معجزة العصر

قال لي صديقي الذي لم أَرَه من عشر سنوات، والذي كان مُقدَّرًا أن أُنقِذه:

هذه المرة، هل رأيتَ معجزة العصر؟

بلا دهشةٍ سألتُه: أية معجزة؟

لم يُجب، ولم نُضيِّع الوقت في التخمين، وكأن اتفاقًا بيننا. لَفَّ ذراعه حول ذراعي وجذَبني وتَبِعتُه صامتًا، حاولتُ أن أعرف إن كانت المعجزة هي الوصول إلى القمر، أو ظهور المهدي المنتظر، فكاد يُغلِق فمه تساؤلًا، قائلًا: لا تُخمِّن فلن تستطيع أبدًا إدراكها، ولو عرفتَها من تلقاء نفسك لكانت معجزة العصر أنك عرفتَها.

وبحماسٍ جذبني بقوةٍ أكبر، وبعد خطواتٍ كنا على البلاج. كانت الدنيا شتاء، والشمس صفراء تسقط شعاعاتها المريضة على الرمل، فيبدو مجرد لونٍ أنيمي شاحب، جوٍّ تتوقع أن يكون البلاج معه فارغًا غير أنك تُفاجأ به عامرًا مزدحمًا، وكأننا في أغسطس، الناس مُكدَّسون على الرمال بالأكوام، والباعة يُنادون على جيلاتي طوبة، وسحلب بئونة بدندرمة أغسطس. ولو أغلقتَ العين لحسبته مجرد خطأ في ورقة النتيجة؛ فأصوات الصيف هي هي، وصخَب الأطفال هو هو، حتى ذلك الإحساس الخاص بالصيف، ذلك الذي تُحس وكأن الحياة به أكثر حلاوة كان موجودًا. إذا غضب الله على قومٍ أمطرهم صيفًا، فماذا يكون موقفه تجاههم إذا جعلهم يُصيِّفون في الشتاء؟ من الممتع أن تشحذ عواطفَنا مشاكلُ الظواهر الكونية، فحين أسخَط على الدنيا تهطُل الأمطار، وحين أحظى برضاء حبيبي تُشقشِق في الكون ملايينُ من عصافير الكناريا، وإذا كرهتُ جاري أطبَق على المدينة ضباب، حتى لا تكاد ترى — وأنت واقف على بابك — باب جارك. والجار أولى بالشفعة، إلا جاري الذي لم أَرَهُ من يومِ أن قطنتُ عمارتنا؛ فكلانا وحيد، وكلانا في المدينة المزدحمة قد فقَد الونس، حتى أصبح الازدحام مجرد حبلٍ معقود يهدد احتواء رقبتك، فأنت مرعوب منه، وخائف حتى النخاع. نفس الإحساس الذي شعرتُ به، وازدحام البلاج يحويني، كتل من اللحم البشري مقسَّمة إلى أذرعٍ مختلطة وسيقان. ويا لمشهد الجسد البشري بعد العشرين حين يكتنز بالشحم، وتبرز له الكروش ويبدأ التفكير في صبغ الشعر أو توزيعه ليغطي الصلعة! حتى الجسد يهجرك ويهرب منك. وفي هذه الوحدة المزدوجة لا بد أن يُهزم الإنسان سريعًا؛ فنحن كائناتٌ أرضية لا تنمو بصحةٍ إلا معًا، إلا كمحصولٍ واحد، فإذا ما زُرع كل نباتٍ منَّا بمفرده أكله «الفلت» وخنقَتْه الطفيليات.

أتكون المعجزة هي الحصول على دواءٍ يشفي الغربة ويُعيد جمع الناس؟ باءَ تخميني أيضًا بالفشل، وفقدتُ عين الحكمة مع أن الحكمة ثرثرة، لا بد حسب قوانين التباديل والتوافيق أن ينتظم بعضها على هيئة أقوالٍ رائعة النضج، ولكني سعيد وكأن مجرد رؤيتي الموشكة للمعجزة سيُسلِّحني بطاقيةِ إخفاءٍ أو بخاتمِ سليمان قادرٍ على تحقيق المطالب. الغريب أن الزحام لم يكن ازدحامًا للتجمع، كان تجمُّعات للتفرُّق؛ فكل مجموعةٍ مكدَّسة بكُلِّيَّتها إلى شيءٍ مشتركٍ يخصُّها وحدها، أو ربما تبحث لنفسها هي الأخرى مثلما نبحث عن معجزة عصر، فأنت تُقبل على تجمُّع يشبه من بعيدٍ شكل الكازينو الذي أُقيم على عجل، ولكنك حين تقترب لا تجد كازينو أو حتى مكانًا للجلوس؛ فالناس إما وقَّفٌ منحنون أو في حالة رُقاد، والكل في شغلٍ عنك بما يبدو وكأنه مأساةٌ داخلية طاحنة. لا أحد يلتفت إليك، الأيدي تُلوِّح في عصبية، والنقاش حادٌّ كطلقات الرصاص، وبعضهم بمجهودٍ عظيم يضع يدَيه الاثنتَين معًا على فمه محاولًا أن يكتم الضحك فلا يستطيع، وتكون النتيجة أن تفلت الضحكة رغمًا عنه. حسبتُ الصديق يضحك، ولكنه كان يتوقَّف ويتطلَّع حوله، ثم يحاول أن يُخفي نفاد صبره، والعَرقُ رغم الهواء الساقع قد نبَت على جبينه، والحَيْرة الكبرى تتملَّكه، ويأسُه شامل، يكاد لولا الحياء أن يستنجد بالناس، ويسألهم أين الطريق لمعجزة العصر!

حسبته يضحك، ولكنه كان، فجأةً يلكزني ويشير إلى كازينو قريبٍ قائلًا وقد تهلَّلَت ملامحه، وكاد يقفز منها الأمل: وصلنا.

ولم تكن فرحتي هذه المرة لأننا نُوشِك أن نصل، فرحتي كانت لأننا نُوشك أن نصل إلى كازينو، حيث نستطيع الجلوس وشُرب الماء المثلَّج والشاي بعد هذا الكَدْح الطويل من الشاطبي إلى سيدي بشر والمنتزه.

ولكن ما أبشع ما خاب أملي حين لم ينكشف الكازينو إلا عن ازدحامٍ آخر، واحد من عشرات الازدحامات التي كان يَحفِل بها البلاج! نظرتُ بحدَّة إلى الصديق وإلى عينَيه اللتَين كانتا قد احمرَّتا تعبًا، أو من يدري؟ ربما غيظًا، وربما لهذا انطبقَت شفتاه في حِدَّةٍ راسمتَين في خطوطٍ قاطعة شكل فمه.

أين رأيتُ ملامح كهذه مرسومةً بحدةٍ كتلك الحدة يا ربي؟ أين؟ والهمهمة الصادرة عن هذا الازدحام نفس هذه الهمهمة وثيقة بنفس الملامح، وأيضًا بشيءٍ يشبه المعجزة، أين ومتى حدث لي هذا يا ربي؟ لا أعرف، هذه اللحظة عشتُها قبلًا، بالتأكيد حدث هذا، ولا بد أنه ذلك الشعور الذي دأَب على زيارتي في الفترة الأخيرة، الشعور بأن الكون يكاد ينتهي، والصمت المُطبِق بدأ يحل، صمتٌ سيمتد إلى آلاف وملايين السنين المقبلة، آخر علامات الحياة تختنق، الحركة الهائلة التي حفَل بها الكون طَوالَ وجود الإنسان قد انقرضَت، وسيعود السكون الأبدي ولا يبقى إلا الشمس والقمر، والليل والنهار، والريح والرمال. الأجساد مُتراصَّةٌ مُوزَّعة مختلطة لا تكاد تستطيع تمييز ساق الرجل من ساق المرأة، تبدو في أحيانٍ كثيرة خاليةً من الشَّعَر، والجميع كأنهم يبحثون عن إبرة سقطَت في قلب الرمل، ليسوا مُنحنين فقط، ولكنهم ممدَّدون تمامًا، وقد استندوا بأذرعتهم إلى الأرض، وانكفئوا على الرمال عيونُهم تكاد تخرج من محاجرها بحثًا عن شيءٍ لا بد أنه مُخبَّأ بطريقةٍ ما في الرمل.

الأطراف كثيرة، كل حركةٍ منها تُثير ثائرة الرمل، فيملأ العيون ويسد الأنوف، وتتصاعد صرخات الاحتجاج؛ لأن شخصًا وقَف أو سار أو تحرَّك، وأثار بحركته زوبعةً صغيرة في ساكن الرمال. المعجزة، معجزة العصر، الشي الصغير الكائن والموجود في حياتنا منذ وجودها الأول، إنما لكونه صغيرًا، فالجميع يعبُرون به دون أن يُحسُّوا له بأي انفعالٍ أو احتفال، أقدامهم تُدميه أو تصطدم به دون أن تشعُر أو تُحس أنها صدمَت شيئًا أو تعثَّرت بشيء، والشي دائم الصراخ والعويل، إنه كائن وموجود، دائم الرجاء أن يحظى منها بالتفاتة، أن يتلقَّى إشارةً واحدة من طفلٍ أبله تُفيد أنه رآه أو سمعه أو أحسَّ به بلا فائدة. الناسُ انغماسُهم في مشاكلهم أقوى وأكبر من أن يدعهم ولو للحظةٍ يُفيقون إلى ما حولهم، ويتأمَّلونه بنظرةِ خالي البال. إننا لم نعُد أحرارًا في رؤيتنا، أصبحَت أنظارنا قصيرةً مُوجَّهةً إلى ما تعرفه أو إلى ما توَدُّ معرفته؛ أي إننا لم نعُد نرى ما ينعكس من داخلنا إلا ما يعكس اهتماماتنا وتفكيرنا وأحلامنا، فقَدنا تلك القدرة البكر على تلقِّي ما هو خارج النفس كما هو، بروعته وتلقائيته وعُمقه وبساطته والانفعال له أو عليه، وبناء آرائنا ومعتقداتنا من خلاله، لا نرى إلا لكي نُثبِت أو نُبرهِن به أننا على صواب، ولكن في العادة دائمًا ما يحدث شيء، حدثٌ يَعرِض مصادفة، شيءٌ لا بد رغم إرادتنا يُرغِمنا على أن نَلْوي أعناقنا، وننظر فنُفاجأ أننا أمام حدَثٍ خارق للعادة، أننا أمام شيء، وإن يكن صغيرًا إلا أنه بالغ الدلالة، وحينئذٍ تفلِت من أحدنا صرخة الإدراك الأُولى، ومعها تجر الانتباهات إلى انتباهات ليصبح ذلك الشيء بعد يومٍ وليلةٍ محور اهتمامنا الأول، ونكتشف ونُدرِك كم نحن بحاجةٍ إليه، وكم كانت تفتقده حياتُنا، وكم هو لازمٌ حيوي لها، ونندفع حينئذٍ اندفاعَ مَن فقَدوا العقول نهتم به اهتمامًا مبالغًا فيه، ويصبح أمل الإنسان منا أن يحظى منه بنظرة، أو نراه رأي العين. هل أُصبتم بخيبة أمل؟ أنا نفسي حدَث لي ما حدَث لكم، ولدى الإدراكة الأولى كدتُ أهيم على وجهي يائسًا خائب الأمل. لنحاول إذن ألا نُخطِئ خطأنا الشهير الأول، الشيء خارج ذواتنا، الشيء لا كما نريده وإنما كما هو موجود وقائم، وكما كان يمضي الناس عنه غير مُهتمين أو مُدركين، إنه ليس حشرةً غريبة أو قطعة من معدنٍ نادر، كان في الحقيقة بشرًا مثلي ومثلك له أذنان وعينان وأنف وفم وأسنانٌ وُلد بها جميعًا، والمفروض أنه لا يزال إلى لحظتنا هذه يمتلكها. أنا لا أهزل أو أقول غير الحق؛ فآلاف المواليد تخرج كل عامٍ على هيئة مواليدَ شاذَّة، بعضها ملتصقٌ ببعض في أحيان، وأحيانًا بطنٌ واحد بصدرَين ورأسَين من أعلى، ومن أسفل بحوضَين وأربعِ سيقانٍ وأرجل. كل الاختلاف أن الشيء في حالتنا هذه كان جنينًا صغير الحجم، وهذا كلُّ ما هنالك، لا، لم يكن في حجم كرة القدم ولا حتى في حجم البرتقالة، إن شئتم الدقة كان في حجم نصف عُقلة الأصبع، ومع هذا فهو كامل الأعضاء متناسبها باستطاعته أن يصرخ ويرقص ويرضع، كل ما هنالك أنه يصرُخ بصوتٍ لا تستطيع سماعه، عليك لكي تسمعه أن تُقرِّبه كثيرًا من أذنك، وحبَّذا لو وضعتَه كله داخل أذنك؛ لكي تسمع صُراخه أوضح ما يكون، صراخٌ عصبي مُتشنِّج يحاول النص نص «هكذا سوف نُسميه» أن يفرض إرادته علينا وعلى الحياة. كان صغيرًا إلى درجة أن أمه لم تلحظ أنها ولدَتْه، انزلَق منها مع الماء الذي كان يملأ الرحم دون أن تُحس به، وحسبَتْه الداية قطعةً من المشيمة، ولكنها حين تناولَته وتأملَته صرخَت صرخةً أرعبَت سكان المنزل جميعًا، ولم تسقُط فاقدة النطق، وإنما إلى الأبد فقدَت النطق.

•••

وما أتعسَ الأم! كانت قد حملَت به بعد أربعة عشر عامًا من العقم، وطَوالَ حملِه كادت تُجن وهي تُصلِّي إلى الله أن يجعله ولدًا يُقِر به عينَ أبيه، وعلى هذا لم تجرؤ على إطلاعه عما أتت به، وزعمَت له أن الحمل كان كاذبًا، وبعد أن كانت قد قرَّرَت أن تُلقي بالجنين مع الماء القذر صعب عليها الضنى، وأخفَتْه تحت الوسادة، وبالحقنة الرفيعة كانت تستطيع العثور على فمه وتغذيته، وضبطَها الزوج ذات يومٍ وهي تُرضِعه، وانهارت واعترفَت، وبعد أن ثاب الأب إلى رشده، وأيقن أن الخطأ — إن كان هناك خطأ — ليس منه أو منها، وأنه يجب أن يرضى بما قسَمَه الله، رضِي وسكن. تلك كانت ظروف ولادته، أما كيف تربَّى وتعلم؟ فتلك قصةٌ أخرى؛ فلقد سمع الأب ذات يومٍ أن السلطان يهوى جَمْع التحف النادرة، وأنه يدفع مكافأةً سخية لكل مَن يُحضِر له تحفةً أصيلة ما امتلكها أحدٌ قبله.

ولم يكن في قلب الرجل لﻟ «نص نص» حُب أي حب، فحُب الابن مسألةٌ يتعلَّمها الوالد، ويكتسبها مثلما يتعلَّم الولد المشي أو النطق، وكما يُعلِّم الأب ابنه كيف ينطق فالابنُ يُعلِّم أباه كيف يُحبه، فكيف يستطيع «النص نص» أن يُعلِّم أباه، وأبوه يحتاج إلى عدسةٍ كي يرى وجهه، أو يعرف بطنه من رأسه؟ الأم وحدها هي التي كانت تُحبه، ولهذا كان على الأب أن يُساهيها ويأخذه، وأن يُنفِق جزءًا من المبلغ الذي أعطاه له السلطان في شراء ملابسَ لها ومصاغ. أما السلطان الذي كان يعاني من الفراغ الممتد في حياته وأمورُ بلاده يُسيِّرها وزيره ورعيته هادئةٌ سلسة، فقد وجد في «النص نص» غايته ومبتغاه، والشيء الذي يستطيع أن يُكرِّس له كل نفسه ووقته، ويجد في هذا كل المتعة.

كان عليه أن يُعلِّمه كيف يتكلَّم وينطق، ثم بعد هذا كيف يقرأ ويكتب، واعتبر أنه لو حقَّق هذا لأصبح يمتلك تحفةً معجزة يستطيع أن يُفرِّج عليها خِلَّانه وأصدقاءه، وأن يمنحهم ويمنح نفسه بهذا متعةً دونها أيُّ متعةٍ أخرى.

كل خوفه كان أن يكبَر «النص نص» بمُضي الزمن، ويُصبِح عند البلوغ مثلًا أو إذا أصبح رجلًا مجرد قزمٍ ضئيل الحجم، ربما يكون أقصر الأقزام وأقلَّهم حجمًا، ولكنه حتمًا سيفقد أهم ميزاته. غير أن «النص نص» كفاه مئونة القلق، فلم يكن ينمو مع الأيام، أو يزداد حجمه، أو حتى تتغير ملامحه، بل إنه حين قارب سن الرجولة لم يحدُث له أدنى تغييرٍ سوى أن لحيةً نبتَت له فجأة، لحية فيها بالضبط عشرُ شعرات ما كان أسعد السلطانَ وهو يحلقُها له بنفسه، أو وهو يجتثُّ منها خمسَ شعرات، ويترك خمسًا لتنمو وتكون ذقنًا بديعةً صغيرة كذقون العلماء.

وتعلَّم «النص نص» النطق، فأصبح يُحسِن استخدام الجهاز الترانزستور، الذي كان يُضخِّم صوته، ويجعله مسموعًا، وفي نفس الوقت يقوم بمهمة الأُذن له، بحيث يُخفِّف من موجات الصوت ويُهذِّبها كي تصل إلى أذنه الدقيقة، وتُصبح في مُتناوَل سَمْعه.

بهذا الاتصال الذي تم مع «النص نص» أمكن للسلطان أن يُعلِّمه القراءة والكتابة، وأن يبدأ معه سُلَّم المعرفة الطويل. وفيما عدا ساعتَين كان يقضيهما «النص نص» في تناوُل الإفطار والتريُّض رياضةً عنيفة، يسير في أثنائهما فوق المسطرة القدَم من أولها إلى آخرها، ويقطعها في رقمٍ قياسي لا يتعدَّى نصف ساعة، أو يزاول العوم لمدة ساعة وأكثر في كوب الماء، ويستطيع أن يدور حول محيطه ثلاثَ مرات، وأحيانًا أربعَ مرات.

فيما عدا هذا كان كل وقت «النص نص» متروكًا للدراسة والتحصيل، وقد أتاح له السلطان أساتذةً كبارًا مما جعله ينتهي من المرحلة الابتدائية، وهو لم يبلغ الخامسة، وفي العاشرة انتهى من الدراسة الثانوية، واستعد لدخول الجامعة. هنا فقط بدأَت إمكانيات «النص نص» المعجزة تظهر؛ فقد وجد أن منهج كلية العلوم التي اختارها ليدرُسها أقلُّ بكثيرٍ من أن يستغرق كل وقته، بل إن الطب والعلوم والزراعة معًا كانت أقل من وقته، فأخذ بجوارها الآداب والقانون والفنون. وفي السنة الثانية مثلًا نجح في تشريح ثانية طب وميكانيكا، ثانية ميكانيكا وكهرباء ومدني، ثانية كهرباء ومدني، وكل القوانين المقررة على ثانية حقوق، وفي البكالوريوس قدَّم في جميع بكالوريوسات الجامعة وليسانساتها، وبتفوقٍ نجح فيها جميعًا، حتى إن خطابات التعيين جاءته ليُعيَّن معيدًا في أربع عشرة كُلِّيةً في وقتٍ واحد. وحين ذهب فرحًا ليتسلم مهامَّ أوَّلِ مناصبِه بدأت أشباحُ مأساته تتراءى؛ إذ لم يجد أحدًا يأبه له أو يُعيره اهتمامًا، أو حين ينجح في إثارة اهتمامه والحديث معه ينجح في إقناعه بجدية طلبه، كان الجميع ينظرون إليه نظرتهم لا إلى إنسانٍ دفعه حظه السيئ إلى أن يكون صغير الحجم ليس إلا، وإنما باعتباره ظاهرةً شاذة، وكأنه حشرةٌ قد نجحَت في النطق كالآدميين.

ظاهرة تدفع إلى الاستنكار والاشمئزاز مثلما نستنكر جميعًا أن تقوم الحشرة بدور الإنسان في الوقت الذي لا نستنكر فيه مطلقًا من أي إنسانٍ أن يقوم بدور الحشرة. وعاد مهمومًا إلى وليِّ أَمرِه السلطان الذي أدرك كل شيءٍ بنظرة، والذي كان قد رتب للأمر، ومن اليوم التالي كان «النص نص» يُحضِّر لدراسة الدكتوراه، كان قد انتوى أمرًا خطيرًا، أن يدرُس أربع عشرة دكتوراه في نفس الوقت. وبينما كان زملاؤه يؤدُّون أعمالًا روتينية، ويبدءون في لعن الروتين والسخط على قوانين الاستخدام، وفي الوقت الذي كان بعضٌ آخر منهم قد يئس من كل شيءٍ، ووهب نفسه كليةً للتهليس وعب ملذات الحياة عبًّا، نذر نفسه هو للدراسة، وفي ثلاث سنوات كان قد أكمل استعداده، ولأول مرة في تاريخ الجامعة — بل في تاريخ الجنس البشري كله — تجتمع أربع عشرة لجنةً لأربع عشرة مادةً مختلفة، من الرياضة العليا إلى هندسة الإنتاج إلى الجراحة الخاصة لتمتحن «النص نص» في نفس الوقت؛ ومن أجل هذا الحدث غير العادي غيَّرت الجامعة من نظام المناقشة، وأجلسَت «النص نص» في منتصف الحجرة، وحوله تناثَرت مقاعد الممتحنين الذين لم يبدُ عليهم أي استنكارٍ لحجم «النص نص» أو شكله؛ فالمجتمع لا يهمه شكلك وأنت تدرُس أو وأنت تُمتحَن، إنه فقط يبدأ يُدقِّق ويفحص ويختار حين تتقدم إليه تطلُب العمل!

ولأربع عشرة ساعةً راح الممتحنون وأعضاء اللجان يُناقشونه، ولم يكتشفوا لدهشتهم أنه قد هضَم واستوعَب تمامًا كل مادةٍ من مواد الامتحان، إنما اكتشفوا أكثر أنه بلغ من استيعابه للمواد أنه وصل إلى نظرياتٍ عامةٍ جديدة تمامًا في علاقة ألوان العلوم والمعارف بعضها ببعض، نظريات أوصلَتْه إلى قوانينَ خطيرة تكشف شيئًا فشيئًا عن جذور المعرفة البشرية والقوانين الموضوعية للمادَّة وأشكالها المختلفة، بحيث إنه كان يتوصل معهم إلى القانون الأول الذي يحكُم علاقات الكون كله. وتحوَّل النقاش حينئذٍ من لجان تمتحن «النص نص»، إلى تلامذةٍ يُخرج لهم «النص نص» كُنوزَه ويُحدِّثهم عما وصل إليه وهم حيارى مذهولون، قد أدركوا فجأةً ليس فقط أنهم أمام عبقريٍّ من طرازٍ نادر، ولكنهم اكتشَفوا أنهم قضَوا حياتهم عبثًا، وأن دراسة الكون كأجزاءٍ منفصلة، والإغراق في التخصُّص قد سَلبَهم القدرة على النظرة الكلية، وأن خير وسيلة للدراسة والمعرفة هو ما فعله «النص نص»، هو أن يعود العالم مرةً أخرى مثلما كان الحال أيام ابن سينا وابن رشد عالمًا في كل شيءٍ ليستطيع أن يصل إلى المفتاح السحري للعلم، ذلك الذي يفتح كل بابٍ مُغلق، وأيضًا كان لا بد أن يحدُث ما حدث؛ فرغم ما كانوا غارقين فيه من ذهول، ورغم أفواههم الفاغرة تتلقَّى من «النص نص»، وكأنها تتلقَّى درس الحياة الأول، ما كادوا ينتهون من نقاشه أو بالأحرى ينتهي هو من إلقاء الدرس عليهم، حتى عادوا يغرقون في المناقشات الحامية حول ما أسمَوْه «الظاهرة النص نصية»، وهل هي معجزةٌ فردية لا سبيل إلى الوصول إليها، أو هي أسلوبٌ وطريقةٌ باستطاعة أي إنسانٍ أن يستعملها ويصل بها إلى نفس النتائج. ولما بُحَّ صوت «النص نص» وهو يُحاول استخراجهم من النقاش ولفْتَ أنظارهم مرةً أخرى إليه، وهم مستغرقون في عمليةٍ انقسموا تجاهها أيضًا هل يمنحونه أربع عشرة دكتوراهً منفصلة، أو يمنحونه درجةً علمية جديدة يُسمُّونها دكتوراه الدكتوراهات؟ انسَلَّ «النص نص» من وسط الجمع لا يشعُر به أحد، أو ينتبه إليه أحد، أو يُوليه اهتمامه، انسَلَّ وحيدًا، مهموم القلب، وقد عاد مرةً أخرى إلى مواجهة واقعه الحزين وحظه السيئ، وعاد إلى بيته ليُفاجأ بالمأتم قائمًا ومنصوبًا. كان ولي أمره السلطان قد مات، وكان منذ الغد عليه أن يرحل، ورحَل لا يمُتُّ إلى أحد، ولا يستطيع حتى أن يمُت إلى مكان، فلا صاحب بيتٍ يرضى أن يُؤجِّر له بيتًا، ولا مدير فندقٍ يرضى أن يُنزِله بفندقه، نفس الاندهاش والتقزُّز تمتلئ به نفس من يُخاطبه ويتفرَّج عليه بُرهةً، ثم لا يلبث — كالطفل حين ينتهي من لُعبته — أن ينفُض منه يده، ولا يعود يأبه له أو لتوسُّلاته.

نفس الأساتذة الذين كانوا يُشيدُون بعبقريته حين كان يلقاهم منفردين في مكاتبهم، كانوا لا يملكون له سوى هَزِّ الأكتاف، وإلا تبصيره بالعقبات التي تشُل أيديهم، وتمنع الواحد منهم أن يعهَد إليه بعمل — أي عمل — لا كدكتور حتى أو كعالم، وإنما كإنسانِ تجاربَ عرَض نفسَه على أستاذِ علم الأمراض كي يُبقيَه في قسمه، مجرد عينةٍ علمية وظاهرة ممكن دراستُها للكشف عن هرمونات النمو وأمراضه، اعتذر له الرجل قائلًا: إن قانون الجامعة لا يُبيح الاحتفاظ إلا بحيواناتِ التجارب فقط من أمثال الفيران، والخنزير الغيني، والأرانب، ولكن القانون لا يُوجد به مادةٌ تُبيح الاحتفاظ بإنسانِ تجارب. لو فعلَها لحاسَبه ديوانُ المحاسبة حسابًا عسيرًا، ولعاقَبَته الجامعة، حتى الصحف والتليفزيون والإذاعة حين شاعت قصَّتُه في الأوساط العليا جرى مندوبو الصحف يبحثون عنه، حتى وجدوه عند أستاذ من أساتذة الجامعة، وأخذوا له عشراتِ الصور الفوتوغرافية، وأعطَى عشراتِ الأحاديث، وعملوا معه أكثر من لقاء. في التليفزيون، وأمامه وعيني عينك كانوا يُحضِرون بعض أساتذة الطب ليقولوا رأيهم فيه، وفي الاستوديو كان حين يتكلم يُحس بالدنيا كلها منصتةً إليه، ويبدأ يتفاعل، ويفتح لهم صدره، ويطلب منهم أن يجدوا له عملًا يتناسب مع مركزه العلمي ومؤهِّلاته، وكان ما كان يذكُر حكاية العمل وحاجته إليه، ويطلبون منه أن يقترح عليهم نوع العمل الذي يريده، وما يكاد يذكُر كلمة مدرس أو معيد، أو حتى محضر في معمل، حتى ينفجروا ضاحكين مقهقهين، مشيرين إليه وإلى حجمه، وسادرين في الضحك عليه لا بُد. وكالعادة لم تَستمِرَّ موجةُ الاهتمام به كثيرًا، بعد أسبوعٍ أو أقلَّ فتَر الحديث عنه، ولم يعُد ظهوره في التليفزيون حادثًا كبيرًا كما كان الأمر في أوَّله، إلى درجةِ أن أحدَ منتجي القطاع الخاص كان أثناء موجة ازدهاره قد فكَّر أن يُنتِج عن حياته فيلمًا. خبرٌ أسعد «النص نص» وأفرحه؛ فهو على الأقل سيأخذ ما لا يقل عن شهرَيْن أو ثلاثة من العمل والاستعداد، غير أن هذا الأمل نفسه ما لبث أن خاب حين وجد نفس المنتج أن فكرة الفيلم ممتازة هذا صحيح، ولكن المستحسن أن يقوم إسماعيل يس ببطولتها، ويُسمُّوه إسماعيل يس في الجامعة!

وبالعدول عن فكرة الفيلم، وانتهاء الحديث عنه في وسائل الإعلام وجد «النص نص» نفسه بين يومٍ وليلة يحيا في فراغٍ كاملٍ تام. وجد كل الأبواب التي كان يتخيل أنها مفتوحة على مصاريعها في انتظاره تُغلَق دونه الواحد وراء الآخر بلا سببٍ معلوم، وكأن هناك مؤامرةً خفية هدفُها أن يفقد عقله، أو يرتكب عملًا أحمق. وكان قرَّر أن يرتكب هذا العمل وينتحر؛ فقد ضاقت به الدنيا، حتى أصبحَت أضيق من «خَي» حبل المشنقة.

ولم يتطلَّب منه الأمر تفكيرًا كثيرًا، وعلى الفور شرع في اتخاذ طريقه إلى مبنى المجمَّع في ميدان التحرير، وعلى قدمَيه صَعِد الطوابق الكثيرة؛ إذ هو لم يكن يستطيع أخذ الأسانسيرات أو ركوب الأوتوبيسات مخافةَ أن يفعصه أحدُهم دون أن يُحِس أو يشعُر. خرج إلى سطح المبنى، وأشرف على حركة المرور الهائلة في الميدان، وراجع حياته وما ينتظره علَّه يجد قشَّة أمل يتعلَّق بها في لحظاته الأخيرة، ولكن كان واضحًا تمامًا أن قصته مع الناس قد انتهت، وأنه لم يعُد بإمكانه أن يعيش بالطريقة التي يُريدها، كان يستطيع أن يعيش على هامش الحياة مثلما يحيا الآلاف والملايين غيره، يأكل كيفما اتفق، ويسكن كيفما اتفق، ويُوجد كيفما اتفَق، ولكن كنوز المعرفة التي نهل منها جعلَتْه يرفض أي حياةٍ أخرى إلا الحياة التي يريدها هو، إلا أن يفرض على الحياة حياته، فإذا فشل في هذا الفرض كان عليه في صمتٍ وبطولة أن يموت. وأغلَق عينَيه وقفز من حافة السور الصغير المقام فوق السطح، وأحَسَّ بنفسه يهوي ويهوي، وبوعيه يبهت ويبهت كأنه الشمعة تتعرَّض لتيارِ هواءٍ قوي. حالًا ستنطفئ الشمعة، ويفقد الوعي تمامًا وإلى الأبد، غير أن اللحظاتِ طالت حتى جرؤ على فتح عينَيه، فوجد نفسه يقترب من الأرض بسرعة، فعاد يُغمِض عينَيه، وفي اللحظات التالية بدلًا من فقدان الوعي اصطدم بالأرض، ولم يتحرك من مكانه منتظرًا الموت، غير أن الموت لم يأتِ، كل ما في الأمر أحس بآلامٍ هائلة. آه! كيف فاته وهو العالم الكبير أن سقوط مَن في وزنه لا يمكن أن يؤدي إلى وفاته أو حتى كَسْر عظامه؟ هذه المرة غَضِب، وفي غضبته راح يبحث بسرعة عن وسيلةٍ أخرى يقضي بها على نفسه. لم يكن أمامه إلا أن ينام فوق قضيب السكة الحديد، وينتظر القضاء تحت عجلات القطار، ولكن القضاء لم يحل؛ فالهواء الناتج عن القطار القادم تكفَّل بنفخه، حتى طار من فوق القضيب، واستقر كالريشة على الزلط. حتى الغرق في النيل جرَّبه، فوجد نفسه وفقط بحجمِ ما يرتديه من ملابس يطفو على سطح الماء، ولم يُفكِّر في خلع ملابسه مخافةَ أن تفشل الوسيلة، فيُضطَر إلى أن يعيش عاريًا وهو مصير لم يكن يتصوَّره.

تكفَّل فشلُ هذه الوسائل جميعها برَدِّ بعض التعقُّل إليه، وكأن نية الموت لها حدٌّ محدود، بحيث بعد محاولةٍ أو محاولتَين لا يصبح الإنسان قادرًا على أن يظل منتويًا الموت. وهكذا وهو طافٍ على سطح ماء النيل بعد فشله الثالث قرَّر أن يحيا، أن يُكافِح ليحيا كما يريد، وينتزع الحياة بأظافره وأسنانه ما دام الناس لا يستطيعون أن يُقدِّموها إليه على طبقٍ من الفضة، ولكي تُقرِّر أن تحيا عليك أن تُقرر أيضًا ماذا تفعل بحياتك. وهكذا في نفس اللحظة كان «النص نص» قد قرَّر أن يحُل بحياته القادمة المقبلة كلَّ ما استعصى على البشرية حتى ذلك اليوم حلُّه.

ونفس الشيء الذي كان يقف حائلًا بينه وبين حقه في الحياة كالآخرين، نفس صِغَر حجمه تَوسَّل به كي يحيا كما يريد. الآن باستطاعته أن يختار أفخرَ مكانٍ يريد الإقامة فيه وأحسنَ مكانٍ يعمل فيه ويُجرِّب. واختار هيلتون ليُقيم فيه، أما رقمُ حجرته فهو رقمُ أي حجرة لا يشغلها قاطن، وإن كان الفندق كله مشغولًا فهو رقم حجرة أجمل قاطنةٍ من قاطنيه على شرط أن يصحو قبلها، مخافة أن ترفع البطانية، وتكتشف شريكها في الفراش، ويُغمى عليها من الرعب. أما العمل فقد اختار معامل الكليات جميعها بعد انتهاء اليوم الدراسي، حيث تُصبح كلها تحت أمره. والآن وقد توفَّر له السكن والمعمل والأدوات لم يعُد أمامه إلا أن يستغل ما يَحفِل به عقله من كنوز المعرفة ويعمل. وكان أول موضوع اختاره، وأراد أن يلقي به درسًا على كل هؤلاء الذي تجاهلوه وازوَرُّوا عنه، كان الوصول إلى القمر. وبعد أبحاثٍ لم تستغرق سوى بضعة أسابيع كان قد اكتشف الطريقة، لا لم يستعمل الصواريخ ولا الوقود، استعمل طريقةً أبسط من هذا بكثير؛ فقد اكتشف كُنه الجاذبية، وأدرك أنها شحنةٌ نوعية؛ بمعنى أنك إذا استطعتَ أن تشحن مادة بنفس شحنة الجاذبية الأرضية، فإنها تتنافس مع الأرض وتصعد إلى أعلى. وهكذا استطاع أن يشحن مركبةَ الفضاء الصغيرة التي صنَعها في معمل الميكانيكا بكلية الهندسة بواسطة جهازٍ صغير مرُكَّب داخل السفينة، وبتشغيل الجهاز تنافَرَت المركَبة مع الأرض، وبتقوية الشحنة أمكن أن يُسرع بها إلى درجة أنها قطعَت المسافة بين الأرض والقمر فيما لا يزيد عن الساعة، وحين اقترب من القمر أعاد شحن السفينة بنفس جاذبية القمر. وهكذا تعادلَت قوة تنافرها مع القمر مع قوة اندفاعها الأولى، وهبطَت على سطح القمر بسلام. وطَوَّر بعد هذا اختراعه؛ ليستطيع أن يسافر إلى الكواكب الأخرى. وهكذا كان يكفيه أن يُشغِّل الجهاز، بحيث يمنع عن السفينة الجاذبية الأرضية، وفي نفس الوقت يشحنها بجاذبيةٍ مضادة لجاذبية المريخ أو الزهرة أو أي كوكبٍ يختاره، فإذا بجاذبية ذلك الكوكب تتفاعل مع جاذبية السفينة، ودون حاجةٍ إلى بوصلة أو ملاحةٍ فضائية أو مُرشدٍ كانت السفينة تنجذب تلقائيًّا إلى الكوكب بقوةٍ عظمى، حتى لقد استطاع أن يصل بالسرعة إلى مليون كيلومتر في الثانية، وهي أضعاف سرعة الضوء. وهكذا كان يستطيع الوصول إلى القمر في نصف ثانية، وإلى المريخ في ٢٥٠ ثانية.

•••

وهكذا وضع قدَمَه على الطريق للسفر إلى العوالم الأخرى التي تفصلها عنَّا مئات السنوات الضوئية؛ إذ هو لم يجد حياةً على المريخ كما كان يتوقَّع. وبدراساته وتلسكوباته الرادارية أمكنه أن يكتشف أن هناك قانونًا أساسيًّا من قوانين الكون، قانون التماثل؛ بمعنى أن كل مجموعةٍ نجمية تُوجد فيها الشموس والأقمار بنظامٍ واحد، بمعنى أن المجموعة الشمسية المقابلة لمجموعتنا في الكون الآخر لها هي الأخرى شمسٌ مثل شمسنا، وعلى نفس البُعد منها يُوجد مرِّيخها وزهرتها، وأيضًا على بعد ٥٣ مليون ميلٍ منها تُوجد كُرتها الأرضية، وهكذا، فالحياة لا تُوجد إلا في الكرة الأرضية الموجودة في المجرة المقابلة لمجرتنا، وهي كرة تبعُد عنَّا بحوالي ٥٢٥٦٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠ ميل، ويستغرق الإنسان في قطعها ثمانين مليون سنةٍ ضوئية، فإذا عرفنا أن المسافة بين الشمس والأرض ٩٣ مليون ميلٍ يقطعها الضوء في ثماني دقائق ونصف دقيقة، لأمكن أن نتصوَّر المسافة الهائلة التي لا بد تفصلنا عن زميلتنا الكرة الأرضية الأخرى، والتي من أجل الوصول إليها كان على «النص نص» أن يصل إلى جهازٍ يستطيع أن يُولِّد قوة جاذبية تصل بسفينة الفضاء إلى سرعةٍ أسرع بكثيرٍ من سرعة الضوء، وإلا لاستغرق ثلاثين مليون سنةٍ ضوئية للوصول إليها، ونفس المدة في العودة منها. وهكذا أمكن أن يصل بجهازه إلى سرعةٍ تُوازي مليون مليون مرة سرعة الضوء، وبهذا أمكنه أن يذهب إلى الكرة الأرضية المقابلة ويعود منها في بحر ٧٤ يومًا فقط، وهو شيءٌ خارق للعادة كما ترى.

غير أن بناء هذا الجهاز كان يستغرق وقتًا إذ هو يقوم به بمفرده دون مساعدة من أحد، ولا بد أن يصنَعه متينًا قويًّا مزودًا بكمياتٍ من الأكسجين والوقود تكفي لهذه الرحلة الطويلة؛ ولهذا وفي انتظار أن يتم صنع مركبةٍ فضائية واصَل العمل في بحوثه الأخرى، فاكتشف «كورس» الأربعة عشر يومًا للوصول إلى درجة العبقرية؛ ذلك أنه بدراسته للإنسان وللحيوان اتضح أن الذكاء والقدرة العقلية مبعثها هرمونٌ خاص مسئول عن تغذية وتشغيل خلايا المخ. ومع أن طاقة المخ البشري طاقةٌ جبارة إلا أن الجزء المستخدَم منها قليل جدًّا؛ ذلك أن هذا الهرمون يُفرَز بكميةٍ قليلة، في حين أننا لو زدنا من كَمِّيته لاستطاع العقل البشري أن يعمل أضعافَ أضعافِ ما يعمله الآن، ودون جهدٍ يُذكر. وهكذا بواسطة الأربع عشرة حقنةً تُؤخذ على مدى أربعة عشر يومًا أمكَنَه أن يصل بالعقل البشري إلى أن يُصبِح له قدرة شكسبير الشعرية والمسرحية وذكاء أينشتين وحساسية بتهوفن الموسيقية. إنه يضع الإنسان بواسطة هذا «الكورس» على أعتاب العبقرية، ولكنه لا يستطيع أن يصنع له شيئًا آخر؛ إذ الباقي عليه هو وحده أن يقوم به وينتجه، بل إن بحوثه في هذا الاتجاه أوصلَتْه إلى طريقة تركيب الخلية العصبية، وبالذات طريقة تركيب الأحماض الأمينية التي تُكوِّن الكروموسومات داخل نواة هذه الخلية، وهي الأحماض الأمينية المسئولة عن صنع الحياة؛ إذ هي تستطيع أن تُحيل الموادَّ العضوية وغير العضوية إلى موادَّ حيةٍ قادرة على الانقسام الذاتي والحركة. كل المشكلة أن العلماء الذين سبقوه لم يستطيعوا الوصول إلى هذا التركيب؛ لأنهم كانوا يدرُسون على خلايا الجسم الإنساني والحيواني، في حين أن خلايا الإنسان والحيوان مهما كثر عددها ليست سوى أجزاء من الكائن الحي؛ ولذلك اتخذ هو حيوانًا ذا خليةٍ واحدة، ولكنها كبيرة الحجم جدًّا، بحيث تسهل دراستها، اتخذ البيضة، بيضة الدجاج باعتبارها وحدةً حية قائمة بذاتها، وبواسطة الميكروسكوب فوق الإلكتروني الذي ابتكره — وهو ميكروسكوبٌ قادر على التكبير إلى مليون ضعف — أمكنه أن يرى جزيئات الحمض الأميني، بل أمكنه أن يرى هذه الجزيئات، وهي تتكوَّن من تلقاء نفسها وتتركَّب، ولم يكن عليه بعد هذا إلا أن يُقلِّد العملية. وهكذا استطاع بواسطة محاليلَ من الكربوهيدرات والمواد النيتروجينية والكبريتية، وبإمرار تيارٍ منشط عبارة عن سيلٍ متدفق من الأشعة فوق البنفسجية، أمكن لهذه المواد أن تختار النِّسَب التي تتَّحِد بها مكوِّنةً البروتوبلازم الحي؛ ولأنها موادُّ معلومة الوزن، وقد أمكَنه أن يعرف نِسَب هذه المواد التي دخلت في تركيب البروتوبلازم، أمكَنه أن يصل إلى هذا اللغز المعقَّد، ويعرف سر تركيب المادة الحية، بل أمكنه أن يخلق خلاياتٍ حية في كأسٍ زجاجية، الخليةُ منها في حجم البيضة، تتفاعل بالضوء وتنجذب أو تنكمش لدى اقتراب الخطر، وقادرة على تغذية نفسها، بل وأن تنقسم في النهاية إلى خليتَين. وكان يعتقد قبلًا أنه لو وصل إلى هذا الحد لتكشَّف له سر الحياة، ولأمكنه أن يصل إلى تركيب كائناتٍ أرقى بكثير من كائنات الخلية الواحدة، ولكن المشكلة التي واجهَتْه جعلَتْه يكتشف أن هناك لا بد سرًّا آخر غير مجرد التركيب الكيميائي، ذلك السر الذي يبدو وكأنه كامن في الخلية الحقيقية يجعلها لا تنقسم ولا تتكاثر وتتحرك فقط، ولكن يجعلها — وهذا هو أهم شيء — تتطوَّر لتأخذ باستمرارٍ أشكالًا أخرى. الخلايا التي أوجدها لها نفس تركيب الخلية الحية الكيميائي، فماذا إذن يجعل الخلية الحية قابلة للتطوُّر بينما خلاياه هو خاملة لا تتطور؟ ذلك هو السؤال، سؤال كان يبدو عويصًا إلى الدرجة التي جعلَتْه يؤجل الإجابة عنه ليبتكر للبشرية بعض الأشياء التي تحتاج إليها بشدة مثل السرطان وعلاجه؛ ولكي يعالجه كان عليه أن يعرف سببه. وقد اكتشف السبب من نفس تجربته السابقة؛ إذ هناك خميرةٌ معينة داخل الخلايا الحية مسئولة عن انقسام تلك الخلية وتكاثرها. حين يصل الحجم بالخلية إلى درجةٍ معينة، أو يصل بها العمر إلى زمنٍ معينٍ محدد، تعطي الخميرة الإشارة، وتبدأ الخلية تنقسم. هذه الخميرة ليست مستقلةً في عملها، ولكنها خاضعة لاحتياجات الكائن الحي ككل، بحيث حين لا تستدعي الحاجة يستطيع الجسم أن يؤجِّل التكاثُر والانقسام، أو يَشْرع به إذا استدعَت الضرورة، وذلك بواسطة هرمونٍ معين، والسرطان ليس سوى تحرُّر خمائر الانقسام الموجودة داخل الخلايا من أثر هذا الهرمون، بحيث تبدأ تتكاثر أوتوماتيكيًّا دون هرمون يزجرها أو يُوقفها عند حدها؟ وعلاجه لا يتعدَّى تزويد الإنسان بجرعاتٍ من هذا الهرمون تُعيد إخضاع الخلية للمراكز العليا، واحتياطات الجسم.

وهكذا حل «النص نص» مشكلة السرطان. أما السل وبقية الأمراض فلم يُنفِق وقته في إيجاد علاجٍ لها كلٍّ على حدة، وإنما توصَّل إلى معرفة نوعٍ من المُنشِّطات الحيوية، تلك التي تُفرِزها الخلية الحية إذا أشرفَت على الموت قبل موتها بثوانٍ، وكآخر سلاحٍ لديها تطلق الخلية خميرةً سمَّاها العلماء المُنشِّط الحيوي تقضي على كافة أعداء الجسم من ميكروبات، وتنقذ المريض في آخر لحظة. استطاع «النص نص» أن يتوصل لمعرفة نوعٍ منها قادرٍ على الفتك بأية ميكروباتٍ مهما بلغَت قوَّتُها، بل وبواسطة قرصٍ واحدٍ منها يأخذه الإنسان كل أسبوع يستطيع أن يضمن الإنسان بقاءه سليمًا معافًى من كل الأمراض، حتى الأمراض الاجتماعية. وبواسطة لترٍ من الأنتي كابيتال يُوضع في كل مليون مترٍ مُكعَّب من ماء الشرب، يستطيع هذا العقار أن يُغيِّر من أفكار الناس، بحيث لا يعودون يُطيقون الجشع الرأسمالي، ويصبحون أكثر حساسيةً في كلِّ ما يتصل بالغير، بحيث لا يرضَون ظلمه أو الجَوْر عليه، حتى روح الحرب والعدوان يستأصلها؛ إذ هو يُضخِّم مركز الغيرية في المخ، ذلك المركز الذي تصدُر منه كافة الأفعال والتصرفات الإنسانية، وتهدف إلى المحافظة على النوع من خلال المحافظة على المجموع، عكس المركز الآخر الذي يضمر بأنتي كابيتال ويذوي، مركز المحافظة على النوع من خلال الذات. حتى السينما والتليفزيون استطاع «النص نص» أن يبتكر عدسة التصوير وعدسة العرض التي تجعل الفيلم يبدو حيًّا بنفس أضواء الحياة وطعمها وتجسيماتها.

وأخيرًا توَّج «النص نص» أبحاثه في خلال بضعة شهور، بأن استطاع اكتشاف نظريةٍ جديدة لتركيب الكون؛ إذ كان الناس يتصوَّرون الكون من خلال تصوُّرهم للجزء الذي يستطيعون رؤيته منه، أو حتى من خلال الجزء القادرين على تصوُّر مقياسه، والتصوُّر البشري يبدأ من تصوُّر جزء على عشرة مليون جزء من الملليمتر إلى ألف مليون سنةٍ ضوئية، تلك هي المسطرة التي كنا نقيس بها الكون، في حين أن هذه المسطرة لو وُضِعَت على المقاييس الحقيقية للكون لبدت وكأنك تضع مسطرةً طولها قدمٌ واحدة على المسافة بين الأرض والشمس؛ فهناك مقاييسُ نُسمِّيها أصغر بكثيرٍ من الجزء على مليون جزء من الملليمتر، ومقاييس أكبر بكثيرٍ من الألف مليون سنةٍ ضوئية، أصغر إلى ما نُسمِّيه المالانهاية وأكبر من المالانهاية المزعومة، في حين لا تُوجد المالانهاية. والذّرَّة ليست سوى كونٍ كامل يشبه مجرَّتنا، والإلكترون الموجود في الذرَّة ليست سوى كرةٍ أرضية بأكملها، وداخل هذا الإلكترون تُوجد مجموعة إلكترونية عبارة عن نواة وحولها أجسامٌ تدور وكل جسم منها عبارة عن فلك كامل، وهكذا إلى أن تصل إلى دقائقَ تنجذب إلى بعضها البعض بسرعةٍ فائقة، حتى تصل إلى الحد الأدنى من القرب، وحينئذٍ تبدأ تتنافَر وتتباعَد. وهذا هو نبض الكون؛ إذ نفس هذا النبض يحدث وبنفس السرعة للأكوان الكبيرة التي تتجاذب إلى الحد الأدنى من المسافة، لتعود تتنافر وتفقد تكوينها مُكوِّنة السديم، الذي يبدأ يصنع منه التجاذُب الأصغر فالأكبر فالأكبر، حتى تتكوَّن المجرَّات والأفلاك، ويحدث التجاذب من جديد. سرعة نبض الكون ثابتة، ولا يُوجد أكبر أو أصغر؛ فطريق التقائه ليس سوى تجمُّع لذراتٍ نراها نحن من داخلها في حين أنها من الخارج قد تكون جزءًا من مادة، أو حتى جزءًا من جزيء داخل في تكوين كائنٍ حي من الصعب تصوُّر حجمه. القانون الواحد الذي يحكُم هذا الكون كله هو قانون التجاذُب للتنافُر أو التنافُر للتجاذُب، على أساسه يمكن تفسير كل شيء، حتى تفسير نشأة الحياة وتعدُّد الأنواع؛ فالجزيئات تظل تتجمَّع وتكبر إلى أن تصل إلى الحد الأعلى، فتتنافر وتنقسم وتتحدَّد مُكوِّناتها الجديدة مُكوِّنة أنواعًا أخرى من الجزيئات حتى يؤدي التجميع إلى الانقسام، وإعادة التكوين إلى جزيء الحمض الأميني الذي يتجمَّع على هيئة خليةٍ واحدة تظل تنمو إلى الحد الأعلى، ثم تنقسم ليحدُث بين مُكوِّناتها المنقسمة وبين مكونات خليةٍ أخرى مختلفة معها قليلًا نوعٌ من التزاوج، يؤدي إلى ظهور الحيوان عديد الخلايا. وبتكرُّر العملية تتعدَّد الأنواع، حتى تصل إلى القرود والإنسان الذي يتطوَّر بعد هذا بسبب تطوُّر العلاقات الاجتماعية، التي تحكُم الصلة بين أفراده.

وعشرات غيرها من الاكتشافات والاختراعات، حتى إنه اكتشف فيما اكتشف دواءً لمعالجة الذمم الخربة لأصحاب البيوت، بحيث إن ملعقةً منه قبل توقيع العقد تستطيع أن تجعل صاحب البيت يتنازل بمطلق إرادته عن جميع الشروط الواردة بالعقد، وكلها للأسف حقوق لصاحب البيت لدى المستأجر.

وأن يعمل ويكتشف كان مسألةً سهلة، كان باستطاعته أن يصل إلى ما هو أخطر، وأن يكتشف أشياءَ أهَمَّ بكثيرٍ من تلك، ولكن المشكلة التي كانت تُؤرِّقه أنه لم يكن يستطيع أن يفعل بهذه الاكتشافات شيئًا، كان يحملها ويذهب بها إلى أصحاب الشركات وأساتذة الجامعة والمسئولين، فينظرون إليه نفس نظرتهم إلى حيوانٍ غريب ويضحكون، وأحيانًا يقبضون عليه، ويحملونه في جيوبهم ليُفرِّجوا عليه زوجاتهم، ويجعلوا الأولاد يَلْهون به بعض الوقت، وذات يومٍ ضاق به أحدهم إلى الدرجة التي أمسكه وقذف به من النافذة فسقط فوق رأسِ فلاح ما كاد يراه حتى استبشر، وقال: ياما أنت كريم يا رب! وأخذه إلى بيته في القرية وأبقاه محبوسًا ستة أشهر، حتى يحين موعد القطن كفألٍ حسن، وحين لم يَزِد المحصول كما كان يتوقَّع أقسم أن يُطعِمه لحماره، ولم يُنقِذه في اللحظة الأخيرة إلا زوجته حين راحت تستحلفه أن يُبقيَه لكي يجلب لأختها العاقر الحمل. وبالتأكيد لم يستطع أن يجلب شيئًا، ولكنه أفلح في الهرب، ووصل إلى حيث المعمل ومركبة الفضاء التي كانت قد تمَّت، وبغيظٍ أدار الجهاز، وبعد سبعة وثلاثين يومًا كان في الكرة الأرضية المقابلة. وحين هبط فُوجئ بأعظمِ وأروعِ فرحةٍ في حياته؛ فقد وجد الناس هناك في مثل حجمه، ورحَّبوا به وطافوا به أنحاء الكرة وممالكها باعتباره «إنسان الأرض» الذي ترقَّبوه طويلًا، ولأنهم كانوا يمرون بنفس الطور الحضاري الذي تمر به كُرتنا الأرضية، فقد زوَّدَهم باكتشافاته التي طبَّقوها في الحال، وجعلَت من حياتهم جنة، فأقاموا له التماثيل، وكاد قسمٌ كبير من سكان تلك الأرض يُقدِّسونه ويعبدونه من دون الله سبحانه، ولكنه كان في شُغلٍ عن التكريم والتقديس والعبادة بالشوق الغريزي الشديد، الذي كان يُحسه لكرتنا الأرضية وقاهرته، ومصر، شوق جعله يكتشف قانونًا آخر من قوانين الكون، وهو أن المادة الحية تحن إلى المواد الخام المخلوقة منها، وهكذا يحن الإنسان إلى مسقط رأسه، ويحن الجزء من الشيء إذا انفصل عنه للجزء الأكبر، حتى سفينة الفضاء تحن إلى المعمل، الذي صُنِعَت فيه. وهكذا جاء عليه اليوم الذي لم يعُد يُطيق وتحايل، حتى وصل إلى سفينة الفضاء، وبكل ما يهزُّه من شوقٍ شغَّل الجهاز، وما أروعَها من أرضٍ كروية وما يُغطِّيها من سحاباتٍ تلك التي طالعَته في صباح اليوم السابع والثلاثين! ما أروعه من شريطٍ رفيعٍ ينحني ويتهادى وبرفقٍ يصب في بحره الأبيض! ما أروعَ مصر التي هبط في صحرائها، حيث غادر المركَبة قُرب أهراماتها! وما لبث أن ضاع في زحمة مدينتها يقيم حيثما اتفَق ويأكل وينام كيفما اتفَق، وسعادته كلها أنه يحيا على الأرض، أرضه حتى لو كان قد تخلَّى عن كل طموحه.

الشيء الذي لم يحسب له «النص نص» حسابًا قَطُّ هو أن يستخدم أهلُ الأرض المقابلة معلوماته التي أعطاها لهم إلى درجة أن يصنعوا مراكبَ فضاءٍ مثل مركبة فضائه، وأن يُفاجأ أهل الأرض ذات يوم بسربٍ من هذه المركبات، وقد ظهر يحوم حول مدن الكرة الأرضية الكبرى، ويرقُب الحياة التي تموج فيها. ولا تُحدِّث عن الحُمَّى التي اجتاحت الدنيا لهذا الحادث الخطير، ولا عن الصحافة والإذاعة والتليفزيون — خاصة في أمريكا — وقد خرجت تتحدَّث عن غزو الأرض، وتطلُب من حكوماتها إخراج ما لديها من قنابلَ ذرية وأيدروجينية لاستعمالها ضد الغزاة (تمامًا نفس العقلية التي كانت تصنع أفلام الفضاء)، ولكن قبل أن يحدث شيءٌ من هذا كان سِرْب المركَبات قد هبط فوق جبال سويسرا، وخرج منه سكان الأرض الثانية في حجم عقلة الأصبع، يستعملون أجهزة الترانزستور في تضخيم أصواتهم إلى الآخرين، وفي استقبال أصوات الآخرين، واندفعَت إلى سويسرا جموعٌ هائلة من الصحفيين والمخبرين ومُحبِّي الاستطلاع يريدون الوقوف على أسرار تلك الحضارة الراقية التي غزت الفضاء بمثل ذلك الإعجاز وغزت الأرض. وكانت المفاجأة المذهلة حين ذكر رجال الفضاء هؤلاء أن سفن الفضاء تلك ليست من ابتكارهم، إنما هي من ابتكار واحدٍ من أهل الأرض اسمه «النص نص» من بلدٍ اسمها مصر، كان قد زارهم في مركبةٍ مماثلة منذ عامٍ مضى، وزوَّدَهم بمعلوماتٍ هائلة عن المادة والحياة والأحياء، من ضمنها هذا الجهاز الذي أمكنهم به أن يتغلبوا على جاذبية أرضهم، وأن يُسافروا بتلك السرعة الخارقة في الفضاء، حتى يتمكَّنوا من الوصول إلى بنت عمَّتهم الأرض.

وهكذا في أقلَّ مِن ساعةٍ كان الناس قد فقَدوا الاهتمام بأهل الكوكب الآخر كلية حتى لم ينتظر أحدهم ليُودِّعهم وهم في الطريق مرةً أخرى إلى كُرتهم، واندفعوا في أعدادٍ هائلةٍ يحجزون الأمكنة في الطائرات إلى القاهرة، حتى اضطُرت شركاتُ الطيران إلى تحويل خطوطها جميعًا إلى القاهرة.

ولم ينتظر المصريون وصولهم؛ فهم منذ إعلان تلك الأنباء وجموعهم في حالة بحثٍ دائب عن «النص نص». ولأول مرة يعترف أساتذة الجامعة الذين امتحنوه، ولأول مرة يذكُره أولئك الذين ذهب يطلب منهم العمل وهزءوا به، والجميع من سائل إلى مسئولٍ قد ركبَتْه حُمَّى البحث، والكل يحاول أن يتتبَّع الخيط، وكل خيطٍ ما يكاد ينمو وينمو معه الأمل، حتى ينقطع فجأة، وعلى غير انتظار — حتى الفلاح الذي احتفظ به كفألٍ حسن وقصَّته معه — ثبت خيطٌ تتبَّعَه الناس إلى أخت زوجته العاقر، ثم انقطع تمامًا، ولكن كان لا بُد أن تنتهي مرحلة الفوضى التلقائية تلك؛ فالأمر جِدُّ خطير للعالم كله، ولا بد من العثور على «النص نص»، ومن الشرق والغرب جاء خبراء البحث والتقصي، وأُعيد استجواب كل من سبق، وكان له ﺑ «النص نص» أي اتصالٍ لمعرفة الأماكن التي يُحبها، أو أين كان يُمضي وقته، حتى خدَم السلطان الذين أصبحوا مرشدين سياحيين في قصره، الذي تحوَّل إلى مُتحَفٍ استجوبوهم بدقة، وكانت النتائج دائمًا مخيبة للآمال؛ فقد بدا أن باستطاعته أن يُوجد ويعيش في أي مكانٍ بالقاهرة أو بغيرها من المدن، في أي اثني سنتيمترٍ مكعب يُمكِنه أن يبقى إلى الأبد مختفيًا. النتيجة الإيجابية الوحيدة التي خرج بها الخبراء المحليون والعالميون من بحثهم واستقصائهم أنه قال ذات مرة: إنه يجب أن يمشي على بلاج الإسكندرية، خاصةً في الشتاء. وإلى هذا البلاج تحوَّل البحث كله، ليس فقط بحث الأجهزة والإخصائيين، وإنما بحث الناس العاديين. ناس، آلاف الناس المزدحمة صيفًا وشتاءً لا يطلبون أسرار قوانين الكون والحركة والجاذبية، وإنما يطلبون أشياءَ تبدو أسهل بكثير، الأصلع يريد دواءً يُنبِت له الشعر، والآخر الذي يريد القضاء على الشيب، والسيدة العاقر التي تنام وتحلُم بالولد، والمقطوع الساق والأعمى والأعور، والأبرص، والذي به داءٌ استعصى على الشفاء، جيوش لمرضى من أيام موسى وعيسى، ومحصول النوايا، القاهرة التي تفيض بها أضرحة المشايخ وأهل البيت، ورسائل المحبين إليهم بعدد سكان الأرض وسكان مصر، لكلٍّ كونه المفقود الذي يبغي العثور عليه، عالمه الطلسمي، الذي يوَدُّ لو عرف قوانينه، والجماعات — جماعات وأفرادًا — في حالة بحثٍ دائب، في الصيف وفي الشتاء، في الربيع وفي الخريف، إلى أقصى ما يستطيع أن يُصعِّر كلٌّ منهم خدَّه ويكبش من الرمال ويغربل، علَّه هذه الكتلة، عَلَّه تحت هذه المحارة، علَّه في كومة حشائش البحر تلك، علَّه من تلقاء نفسه يظهر غدًا، ومن كل صوبٍ تنهال الاتهامات: السبب أساتذة الجامعة الذين لم يُعيروه اهتمامًا، السبب البيروقراطية والبيروقراطيون الجالسون فوق المكاتب يمنعون العبقريات عن الظهور، بل كلنا مسئولون، هكذا كتب صحفيٌّ كبير عن الجريمة، كلُّنا أهملناه واحتقرنا شأنه، وها نحن اليوم نقلب الأرض بحثًا عنه، كلنا مسئولون.

•••

وعن الجماعة التي اتجهنا إليها صدرَت صيحة، وكأنها صيحةُ رعب، تلَتها اندفاعاتٌ وصرخات واستغاثات كأصوات الهنود الحمر حين تهجم أو فرق الصاعقة، وفجأة أيضًا وجدنا المجموعة وقد استحالت إلى كتلةٍ بشرية مُتكوِّرة، كتلٍ متضاربة متصارعة صارخة مُولوِلة ممزِّقة ممزَّقة. لا تحسبن أنهم عثروا عليه، فهكذا الحال دائمًا، إنه واحدٌ منهم خُيِّل إليه أن قطعة الطين التي اصطدَمَت بها يده هي «النص نص»، وتسابق الآخرون ينتزعونه منه. تلك كانت آخر كلماتِ صديقي، ليس في ذلك اليوم فقط، وإنما في كل الأيام؛ إذ ما لبثت الكتلة البشرية أن راحت تتضخم وقد فقد الكل عقله، ولم يكن هناك أحد ليتابع؛ فمنذ اللحظة الأولى يتحدد الوقت وقد كُتب عليك الصراع: إما صراع من أجل الحصول على «النص نص» المزعوم، أو صراع من أجل استخراج نفسك من كثرة البشر المتزايدة المتضخمة المهدِّدة بفعص كل من يقربها أو تقربه. وفجأة تطلعتُ فلم أجد صديقي، كانت الكُرة قد ابتلعَتْه ولم أرَهُ إلا في اليوم التالي بين عشرات الجثث المُمَدَّة فوق رمال الشاطئ.

لم تكن آخر كُرةٍ بشرية تتكوَّن أو أول كُرة؛ فهكذا الحال دائمًا وكل بضع ساعاتٍ أو أيامٍ تحدُث الصرخة التي يعقبها التدافُع والتكوُّر والفعص.

أما «النص نص» فمنذ أن عاد إلى الكرة الأرضية ووَطِئ بقدمَيه القاهرة، فلم يعرف له أحدٌ مكانًا، البحث قاد حقيقةً إلى مركبة فضائه التي استعملها، أما أين وكيف يعيش الآن؟ فذلك لغز لم يستطع أحد ولن يستطيع حلَّه، من يدري ربما يكون هذه الكتلة البارزة من الرمل أو من التراب، ربما تحت هذه المحارة أو أسفل كومة الحشائش، ربما في جيبك أنت، وأنت لا تدري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤