيرة حتى ذلك الشرخ المحدود الذي ترى عالم مصر منه، شاعرة أنه ليس عالمًا أو مدينة، إنما هو بحرٌ لا بر له ولا قرار، تسير هي على حافتِه إن سهت مرة، وزلَّت قدمها فقُل عليها السلام، والمخيف أنه بحر ليس هادئًا أو ساكنًا أو يأخذ منها نفس موقفها منه، إنما هو بحرٌ جبارٌ صفيق تمتد منه آلاف الأيدي، وتُطِل منه آلاف الابتسامات كابتسامات الجنيات والنداهات، خادعة تدعوها وتُسهِّل لها خوض الماء، أجل! كلها أيدٍ ماكرة وابتساماتٌ خبيثة، حتى نداء ذلك الساكن الملهوف والنقود في يده والبقال قريب، يدٌ تمتد من البحر تجعل شلَل الخوف يُجمِّدها في مكانها لا تتحرك، يدٌ تمتد في مكانها تنكمش أكثر وتزداد انكماشًا، وكأنها ما رأت أو سمِعَت، ملتفتةً إلى الناحية الأخرى، أو مُخفيةً رأسها هربًا تتمنى أن تحدُث معجزة، وتُنقِذها من الموقف، بينما الساكن حين ييأس يُصوِّب لها نظرةً لا تراها، إنما تُحِسُّها رصاصة تخترق رأسها، كثيرًا ما يتبع نظرته بغمغمةٍ لا تُخطِئ أذنها فَهْم ما بها من سِباب.

ولكن خجولًا فلتكن، منغلقة منكمشة، فلتنكمش ولتنغلق، فللحياة قوانينها التي لا مناص منها ولا مهرب. وهكذا مع الحمل الأول كانت «فتحية» قد غادرت الحجرة، واتسع عالمها فاحتوى المدخل، ومع الطفل الثاني الذي أعقب الأول بأشهر كان قد اتسَع حتى شمل الرصيف الملاصق، بل والمواجه، والشارع إلى ناحيته من هنا، وإلى الميدان الذي يؤدي إليه من هناك، والآن أصبحت «فتحية» ترُدُّ، بل وأحيانًا تُثير النقاش، وتُلبِّي الطلبات، وتستطيع أن تفرق بين عربة المدارس القادمة تحمل ابن الدكتور، من العربة القادمة تحمل ابن الموظَّف في الإذاعة، وكل قصص السكان عرفَتْها من «حامد» ومن غيره، بل وبلغ بها الأمر أنها أصبحَت هي مصدر «حامد» في معرفته لأخبار السكان وأحوالهم، وزائر منتصف الليل الذي يطرق شقة البك الموظَّف في الطيران، بالذات في الليالي التي يكون فيها «نوبتجيًّا» في المطار، بل ولم تكن هذه آخر ما بدأت «فتحية» تعرفه عن مصر السفلى وأحوالها وأخبارها، بحيث أصبحت تدرك أن تحت مصر الوجيهة الغنية المؤدبة الوقور، هناك مصر أخرى مليئة بالفضائح والمخازي والأشياء التي لا يعرفها إلا البواب، أو مَن هو أدهى في هذه الأمور وأمَرُّ، زوجة البواب خاصةً إذا كانت رغم صغر عينَيها ترى كثيرًا، وبالذات في الليل، ورغم دقة رأسها تستطيع أن تعرف الفرق بين أخت الزوج الذي تُصيِّف زوجته بأولادها في الإسكندرية، بينما هو يا عيني غرقان في الشغل في مصر، وبين إخوته الحقيقيين الذين يزورون الأُسرة طول العام.

والغريب أنها كلها أشياء لم تُفسِد الحلم في عقل «فتحية» تمامًا، صحيح نالت منه كثيرًا، ولكنها أبدًا لم تضيعه، بَقِيَت مصر العظيمة هي مصر العظيمة في نظرها والشر في كل مكان؛ هكذا كانت دائمة الرد على «حامد» حين يجيئها بين كل حينٍ وحين لاعنًا مصر وأبو مصر وأهل مصر، الذين فعل أحدهم به كذا أو كيت.

وإذا كان الشر والوحل والقُبح في القاع، فالنجاة في العوم.

وهكذا تعلَّمَت «فتحية» أن تفعل مثلما يفعل آلاف وملايين الناس الذين تَحفِل بهم مصر الكبيرة، ويُكوِّنون حركاتها الجبَّارة الهائلة، وتعوم مثلما يعومون. كل ما كان يُنغِّص عليها حياتها أحيانًا هي تلك الانتفاضات التي كانت تفاجئها على هيئة كمين، يخرج لها منه من بين مشاغلها التي أصبحَت كثيرة وكثيفة ذلك الأفندي العاري كاليد المهولة الممتدة، مُهدِّدة أن تجذبها إلى القاع مباشرة، حيث الوحل والقبح والطين. خرج لها ذلك الهاتف اللعين الذي طالما أكَّد لها وصدق أن ستكون القاهرة مآلها، ليؤكِّد لها أنها واقعة في المحظور مع الأفندي لا محالة ومهما فعلَت، مسألة تترك «فتحية»، وهي تكاد تنفجر بالغيظ والضيق والاستنكار والتصميم أيضًا، تصميم قاطع مانع أنْ أبدًا لن يكون حتى لو دفعَت حياتها ثمنًا، فأبدًا لن يكون، وبيننا الأيام يا مصر.

•••

وفي مدينةٍ كبيرة كهذه مليئة بالذئاب، ذئاب الليل وذئاب النهار، ذئاب الأوتوبيسات وذئاب العربات، وحتى الأرصفة وطوابير الجمعيات الاستهلاكية لها ذئاب، وفي عمارةٍ كبيرة كهذه لا يمكن أن يسلَم الأمر من وجود ذئب.

والحقيقة أنه كان فيها أكثر من ذئب من العبَث التصدِّي لهم جميعًا، فيكفينا ذلك الشاب الأبيض الحليوة قاطن الشقة الوحيدة بالدور الأرضي، أخفُّ سكان العمارة دمًا، وأكثرهم حيوية وتواضعًا، كما أنه خدومٌ شهم يجيد احترام الآخرين ورفع الكلفة معهم، وكل هذا طبعًا لا يعني أنه ليس بذئب؛ فالحقيقة أن هذا السطح البرَّاقَ الخاطف للبصر كان يُخفي ليس ذئبًا فقط، إنما يُخفي ضبعًا شريرًا لا ذمة له ولا ضمير؛ فهو مجنون بالنساء جميعًا، وفي سبيل أن يظفر بالواحدة منهن مُستعِد أن يفعل المستحيل، مُستعِد أن يكذب أو ينافق أو يسرق أو يقتل أو يستعمل القنبلة الذرية لو كان يملك واحدة، والمرأة عنده ليلةٌ واحدة يقضيها معها، وبعد هذا يبحث عن الثانية، وكأنه أخذ نساء الأرض جميعًا مُقاوَلَة، وعليه أن ينتهي منهن قبل أن يفرغَ عُمره، وعُمره الآن خمسة وثلاثون عامًا، وسُمعته كالذهب، أو عبقريته أنه استطاع أن يُخفي حياته الأخرى هذه عن المجتمع الذي يحيا فيه، بحيث يمشي مع الشرفاء مرفوع الرأس لا يعرف ما بداخله سوى ضحاياه، وحتى ضحاياه كثيرًا ما غفرن له، بل وبعضهن أحبَّه وتعلَّق به وذاق من العذاب أهوالًا. بالطبع كان قد انتهى مِن كل مَن رُقن في عينَيه من سكان العمارة، وبالضبط وهو عائد ذات يوم من عمله، وبعدما حيَّاه «حامد» بطريقة البوابين التي كان قد أتقنها، والتي كان يستطيع بها أن يوهمك أنه وقف بينما هو في الحقيقة لم يغادر مجلسه، و«فتحية» أمام باب الحجرة جالسة قد احتوت رضيعها تمنحه ثديها الأبيض الناصع الشديد البياض الضامر أيضًا، الضامر إلى درجةٍ لم يكن يملك معها الإنسان إذا رآه إلا أن يرثي لصاحبته!

ولكن أفندينا — الساكن — لم يَرثِ؛ ألقى عليها نظرة، ثم بالتفاتةٍ مقصودة أو غير مقصودة ألقى نظرةً أخرى على «حامد» الذي عاد يمُد ساقه النحيلة فوق الساق الأخرى، بحيث يمكنه أن يمُد ذراعه، ويسند إليه يده، ويداعب مسبحةً رخيصة ناقصة الحبات، بينما وجهه الأسمر الحافل بحُفرٍ تشهد أن الجديري قد زار طفولته، وجهه ذاك قد عادت تحتلُّه ابتسامةٌ طيبة مليئة بسعادةٍ ساذجة البراءة، وبدا كما لو كان يعود ليَنهَى — بحماسٍ فاتر — ابنَه الأكبر عن تخطيط رُخام المدخل بقطعة طباشير عثَر عليها، وكان سعيدًا بابنه وشقاوة الذكورة فيه سعادةً تجعل لسانه ينتقل في نشوة من تأنيب ابنه ونَهْره إلى مداعبة «فتحية» ومطالبتها بابنٍ ثالث علَّه يطلع هادئًا وديعًا كأمه.

استوعَب الأفندي الساكن هذا كله في الزمن القليل الذي استغرقه ليصل إلى باب شقته، ويضع مفتاحه في قفلها، وفي ومضة كان عقله المركب بطريقةٍ لا بد غريبةٍ بالغة التعقيد، فمشهد كهذا كان يمكن أن يهزَّ بعضهم رأسه لرؤيته، أو يبتسم في رثاءٍ مثلًا، أو حتى إذا كان شريرًا، فأقصى ما يفعله أن يسخر بينه وبين نفسه من هذه العائلة الطيبة المسكينة السعيدة. أما هو فقد كان موقفه أن اتخَذ في الحال قرارًا لا رجعة فيه، أن يلتهم «فتحية»، ويضُمَّها إلى قائمة الضحايا. هو ليس إذن ذئبًا عاديًّا، إنه ضبع، أشدُّ ما يجذبه إلى الضحية هو بالضبط نفس الأسباب التي تدفع غيره من الذئاب لأن يبتعد. إن أسعد مغامراته تلك التي انقَضَّ فيها على أرملة في نفس ليلة وفاة زوجها العجوز، أو تلك التي بدأ بها تاريخه حين ضاجع أم زميله الذي كان يُذاكر معه. أما تلك الخائفة المنكمشة على نفسها، التي ما خاطبها مرة إلا واستدارت بعيدًا مبتعدة أو هاربة، ذات الثدي الأبيض الضامر وزوجة الأسمر الطويل الفلاح «حامد»، فلا علاج لانكماشها على نفسها وخوفها منه ومن مصر والمصاروة، إلا بأن يأتيَها عساها تكُفُّ عن الانكماش، وتأنس إلى ناس المدينة.

وعبقريته، ولكلٍّ عبقريته الخاصة، أنه ما إن يتخذ قرارًا كهذا، حتى يبدأ عقله يتفتق عن أفكارٍ جهنمية، وعن طرق ووسائل لا يمكن أن تخطر على عقل بشر؛ فهو خاملٌ كسول ممتعض الابتسامة إلى أن يحدُث وتقع عينه على الواحدة منهن ويقَر قرارُه، في الثانية التالية تجده قد استحال إنسانًا آخر دبَّت فيه طاقات الحياة، وتفجَّرت في عقله الأفكار والخطط، وأقبل على الحياة بشهيةٍ مفتوحة، وأصبح كائنًا آخر لا تكاد تعرفه.

وقبل أن يُدير المفتاح كانت يده قد خبطَت جبهته علامة الألم للنسيان، وكانت المحفظة قد أُخرجت وخمسة جنيهات قد فُردَت أمام عيني «حامد»، وعُلبة سجاير كليوباترا يا «حامد» نسيت شراءها، هاتها أنت من تحت الأرض بأي ثمن ولو بثلاثين قرشًا، والورقة بخمسة جنيهاتٍ معك، لا تعُد إلا بها يا «حامد»، حتى لو ذهبتَ إلى شبرا البلد.

يا لمكره وهو يفتح ﻟ «حامد» باب الاختلاس المحدود على مِصراعَيه! الاختلاس المغري بالغياب وادِّعاء التعَب. ويا لطيبة «حامد» وهو يبتلع «الطعم» في الحال! ويُقرِّر حتى قبل أن يبرح مكانه أن ثلاثة قروش على الأقل ستدخل جيبه من هذه الصفقة، وعليه أن يُبرهن أنه استحقَّها. أما أنتِ يا ست منكمشة — فبعدما تأكد من ذهاب «حامد» ها هو ذا يعود فاتحًا باب شقته الذي لا يبعُد عن باب حجرة «السلم» إلا بضع خطوات: مش تشرفينا؟ «فتحية» فعلًا وأنت «فتحية»، وابنك الرضيع هذا؟ «سلطان؟» عاشت الأسامي، والثاني «عنتر؟» ياه! عيلة أبطال صحيح، والثالث؟ ما فيش ثالث؟

من هنا نبدأ، ونبدأ بلو كنت من «حامد» لكان الثالث على الأبواب، وعلى هذا الباب الأخير مضى الولد القاهري «المرقَّع» يدق دقًّا اكتشف أن «فتحية» بالكاد تعيه. أغباء هذا أم استغباء؟ على أي الحالَين عليه أن يُغيِّر الأسلوب. المال؟ إن هذا النوع لا يُقدِّر قيمة المال، فلا يعرف قيمة المال إلا من يعرف كيف يصرفه، إلا المتعامل بالمال. الحب؟ إن هذا الصنف أيضًا لا يتطلع إلى الحب، أو بالذات حبه، هم لا يرفعون عيونهم أبدًا إلى ما فوق الحواجب، ولا يتطلعون إلا لحب مَن في طبقتهم، أو ربما إذا تطلَّعوا فإلى الأعلى منها بقليل، أما هو البيه الوسيم الذي يعامل الخمسة جنيهات بهذا الاستهتار فمحال. من أين «أكلك» إذن يا «بطتي» النحيفة المعضمة؟ بخطةٍ بعيدة المدى لا بد، خطة تجعل هذه الخائفة المنزعجة المذعورة تطمئن إليه أولًا، وتكُف عن الخوف منه، ثم يتقدَّم خطوة ويرفع الكُلفة معها، ثم ينتهز الفرصة أو يخلقُها خلقًا، ويحاصرها حصارًا لا تملك معه إلا السقوط.

وما كاد يبدأ التطبيق حتى أدرك أنه رغم كل ذكائه وفهلوته قد خانته فراسته هذه المرة؛ فهو ما كاد يبدأ الخطوة الأولى لتطمينها بالحديث معها، حتى أدرك أنه ليس أمام إنسانة، وإنما هو أمام حيوان كحيوان القواقع، ما تكاد تُحس باقتراب صوت أو خيال، حتى تنكمش وتنكمش، حتى لتستحيل إلى كتلةٍ صمَّاء من اللحم والعظم غير قادرة على الإرسال أو الاستقبال. إنه للآن لم يَرَها رأي العين، إن هي إلا مرةٌ رأى فيها وجهها، وما كادت تُدرِك أنه يراها، حتى كان وجهُها قد اختفى، واختفى وهي أمامه لم تبرح مكانها ووسامتُه من أقوى أسلحته، وقد كان يريد لها أن تراه، كان متأكدًا أنها إذا رأته مرة، وتطلَّعَت إليه مليًّا، فإن شيئًا ما سيحدث لها، تمامًا مثلما كان يحدُث للعشرات اللاتي سبقنها، ولكن كيف تراه وهو كلما هم بالتحدُّث معها أحَسَّ أن شيئًا في داخلها يمنعها أن تسمع، وإذا سمعت يمنعها أن تعي، وإذا وعَت يمنعها أن ترُدَّ أو تُجيب، أو حتى تتطلع لتعرف من الذي يتحدث؟

وقد كان من الممكن أن يحدُث هذا ﻟ «فتحية» في أول مُقامها بالعمارة، أما بعد أن خرجَت وجابت الشارع، وأصبحَت تتعامل مع السكان وغير السكان، فهو موقفٌ إذن من الأفندي وحده. «فتحية» في الحقيقة لم تكن تفعل معه هذا اعتباطًا؛ فهي ليست غبية ولا فقدَت الحذَر، وحين تلا حديثهما العابر البريء الأول بحديثٍ أحسَّت به مُصطنَعًا مُفتعَلًا استيقظَت فيها فجأةً كل مخاوفها القديمة تجاه مصر والبحر والأيدي الممتدة، وملأها الرعب من ذلك الأفندي الذي كثيرًا ما هتف به الهاتف، صحيحٌ أن الهاتف لم يُحدِّد شكل الأفندي، ولكنه أفندي تُحس أنه عن عمدٍ يتقرب إليها. أليس هذا كافيًا لكي يجعلها تُحس أنها أصبحت بين أنياب الخطر، وإن هي إلا كلمةٌ تَفلِت منها أو لينٌ تُظهِره تجاهه، حتى تنتهي هي وينتهي كل شيء. لقد أصبحَت من فَرْط حذَرها بالكاد تنام الليل، ووجود «حامد» نفسه لا يُطمئنها، والباب الذي تُغلِقه وتتأكَّد أكثر من مرة أنه مُغلَق لا يُفلِح في كبت مخاوفها؛ فمصيبتها الكبرى أن الهاتف يؤكِّد لها أن ما يُوسوِس لها به سيقع، برضاها سيقع، برغم رضاها سيقع. إنها تكاد تُجن، فلتُجنَّ أو فلتمُت أو ليحدُث أي شيء، ولكنها ستقاوم، ولن تسمح لصلةٍ أو حتى كلمةٍ أن تكون بينها وبين ذلك الأفندي، ولتدُرِ المعركة في داخلها في صمتٍ رهيبٍ لا يعلم بها مخلوق، ولا تستطيع أن تبوح بها لمخلوق.

وبالوُسْع تصوُّر مقدار الفجيعة التي أصابت ذئبنا الضبع وهو يرى جهوده ووسامته وذكاءه تذهب سُدًى أمام جبروت هذه الفلَّاحة البيضاء، وانطوائها على نفسها وإغلاق ذاتها دونه، حتى لقد استحالت المسألة عنده من مغامرة كان يعتقد أنها بسيطةٌ عابرة إلى خوفٍ من الهزيمة، واهتزازٍ كاملٍ بالثقة بنفسه، حتى أصبح عليه لا أن يخوض مغامرة، وإنما أن يُثبت لنفسه أنه لا يزال ذلك القادر الذي ما استعصَت امرأةٌ عليه قَطُّ، ولا فَشِل مرة.

الأيام تمضي بسرعةٍ مذهلة، حتى لقد مضى على قراره شهران، وهو لا يزال قرارًا لم ينجح لخطوةٍ صغيرة واحدة في طريق تنفيذه. وتفكيره في المغامرة، وفي «فتحية» دائبٌ صباحَ مساءَ، حتى أصبح هذا الموضوع أهم ما يشغله في حياته، بل لم يعُد في حياته سواه. أحيانًا كان يُفيق لنفسه، ويستنكر أن تكون هذه حاله، وأن يكون هو نفسه الذي جاب مملكة النساء بسمائها وأرضها ونجومها، وجرَّبَهُن جميعًا من الأميرات إلى الغسالات، بل والسائلات، هو نفسه الذي يهَب كلَّ ذلك الوقت والمجهود والتفكير لامرأة ﮐ «فتحية»! إن هناك خطأً في الموضوع لا يعرف سِرَّه، ومن المُحال أن يفشل، حتى لو كلَّفَته هذه المغامرة عُمره. وأحيانًا يُفيق ليُواجه سؤالًا لم يُوجِّهْه لنفسه أبدًا: أيكون قد أحَبَّ «فتحية»؟ إذا قيس الحب بمقدار الكمِّ من الوقت الذي يقضيه المرء يُفكِّر في حبيبه، فهو إذن ليس في حالة حُبٍّ فقط، ولكن في حالة حُبٍّ عظيم نادر؛ فلم يحدُث من قبلُ أن تفرَّغ إنسان للتفكير في إنسانة كما يفعل هو مع «فتحية»، بل وها هو ذا حين يجد صدَّها له كاملًا حاسمًا نهائيًّا، وليس ابن يومه فقط أو لحظته، وإنما من الواضح أنه سيظل هكذا إلى الأبد، حين أدرك هذا ويئس تمامًا من كل محاولاته أصبح كلُّ همه وأمله ألا يحادثها أو تحادثه، ولا حتى أن يحلُم أن يُوقِعَها، وإنما أن يراها، مجرد أن يراها. وحتى هذا الطلب البسيط الشديد التواضُع أصبح عسيرًا هو الآخر صعب المنال؛ فلقد تزايد خوفُ «فتحية» وتزايد بالتالي حذَرُها إلى الدرجة التي أصبحَت نادرًا ما تغادر فيها الغرفة، حتى إذا غادرَتْها مُضطَرة، فلتعود إليها مسرعةً لهفَى، وكأنما في أثَرها سِربٌ من التماسيح. وأصبح على ساكننا لكي يراها أن يلجأ للصُّدَف وحدها تُدبِّر له الأمر، ولكي يزيد احتمالات الصُّدَف كان عليه أن يُمضِي أطولَ وقتٍ في المدخل أو في باب العمارة أو قريبًا من باب شقته، وأن يفعل هذا و«حامد» موجودٌ مسألةٌ لا بد تدعو للشك؛ ولهذا كان عليه أن يُرسِله في مشاوير، ولكيلا يفعل هذا بكثرةٍ تُثير ريبته، وبحُججٍ دائمًا وجيهةٍ ومعقولة، كان عليه ألا يُرسله كثيرًا؛ وبالتالي يُقلِّل من احتمال وجوده قريبًا من باب حجرتهم، مشكلةٌ عويصة كانت تستنفد من وقته وجهده الأيام الطِّوالَ لكي يتمكن فقط من أن يراها، وحتى لم يكن يراها، كان فقط يلمحها، يلمح شيئًا يرتدي الجلباب الأسود الذي عادت إليه صاحبتُه تتحصَّن فيه، بعد أن كانت قد خلَعَته ولبِسَت مثل أهل مصر، الملوَّن والمشجَّر.

•••

وفي ظُهر ذلك اليوم من أيام الصيف في وقت القيلولة تمامًا، وقد انتظر أسبوعًا بأكمله ليتمكَّن من إرسال «حامد» إلى مشوار في شبرا، كان الحب والوَجْد والقلق قد استبدَّ به إلى درجةٍ لم يعُد يحتمل فيها الأمر لثانيةٍ أخرى. كان قد انتهى تمامًا وأصبح مُستعدًّا لأي شيءٍ من أجل أن يظفر ولو بكلمةٍ واحدةٍ منها، مُستعدًّا أن يبُوح لها بحبه، وأن يعرض عليها الزواج، وأن يتزوَّجها في الحال، وأن يقتلها إذا رفضَت، وأن يقتل «حامد» إذا تعرَّض له، كان قد بلغ مرحلة اليأس الكامل المُطبِق، ولم يعُد أمامه إلا أن يقتحم عليها الحجرة وليكن ما يكون.

ولقد فعل.

ولأن الطفل الكبير كان قد فتح الباب الذي أغلقَتْه أمه، وخرج إلى الحارة الجانبية ليلعب، فما كاد يدفع الباب حتى انفتح، وحتى وجد نفسه وجهًا لوجه أمامها، وكانت واقفةً تحمل الرضيع بجوار رأس السرير، وبرغم كل ما كانت تحفل به نفسه من همومٍ وقراراتٍ ومشاغل، برغم الكلام الذي كان قد جهَّزه ليُحاصرها ويُمطرها به، فإن كل شيءٍ ما لَبِث أن تبخَّر من عقله تمامًا، لا لمرآها، وإنما لما حدث لها لحظة رؤيته؛ فالأشباح نفسها إذا ظَهرَت لها ما كان يمكن أن تُحدث نفس الأثَر، لا حتى ولا الموت نفسه لو رأته مُجسَّدًا! لكأنما رأت شيئًا أعتى من الشيطان والموت والأشباح، وكل شرور الدنيا. لقد كانت مطمئنةً اطمئنانًا كاملًا إلى كل الإجراءات التي اتخذَتْها لتصبح في مأمنٍ منه. كانت شيئًا فشيئًا قد بدأت تثق أنها انتصَرت على الهاتف والقدَر والمكتوب، واثقةً أنه قد أصبح مستحيلًا على الواقعة أن تقع ما دامت قد أحاطت نفسها بسياج الاحتياطات تلك، حتى أصبح مستحيلًا على ذلك الأفندي مجرد رؤيتها. أما أن تلتفت فجأةً لتجده أمامها وجهًا لوجه، في حجرةٍ خالية، بينما «حامد» بعيدًا جدًّا في شبرا البلد. أما أن تُحس أن قدمَها قد زلَّت بغتةً من مكانها الحصين المرتفع، وأنها في طريقها إلى أن تهوي إلى سابع أرض، إلى القاع. أما أن تُدرك أن إرادة الهاتف انتصرت على إرادتها، وأن الأفندي ها هو، كأنه القدَر، كأنه المقدَّر، كأنه الندَّاهة من دمٍ ولحمٍ ووجود، فهي الصاعقة التي انقضَّت على عقلها فصعَقَته. لا، لم تكن إنسانةً مرعوبة تلك الواقفة، إنما هي إنسانةٌ مصعوقة، مشلولة، منتهية، في ومضةٍ واحدةٍ انتقل لونها من البياض إلى الصفرة الرمادية الكاملة، صُفرة الموت الرمادية، ومن إنسانةٍ ترى وتسمع وتشعر إلى إنسانةٍ أصابها الصمَم، وتوقَّف اللسان في حلقها وتضخَّم حتى كاد يملؤه. صاعقة بتَرَت تمامًا صلتها بالحياة، كأنها الصاعقة التي انقضَّت على «حامد» حين رآها، والموت الذي تلا كان كالموت الذي داهمه، وبتلقائيةِ غريزة البقاء وحدها مدَّت يدًا قد بدأت ترتعش ارتعاشًا ظاهرًا يُرعِب مُشاهِده، تُمسِك برأس السرير تتشبَّث بها، بينما الطفل من فوق صدرها ينزلق، وبالغريزة وحدَها تحميه بيدها من السقوط المفاجئ، فيصل إلى الأرض سالمًا قد بدأ يبكي وينتحب. وما كاد هذا يحدث وتطمئن الأمومة، حتى لم يعُد للحياة نفسها أو التماسُك قيمة، فبدأ الجسد يتمايل ويدوخ، وينزلق مُهدِّدًا بالسقوط، بل سقط سقطةً لم تتم؛ إذ في الحال وبجهدٍ خارقٍ كان ذئبنا الضبع هناك يتلقَّاها بيدَيه الاثنتَين، وقد فغَر فاه بالدهشة؛ فآخر ما كان يتصوره أن يحدث هذا، وأن تسقط الثمرة من تلقاء نفسها بين يدَيه دون مشقةٍ أو تعب، دون كلمة، دون حتى حركةٍ واحدة أقدَم عليها أو جهدٍ ولو ضئيلًا بذله. لقد جاء وفي نيته أن يُحارب معركته الأخيرة بكل قواه، واستعد ليواجه ليس فقط «فتحية» أو «حامد»، وإنما العالم كله، استعد لأي شيء، للفضيحة أو القبض أو القتل، جاء وهو يائس تمامًا أن يظفر منها بشيء؛ فالتي تضِنُّ عليه بمجرد أن يلمسها أو يراها، هل من المعقول أن تُنيله مهما فعل شيئًا أكثر من هذا؟ أكثر من أن تُتاح له فرصة أن يراها، مجرد أن يراها، ولو كان ثمنها فضيحته أو مصرعه، فإذا بها بين يدَيه طريةً كالخرقة، مستسلمةً تمامًا، متاحًا له منها كل ما يمكن أن يحُلم به، إذا بها أقرب ما تكون إلى جثة، جثة لم تفعل أكثر من أنها أيقظَت فيه ذلك الضبع القديم الذي يسيل لعابه لمرأى الجثث. الضبع الذي كان قد اختفى في أعماق شخصٍ بلغ به الحب والوجد والشوق إلى «فتحية»، مستوًى رفعه إلى مرتبة المحبين الكبار، محب مُدلَّه جرَّب السهْد والسهَر والغَيرة والشك والعذاب، العذاب الذي نال منه وأَوهَن جسده، حتى رقَّ ودقَّ وارتقى بمشاعره، حتى أصبح يُحس ويُفكِّر ويتصرف كشاعر! فجأةً نفض الضبع الكامن الذي يكاد يختبئ ويموت تحت ما ترسَّب فوقه من مشاعر وطبقات، نفض عن نفسه هذا كله، وانتصب تلمع عيناه ببريق الفوز، ويرتجف جسده ترقبًا لمائدة المتعة الأكيدة المرتقبة، لا يفصله عنها إلا لحظةُ زمنٍ يريد بكل ما يملك من شَرٍّ وجشَعٍ أن يختصره حتى ليلغيه تمامًا، ويبدأ يلتهمها ويتلمَّظ.

وهكذا، ومنتهزًا فرصة الغيبوبة الكاملة العابرة كان قد أرقدها على الأرض، ودفع الطفل بِغلٍّ فأبعده، وأطلق الطفل صراخه مذعورًا عاليًا لا يأبه له، بل إنه ليضيف كثيرًا من البُهار إلى المائدة الجثة. وبيدٍ حديديةٍ مُدربةٍ طوَّقَها، وبيدٍ مرتعشةٍ بالرغبة مبهورة بالانتصار الساحق السريع تكاد لا تُصدِّق نفسها أو ما يحدُث، دفع بنطلونه دفعةً واحدة تعرَّى على أثَرها تمامًا، وبنفس اليد مزَّق ملابسها وهو يُحس بالصوت الصادر عن التمزيق بنشوة دونها أيُّ نشوةٍ أخرى على وجه الأرض، وحتى لو كانت في طريقها إلى الموت على أثَر نزيفٍ مثلًا أو سكتةٍ لكانت من غيبوبة الموت الحقيقي قد استيقظَت، فللغريزة الحارسة للغريزة سلطانٌ على الجسد أقوى من أي سلطانٍ آخر.

وهكذا ما كاد يُحاول أن يصل بانفعاله إلى آخرِ مدًى، حتى كانت وكأنما مسَّها تيارٌ مُكهرب مُوقِظ قد صحَت، ومع أن الصحوة كانت صحوةَ عقلٍ وإدراك إلا أنها بجماع ما تملك من طاقةٍ وقدرة، بآخر رمق، بذلك الكم الضئيل من القوة التي يدَّخرها الجسد ليقول بها آخر «لا» في حياته، قاومَت. تململ جسدها يُقاوم مقاومةً لم تفعل أكثر من أنها استدعت إلى الوجود كل قوى الذئب الضبع الكامن وحشدَها في ساقَيه وذراعَيه، حتى التفَّت حولها كقيود من فولاذٍ لا يرحم، وبآخرِ ما تملكُ أيضًا تململَت، وبكل ما يملكُ أطبَق. وكان ممكنًا أن تصرُخ تستنجد بالناس أن يُقاوموا لها، ولكنها رفضَت وأبت؛ فالمعركة معركتها وحدها، ولن يفعل إدخالُ الناس أكثر من فضحها؛ إذ السهم الآن نافذ فعلًا، والمكتوب قد حدَث، وقد يمنع الناسُ استمرار حدوثه، ولكنهم أيضًا سيكونون شهود حدوثه، وتلك هي الكارثة التي تُواجه الموت أو السقوط الخاص الذي لا يعرفه أحد، ولا تُواجهُها.

وحين فتحَت عينَيها — وقد ذهب الرعب وحل الغضب — تريد التفرُّس في قاهرها، واتسعَت عيناها دهشةً وحقدًا وخوفًا؛ فعلى بُعد قراريط من وجهها كانت ترى وجهه لأول مرة وتتفرَّس فيه؛ فهي أبدًا لم تَرَ وجهًا مثل وجهه حليقًا ناعمًا أحمر وسيمًا، وعيناه خضراوان لهما رموشٌ طويلة، ورائحةٌ حلوة، وأسنانٌ بيضاء مرصوصة بدقة، وفمه حلو يتمنى أيُّ فمِ أنثى أن يُقبِّله، وابتسامةٌ كبيرة، ابتسامة فوزٍ وفرحٍ تحتل الوجه كله، وتُظهِر له غمازتَين عميقتَين على جانبَي الوجه وطابع حسن، ابتسامةٌ داعية ناعمة كأنها واحدة من آلاف الابتسامات التي كثيرًا ما حلمَت بها هي والأيدي الممدودة تدعوها في لطفٍ وإصرارٍ إلى ترك بَرِّ الأمان والغوص إلى القاع، حيث الأشباح والطين، ابتسامةٌ ما إن رأتها حتى بدأت تتململ مُقاوِمةً من جديد إذ أحسَّت وكأنها ابتسامة القاع نفسه، يدعوها وبخبثٍ ونعومةٍ ودهاءٍ يريد التغرير بها، مقاومة لم تفعل أكثر من أنها مكَّنَتْه تمامًا منها، حتى أصبح كل جزء فيها ملتصقًا وملتحمًا بكل جزءٍ فيه. لقد ظلَّت تخاف من العفريت، حتى طلع لها، ومن وسوسة الهاتف حتى تحققَت. ظلت تُصمِّم وتُصِر وتحتاط حتى نفذ السهم، ووقع المحظور وانتهى كل شيء، والخوف المستمر الدائم والهاتف والحُلم والحقيقة كلها قد التقت الآن في لحظةٍ واحدة، لحظةٍ غريبة مُفعَمة مليئة محشودة بآلاف اللحظات والخلجات، لحظةٍ أخطرُ ما فيها أنها تدرك أنه لم تعُد هناك فائدة، حتى الرعب والخوف أصبح لا فائدة منهما، والمقاومة لم يعُد لها داعٍ بالمرة؛ فالسهم نفذ.

ولم يعُد أمامها إلا أن ترجوه وتستعطفه، لم يعُد أمامها إلا وسيلة العاجز، أن تبكي، ولقد بكت، وأن تتذلل، وأنا في عرضك، أنا صاحبة عيال، جموع وكلمات لم تكن تفعل إلا أن تضيف إلى الأكلة كل ما يتمنى الضبع العجوز إضافته من شطة وسلطة وعصير ليمون وخل، وحين استمرت تبكي وقد ازدادت حُرقة البكاء ولوعته لم تكن تريد به مزيدًا من رجائه واستعطافه، إنما كانت في الحقيقة تبكي من أعمق أعماق قلبها على نفسها وعلى عجزها، بكاءً يا للعجب! لم يستمر طويلًا.

فقد بدأت تُحس بأشياءَ غريبةٍ عجيبة تنفُذ إلى ذاتها وجسدها، أشياء جديدةٍ مذهلة كبريق مصر الخاطف، أشياء أحسَّت معها كما لو أن كل النيون الأحمر والأزرق والبنفسجي ومهرجان الأضواء والألوان، كل الوجوه الحلوة الحليقة والملابس الغالية الأنيقة، كل الروائح العطرة المنعشة المخدرة، والشوارع الواسعة المزدحمة النظيفة، والمتنزهات، والأشجار، حتى الأشجار مجفَّفَة الأوراق مقصوصة كتسريحات السيدات، كل الترمايات والعربات الفارهة، والسينمات والوجوه الخارجة من السينمات، والكباريهات والراقصات، كل الأطفال الأصحاء النظيفين والأمهات والأجزخانات والأرتستات، كلها تتجمَّع وتتسرَّب إليها، إلى داخلها المرتعش الخائف المهزوم المبهور، وهي حتى في عجزها وإدراكها ويقينها بالهزيمة التامة الساحقة بكل ما أُوتيَت من قدرةٍ تُقاوِم ولا تكُفُّ عن المقاومة، والأشياء الغربية الكثيرة لا تكُف عن التسرُّب، فتعود تُقاوم مستميتةً أكثر، تُقاوِم مدينةً بأكملها تتسرب إليها، ورغمًا عنها تتسلَّل إلى كل خافٍ فيها ومُستتِر، وكان لا بد في النهاية أن تكُف عن المقاومة تعبًا ويأسًا، ثم يقينًا تامًّا من اليأس، ويأسًا تامًّا من أن معجزةً ما لم تحدُث وتُنقذها في نهاية الأمر، وإن بإرادتها وبغير إرادتها، تمامًا كما كان الهاتف يؤكِّد، قد حدث كل شيء. أما ما لم يذكره الهاتف، ولا كانت تتصوَّر للحظة أن من الممكن أن يحدث، أما أن تبدأ تتحول من استسلام مغلوبٍ إلى استسلام مستمتعٍ، فهو رغم حدوثه الشيءُ الذي كان لا يمكن حتى وهو حادثٌ أن تُصدِّقه، فالمشكلة أنها ما كادت تبدأ تُحِسُّ بهذا، حتى كان الباب قد فُتح، وعلى عتبته وقف «حامد» طويلًا رفيعًا، مصعوقا أسمر غامق السمرة.

•••

طالت وقفة «حامد» عند الباب الذي كان بلا وعي قد أغلقه، و«فتحية» مستلقية لا تزال يدُها متشبثة برأس السرير، وجسدها مفتوح الساقَين مغطًّى، وليس في عقلها سوى رغبةٍ ملحة لا تنتهي أو تتزحزح، أن يصنعها «حامد» وينتهي. إنه الطريق الوحيد الذي لا بد يمتد إليه المقدَّر والمكتوب؛ فبعد كل ما حدث كيف يمكن للحياة أن تستمر؟ وكيف باستطاعة أي شيءٍ أن يعود كما كان؟ إن الأمور لا يمكن أن تستقيم، ومستحيلٌ أن يهجع أيٌّ منهما أو يرتاح راحته الكبرى إلا بأن تموت «فتحية»، وبيد «حامد» لا أقل.

لا حل للموقف كله إلا بأن يقتلها «حامد» ويستريح، وتستريح، ولكن الغريب أن الهاتف كلما وصل إلى هذا الحد كان يعود يُطل برأسه، ويؤكِّد لها أن «حامد» لن يقتُلَها، وأنها لن تموت، وأنها سيكون لها مصيرٌ آخر.

وتعِب «حامد» من الوقوف الطويل المُتفرِّس وجلس، وجاء الولد من الخارج «بزيطة» وطلبٍ مُلِحٍّ للطعام، وحين أحَسَّ بالصمت الملغَّم المستمر انتابه غير قليلٍ من الخوف فسكَت، وما لَبِث أن نام.

وأظلمَت الدنيا وأصبح ظلام الحجرة تامًّا شاملًا.

ولم يجسُر أحدٌ أن يُضيء النور.

بقي «حامد» على جلسته عند الباب يُدخِّن من علبة السجاير الصغيرة التي اشتراها بما تَوفَّر له من نقود الأفندي.

و«فتحية» بهدوءٍ شديد تجلس، ثم ترقُد، ثم تعود إلى الجلوس، وتنتظر من «حامد» أن يفعلها وينتهي. كل ما كانت ترجوه بينها وبين نفسها ألا يأخذها على سهوة، إنما بطريقةٍ أو بأخرى يرحمها، يُنذرها، فلم يعُد في جسدها ذرةٌ واحدة قادرة على تحمُّل المفاجأة، أية مفاجأة، ويكفيها ما رأت من مفاجآت.

حاولَت مرة أن تتكلم فأسكتها «بزومةٍ» منه، «زومة» حيوانٍ جريح.

وحين غفَت عيناها لبرهة وصحت على نهنهةٍ رجالية منخفضة مكتومة كادت تُجن، غير مُصدِّقة أخيلتها. هل هو «حامد» الذي يشهق ويبكي؟ أيبكي؟

أكان صنَع هذا لو كانوا في بلدهم؟ أأُصيب هو الآخر باللعنة وهزمَتْه مصر ورخرخَت إرادته وطبيعته، حتى لم يعُد قادرًا على قتل زوجته وهو يضبطها مُتلبِّسة مأخوذة؟ أصحيح لزلَّتِها يبكي؟

كادت تزحف إليه راجيةً أن يكُف، مطالبةً إياه أن ينتهي فورًا عن بكاء النساء، ويعود رجل القرية الذي عرفَته، ويُريحها، ويقتلها. كادت؛ لأنها حين فتحَت فمها ترجوه تصاعدَت صرخة كزئير أسدٍ غاضب، سمَّرتْها مكانها بلا حراك.

وفعلًا لم يقتلها «حامد»، وإنما في الفجر كانت العائلة الصغيرة تُغادر باب العمارة الضخمة المهيب، وكان «حامد» يحمل عزالهم كله، وقد لفَّه في ملاءة سريرٍ صفراء حملَها ﺑ «الزقلة» على كتفه، وباليد الأخرى كان يسحب الطفل الكبير نصف النائم، بينما «فتحية» في المقدمة تحمل الطفل الآخر. وبرغم أنهم خارجون إلى مصيرٍ مجهولٍ لا تعرفه، فقد كان ما تخافُه في تلك اللحظة هو أن يبرُد الولد، فراحت تحوطُه بذيلِ ثوبها الذي رفعَتْه، ومضت تلفُّه به وتشتد في ضَمِّه، بينما نداءٌ أخرسُ يرتفع منها، ويُهيب ﺑ «حامد» أن يُخرج البطانية من اللفَّة، ويُحيط بها الطفل الآخر، نداءٌ أبدًا لم يغادر فاها؛ إذ هما لم يتبادلا منذ الأمس كلمة.

وسيرًا على الأقدام مضت القافلة الصغيرة تحتمي من برد الصباح الباكر بالجدران، ويتركها ظلامُ عمارة لتتسلَّمها ظلالُ عمارةٍ أخرى؛ إذ كان قمر الفجر قد طلع.

قافلةٌ صغيرة تتسلَّل منسحبةً من المدينة الكبيرة الراقدة في صمتٍ ولا مبالاة، لا تُحس بهم ولا بما تحفل به صدورهم من أهوال، نائمة تُشخِّر في براءة وضميرٍ مستريح، وكأنها ما فعلَت شيئًا، حتى لقد بلغ الغيظ ﺑ «حامد» إلى حدِّ التفكير في أن يُلقي «بصُرَّة» العزال جانبًا، وينهال ﺑ «زقلته» ضربًا ودشدشةً وتكسيرًا على فتارينها المضيئة، وعرباتها اللامعة المُستكِنَّة، وحتى أسفلت شوارعها المغسول. كان من جماع قلبه قد أصبح لا يُطيق حتى مشيه في شوارعها وهو يُغادرها، لم تعُد في نظره مدينة، لقد أصبحت كابوسًا خانقًا بشعًا!

وفي أول قطارٍ قطع لهم «حامد» التذاكر.

لكنه عاد لبلدتهم وحده.

فقد غافلَتْه «فتحية» في ازدحام القادمين والراحلين في باب الحديد وهَربَت.

عادت إلى مصر، بإرادتها هذه المرة، وليس أبدًا تلبيةً لهتافِ هاتف أو نداءِ ندَّاهة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤