دستور … يا سيدة

المربع الأول

الظَّهْر، ظَهرها كله أصبح مُربَّعاتٍ كبيرة مُحمرَّة داخلها مُربَّعاتٌ أصغر، فيها ألم. بالراحة، بالعقل، بالحنية، أبدًا أبدًا ليس هكذا أرادت أو تريد، لا بد أن تهتف صارخةً دافعةً إياه بكل غلظة: حاسب، اوعى، اوعى!

مفاجأة لم تكن متوقعة! المفروض أن يتحول إلى وحش، إلى كائنٍ مرعب يُخضعها، ولكن على نصف جانب، وثَنْية رجل ويدٍ شبه مرفوعة في الهواء حيرى ماذا تفعل، سكن. العيون، عيناه مفتوحتان في دهشة، والملامح تنطق بشعور طفلٍ أذنب رغم أنفه ويُريد البراءة. ماذا حدث؟ سألها خائفًا أن يقترب أو يلمسها. لم تُجب، ماذا تقول؟ كيف تجعله يفهم أشياءَ هي نفسها، وإن كانت تُحسها، لكنها لا تعرف كيف تصوغها كلماتٍ محدَّدةً مفهومة؟ أهذا وقتُ التراجع والعدول النهائي؟ كيف؟ وما تصوَّرَته الأفظع والأبشع والمستحيل قد تم.

أحسَّت في قمة الغضب التعِس بيده تقترب، كقطَّةٍ متلصِّصةٍ تعرف أن ما تُريده ليس من حقِّها. دفعَت اليدَ جانبًا بقوة وقسوة لم تُردها أبدًا، ولا تخصُّها، لكأنها قسوة امرأةٍ أخرى داخلها، امرأة لا تعرفها.

صمت.

إما التسليم المُطلَق أو إعلان الفشل وإحالته من شعورٍ إلى واقع.

صمت أيضًا.

اختفت من خلاله وفي كثافته حشرجاتُ السوق والشارع وصراع الأطفال العابث اللاعب، وأزيز الدنيا.

أتُعاقبها السيدة زينب؟

اقشَعرَّت.

أتفقد العقل؟ أتصرخ؟ أتجري شبه هاربة هكذا، وتقول لكل الناس إنها أم فلان البيه وفلان المدير ومع هذا تفعل ما هي الآن تفعله؟

أتقتل نفسها؟

وذاب عقلها في ضياع. وقبل أن تُفكِّر في أي شيءٍ آخر رمقَتْه بحدقةِ عينَيها فقط، ودون أن تتحرك كرة العين في المحجر ربع نظرة، انتهت بعدها تمامًا، تمامًا.

بلا صوت، أو اعتصارٍ لذاته، أو احتشاد، أو حتى تغيير لوضعه، كانت جفونه مسبلةً ومن بينها يتساقط دمعٌ بطيء تلمع آثاره على الوجنة، وبقيته تتوالى نقطةٌ عزيزة بعدها نقطة.

من جديد — وكالإعصار — تحرَّك ذلك الإحساس الطاغي الذي يُنسيها أي شيءٍ إلا أن تنتفض هالعةً مقبلةً عليه، محيطةً إياه بذراعَيْن تثلَّجتا بالحنان، وبقبلاتٍ منهمرةٍ مذعورةٍ تركَّزَت فيها كل قدراتها على الفعل، ودفع الشر تغمُره وتغسل وجنتَيه وتلعق أجفانه، ولفرط رغبتها تستعذب طعم الدموع.

لقد انتهت! فليكن أجرم فليُجرم! فليكن الثمن حياتها نفسها فلن يبكي مرةً أخرى. إنها المقادير، مقاديرها وحظها رتَّبَت كل شيء. الازدحام عند باب السيدة زينب، والدفعة التي جاءتها فجأةً من الخلف، وفي نفس اللحظة التي كانت ساقها لا تزال لم تصِلْ بعدُ إلى الأرض. واعتقدَت تمامًا أنها ساقطة لا محالة، وأصبح رجاؤها كله ألا يرتطم رأسها بالبلاط المُربَّع الكبير، ولكنه الترتيب المُحكَم، وبالضبط وهي تهوي وقد سلَّمَت بالكارثة المحقَّقة، تأتيها اليد وكأنْ ليس لها صاحب، يدٌ من السماء ربما توقف لولا سقوطها، وحين تفقد التوازن كنتيجةٍ لهذا تأتيها الذراع قويةً مشمرةً تلتفُّ حولها، ولومضة، لومضةٍ سريعة تُشعِرها، ربما منذ زمنٍ بعيدٍ، حتى قبل أن يموت زوجها، أنها في أمانٍ كامل، ذلك الأمان.

لم تسقط ولم يُكسر لها ساقٌ أو قدم.

ولكن السيدة — أم هاشم وأم العواجز — على حق. أنا محقوقةٌ لك يا سيدة حقك عليَّ. الشنطة! ها هي اليد الأخرى تُقدِّمها. وحين ذاك فقط تبدأ تُدرك أن يده الأولى لا تزال تُحيطها وتحتضنها. ومع الشكر والتراجُع وارتباك الإفاقة من مصيرٍ محتوم، ماذا قال؟ لا تعرف. في النهاية نظرت في وجهه، والمفاجأة أنها كانت طَوالَ الوقت تُخاطب وتُعامل وتشكر رجلًا، ولكن هذا … إنه … إنه بالكاد له شارب.

– بتعيط ليه؟ أنا عملت حاجة؟ أنا زعلتك؟

– زقتيني.

– ودي تزعَّل؟

– أيوه بقوة وكره. إنتي بتكرهيني. إنتي عايزة أفندي واللا بيه غني ومعتبر. وأنا فقير، والفقير عندكم ما عندوش إحساس.

وتفجَّرت رغمًا عنه، أو ربما برضاه، دمعة.

واحتضَنَتْه.

إنه لا يفهم.

مستحيل أن يفهم.

كيف يفهم؟

بأي قوةٍ تستطيع أن تُطلعه على ذلك الشعور الذي لا يُقاوَم، والذي جعلها تنسى أي شيءٍ إلا أنها وجدَتْه، وأنه في تلك اللحظة بالذات أعزُّ عليها من الدنيا بما عليها.

– أعمل إيه علشان تصدقني؟

– ما تزقنيش.

– بس أنا يا ابني زي أمك.

– أمي ماتت من عشر سنين. أنا زي ما أنت شايفة يتيم.

واختنَق حلقه بدموعٍ تريد التحوُّل إلى كلمات، وكلمات تصدُر عن إحساس في نفسه، إحساسٍ كبير كالقصر المهجور الذي دبَّت فيه الحياة فجأة. في نفس اللحظة التي أحاطها بذراعه وأَحسَّ بجسدها، وإن لم يكن سمينًا رجراجًا إلا أنه «هوانمي» طري، ناعم حتى من خلال ملابسها الكثيرة الحريرية السوداء. كان ممكنًا أن يتقبَّل الشكر ويمضي، ولكنه توقَّف، تلكَّأ، تمنَّى لثانيةٍ أن تحتاج إليه.

والخطوة التالية لم يُرتِّبها القدر، صحيحٌ أن قدمَها التوَت، ولكن كان باستطاعتها احتمال الألم الخفيف والسير بمفردها.

لماذا إذن — حين حاولَت الخطو — بالغَت في التألُّم والعَرَج؟

أتكون قد لاحظَت أنه تلكَّأ، وأنه يا للغرابة يبدو أنه يحتاج منها أن تحتاج إليه؟

دون كلمةِ عرضٍ أو إيماءةِ قَبولٍ كان بجوارها، ويده تحت إبطها، بكل ما يستطيع من رقةٍ يساعد في حمل الجسد، رقةٍ حنون افتقدَتْها من زمن، رقةٍ حنون كرقة الأبناء الأطفال قبل أن يُصبِحوا رجالًا، وينقلُوا رقَّتَهم تلك إلى حبيباتهم وزوجاتهم.

كان مفروضًا أن يتوقف موكبها لدى أول محطة ترام أو أوتوبيس، أو عند أول تاكسي، ولكن الموكب استمر. لم تطلب، لم يسأل، بل ولا حديث إلا بين الحين والحين: تعبتك؟ فتجيئها إجابته مُستنكِرة، مُغرِقة في الاستنكار لدى كل مرةٍ تالية:

– أعمل إيه عشان أقنعك إني بأعزك قوي؟

– ما تزقيش.

– بس أنا يا ابني زي أمك، عيب!

إنها دائمًا تعود إلى موضع الألم، ولكن الطريقة التي تنطق بها كلمة أمك كأنما تعنيها ولا تُريده أن يُصدِّقها. لقد حَرمَتْه أمه بموتها من نفسها ومن النساء. هذه «الست» تعيد إليه كل شيء مرةً واحدة، وكأنه في حُلم. إنه يكتشف الآن فقط أنه جوعان محرومٌ ضائع، يكاد يُجن وهو يُحِس بها ترتكز على يده ارتكازةَ جسدٍ أليفٍ محب. لو تكون محرومة من الخلفة، وتتبنَّاه وكل يوم ترتكز عليه بهذه الأُلفة! ولكن ذراعه بدأت، وكأنما تحيا حياةً أخرى بعيدة عن كل أفكاره! فالجسد الذي تحتويه بدا من فَرْط ما فيه كالزبدة يسيح. ذراعه الممزَّقة عنها «الأوفرول» في أجزاء، تشركه رغمًا عنه، وتنقل له من خلال ملابسَ غالية — وإن كانت أكثر مما يحتمل الجو — ذلك الإحساس، ونعومة جسد الأم تفقد كل صفاتها الأخرى، ولا يبقى فيها سوى تلك الرجرجة الشحمية المرتاحة، رجرجة الستات المرتاحات، رجرجة تُبقي السيدة أنثى، ولو وصلت إلى الستين، ولكنها لا يبدو أنها وصلَت أبدًا إلى الخمسين، بل إن ما فيها من أنوثة أكثرُ بكثيرٍ من زوجة جارهم سائق التاكسي التي تبدو بعد عامها السابع من الزواج وكأنما جفَّ فيها كلُّ ما يمُتُّ إلى النساء بصلة.

– تعبانة؟

– شوية.

– كده أحسن.

وبكل ذراعه أحاطها حتى أصبحَت في حضنه، وأصبحا في حارة، وأصبحَت تعرف أنه في الثامنة عشرة، وأنه يعمل مع أبيه في تصليح البوتاجازات، وأنهما يقطنان قريبًا، وأنه وحيد، وأن أمه ماتت في عملية.

وأيضًا أصبحَت تعرف سبب غضب السيدة زينب منها؛ فليست هذه أول مرة تأتي إليها مُضطرَّة.

بعد المشوار الطويل، بعد أن تُصبح جدة للمرة الرابعة، وأمًّا لمديرٍ عامٍّ شابٍّ لامع، ولدكتور في جامعة يؤكِّدون أنه الوزير القادم، والثالث تاجر سياراتٍ مستعملة وأغناهم جميعًا، وبنت تزوَّجَت وتعمل أيضًا في الخارجية.

سعادة الاكتفاء موجودة ولا حد لها. المهمة تمت بنجاحٍ ساحقٍ رغم أن المرحوم مات في ثلاثة أرباع الطريق. الجميع يُتوِّجونها أمًّا مثالية، ويأتي أولادها كل عيد، وكل مناسبة، وانتي، وانتي، وانتي … ولكنها كلمات.

الرجال والابنة الذين لم يعودوا في حاجةٍ إليها، يُدلِّلونها ويهزلون معها ويبدءون يسخرون من الأشياء القديمة المتراكمة في الشقة، تلك التي نمَوا وهم يحملون لها الحب والتقديس. صحيحٌ أن هناك روابطَ كثيرة تجمعها بهم وتجمعهم بها، نفس الروابط التي تنزعج لها إذا عَلِمَت بمرض أحد، وينزعج لها الأبناء، أو جزع الابنة إذا ارتفع لديها مُعدَّل الضغط أو نسبة السكر، ولكنه جزعٌ مخالف تمامًا لمثيله أيامَ كانوا أولادها وأيام كانت فعلًا أمهم، جزعٌ على اللعبة القديمة ذات الشعرات البيضاء التي نُحاول أن نحفر في صدرها كلما ضمَمْناه عسانا نعثر على قطرةٍ واحدةٍ من نبعٍ كان يروينا، وكانت تتعاظم بنا وبها السعادة إذا روانا جزع الزمالة ربما في المجتمع الأكبر الذي أصبحنا فيه أولادًا وبناتٍ وأمهاتٍ وزملاء، وإن كانت تفرق بيننا بعض السنين. حتى غَداء الجمعة، من الصباح الباكر تكدح لتصنع مع خادمتها العجوز لكلٍّ منهم ما يُفضِّله، وبزيطة وابتهاج يبدءون يُقبِلون، والابن الواحد الذي لا تزال تذكُركم به كان نحيفًا شاحبًا وهو طفلٌ صغير أصبح اليوم زوجًا، زوجًا قديمًا له أولاد وبناتٌ يُنادونها بيا «تانت» ويا «تيزة» ويا «جدتي». أصبح الولد عائلةً بأكملها وأصبحَت له أسراره الخاصة وهمساته وغمزاته مع زوجته أو مع أخيه الآخر، وهي الوحيدة البعيدة عن اللعبة. ويُوضع الطعام ويأكلون، وبينما في أعماقهم قد أدركوا من زمنٍ أن طعام أمهم من الأحسن لها ولهم أن يبقى ذكرياتٍ حلوة، ومذاقًا يعطيه حاجز الزمن قيمة ومتعة؛ فالواقع الحاضر أنهم قد فقَدوا الرغبة تمامًا فيه، وأنهم بالكاد يزدردونه؛ فلقد جاءت الزوجات معهن بأطعمةٍ أخرى، وبأصنافٍ لم تخطُر للأُم على بال، حتى الطعام وتعليقاتهم البالغة في استحسانه أصبحَت عادةً قديمة تبتلعها على مضض؛ فإنها لتُحِس بالأمر كله، وبيوم الجمعة وكل ما يحدث فيه تمثيلٌ في تمثيل يجيء فيه الأبناء ليَرَوْا أبناءهم تحضنُهم الجدة العجوز، ويتسلَّون بتدريبهم على نطق اسمها، وربما يثير اليوم في نفس أحدهم ذكرى أو حادثةَ طفولة، تمثيلية سرعان ما يمَلُّ الممثِّلون القيام بها، فإذا بكل واحدٍ قد انزوى مع زوجته في ركن أو على فراش، أو قد اجتمع أربعةٌ منهم يناقشون موضوعًا لا صلة لها به. كلُّ ما في الأمر أنه بين الحين والحين، وربما على دقَّات جرس ضميرٍ بطيء المفعول، يتعطَّف عليها أحدهم بكلمة، أو بثناء، أو بقبلةٍ سريعة، لا تلبث أن تُدرك أنها وهي في بيتها تأويهم وتطعمهم قد أصبحَت عبئًا هم مضطرون للخلاص منه بعد قليل؛ فسرعان ما تبدأ سلسلة الاكتشافات، وينظر أيهم في ساعته، ثم يشهق مروعًا: أنا نسيت ميعاد المحاضرة. وما أتعسَها من دقائقَ أو ساعاتٍ تلك التي يقضيها الباقون وتقضيها معهم وهي مُحرَجَة تدرك أن كلًّا منهم لا بد يبحث لنفسه عن اكتشافٍ جديدٍ أو عذرٍ وجيه! حتى الأطفال ملُّوا سماع حواديتها ويطالبون بالتليفزيون، بل — إمعانًا — تذهب إلى المطبخ أحيانًا لتجد الملاذ في الخادمات، فإذا بهنَّ هُنَّ الأخريات مشغولاتٌ بتبادُل أنباء فضائح الأسياد والسيدات والجيران، وأحدث الزيجات والطلاقات بين نجوم الغناء والسينما. وفي النهاية، وبعد كل الضجيج الهائل والازدحام تصبح مرةً أخرى وحيدة تمامًا في الشقة الكبيرة ذات السقف العالي؛ فحتى الخادمة العجوز تأخذ بعد ظهر اليوم نفسه إجازتها.

لا لوم! فهكذا الدنيا، وأولادها لم يعودوا بحاجةٍ إليها إلا كديكور أمٍّ محنَّط في شقة «العيلة»، ولكن الأم فيها لم تنتهِ بعدُ، لم تمُت! ما زالت تدُق داخل قلبها الكبير. وحين مات المرحوم لم تُفكِّر لحظة في الزواج، أو في تغيير حياتها مع أولادها؛ فلقد كانوا هناك، صبيةً صغارًا وبناتٍ لا يسمحون لها أن تغيب عن أعينهم لحظةً لشدة حاجتهم إليها، ولا تسمح هي لنفسها أن تتغيَّب لحظةً لشدةِ ما تُريدهم أن ينهلوا من صدر أمومتها، ويروَوْن بذلك النبع الأخضر الريان في أعماقها. سعادتها الكبرى أن تُعطيهم، وكان طبيعيًّا جدًّا أن يأتي اليوم الذي لا يعودون بحاجةٍ إليها، وقد أصبحوا بدورهم آباءً وأمهاتٍ يريدون هم أنفسهم البذل لأولادهم والعطاء. ماذا تفعل والأم فيها لا تزال قادرةً موجودة يقظة؟ فقد تزوَّجَت صغيرة وخلَّفَت صغيرة، ولا تزال بعدُ لم تصل إلى الخمسين.

– يا ريت تزوري السيدة!

وكأنما هبط الاقتراح كالحل العبقري لمشكلة أبناءٍ يُريدون فرض اليأس والشيخوخة على أمهم فرضًا، يريدون فرض اللاحول واللاقوة والسكون والسلبية التامة، فرض الموت عليها فوق سطح الأرض انتظارًا للحظة الانتقال إلى باطنها. أبناء يريدون هذا وكأنما ليُزيحوا عن خواطرهم الواقعَ الحي الناطق أنها بعدُ لم تصبح شيخة. صحيحٌ أنها لم تعُد شابةً مثلما كانت حين مات أبوهم، ولكنها بالقطع والتأكيد لم تعُد تُصبح — وباستماتة تأبى أن تُصبح — في القريب العاجل شيخة. وليست الشيخة أيضًا كي يفرضوا عليها الشيخوخة فقط، إنما لكي — وهذا هو الأهم — يفرضوا عليها الوحدة؛ فالوحدة إذا كانت حرامًا على الأنثى أو الشابة، فهي حلال على الشيخة، وما لم تُصبِح شيخة فعليهم أن يحلُّوا هم مشكلة وحدتها، ومن هنا يُعتبَر اقتراح زيارة السيدة إذن حلًّا عبقريًّا.

– إن شالله يا سيدة.

أجل، يوم الجمعة بعد الغداء الحافل، بعد أن تستمتع بهم مرصوصين حول مائدة الطعام الفخمة، الرجال من أبنائها والبنت مع زوجها، وبعد أن تحمل أحفادها كلٌّ بدوره وتُهدهِده وبأسماء تدليله، عليها أن تذهب للسيدة وتقضيَ بقية اليوم تدعو وتتعبد. وفي العام القادم بإذن الله تحجِّين وأمانة عليك أن تقرئي لنا الفاتحة يا ست الحبايب، ولا تنسَي أن تدعي ﻟ «منى» بالنجاح، وﻟ «حمادة» بالشهادة، ولابنك — أنا — باستقالة رئيس مجلس الإدارة ليفرغَ منصبه.

– وإيه رأيك يا ستي؟

والتفت الكل إلى الأخ الصغير، فقد بدا وكأنه وجد الضالة المنشودة: الجمعة السيدة، وإن زهقتي يبقى الإثنين الحسين، وإن حبيتي يبقى سيدي الحنفي الخميس.

واحنا مستعدين.

أجل! هم دائمًا مستعدون؛ لكي يُحوِّلوا العواطف والمجاملات والواجبات إلى معادلةٍ نقدية، ربما لأنهم أصبحوا يمتلكون النقود، بينما لم يعودوا في حاجةٍ إلى العواطف والمجاملات.

بالتأكيد مشروع سقوطها كان من غضب السيدة عليها؛ فهي أبدًا لم تذهب بدافعٍ من ذاتٍ تريد، إنما مدفوعة لا إلى زيارة أو قراءة فاتحة، وإنما إلى مصيرٍ لا تملك دفعه.

– ياه! إحنا مشينا كثير. أنا اتأخرت، نشوف تاكسي؟

– زهقتي؟

وتطلَّعَت، هذا الوجه، تلك الملامح الطفلية التي يسكب فيها سن الثامنة عشرة أوَّل كَمٍّ من عصير الرجال، فيُصبح لها — للسن — جمالها الخاص بحيث يضيء وجه كل فتًى وكل فتاة، حتى المحرومين من الجمال، بنورٍ جميل طازج، نور تلك السن. شاربه النابت المحلوق الذي تكاد تعُد جذور الشعر فيه شعرة شعرة، بينما الذقن تتسلَّل من الصدغَين هابطةً على استحياء، ولكنها في وسط الذقَن تمامًا، وحول وداخل طابع الحسن تنطلق فجأة، كنافورةٍ شعرية مستديرة. العينان فيهما نظرة، ليست لها صفاقةُ نظراتِ الرجال أو مجال أبصارهم الخاضع للإرادة والوعي والتحديد، وليس فيها شقاوة الصبية، إنما هي نظرةٌ بدأَت تُدرِك وجود الآخرين، وكما ترى الناس باستطاعة الناس أن يرَوْا ما بداخلها، داخلها المليء في تلك اللحظة إلى الحافة بنداءٍ، أقوى ما رأته عيناها من نداء، ألَّا تذهب؟ أن تبقى، نداء حقيقي صاعد، ربما رغم أنف صاحبه، شتَّان بينه وبين نظرة الدكتور أو المدير ابنها وهو يقول بينما هو يستعد لإغلاق الباب خلفها بعد انتهاء زيارتها: وحياتك، وحياتك يا ماما تقعدي تتعشي معانا.

– حضرتك عايزة تروحي؟ مش تستريحي شوية، على بال الوجع ما يخف؟

عادت ترمُق النداء قويًّا ملحًّا في عينَيه، لا تملك عصيانه، نداء يُحرجها، فهو لا يُتبع بكلماتٍ تلح الإلحاح الكافي، إنما هو يترك لها هي الرأي والقرار، يترك لها أن تضغط بكل ما تملك من رغبةٍ على كل ما تملك من مقاومة، وتسأل: أنا الحقيقة تعبانة، بس أستريح فين؟ لازم أروح.

ولكنه وبحداقة أهل حي الحنفي قدَّم الحل البديل، فأبوه في الدكان، وعلى بُعد أمتار يُوجد بيتهم المكوَّن من حجرةٍ واحدة وصالةٍ صغيرة، أيليق بالمقام؟

أي مقامٍ والساذج لا يُدرك أنها منذ أن استقبلَت النداء قويًّا صادقًا مجتاحًا قد أصبح له على الفور المقامُ الأعلى، وأصبح أقصى ما تتمناه أن تعمل وبكل ما تملك لإسعاده. منذ النداء قد انتفض داخلها ماردٌ قادر على كل شيء، حيٌّ نابض بالحياة، ماردٌ تجاهَلَته وحاوَلت قتله، وتجاهَلَه أبناؤها، وكلُّ من حولها، وبكل ما يملكون من قيمٍ وعظاتٍ وحِكَمٍ ومُثُل، حاوَلُوا خنقه أو سجنه؛ ليموت جوعًا وإهمالًا وحرمانًا، ماردٌ حين انتفض يرتد من النقيض إلى النقيض، ويعود بها وكأنما ببساطٍ سحريٍّ إلى أرضٍ شابة حية مدمدمة بحركة الحياة، وكل ما فوقها وعليها وداخلها ينبض، أرضٍ مرعبة، مرعبة تمامًا.

النظرة ليست كلها احتياج، هناك وراءها مُكوِّنة مركزها وقلبها رغبة، رغبةٌ ملتهبة صامتة كأنها العُواء بلا عُواء، ولكن فليكن وراءها جهنم نفسها، إنها هي وإرادتها الكفيلتان بأي شيء، بأن تأخذ من النظرة ما تشاء وتُرغِمه على التخلي عن أي شيءٍ آخر. إنه طفل، ليس سوى طفلٍ حتى وإن بدا أطول منها قامة، حتى وإن أطلَّ لها كاللص بصيصٌ من ذات ذاتها يُحاول أن يرى في الفتى كل ما ليس بطفلٍ فيه، كل الأشياء التي يمكن أن تتلصَّص عليها المرأة، أية امرأة.

مخاطرة فلتكن واثقة من أن رأيها هو الرابح، واثقة أنها في النهاية ستعطيه أمًّا ولو لساعات، وستأخذ منه ربما رغم أنفه ابنًا ولو لدقائق، وأنها أبدًا أبدًا لم تعُد تستطيع الهرب من ذلك القدَر.

الغريب، وذراعه لا تزال تحت إبطها تسندها، والعيون في شارع الحنفي كثيرةٌ لا عمل لها سوى التحديق بحثًا عن لمحة إثارة، الغريب أن العيون لم تستنكر، حتى الجيران اعتبروها الخالة الغنية لا بد تبحث — بالوفاء — عن أقاربها من الفقراء، والناس في تسليمهم بكلِّ ما تواضعوا عليه أبدًا لا يبدءون هم بالشك. قريبًا من رأس السلَّم المؤدي إلى شقة السطوح حيث يقطنون، انزلقَت يده التي تسندها وتحتضنها مُتحسِّسةً الظهر، يدٌ اكتسبَت — بطول الاحتكاك — بعض الجُرأة.

ولم تشأ للوقت أن يضيع فيما لم تُوطِّن نفسها عليه. أفهَمَته بلطفٍ أنها إنما جاءت معه لا لكي تستريح، وإنما لأنه حرَّك أمومتها (وكان طبيعيًّا جدًّا أن تكذب هنا وتقول إن السبب أنه يُشبِه ابنها الذي فقدَتْه في مثل سنه بالوفاة)، فإذا كان هو يتيمًا ماتت أمه، فهي العكس تمامًا، الأم التي كفَّ الأبناء أن يُثيروا فيها أو يحتاجوا إلى أمومتها. ستكون أمه إذن لبعض الوقت، وإذا أساء الفهم، فإنها من هنا وقبل أي خطوةٍ ثانيةٍ ستعود.

وطبعًا استنكر وأكَّد وقَبِل، واثقًا أنها تعني حقيقةَ ما تقول، مُقرِّرًا بينه وبين نفسه أن يُطاوِعها ويستمتع أولًا بالأم فيها، وحبَّذا لو فاز بعد هذا بالمرأة أيضًا!

– يعني أنا زي ابنك دلوقتي؟

– وأنا زي أمك.

– فكرة والله، طب وحانعمل إيه بقى؟

– اللي بتعمله الأمهات.

خلعَت فستان الخروج الأسود، وبقِيَت بثوبها الداخلي الرقيق، وبينما الماء يُغطِّي أرض الشقة التي لم تُنظَّف من أجيال، وهي بكل همة — ورغم الألم — قد انحنت تمسح وتُنظِّف، كان هو يخرج ويدخل هائصًا يُغنِّي، باختصار، سعيد. وأرسلَتْه ﺑ «السبَت» والنقود وعاد ملهوفًا باللحمة والخضار، وبدأَت رائحة «التقلية» تتصاعد، وبينما كان «البوتاجاز» القديم يطهو الطعام على مهل وفي حجرةٍ قد نُظِّفَت تمامًا ونُظِّمَت، كانت هي في الحمَّام منخرطة في غسل الملابس، كل ما تحويه الشقة من ملابس، حتى «الأفرول» الذي يرتديه أَصرَّت أن يخلعَه لتغسله، وعليه أن يبقى بلباسٍ داخلي انتقَتْه له من «سُرة» ملابسه القديمة وهو طفلٌ لا يزال.

وبالغسيل يكاد ينتهي، ورائحة الطعام قد نضِجَت، وغناؤه قد علا وتخلَّلَته قهقهاتٌ لأتفه الأسباب، كانت سعيدةً سعادة لم تذُقها ربما في شهر عسلها الأول نفسه، فلم تكن قد تزوَّجَت حبيبًا، إنما تزوَّجَت كما كان يفعل الناس في أيامها من عريسٍ جاء عن طريقِ قريب، ولولا العِشْرة الطويلة والخِلْفة والطباع الحلوة لكانت كرِهَتْه، ومن يدري ربما كانت قد أحبَّتْه، أو على الأقل جرَّبَت شعورًا ملتهبًا غير مستقر يجعلها تبرد وتغلي وتتفجَّر بدلًا من هذا الإحساس المتصل الطويل لا تعلو له قمة ولا يهبط إلى قاع، سعادة لم يذُقها الفتى وأمه نفسها عائشة؛ فقد كانت رغم قبلاتها الطويلة الخانقة لا تُناديه إلا مسبوقًا بلفظ سِباب، وإذا احتوَتْه جرحَت مشاعره البضَّة شوكاتُ حنانها الخشِنة، حنانٍ ما حاولَت مرة تليينه أو إعطاءه نعومة الأم الأنثى إلا وغلب عليها الطبعُ في النهاية، وعادت إلى طبيعتها الخشنة. إنه الآن يكاد لا يذكُرها، يكاد ينسى كيف كان موقفه حيالها؛ فلحظة الحاضر جاءت تُغرِق كل ما فات، وها هو بكل نزقٍ وضحك وجري ودلال وشقاوة، يعيش كما لم يعِش أبدًا، كما لم يحلُم بعيشٍ كهذا من قبلُ. وقد صح ما توقَّعَته تمامًا، فالأم فيها أعادت إليه الطفل، والطفل فيه أعاد لأمومتها لمساتٍ وملامحَ ذبُلَت وجفَّت وماتت من سنين. لكأنها تصبح أمًّا لأول مرة.

واندفَع بنزقٍ صبياني يرفع غطاء الحلَّة، ويلتقط بعض قطع اللحم الملتهب التي لا تزال في طريقها إلى النضج. ونهَرتْه ووضَعتْه أمام الأمر الواقع؛ فقد أصبح كل شيءٍ نظيفًا ما عَداه، ولا بد أن يستحم، وأيضًا قبل الطعام. ويا له من شعورٍ لذيذٍ انتابه وهو يُحاول مماطلتها، وتأجيل «علقة» الحمَّام إلى ما بعد الغداء! وهي تُصِر إصرار أمومةٍ ناعم تحسبه قابلًا للتعديل، ولكنَّك لا تلبث أن تُدرِك أن نعومته أشدُّ صلابةً من إصرارٍ يملؤه النهر والسباب.

بدلعٍ قال: يبقى تحمِّيني، مش أمي؟ أمي تحمِّيني.

وكان يعرف أن الاقتراح مرفوض، فما هو بالرضيع أو الصبي، ولكنه ربما قاله ليسبُر الغَور، ويعرف إلى أيِّ مدًى أصبحت أمًّا، وإلى أي مدًى استتَرت المرأة، وفي دَفْعَتها له من ظهره لتُدخِله الحمَّام، وتجذب الباب أحسَّ أنها ليست أبدًا دفعة استنكارٍ شديد، هي تمضي في سياقٍ واتساقٍ مع لعبة الابن والأم، وما وراءها غامض كل الغموض.

– ادعكي لي ظهري، من يوم ما ماتت أمي ما حدَّش دعكهولي.

ولو أُوتِيَت كلَّ قُدرات العالم النفسي لما استطاعت أبدًا أن تُدرِك لماذا قَبِلَت، ولماذا صرخَت قبل أن يدخل تطلُب منه الجلوس القُرفُصاء، وإعطاء ظهره للباب، وماذا بالضبط كان شعورها والليفة المتآكلة لا تمنع يدها من تلمُّس جسده، والإحساس بعضلاتٍ صلبة بمثلِ ما لم تكن تتوقَّع، متناسقة، تجعل من كَوْمة اللحم الحي المنحنية على نفسها تُصدِر العُواء والأصوات كتلةً مجهولة ذات خطر، كتلة شابٍّ كبيرِ الجسد دافئِه.

وتسأله إن كان قد غسل خلف أُذنَيه بالليفة، وتكتشف بعد سلسلةٍ من الأسئلة أنه لا يعرف بعدُ كيف يُحمِّي نفسه، لا أحد قد علَّمه. إنه ليس يُتمًا واحدًا ما يُصاب به الصبي، إنه يتيم من الحب، من الصدْر الحنون، من الإلحاح عليه بالإفطار، من تنظيفٍ كامل وأمين لجسده، ألف يُتمٍ.

وحين انتهت من مهمَّتها، والماء ينصَبُّ ويتلوَّى الفتى لانصبابه، وكأنها فُجعَت ودُهشَت، روَّعَتها النظرة الخاطفة حين ألقَتْها، فكشفَت لها عن معالم الرجل فيه. وفي الحال واجهَت نفسها — فالأمر لم يعُد يحتمل الخداع — لقد كانت لساعاتٍ طويلة تُوهِم نفسها بابنٍ حبيبٍ عثَرَت عليه اليوم صُدفة، ولكن هذا الشاب الممشوق الجسد، وما به من رجولةٍ ليس أبدًا ذلك الابن، إنه غريبٌ عنها، جسده كله جاء من امرأةٍ أخرى، وله أبٌ لم تَرَه في حياتها، وحياةٌ طويلة قبلها لم تَرَ منها إلا عَرْض أصبع.

ومضةٌ ولكنَّه أدرك وفهم، واعتراه الارتباك في نفسِ لحظة ذهولها وارتباكها. وشتَّان بين إحساسٍ تلقائي منسابٍ كجداول الطبيعة بالنبوة والأمومة، وقد انقطَع — بترَتْه النظرة العابرة — ليُكمِلا الدور بعمدٍ هذه المرة، وبارتباكٍ وبإشراكٍ هائل للإرادة، محاولًا هو فيه أن يُخفي علامات الرجولة فيه، ومحاولات دائمة منها ألا ترى سوى الطفل، محاولات كانت لا تزيدهما إلا ارتباكًا، محاولات أنهت الحمَّام فجأة، وفي خفوتٍ متعمَّد، وكأنه كان السبب في مأساة.

وعجيبٌ حقًّا أن تتسع نفسها بعد كل هذا المزيج المُتناقِض من الأحاسيس بإحساسٍ جديدٍ مرق كالشرارة، إحساس بفرحةٍ صغيرة، فرحة أي أمٍّ حين تكتشف في ملابس ابنها الداخلية ذات يومٍ أنه بعدُ لم يعُد طفلًا، السؤال المعلَّق — وقد بدأ المساء يحل في دكان أبيه — سؤال لم تنطقه، ومع هذا فقد جاءها الجواب بغير هناء: إنه مع أصدقائه في حي «الباطنية» مُجتمِعين حول «الجوزة»، ويشُدُّون أنفاسًا تُقهِقه لها «الجوزة» ويُقهقِهون، ويئوبون بعد القهقهة العنيفة إلى سعالٍ طويل. جلسة لن تنتهي قبل أن ينتصف الليل. ودون سؤالٍ منه فالسؤال كان لنفسها جاءتها الإجابة: إن شيئًا لا ينتظرها سوى جدران الشقة الكبيرة العالية الفارغة، وسجَّادة الصلاة، ولا شيء بعد هذا أبدًا.

– أنا بردان، باين الوساخة كانت مدفياني!

ضحكت للنكتة وظنَّنْه يدعي.

ولكن أسنانه فعلًا بدأت تصطك.

واندفع إلى «الكليم» المَهْري الذي يُغطِّي أرض الحجرة الوحيدة.

واصطكَّت أسنانه بشدة، وعطَس أكثر من مرة.

لو كانت هناك مدفأةٌ أو أخشاب لأشعلتها، ولكنها في بحثها الدائب المنخلع القلب عما يمنع عنه البرد والرجفة، ورُعبها أن يمرض لم تجد هناك سوى نفسها، وأدارت ظهره إليها، واحتضَنَتْه دافعة بساقَيها وتقوُّسات بطنها وظهرها لتشمل انحناءات جسده كله، وأصبحَت يداها تضُمَّانه بشدة.

وشيئًا فشيئًا كفَّ ارتعاشه.

وشيئًا فشيئًا بدأ يحُل بجسده إحساسٌ غامر شامل بالراحة والسلام والأمن، وهي في نفس الوقت نشوى وحضنُها قد فعل فعله، نشوة أمٍّ أرضعَت ابنها كل ما يُؤرِّق ثديها من لبن.

وليس أبدًا لأن جسده استكان تمامًا إلى دفئها.

إنما — هكذا — وربما في نفس اللحظات بدا حضنها نفسه يُنسيه المرأة فيها، ويمر عابرًا بالأم، ويستقر عند أول الطريق إلى شعورٍ آخر مخالف تمامًا، جديدٍ تمامًا ذلك الذي يجعل القلب يدُق، لا من الرغبة وإنما بما هو أقوى، بالانفعال، بالعاطفة.

وكان مفروضًا أنها بعد أن استكان إلى حضنها وشَبِعَت أمومتها أن يبدأ قلبها هو الآخر يدق، لكلِّ ما هو غريب في فتاها وليس لكل ما هو قريب.

ولكنها ولفَرْطِ ما هي خائفة كبتَت الشعور.

وهكذا بينما — رغم التصاقهما الشديد — بدأَت تنمو وتترعرع ضبابةٌ عاطفية تُغطِّيهما تمامًا وتربطهما تمامًا، يُفرِزها جسداهما لتُثير كل ما لا باستطاعته أو يملك الجسد إثارته.

أيكون الحب؟

المربع الثاني

ليكن، فإن كان المقياس المعزَّة، فإن أحدًا على ظهر الأرض حتى أولادها أنفسهم ليسوا بأعزَّ عليها منه. أما هو فقد استكان إلى ملجأٍ غريب لم يُجرِّبه أبدًا، أحَسَّ معه بكل ما عاناه ويعانيه، بكل شظف العيش مع أبٍ حشَّاش عجوز، ونساءٍ يشتهينه حتى ليلتصقن به عامدات فوق السلَّم الضيق، بكل شيءٍ كأنه ما كان ولن يكون، كأنه يُولد هذه اللحظة ولادةً تحُفُّ بها كل أحلامه، كلُّ ما حرم منه، كل ما سوف يُحرَم منه.

ليكن الحب!

لتكن الجنة!

لتكُن أقصى سعادته الآن أن يستسلم للأحلام التي بدأَت تخلعه من الواقع، وتحمله بتؤدة إلى النوم. ولتكن إغفاءتها هي الأخرى علامة شبعٍ بعد مائدةٍ انتظرَتْها، جوعى تتلوَّى لسنوات.

ليكن! لولا أنه مع الدفء، وبعيدًا عنهما تمامًا وعن العقل والأحلام والمتعة المُتخيَّلة، بدا ثَمَّةَ جسدٌ يُحس بجسد، مباشرةً وبلا واسطة، تاركة العقول تسبح فيما تشاء، عاقدة هي وبلا أي قوة تستطيع إيقافها الصلة والاتفاق.

والأجساد لا تتخيل وتحلُم، إنها لا تعرف للتعبير عن نفسها إلا الالتحام والاحتواء، بينما الأحلام تلتقي ورديةً لقاء الخيال والعالم اللاملموس.

وبدأ الجذب.

رغم إرادتَيْهما معًا.

هو — بحركاتٍ لا يمكن رصدها — يُكوِّر ويُصغِّر نفسه أكثر وأكثر، وكأنما لو تُرِك لعِنانه لأحال نفسه إلى طفل يستكنُّ في بطنها كالجنين.

وهي — بإيجابية السلب المطلق، بالقدرة على الاحتواء — تضمُّه، بادئة بيده التي أنقذَتها من حادثٍ محقَّق تعتصرها بين أصابعها، إلى وجوده الجسدي الكبير الغريب المُتكوِّر، إلى حياته كلها وأبيه وحجرته وملابسه المعلَّقة تجف، تحتويها كلها، وتضمهُّ وكأنما لتُعيده إلى حيث يجب أن يكون، إلى بطنها وذاتها.

عاطفة الحب التي بدأَت لا جسدية بالمرة، وكأنها من صنع الخيال، ما إن بدأَت الأجساد تتقارب، حتى استحالت إلى قوةٍ تُلهب الجذب، وتشرك فيه الإحساس والمعنى والخيال.

ولو كان ملاكًا وكانت هي قديسة.

ولو كان الجزاء الموت حرقًا أو فوق خازوق.

ولو اجتمعَت الدنيا كلها لتُوقف قوة الجذب الخارقة لوقفَت عاجزة.

فما يحدث كان في الواقع سرُّه من سر الحياة، وقُوَّته من قُوَّتها.

الحياة حين يُصبِح هدفها الأوحد من البقاء والوجود والاستمرار أن تتحد.

الحياة حين تخلق العاطفةُ قوةً تجذب، فإذا تلامَس الحيَّان فلا شيء بإمكانه أن يُفرِّق بينهما. لقد استعانت بأولياء الله ومشايخه، وبالسيدة، وبصبرها الذي طال عشرين عامًا، بابتسامة أبيها الحنون، بأمها المرحومة ذات العشر حجَّات، بالفاتحة وآية الكرسي، وكلِّ ما يطرُد الشياطين، واستعان هو بشيخِ طريقته، وتعاليمها، وكلِّ ما تراكَم في ذاكرته من أوامرَ ومحرَّمات، ولكن جوع الجلد إلى الجلد، جوع الضلوع إلى الضلوع، وظمأ الفم إلى الفم، والسيقان لتلتفَّ حول السيقان كان هو الذي كل مرة ينتصر، ويقهر.

جذبٌ من جذب ذلك الكون الشاسع القادر على تعليق كوكبنا، بل شمسنا، وملايين غيرها، في فراغه المخيف بلا شيءٍ سوى جذب التجاذُب وجذب التنافُر، جذبٌ لا يدري للآن أحدٌ سِرَّه، ذلك الذي يجذب المرأة إلى رجل بالذات لتستعمله كوسيلةٍ تحصل بها على نسخةٍ من صنعها هي لهذا الرجل، على ابنٍ ما أروعَه لو جاء تمامًا كأبيه لتستميت في حبه، وحبَّذا لو أُبيح لها أن تختار هذا الابن نفسه ليُنتج لها ومن ذات نفسها أيضًا ابنًا آخر، أكثر قربًا لما تُريد وتهفو!

جسدان راقدان متجاوران متلاصقان هذا صحيح، من ساعاتٍ كانا مجرد كائنَين مثلهما مثل الملايين الأخرى من الكائنات، ملتصقان وكأنما بفعل مغناطيسٍ قانونه الأوحد أن يتجاذب قطباه، حتى لو كان أحدهما في الخمسين والآخر لم يبلغ العشرين، بل حبَّذا لو كان أحدهما في الخمسين والآخر دون العشرين!

جسدان خلَّفَتْهما قوانينُ حياة لا تقهر، قوانينُ أكثر تعقيدًا وهولًا من كل نزعات الإنسانية للتخلص منها، قوانينُ غريبةٌ سارية تُحيل الفراغ بينهما، إن كان قد بقي فراغ، إلى جحيمٍ من الانفعالات المكبوتة، والقاهرة المنطلقة، والمناطق المحرمة التي شيئًا فشيئًا تُستباح، وهي مستميتةٌ تتشبَّث بخط دفاعها الأخير كأمٍّ لأولادٍ مقرَّبين ناجحين متعلمين، تستحضرهم بكل ما لديها من يأسٍ لتمنع بهم المشهد القائم، أو تُوقف التحرَّك إلى المشهد الفاجع التالي؛ لينقذوها على الأقل من كهاربَ وتياراتٍ وأحاسيسَ تشُلُّ إرادتها شيئًا فشيئًا، وتُعمِّق لديها إحساس الأم؛ ليُوقفوا الحفر الدائب داخله وداخل قُدرتها على العطاء، حتى لا تبلُغ هذه القدرة على العطاء والمنح أقصى مداها، بحيث — أعوذ بالله، أعوذ بالله — تنقلب بفعل أي دفعةٍ أخرى بسيطةٍ إلى رغبة في الأخذ والاستقبال، وتمضي قُدمًا في خط الأمومة لتصل إلى أقصاها حيث الأُنثى، ومن رغبة الشاب إلى رغبةٍ مُلِحَّة في الحصول على صفاته وملامحه، وعليه كله مُصغَّرًا، وفي حجم بويضتها المُتربِّصة المنتظرة.

بينما تبلغ به رغبتُه فيها كأم إلى حدٍّ لم يعُد يحتمله إلى حدٍّ يصبح كل أمله ومناه أن تكون أمه وحده، بحيث تنغلق عليه دون سواه من البشر أو الإخوة أو الزواج والأبناء، تبلُغ به الرغبة حدًّا يجعله يحتاج إليها كأمٍّ إلى الدرجة التي لا يعود يكتفي فيها بمعالم الأمومة الظاهرة، إنما يبحث وإلى آخر رمق، حتى يصل ويستولي على كُنه الأمومة فيها، على الأنثى فيها؛ فالأم دائمًا أكبر من أي ابن، ولكن الأُنثى لا ينالها إلا رجلٌ واحد، وتكون له وحده.

ومهما كانت الردود وفعل الردود، والإقدام مرة والخجل مرة، بحضور تاريخٍ طويل من النواهي والأوامر مرة، واختفائه خلف قوانين الحياة العظمى مرةً أخرى، به حين يبدأ يتصرَّف كشاب فتنهره كأم، وبها حين تضُمُّه مُؤمِّلةً أن تُسْكِته بأمومتها فتتحول الأمومة بفعل النار الموقَدة إلى أنوثة، بالأربعة معًا الابن والأنثى والأم والشاب في صراعٍ لا رحمة فيه بين بعضهم البعض، وبينهم وبين أشباح الآخرين الحاضرة، وأشباحٍ غابت ومقدَّسات لها مفعول الأزل، بهذا كله ترتفع الحرارة حتى يتشعَّب اللهب، وعلى لهيبها تحترقُ أشياءُ كانت لا تقبلُ الاحتراق، وتذوبُ النواهي، ويذوب كلُّ ما كان، وكل ما سيكون، ولا يبقى سوى المرأة المحتمية بالأم فيها، والابن التائه يبحث عن أُنثاه المختفية داخل المرأة الأم.

ولو الأمر أمر الأجساد وتلقائيتها لانعكس التيار الصادر عنها يُعطيه الأنوثة أمومة، إلى تيارٍ يستقبل العطاء ويُحيل البنوة ذكورة.

ولكن الإنسان ليس جسدًا فقط، إنه ليمتلك في جسده عضوًا غريبًا ساحر المفعول اسمه العقل، ودون إشراكه وموافقته فلن يصدُر عن الجسد فعل أي فعل، أو يتحرك مستقلًّا قيد أُنملة.

وباستماتة، وكأنما استجابة لدعائها الحار بالأولاد وقد استجمعَتْهم كالجيش «العرموم» حولها يتواثب منه أحفادها، ويستنكرون مسلك الجدة، بينما آباؤهم يتطلَّعون بعيون زوجاتهم إليها، حيث استحضَرَت المرحوم هو الآخر وسنوات الكفاح والرفض المستميت للزواج من بعده، حين حشدَت التاريخ الماضي كله ليمنع لحظةً فاصلة، حدثَت المعجزة، واستعادت الأم والأرملة العذراءُ سيطرتها، وانتابتها من هولِ ما هي فيه رعدةٌ وأفلتَتْه.

ولكن ربما لقِصَرٍ في تاريخه، ربما بحكم السن، لم يستطع هو أن يعود للحاضر أو يُخفي عنها أو عن نفسه رجولته ولا رغبة الرجل في الأنثى، أي أنثى التي أصبحَت تُعميه. كان قد وصل بشعوره إلى نقطةٍ لا عودة فيها، بنفس استحالةِ أن تحدُث أصبح المستحيل تمامًا أن يعود.

المربع الثالث

المربَّعات التي تآكلَت سطوحُها، فبرزَت حوافها الملتصقة، مُربَّعات الدبش الأبيض الكبير التي تُكوِّن أرض الحجرة والشقة، المُربَّعات التي لا يُفلِح «الكليم» الرقيق الرخيص في تغطية حواف الدبش وعلاماته، المُربَّعات والكنبة الكبيرة العالية، والمنضدة المعدنية ذات الأرجل الثلاث، ونافذة الحجرة الحافلة بغسيله المنشور، كان الشهود ليسوا شهودًا على شاب في الثامنة عشرة قد جاءت معه بقدمها — ولو ملتوية — امرأةً إلى حيث يقطن، حتى وإن كانت قد بلغَت الخمسين، لا ولا بين طرفٍ رافض وطرفٍ يرغب، ربما الأدق أنها كانت معركةً بين كلٍّ منهما ونفسه، معركةً مبهمة غير واضحة، فثَمَّة سُحبٌ كثيرة من خجلٍ ذي درجاتٍ تلفُّها وتشمل المكان كله، درجاتٍ تبدأ بالخجل البسيط، خجل الأم أن يكتشف ابنها أنها أنثى، وخجل الابن أن تكتشف أمه أنه رجل، فجأةً يثور فيه الشاب فيحتوي الرقبة، ويُقبِّلها قبلاتٍ شابة محمومة.

وبحسمٍ تهمس: عيب أنا زي أمك، أنا، ولادي أكبر منك، أنا جدة والله.

فلتكوني جدةً أو جنِّية، فالمهم أنك الآن أمامي أنثى، وأنا الذكر حتى ولو كنتِ أمي نفسها وأوصَلْتِني إلى هذه الدرجة فلا تتوقَّعي أبدًا أن تجدي فيَّ الابن.

يُصبِح الكلام بلا فائدة فتَستعمل اليد، يدها، وتدفعه برفقٍ دفعة الأم لابنها المناكف، فيعود يُقبل عليها بإصرار الابن المناكف، تُريه الشعر الأبيض في رأسها ليُصدِّق، ليكتشف هو وتكتشف معه أن ناره لا تزيد إلا اشتعالًا، وأنها كلما قَرَّبَت نفسها من صورة أمه أو حاولَت أن تستثير فيه الابن، لا يفعل هذا كلُّه إلا أن يُؤجِّج الشاب، الذي بدا وكأن ما أصبح يُثيره فيها أنها أم، أمه، بل وصلَت إلى ما هو مرعبٌ أكثر، أنها هي كلما شعَرَت وأقنعَت نفسها أنه لا يعدو كَوْنه ابنًا، كلما أحسَّت ومنها له انطلقَت من أعماقها الأنثى، أنثى تُرعبها فهي أبدًا ليست تلك التي عاشت ابنةً مطيعة وربَّاها أب وأم وعلَّماها وزوَّجاها وأنجبَت أبناءً أنجبوا بدورهم أبناء، أنثى أكثر أنوثةً من كل ما تصوَّرَتْه في حياتها عن نفسها كأنثى، أنثى حبيسةٌ شيطانيةٌ تُدمدِم مُهدِّدةً بانفجار لا يعلم سوى الله مداه، أنثى كأنها الأذرع الطويلة القوية لأمومتها تختلجُ متحركةً في كل اتجاه، وتُريد إرادةً لا وسيلة لقهرها أن تُطبِق على الشاب الصغير إطباقةً تبتلعه فيها وتحتويه ليعود مرةً أخرى جزءًا منها. الشاب الذي — وأولادها حاضرون مُحدقون شاهدون — تراه هو الغريب أكثر قربًا وبنوةً منهم جميعًا. الشاب المضطرب بين خجله منها ورغبته فيها، الخجل حتى من ذكورته، بل خجل أكثر من أنوثتها. الشاب الذي وكأنما يريد اعتصار الأمومة فيها إلى حد الأنثى، أو يريدها كأنثى إلى درجة اعتصارِ كلِّ ما قد يكون فيها من أمومةٍ تخصُّه وحده دون سواه. ظمآن إلى المرأة من زمن، أمًّا أو أنثى، لم يعُد يكفيه أن يُطوِّقها أو يرقُد ساكنًا في حضنها، وإنما يقترب منها بكلِّ ما يستطيعه من اندفاعٍ كي ينتمي إليها كما يذوب فيها ويتلاشى، وكأنه الكوكب يعودُ بعد طولِ دورانٍ إلى أمه النجم.

ولكنها رغم هذا كله كان هناك في داخلها شيءٌ لم يكُفَّ عن الصراخ أبدًا، أو إشعارها بوجوده، شيءٌ يقول بأعلى صوتٍ ومُذ كانا على عتبة السيدة: لا، لا، لا. شيء قد يضعُف أو يخفق، ولكنه أبدًا لم يمنح ولم يكُفَّ ولم يتوقف للحظة، بل ظل يستجمع نفسه بكل قواه إلى أن انتفضَت مرعوبةً ملتاعةً دافعة إياه، وبكل ما تملك من قوة وعنف بعيدًا عنها. دفعةً كالصخرة ارتطمَت برأسه فأفاق، وأحسَّ أن كل ما راودَه أحلام، وأنه لا يزال ذلك اليتيم المنبوذ.

وحينذاك، وحينذاك فقط ورغمًا عنه بدأَت الدموع تتجمَّع في مأقيه وتطفَر، بينما عيناه تنظران إلى أمام، تلك النظرة الملتاعة المفجوعة المتأكدة أنها وبلا أمل، قد فقدَت حقيقة الأم.

نظرة اليتيم حين يرمُق طوابير الرجال والنساء مقبلةً تُعانق أطفالها ويتقافز حولها الأطفال، وهو الوحيد الذي ليس له بينهم أم، بل وأبٌ أيضًا.

تلك النظرة الغارقة في الدموع التي لمحَتْها بربع عينها، وأحسَّت بعدها أنها انتهت تمامًا، وأن على أي شيء أن يحدُث، ولكنها أبدًا لن تجعله يشعر بيتمه الثاني.

نظرة الأم لابنها في لحظة خطرٍ يُهدِّد أمومتها له أو بنوته.

وكان هذا الاندفاع والاحتضان والقبلات تغسل بها دُموعَه وتُهدهِد بها فوق ملامحه الكسيرة.

– أمال بتزقيني ليه؟

– مش ح ازقك.

لم يكن ردًّا، كان قرارًا وإلى جهنم مباشرةً فلتذهب.

– تعالَ، تعالالي.

وجاء ولم تَحتوِه أو يَحتوِها، إنما فقط ذابت المسافة التي استمرَّت طويلًا بينهما، وذاب الزمن.

وبين القطبَيْن الأعظمَيْن تمَّت شرارة الالتحام الصاعقة.

صاعقةٌ تَزلزلَ لها بلاطُ الحجرة المُربَّع، واصطكَّت نوافذُها ولو استمرَّت أكثر لتهدَّم البيت كله.

المربع الرابع

وحين عادت إلى شقَّتها الكبيرة وجدَتْها صغيرة، وفي المرآة طالعَها تعبيرٌ لم تَرَه في وجهها منذ ثلاثين عامًا.

وحين جاء يوم الجمعة فُوجئ أولادها جميعًا بالشيخة التي أرادوها، وقد تفجَّرت فيها دفقةُ حياةٍ جعلَتْها تبدو أكثرهم حركة ونشاطًا وطاقةً على خلق المرح، وكأنها عادت شابَّة.

– مش قلت لك؟ آدي بركات الست ظهرت!

والأعجبُ أنها كانت أول من استأذن، والحُجَّة جاهزة، فالسيدة لا تستطيع الانتظار.

وأشياءُ كثيرةٌ كانت تختل في الكون وفي الدنيا وفي نظام البشر، ولكن لم يحدث أبدًا أن اختلَّت مواعيد زيارتها للسيدة، بعد أن تُشبع بطونهم من الطعام وتُغذِّيهم بحنانٍ غريب وكأنه اندفاعة البترول في بئرٍ مهجورة وترعاهم، وتغمُرهم بأمومةٍ أصبحَت ربما أكثر من طاقتهم على الأخذ، تستأذن وتزور السيدة.

وفي كل مرة وبرهبة ترمُق الضريح مبتعدة وتُتمتِم: دستورك يا سيدة. وكأنما أيضًا توقَّف بها الزمن وفعل الزمن عند ذلك اليوم، ولم يتحرك إلا في يومٍ كانت على الدوام تحسب حسابه وتتوقَّع مجيئه، ولكن في الحق فاجأها حين جاء، وظلَّت في مكانها مشدوهةً لا تُريد أن تُصدِّق أن اليد لم تعُد هناك، وأنها لن تقودها هذه المرة إلى حجرة المربَّعات في الحنفي.

ثم حين تمضي الساعات ولا يجيء تبدأ تُقدِّم رجلًا وتُؤخِّر رجلًا إلى الدكَّان القائم غيرَ بعيدٍ عن الجامع والضريح.

ولكنها قبل أن تصله تتوقف.

كان هناك وقد أصبح صاحب الدكان بعدما مات الأب.

ولكنه لم يكن وحده.

أمام الدكان كانت فتاةٌ في الثامنة عشرة ربما، أو أقل؛ فقد كانت لا تزال محتارةً كيف تلفُّ الملاءة بإتقانٍ حول جسدها.

وكان يُساوِمُها على تصليح البوتاجاز.

مُساوَمَة ذات معانٍ، تبدأ من «الفونية» إلى المفتاح، والفرن ونار الفرن.

والفتاة تضحك، وهو يبتسم.

وفجأةً نظرَت إليه من جديد.

نظرة، وكأنها ثاني مرة تراه فيها بعد المرة الأولى، المرة الأولى.

كان إنسانًا آخر تمامًا، كانت قد أصبحَت له ذقنٌ غزيرة غير حليقة نابتة وسوداء كثَّة، وكان صوته قد غلُظ وضحكته قد أصبحَت رجاليةً خَشِنة، صوتٌ له إرادة، ونظراته لم تعُد تستقبل العالم وتُدهَش له، أصبحَت فقط تراه لتُحدِّد مسارها فيه لا غير.

لقد أصبح رجلًا كبيرًا، هذا واضح.

أصبح واحدًا من قافلة الرجال، والأمهات على الرجال عبء.

وقبل أن تئن أو تدور بها الدنيا.

أحسَّت أنها لا تريد الأنين، وأن باستطاعتها أن تُوقِف الدوار؛ فهي ليست عاتبة أو حزينة أو مندهشة، أو حتى حاقدة على الفتاة أو عليه. أدركَت — من خلال إحساسٍ غير واضح وبلا ضغينة — أنها هي الأخرى لم يعُد لديها ما تُعطيه أو تمنحه، لا فائض أمومة ولا فائض عواطف، والبركان الأخضر الريان لم تعُد به قطرةٌ واحدة.

وفي مرآة حقيبتها رأت البياض في شعرها واضحًا تمامًا رغم الصبغة، والتجاعيد كثيرة حول جفونها ورقبتها.

وتحرَّكَت.

مبتعدة.

ومقتربة من المسجد.

واستأذنت في سرها، وكأن جاءها الإذن؛ ففي خشوع وتسليم ورغبةٍ دخلَت، وإلى المقام اتجهَت.

ووقفت طويلًا لا تعرف ماذا تقول أو تفعل.

ثم، وكأنما بالوحي أو السليقة اقتربَت من السور النُّحاسي المُقام حول الضريح، وأمسكَت مع الممسكين والممسكات بحلقةٍ من حلقات النحاس الناعم الذي أثخنَتْه كثرة الاستعمار، أمسكَت بالحلقة، وضغطَت عليها، وتشبَّثَت تمامًا بها وكأنما الأرض تحتها، تنفتح لتبتلعها.

لا أحد يحتاج إليها الآن.

ولم تعُد هي بحاجةٍ إلى أحد.

إنها الوحدة الحقيقية كما لم تتصوَّر وقوعها يومًا.

ها هي مثل بوادر الشتاء وبلا ضجيج، قد جاءت.

وحدةٌ حقيقية لا مهرب منها، الوحدة الفاصلة بين الابن وبينه هو نفسه حين يصبح أبًا، وبينها وقد نفدَت أمومتها أو ما تبقَّى منها وبين عودتها من جديد لتُصبح هي نفسها ابنة، ابنةً لأمٍّ لا وجود لها، وربما لهذا سمَّوها أم العواجز؛ فالإنسان لا يستطيع البقاء إنسانًا إلا ابنًا كان أو أبًا، فإذا انتهت رجولته وأُبوَّته عاد ابنًا، وإذا انتهت أمومتها عادت ابنة، قاعدة ليس لها شواذُّ، ولكنها الآن في لحظةٍ واحدةٍ فاصلة، كوحدة السيدة زينب نفسها وقد تجمَّع حولها وأمسك بحلقات ضريحها أُناسٌ كثيرون، رجال ونساء، وكلهم وكلهن وحيدون ووحيداتٌ مثلها. كلهم وكلهن قد أصبح أملهم أن يعودوا أبناءً وبناتٍ، وحبَّذا لأم العواجز، الوحيدة في قبرها رغم ما حوله من ازدحام! يُحاوِل كل متزاحمٍ أن يتشبَّث إلى درجة البكاء والعويل بحلقةٍ من حلقات الضريح، وكأنما ليُلغي ما بينه وبين صاحبة الضريح من مسافة، وينجح في النهاية أن يخرج من وحدته ويُحس بها أُمَّه، ولو كانت أم الجميع، فهي أيضًا رغم كل شيء وحيدة.

وحيدة في قبرها.

وحولها يتشَبَّث الوحيدون والوحيدات.

والفاتحة لها ولهم.

(تمَّت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤