الباب الثالث

نقد الأصول

الفصل الأول: التزوير في الأصول والدس فيها، ووجوب التثبت من صحتها وأصالتها

والآن، وقد جمعنا الأصول، وتذرعنا بالعلوم الموصلة إليها، يجدر بنا أن نفكر قليلًا في الأمر، قبل أن نخطو خطوتنا الثالثة.

هل يبدأ المؤرخ، فور انتهائه من درس العلوم الموصلة، في مطالعة الأصول لاستخراج مكنوناتها، أم يتربص قليلًا للنظر في أصالة ما لديه منها (أي من الأصول)؟

وهل من مبررٍ للتردُّد في هذا الأمر؟ فلو بدأنا فور انتهائنا من العلوم الموصلة في استخراج المهم من أخبار الأصول، وزاولنا العمل مدة من الزمن، ثم تيقنَّا بعد ذلك أن ما اعتبرناه أصلًا من الأصول، هو في الحقيقة أثر من آثار المتخلفين غير المعاصرين، أو أنه وُضع خصيصًا للمغالطة والتضليل، أقول: لو بدأنا بمثل ما تقدَّم ذكره، وتيقنَّا وقوع التضليل والتزوير، لضاع وقتنا سدًى، وأصبحنا من الخاسرين.

فعلى المؤرخ إذًا، عند انتهائه من العلوم الموصلة، أن يتأكَّد، أولًا: من أصالة الأصول، ويتثبت من خلوها من كل دسٍّ أو تزويرٍ، ولعله من المفيد أن نبدأ هذا البحث، باستعراض بعض ما اختبرناه من هذا القبيل.

لما جاءت اللجنة الدولية، لتدرس قضية البراق الشريف، وقدَّم سماحة الحاج أمين أفندي الحسيني وثائقه الرسمية، جاهرَ بعض المعاكسين بشكهم في صحة وثيقة ترجع إلى زمن اختصاصي. فطلب إليَّ عندئذٍ بعض الأصدقاء، أن أستشف هذه الوثيقة من الوجهة العلمية الفنية التاريخية، فلبَّيْتُ الطلب.

وثيقة الحاج أمين أفندي الحسيني قطعة من الورق الصكوكي القديم، يبلغ طولها ٢٧ سنتمترًا ولا يتجاوز عرضها اﻟ ١٤، وهي مكتوبة بالحبر الأسود الإستانبولي، وموجهة من محمد شريف «حكمدار بر الشام» في عهد الحكومة المصرية إلى السيد أحمد أغا دزدار متسلم القدس الشريف آنئذٍ، وهي مؤرخة في ٢٤ ربيع الأول سنة ١٢٥٦ﻫ، الذي يوافق ٢٧ أيَّار سنة ١٨٤٠م، وهذا هو نصها بالضبط:

افتخار الأماجد الكرام ذوي الاحترام، أخينا السيد أحمد أغا دزدار متسلم القدس الشريف حالًا: إنه ورد إلينا أمر سامي سر عسكري مضمنه صورة إرادة شريفة خديوية صادرة لدولته يعرب مضمونها العالي أنه حيث قد اتضح من صورة مذاكرة مجلس شورى القدس الشريف بأن المحل المستدعين تبليطه اليهود هو ملاصق إلى حائط الحرم الشريف، وإلى محل ربط البراق، وهو كائن داخل وقفية حضرة أبو مدين (قُدِّس سره) وما سبق لليهود تعمير هكذا أشياء بالمحل المرقوم، ووجد أنه غير جائز شرعًا، فمن ثمَّ لا تحصل المساعدة لليهود بتبليطه، وأن يتحذروا اليهود من رفع الأصوات وإظهار المقالات ويمنعوا عنها، فقط يعطي لهم الرخصة بزياراتهم على الوجه القديم، وصادر لنا الأمر السامي السر عسكري بإجراء العمل بمقتضى الإرادة المشار إليها، فبحسب ذلك اقتضى إفادتكم بمنطوقها السامي لكي، بوصوله، تبادروا لإجراء العمل بمقتضاها المنيف يكون معلومكم في ٢٤ ر ١ سنة ٢٥٦ محمد شريف.

جرنال ٣٦٨ نمرة ٣٩

أصلية إذًا أم مزورة؟ نقول: لا بدَّ لنا للوصول إلى الحقيقة في مثل هذه الأحوال من تفحص هذه الوثيقة التاريخية من وجهتيها الخارجية والداخلية، فنتذرع بما يسميه المؤرخون الدليل الظاهري والدليل الباطني. فلنبدأ بالظاهر الملموس ولندقق بالورق أولًا ثم ننتقل بعد ذلك إلى الحبر والقلم فالخاتم، فعادات المراسلة في ذلك العهد، فاللغة والأسلوب.

أما ورق هذه الوثيقة فإنه ورق الحكومة المصرية بالذات؛ إذ إنه صكوكي قوي يتفق من حيث تركيبه الكيماوي وتوزيع أليافه، وتمغته الشفافة مع الألوف المؤلفة من وثائق الحكومة المصرية، في ذلك العهد التي لا تزال محفوظة في سراي عابدين الملكية، وفي جامعة بيروت الأميركية، وفي خزانات المؤسسات والبيوتات الكبيرة في مصر، وفي الأقطار الشامية، وحبر هذه الوثيقة هو حبر وثائق الحكومة المصرية في ذلك العهد، وأكثر الوثائق الصادرة عن حكام ذلك العصر كانت تكتب بالحبر الإستانبولي، وهو مزيج كيماوي بسيط للغاية ومؤلف من كمية معينة من الكاربون التجاري، وقدر محدود من الصمغ والماء، وبإمكان من يود التأكُّد من هذا الأمر، أن يتيقنه بالمكروسكوب أولًا، ثم إن أراد بواسطة التحليل في المختبر، ولدى التدقيق بالمكرسكوب والنظر في الأثر الذي تركه القلم في خط هذه الوثيقة وجدنا أنها كُتبت بقلم قصبي مما يتَّفق مع عادات الكُتَّاب والنُّساخ في دواوين ذلك الزمن، وقل الأمر نفسه عن الخط، فإنه من النوع الذي شاع في دواوين الحكومة المصرية ومجالسها، الخط في عهد محمد علي باشا وابنه إبراهيم.

وليس في عنوان هذه الرسالة «افتخار الأماجد الكرام ذوي الاحترام أخينا السيد أحمد … إلخ»، أو في خاتمها «لكي، بوصوله تبادروا لإجراء العمل بمقتضاها المنيف يكون معلومكم.» نقول ليس في عنوان هذه الرسالة أو في خاتمها من حيث المفردات المستعملة أو الأسلوب ما يُوجب الشك في أصليتها.

هذا، وفي الانتقال فجأةً من العنوان إلى الغرض المقصود «إنه ورد لنا أمر سامي … إلخ»، وغض النظر عن التحية التي كانت ترد في غالب الأحيان، بعد العنوان وقبل عرض الغرض المقصود، كقول عبد الله باشا مثلًا، حينما خاطب متسلم بيروت وأعيانها سنة ١٢٤١ﻫ: «بعد التحية والتسليم بمراسم الإعزاز والتكريم المنهي إليكم … إلخ»؛ نقول: إنه في الانتقال فجأة من العنوان إلى الغرض المقصود وفي إهمال التحية، دليلٌ آخر على صحة هذه الرسالة وعدم تزويرها. فإن الولاة والحُكام في الأقطار الشامية، قبل إبراهيم باشا ومحمد شريف باشا وبعدهما، كانوا شديدي التمسك بالتحية المشار إليها أعلاه في مراسلاتهم الرسمية مع متسلمي المدن وغيرهم من موظفي الحكومة.

ونرى، بعد هذا كله في جهل كاتب هذه الرسالة لقواعد اللغة العربية، دليلًا آخر نستأنس به على صحتها وأصالتها؛ فكتَّاب الدواوين في النصف الأول من القرن الماضي في مصر والشام والعراق، كانوا يجهلون قواعد لغتهم ويكثرون في بعض الأحيان من استعمال المفردات الأعجمية، عند مساس الحاجة إليها، ولا يستثنى من ذلك إلَّا ديوان حاكم لبنان الأمير بشير الشهير.

وهي، لعمري حقيقة ناصعة تبدو للباحث حالما يرجع إلى المخابرات الرسمية المحلية في ذلك العهد، ويبدأ بتفحصها واستشفافها، وطريقة التاريخ هذه الوثيقة، هي الطريقة المتبعة في جميع أوراق الحكومة المصرية في ذلك العصر، كما أبنَّا ذلك بالتفصيل في مقدمتنا للأصول العربية في تاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا، وكذلك الإشارة إلى الجرنال والعدد فإنها موجودة في قسم كبير من أوراق الحكومة المصرية التي صدرت في سنة ١٢٥٦ﻫ.

وهنالك طائفة من الأدلة يتذرَّع بها المؤرخ أحيانًا بإمكاننا أن نقول فيها: إنها ظاهرية وباطنية في آنٍ واحد. فمن هو محمد شريف باشا الذي صدرت عنه هذه الوثيقة؟ ومن هو أحمد أغا دزدار الذي وُجِّهت إليه؟ وهل كان الأول حاكمًا عامًّا يُصدر مثل هذه الأوامر، والثاني متسلمًا على القدس يتلقى أوامره من الأول؟ وهل قاما بأعباء وظيفتيهما في شهر ربيع الأول من شهور سنة ١٢٥٦ﻫ؟ وغير ذلك من الأدلة من نوع ما تقدَّم. فهي باطنية لأنها تتعلَّق بمضمون الوثيقة، وظاهرية؛ لأنها ليست مما تنطق به الوثيقة، وإنما تستخرج من مصادر أخرى مستقلة كل الاستقلال عن الوثيقة التي نحن بصددها.

ولحسن الحظ لا يزال قسم كبير من أوراق الحكومة في ذلك العصر محفوظًا في سراي عابدين الملكية، وبإمكان المؤرخ أن يرجع إليه للتثبت مما تقدَّم، وبإمكاننا نحن — بعد اطلاعنا على محفوظات السراي في عابدين — أن نصرح، دون تردد، أن محمد شريف باشا كان حاكمًا عامًّا على الأقطار الشامية من أوائل سنة ١٢٤٨ﻫ حتى أواخر سنة ١٢٥٦ﻫ، ومما لا شكَّ فيه أيضًا بعد الاستناد إلى محفوظات عابدين الملكية وسجلَّات المحكمة الشرعية في القدس أن أحمد أغا دزدار كان قائمًا بأعمال المتسلمية في القدس، في شهر ربيع الأول من شهور سنة ١٢٥٦ﻫ، وأن محمد شريف باشا كان يسيطر على أعمال متسلم القدس وغيره من حكام المدن والمقاطعات في جميع الأقطار الشامية آنئذٍ، وأنه كان بدوره يتلقَّى أوامره من محمد علي باشا وابنه السر عسكر إبراهيم باشا كما تنص الوثيقة، ومما يجدر ذكره في هذا الصدد، الإشارة إلى اطلاع عزيز مصر على قضية البراق، وصدور الأمر عنه بمنع اليهود عن تبليط محل ربط البراق، واستعماله للصلاة وإجراء بعض الطقوس الدينية فيه. فالبت في مثل هذه الأمور الطائفية كان من صلاحية العزيز في مصر، لا يشاركه فيه أحد من الموظفين في حكومته.

والدليل الباطن على صحة هذه الوثيقة متنوع أيضًا. فلو تفحَّصنا محتويات هذه الوثيقة وغرضها المقصود، نجد أنها توافق في روحها ما نعمله من تاريخ علاقة اليهود بمحل ربط البراق، وما نعرفه عن موقف المؤسسات الإسلامية والحكومات المحلية من هذه القضية في ذلك العهد.

قال الرحَّالة روبنسن المشهور، الذي زار القدس عام ١٨٣٨ ما نصه:

«مباح لليهود أن يشتروا حق الدنو من مركز هيكلهم، وحق الصلاة والبكاء على خرابه وتبدُّد أمتهم.»

وقال القنصل فِنْ الإنكليزي الذي تولَّى إدارة القنصلية البريطانية في القدس، ما بين سنة ١٨٤٥ وسنة ١٨٦٣ ما ملخصه: «يدفع الحاخام باشي إلى الأفندي الذي يجاور المبكى ثلاثمائة ليرة إنكليزية كل سنة، بدل الإذن له ولليهود معه أن يصلوا هناك.» ولعلَّ الأفندي المشار إليه هنا هو وكيل وقفية أبي مدين، كما في الوثيقة التي نحن بصددها. هذا ولا يخفى ما كان يؤديه اليهود من هذا القبيل إلى السلطات الوثنية، فالمسيحية قبل دخول المسلمين إلى هذه البلاد. أما رتَّر الإلماني، الذي عاصر زمن الوثيقة، والذي وضع مؤلفه العظيم، عن جغرافية فلسطين، حوالي سنة ١٨٤٥، فإنه يقول: إن قسمًا مهمًّا من مساكن اليهود نفسها، ببيت المقدس، كان ملك الحرم الشريف.

ومن يُطالع رحلات الفرنجة في هذه البلاد، حوالي سنة ١٨٤٠، يجد أن قسمًا من اليهود آنئذٍ، في أوروبا وأميركة وفلسطين، كان ينتظر مجيء المسيح وجمع الشمل كما ورد في بعض الأسفار المقدسة، وكان بعضهم يعلِّق الآمال الكبيرة على كلام دانيال النبي، في الإصحاح الثامن من سفره الكريم؛ حيث يقول: «فسمعت قديسًا يتكلم قال قديسٌ لفلان الذي يتكلم معه إلى متى الرؤيا رؤيا المحرقة الدائمة والمعصية المدمرة، وحتى متى يجعل القدس والجند مدوسين. فقال لي إلى ألفين وثلاثمائة مساء وصباح ثم يطهرُ القدس.» كان بعضهم يعلِّق الآمال الكبيرة، على هذه النبوة، فيقول: إن المراد باليوم فيها هو السنة، وأن المدة تبتدئ من سنة ٤٥٦ق.م لقوله تعالى: «إن سبعين عامًا حددت على شعبك وعلى مدينة قدسك.» فيضيفون أربع سنوات إلى التاريخ المسيحي لأجل تصحيحه ويجمعون ٤٥٦ مع ١٨٤٤ (السنة ١٨٤٠ المصحَّحة) فيصير العد ٢٣٠٠ كما في النبوة.

وكان هذا البعض من اليهود يعتقد أيضًا أنه لا بدَّ من تعمير المدينة المقدسة وتجديد بناء الهيكل، كما ورد في الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر حزقيال النبي؛ حيث يقول: «وآخذكم من بين الأمم، وأجمعكم من جميع الأراضي، وآتي بكم إلى أرضكم … وأسكنكم في المدن، وتُبنى الأخربة.»

ووافق هذا المعتقد مجيء السر موسى مونتوفيوري، الأراضي المقدسة، وإكثاره من العطاء كما تنص على ذلك الأصول التاريخية، وكما تشهد به المستعمرة التي لا تزال تحمل اسمه حتى هذه الساعة.

وإذا تذكرنا أن هؤلاء اليهود عاشوا في عقد من الزمن، كثر فيه تسامح الحكومة المصرية وتساهلها إذا تذكرنا كلَّ هذه الأمور، سهل علينا الاستئناس بأمر التبليط في الوثيقة الدزدارية، واضطررنا أن نرى في موافقة التاريخ لمضمونها دليلًا آخر على أصليتها.

ولنا في موافقة مضمون هذه الوثيقة، لما جاء في محفوظات سراي عابدين الملكية دليل آخر على صحتها وعدم تزويرها. فالمحفظة ٢٥٩ من محافظ عابدين تحفظ لنا شكوى شيخ المغاربة في القدس في سنة ١٢٥٦ على اليهود في موضوع الوثيقة التي نحن بصددها، وقد حفظ لفًّا مع هذه الشكوى قرار طويل لمجلس شورى القدس في الموضوع نفسه، وفي هذا القرار بيان واضح لحق المغاربة واعتداء اليهود، وبين إمضاءات أعضاء المجلس إمضاء لممثل الطائفة اليهودية فيه، فتأمَّل.

فبناء على ما نعرفه من نوع ورق هذه الوثيقة، وقاعدة خطها، وأسلوب إنشائها وطريقة تاريخها وختمها، وبناءً على موافقة النصوص التاريخية لمضمونها، نرانا مضطرين أن نقول بأصليتها وعدم تزويرها.

ومما اختبره زميلنا الأستاذ جبرائيل جبور١ من هذا القبيل نوع من التزوير لم يسلم منه كثير من الأصول، وذلك أن أصحاب الكتب الخطية، كانوا في بعض الأحيان، يضيفون على الهامش أو في أواخر الفصول والأبواب، أخبارًا أو آراء جديدة تتعلق به. ثم تمر الأيام، وينسخ بعض هذه الكتب، فتدخل الزيادة في الأصل ويثبت الشرح في المتن، ويختلط الأمر على المتأخرين، فيُنسب كل ما في النسخة الخطية المتأخرة إلى المؤلف، وهذا النوع من التزوير هو ما نريد أن نسميه الدس، مقصودًا كان أو غير مقصود، وفي محيط المحيط: دسَّ الشيءَ ودسَّه فيه يدسُّه دسًّا أدخل ودفنه تحته وأخفاه.
وقد وجد الأستاذ جبور، عندما درس كتاب العقد لابن عبد ربه،٢ أن ناشري الطبعات التي بين أيدينا لهذا الكتاب، اعتمدوا على نسخة خطية، دسَّت فيها جملة كثيرة من الأخبار، فأثبتوا الأصل والزيادة في طبعاتهم، دون أن ينتبهوا إلى الأمر أو يشيروا إليه، والغريب أن بعض هذه الأخبار المدسوسة، كانت ظاهرة، لا يحتاج أمر اكتشافها إلى كثير من العناءِ أو التدقيق.
فإنك إذا قرأت العقد ترى أنه قد تُرجم فيه، في كتاب اليتيمة الثانية،٣ لأربعة خلفاء من بني عباس، هم الراضي والمتقي والمستكفي والمطيع، وكلهم تُوفِّي بعد وفاة ابن عبد ربه؛ أي بعد سنة ٣٢٨ﻫ، وترى في ترجمة الأخير أنه قد خلع نفسه سنة ٣٦٣ﻫ؛ أي بعد موت ابن عبد ربه ﺑ ٣٥ سنة. أوَليس من المؤسف أن يقدم الناشر المحلي على مثل ما تقدَّم بعد أن يكون العلامة تيودور نولدكه قد نبَّه في كتابه أمراء غسان، إلى هذا الدس؟!٤
ولم يكتفِ الأستاذ جبور في وقوفه مع العلَّامة نولدكه على إظهاره هذا القدر من الدس. بل دفعه الأمر إلى مراجعة الباب كله. فإذا هو يستهل بالعبارة: «فرش ذكر خلفاء بني العباس وصفاتهم ووزرائهم وحجابهم٥ وهي المرة الوحيدة التي تستعمل فيها كلمة فرش في أول باب ما، إذ أن استعمالها في العقد كله واقع في أوائل الكتب لا في أوائل الفصول والأبواب.» وقد نبَّه إلى ذلك ابن عبد ربه نفسه في المقدمة؛ حيث قال: «وقد ألفت هذا الكتاب وتخيَّرت جواهره، من متخير جواهر الأدب، ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجواهر ولباب اللباب.» وإنما لي فيه، تأليف الاختيار، وحسن الاختصار، وفرْشٌ لدور كل كتاب٦ زد على ذلك، أنه ليس في الباب هذا، فرشٌ كما في أوائل الكتب، وإنما هو ذكرٌ للفرش ليس إلَّا؛ حيث ترى أن الباب يبدأ بأبي العباس السفاح، دون توطئة أو تمهيد، أو فرش كما اصطلح ابن عبد ربه أن يقول.
وبحث الأستاذ جبور في فرش اليتيمة الثانية، يطلب ذكر هذا الباب فلم يرَ لذلك أثرًا، وطلب فرش الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعها، وهو الكتاب الذي يلي اليتيمة الثانية، يبحث عن ذكر لأخبار بني العباس، فلم يعثر على شيء. ثم عاد إلى مقدمة العقد نفسه، وفيها جدول بكتب العقد وفصولها، فلم يرَ في شرحه سوى «تم كتاب اليتيمة الثانية» في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة»، وهنا رأى الأستاذ جبور أنه يحق له أن لا يرتاح إلى أن هذه الأخبار عن بني العباس قد دوَّنها ابن عبد ربه، وأن يزعم أنها ربما قد دُسَّت عليه بعد موته، أو أن قسمًا منها قد دسَّ، ونقل القسم الآخر من موضع آخر؛ حيث إنه كان الأولى بابن عبد ربه — إن كان قد ألَّف هذين البابين — حملًا على ما عرف عنه من حسن التبويب والتصنيف، وتبعًا لما أخذ على نفسه في مقدمة عقده؛ حيث قال: «ثم قرنت كل جنس منها إلى جنسه فجعلته بابًا على حدته؛ ليستدلَّ الطالب للخبر على موضعه من الكتاب ونظيره من كل باب.» كان الأولى به أن يضع هذين البابين في الكتاب السابق — كتاب العسجدة الثانية — حيث يبحث في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم، وحيث نرى بابًا خاصًّا في أخبار الدولة العباسية.٧
ولابن عبد ربه، فصل في هذا الكتاب المذكور، يدور على توقيعات الخلفاء، فيه باب في توقيعات بني العباس،٨ ليس فيه توقيع لخليفة بعد المأمون، والغريب أن الذي دسَّ في المواضع السابقة، قد فاته الدس هنا، وأن وقوف ابن عبد ربه عند المأمون ليحملن على الظن، أن أكثر الأخبار التي وردت في العقد، عن خلفاء بني العباس، ممن عقَبَ المأمون، دُسَّت على ابن عبد ربه، بعد موته، وليس غريبًا أن يصدق هذا الظن، لا سيما ونحن نعلم أن ابن عبد ربه، قد أخذ أكثر أخباره، عن كتب مدونة، لمؤلفين سبقوه، أكثرهم لم يدون أخبار من عقبوا المأمون. زد على ذلك، أن ابن عبد ربه، لم يذكر من توقيعات الأمراء المختلفين لأحد بعد طاهر بن الحسين، أحد قواد المأمون.

وهناك أمر آخر، دفع الأستاذ جبور إلى الظن في أنه قد طرأ على العقد بعض التغيير أو التحريف أو الزيادة، هو أن ترتيب كتب العقد، في معجم الأدباءِ لياقوت، يختلف عما هو عليه في العقد نفسه وفي مقدمته. على المؤرخ إذًا بعد جمع الأصول وبعد الانتهاء من درس العلوم الموصلة، أن يتأكد من أصالة الأصول، ويتثبَّت من خلوها من كل دسٍّ أو تزوير، ويتضح مما تقدَّم ذكره أعلاه أنه بإمكان المؤرخ أن يستعينَ بطائفتين من الأدلة. فهنالك أدلة باطنية، يتوصَّل إليها بعد درس نص الأصل نفسه، وأدلة ظاهرية، يقف عليها بعد درس الأصول الأخرى، أو بعد التمكن من بعض العلوم الموصلة. هذا ولا نرى بدًّا في هذا الصدد، من الإشارة إلى وجوب التريُّث، والترزُّن والتثبت. فلا فائدة ترجى من التهالك في الأمر والإسراع في العمل، ولا يخفى أن التثبت من صحة الأصول وأصالتها أمر صعب الممارسة، عزيز المنال.

وحذار حذار من الاستسلام إلى الأول بالثقة العمياء والاسترسال إليها؛ إذ لا يجوز للمؤرخ أن يكون قنوعًا يثق بكل أحد أو يَقنًا يصدق كل ما يقرأ.

الفصل الثاني: التعرُّف إلى المؤرخ المجهول وتعيين الزمان والمكان

وهب أننا تثبتنا من صحة الأصل وخلوه من كل دسٍّ أو تزوير، فهل ننقاد إلى نصه وننزل على حكمه؟ أم نمتنع عن ذلك، ونعرض عن الطاعة، إلى أن نتثبت من هوية المؤرخ ونتعرف إلى شخصيته ونسبر غوره، وندرس المكان الذي عاش فيه، والزمان الذي دوَّن فيه أخباره، أوَليس من فرق، في قبول الشهادة وردها، بين رواية رئيس حكومة، عن أعماله في أثناء قيامه بأعباء الوظيفة، ورواية لحَّام عن الأعمال نفسها؟ أو بين رواية دُوِّنت في أثناء وقوع الحوادث المروية، وغيرها دُوِّنت بعد وقوع الحوادث بربع قرن من الزمن؟ بلى! فمن المحتم أن نتعرَّف إلى شخصية المؤلف، ونتثبت من أمياله ونزعاته ودرجة علمه وذكائه، واتصاله بالحوادث التي يروي أخبارها، ولا بدَّ من الوقوف على الزمن الذي كُتبت فيه هذه الأخبار، والمكان الذي سُطرت فيه.

وإذا تأمَّلنا هذا الأمير مليًّا نرى أن الأصول هي في غالب الأحيان صلتنا الوحيدة بحوادث الماضي، فإن أخبرتنا الخبر على حقه توصلنا إلى الحقيقة التي ننشدها، وإن أرجفت فخاضت في الأخبار المخطئة، أو الكاذبة أوقعتنا في مهاوي الضلال والتضليل؛ ولذا فإننا نرى لزامًا في أعناقنا أن نتعرَّف إلى شخصية المؤرخين الذين نصوا هذه الأصول كي نمزَّق ظلمات الإشكال ونكشف معالم الهدى، ومهمتنا من هذا القبيل هي أصعب بدرجات من مهمة القضاة والمحامين، إذ إن هؤلاء يتحدَّثون إلى من ينقل الخبر إليهم ويمتحنونه بالاستنطاق، فهو مخبر حي ماثل أمامهم. أما مخبر المؤرخ فإنه ميتٌ خلا مكانه وطويت صحيفته.

ومما يجدر ذكره من هذا القبيل، أنه في أواخر عام ١٩٢٦ فاجأنا صديق لنا، بمخطوطة صغيرة، تحفظ أخبار الدولة المصرية العلوية في سورية، في زمن إبراهيم باشا، وبعد أن تصفحناها قليلًا وجدنا أنها مغفلة، لا تحمل اسم مؤلفها، ولا تشير إلى الزمان الذي كتبت فيه، ولا إلى المكان الذي دوِّنت فيه أخبارها، فدفعنا حب الاستطلاع إلى فحصها والتنقيب عن سرها للتعرُّف إلى مؤلفها، وتعيين محل إقامته، والزمان الذي دوِّن فيه أخباره.

وبعد أن قلبنا الطرف فيها، ونظرنا في أعطافها ومطاويها، ألفيناها تضم بين دفتيها، لا أقل من ثلاثة مؤلفات مختلفة، تحتوي جميعها نتفًا من أخبار إبراهيم باشا في الأقطار الشامية وبر الأناضول. فالصفحات الثلاث الأولى، تختلف عن الخمس التي تليها، والصفحات الخمس هذه تختلف بدورها عما قبلها وبعدها.

وتسهيلًا للبحث، وإيراد بعض البراهين نسمي الصفحات الثلاث الأولى «ألفًا»، والخمس التي تليها «باءً» والباقي «جيمًا». فلو درسنا ما دُوِّن فيما سميناه «ألفًا» وجدناه يبتدئ من حصار عكَّا سنة ١٨٣١ وينتهي بموقعة قونية، سنة ١٨٣٢، ولو انتقلنا إلى «باء» وجدنا أن مؤلفها لا يبتدئ بذكر الحوادث التي وقعت بعد معركة قونية، وينتهي بآخر أخبار الدولة المصرية في سورية، كما هو منتظر منه فيما لو كان هو هو الذي كتب «ألفًا» من قبل، بل نراه يكرر أخبار «ألف» ويقف عند ذكر فتح دمشق، وهكذا يفعل كاتب «جيم» فإنه يبتدئ من حصار عكا أيضًا، ويكرر أخبار بعلبك والزراعة وزحلة … إلخ، وينتقل بعد تكرار هذه إلى ذكر الحوادث التي لم تذكر في «ألف» و«باء» والتي حدثت بعد موقعة قونية، ولدى التدقيق في تواريخ الحوادث، وجدنا اختلافًا بين روايات «ألف» و«باء» و«جيم». فإن واضع «ألف» لا يستعمل إلا التاريخ الهجري، وأما واضع باء فإنه يتشبث بالتاريخ المسيحي. ثم إن واضع «ألف» يؤرخ خبر توجه عبد الله باشا إلى مصر في ٢٠ ذي الحجة سنة ١٢٤٧، وأما «جيم» فإنه يؤرخ الخبر نفسه في ٢٩ ذي الحجة من السنة نفسها، وبينما واضع «ألف» يؤرخ معركة حمص في ٩ صفر سنة ١٢٤٨، فإن واضع «جيم» يذكرها مع حوادث ربيع الأول من السنة نفسها، وفي الهامش، على خلاف عادته، يقول: إن إبراهيم باشا دخل حمص في ٨ تموز نهار الأحد. كذلك نرى واضع «ألف» يقول: إن الأمراء الشهابيين ملحمًا وبشيرًا وقاسمًا، توجهوا إلى إمارتهم، في ٢٥ جمادى الأولى من سنة ١٢٤٨، بين أن واضع «جيم» يجعلنا نظن أن توجههم هذا، كان بين الثاني والثامن من الشهر نفسه. أفلا يصح لنا بعد هذا الاختلاف، أن نقول إن مخطوطتنا، إنما هي مجموعة لتواريخ، لا تاريخ واحد؟

أما مؤلف القسم الأكبر من هذه المخطوطة، «جيم»، فإنه، مجهول عندنا، لا نعرف اسمه، ولا مهنته، ولا نعلم عنه شيئًا، سوى ما يمكننا أن نتنسمه من أخباره في سياق كلامه عن حوادث هذه المخطوطة. فإننا لو أحصينا مثلًا، جميع ما ذكره في «جيم» من الأخبار، وجدنا أن ثلثيه أو أكثر، عن لبنان والثلث الآخر عن باقي الأقطار الشامية وبر الأناضول، ولو أعدنا النظر فيما أثبته عن لبنان، وجدنا نحو ثلثيه عن دير القمر وبيت الدين، والثلث الآخر فقط عن سائر المقاطعات اللبنانية، ولو أنعمنا النظر في حوادث الدير وبيت الدين، لألفيناها أدق من غيرها وأكثر تعيينًا وضبطًا. نراه مثلًا يؤرِّخ وفاة امرأة حنا الحصباني في دير القمر، وحضور المعلم بطرس كرامة من بيت الدين إلى بيته في الدير، وظهور الطاعون في البلدة نفسها، ويترك من أخباره سائر المقاطعات اللبنانية ما هو أهم منها بدرجات، ونراه يقول: «دخل إبراهيم باشا إلى بتدين في ٢٩ أيلول بعد الظهر، حلَّت عساكره الظافرة في غربي سحرًا الدير، عند البيادر، وأنه كان لديه خمس آليات ومدفعان وعشرون جمل جباخانه.» ويكتفي في كلامه عن بعض حوادث كسروان، بقوله: «شاع خبر» أنه صار حرب في كسروان بين عثمان باشا في عين الشقيق وأهل كسروان.

ثم نراه يشير إلى المعلم بطرس كرامة بقوله، حسب عادة أهل الدير، «المعلم»، وإلى رئيس كنيسة التلة في الدير بلفظة «الريس» فقط، ويذكر غيرهما، من أعيان سائر مقاطعات لبنان، بكامل أسمائهم. أفلا يصح لنا، بعد هذا كله، أن نقول إن المؤلف إن لم يكن لبنانيًّا ديرانيًّا، فقد كان من المقيمين في الدير أثناء وقوع الحوادث المروية في المخطوطة؟

بقي علينا أمر آخر، وهو أن ندرس خط هذه المخطوطة، ونقابله بما بقي من خطوط تلك الأيام، لنتوصل إلى معرفة كاتبها، وهكذا فعلنا. فإننا قصدنا المكتبة البطريركية، في بكركي، وطلبنا رسائل الحقبة ١٨٣١–١٨٤١ فوجدنا بعد العناء الطويل، عدة رسائل مكتوبة بالخط نفسه، وممضاة هكذا: «القس أنطون الحلبي مدير أنطونياني»، وحينما فحصنا محتويات هذه الرسائل، وجدنا أن نفسها هو نفس مخطوطتنا، وموضوعها موضوعُ هذه المخطوطة بعينه، ووجدنا أيضًا أن لهجة هذه الرسائل ولغتها هما لهجة مخطوطتنا ولغتها.

فقصدنا عندئذٍ غبطة البطريرك الماروني ماري إلياس حويك، وسألناه عن القس أنطون المذكور، لنعرف علاقته بالأمير الشهابي، الكبير. فتكرَّم علينا بالجواب وأكَّد لنا أنه؛ أي القس أنطون المذكور، كان من أقرب المقربين للأمير الكبير. فشجعنا هذا الجواب الصريح على استقصاء أخبار القس المذكور، وأشار علينا سيادة المطران عبد الله بمراجعة الأب عمانوئيل البعبداتي الأنطونياني، شيخ رهبانيته ومؤرخها. فطلبنا كتابه في تاريخ الرهبانية المذكورة، ووجدنا أن القس أنطون الحلبي كان أستاذ الأب عمانوئيل، وأنه سكت بتدين، وتقرب من الأمير الكبير.٩

وكتب إلينا الأب عمانوئيل نفسه، ردًّا على كتاب منا إليه، ما نصُّه:

«بعد افتقاد خاطركم الكريم أعرض أني تشرَّفت بكتابكم المؤرخ في ١٦ كانون الثاني المنصرم (١٩٢٧) ترغبون إليَّ أن أفيدكم عن المرحوم القس أنطون الحلبي المدبر الأنطوني، فيما إذا كان يدون أخبار أيامه، أو أنه كتب رسالة في تاريخ الأمير الشهابي الكبير أو إبراهيم باشا المصري في حروب سوريا، فأجيب أن القس أنطون المذكور عاش في أيام الأمير بشير الكبير، وكان مستشارًا في ديوانه، وقد كتب عن أحكام الأمير، وعن حروبه وحروب إبراهيم باشا في سوريا، ولسوء الحظ أن تاريخه الخطي قد حرق في دير مار أنطونيوس بعبدا، في الحوادث التي جرت سنة ١٨٤٥ بين النصارى والدروز. فكونوا على ثقة مما بيدكم من كتاباته؛ لأنه كان في عصره من الممتازين الذين يركن إلى قولهم، وأنا في حال ترهيبي كان المرحوم القس أنطون، المحدث عنه، مرشدي. رحمه الله رحمة واسعة. عن دير مار شعيا الموارنة في ٣ شباط سنة ١٩٢٧.»

أفلا يصح لنا، بعد هذا كله، أن نقول إن القس أنطون الحلبي هو في الأرجح مؤلف هذه المخطوطة وكاتبها، وأن النسخة الموجودة أمامنا الآن هي المسودة، بدليل ما نجده فيها من الضرب والتصحيح والزيادات على الهوامش؟

ويستدل من نوع ورق هذه المخطوطة، وهو صكوكي قديم معتدل في السماكة، ومن ضبط الحوادث المروية فيها، وزيادة تدقيق المؤلف في تعيين هذه الحوادث وترتيبها في يومياتها، أنها في الأرجح كانت تدون في زمن وقوعها. لأنه ليس من المحتمل أن يذكرها كاتبها، بتمامها وضبطها، بعد وقوعها بزمن بعيد، وفي بعض عبارات المؤلف واصطلاحاته، دليل آخر على تدوين حوادث هذه المخطوطة، في زمن وقوعها. فإنه قال في أثناء كلامه عن حوادث ١٩ تموز سنة ١٨٤٠ ما نصه بالحرف:

«بتاريخه شاع خبر أن في الليل الماضي، أهل المتن المجتمعين مع الأمراء، في وادي الشياطين تحت بسكنتا، قاموا وكبسوا الوزر الذين في حمانا.»

وجاء أيضًا في أخبار ١٢ تشرين الأول ما نصه:

«ووصل الوزير لنهر الصفا، وتواجه مع حنا بحري، وأفهمه أن الأمير قام لجزين، … غضب ورجع إلى الصفا، وهذا النهار قام إلى مكسة.»

وجاء في الصفحة ١٠٨ من الكراس الثاني ما يأتي: «وقيل إنه سيتوجه إلى رومية … إلخ.» فتأمل.

بإمكان المؤرخ المدقق إذًا أن يستعين بمضمون أصل من الأصول للتعرُّف إلى شخصية مؤلفه، وإلى المكان الذي ألف فيه وزمن التأليف، وبإمكانه أيضًا أن يتذرع بأخبار غيره من المعاصرين للتأكد مما تقدَّم أو لزيادة التعيين والتحديد، وعليه أيضًا أن يستنير بالعلوم الموصلة لعله يفلح، ولا فائدة هنا من إعادة الكلام في العلوم الموصلة وكيفية استخدامها توصلًا إلى هذه الغاية، وقد سبق الكلام فيها فليراجع في محله.

وقد تُخفق آمال المؤرخ في تعيين شخص المؤلف المجهول، وتحديد الزمن الذي كتب فيه والمكان الذي عاش فيه، وعندئذٍ عليه أن يقنع بما قُسم له ويرضى بشخصية المؤلف، وإن خفيت عليه معرفة اسمه، وإذا استحال عليه تحديد الزمن بالضبط، فعليه أن يضع لزمن وقوع الحوادث حدًّا أقصى وحدًّا أدنى؛ كيما يحصره أو يحصرها بينهما؛ أي إنه يجب عليه أن يُعين التاريخ الذي لا يمكن أن تكون الحوادث قد وقعت قبله، والتاريخ الذي لا يمكن أن تكون الحوادث نفسها قد وقعت بعده، وهو أمر ميسور سهل الملتمس في غالب الأحيان، وذلك أن المؤلفين المؤرخين يشيرون أحيانًا إلى بعض الحوادث التي وقعت في أثناء قيامهم بعمل التأريخ والتأليف مما يسهل مهمة المؤرخ المنقب، ويعاونه في تاريخ الأصل الذي يدرس. فلو أشار أصل من الأصول إلى كسوف الشمس كسوفًا كاملًا أو نصَّ بأن ما يدونه من الحوادث وافق وقوعه حدوث حادثة مشهورة، وكان المؤرخ المنقب يعلم تاريخ هذا الكسوف أو زمن وقوع تلك الحادثة، لسهل عليه التحتيم بأن الأصل الذي يدرس لم يدون قبل وقوع هذه الحوادث، وعندئذٍ يجعل تاريخ وقوع هذه الحوادث حدًّا أقصى في تعيين الزمن الذي كُتب فيه الأصل موضوع بحثه، وهلمَّ جرًّا.

الفصل الثالث: تحرِّي النص والمجيء باللفظ

وهذه مأثرة أخرى من مآثر علماء الحديث؛ فإنهم قالوا بالأمانة في نقل الحديث، وفرضوا وجوب تحرِّي النص لأجل الوقوف على اللفظ الأصلي، ومنهم من أبى أن يُصلح الخطأ أو يقوم اللحن، واكتفى بإبداء رأيه على الهامش.

قال القاضي عياض، في موضوع «تحري الرواية والمجيء باللفظ»: «لا خلاف أن على الجاهل والمبتدئ، ومن لم يمهر في العلم، ولا تقدَّم في معرفة تقديم الألفاظ وترتيب الجمل وفهم المعاني، أن لا يكتب ولا يروي ولا يحكي حديثًا إلَّا على اللفظ الذي سمعه، وإنه حرام عليه التغيير بغير لفظه المسموع؛ إذ جميع ما يفعله من ذلك تحكم الجهالة، وتصرُّف على غير حقيقته في أصول الشريعة، والنبي حضَّ على ذلك وأمر بإيراد ما سمع منه كما سمع. ثم اختلف السلف وأرباب الحديث والفقه والأصول، هل يسوغ ذلك لأهل العلم فيُحدِّثوا على المعنى، أو لا يباح لهم ذلك؟ فأجازه جمهورهم إذا كان ذلك من مشتغل بالعلم نافذ بوجوه تصرف الألفاظ، والعلم بمعانيها ومقاصدها، جامعًا لمواد المعرفة بذلك. روي عن مالك نحوه، ومنعه آخرون، وشددوا فيه، من المحدثين والفقهاء، ولم يجيزوا ذلك لأحد، ولا سوغوا إلَّا الإتيان به على اللفظ نفسه في حديث النبي وغيره، وروي نحوه عن مالك أيضًا، وشدَّد مالك أيضًا الكراهة فيه في حديث النبي ، وحمل أئمتنا هذا من مالك على استحباب كما قال، ولا يخالف أحد في هذا. فإن الأولى والمستحب المجيء بنفس اللفظ ما أستطيع.»

ومما له علاقة بالموضوع نفسه، ما ورد نقلًا عن هذا الإمام المحدث العظيم، في باب «إصلاح الخطأ وتقويم اللحن» من رسالته الشهيرة المشار إليها — الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع. قال القاضي عياض: «الذي استمر عليه عمل أكثر الأشياخ نقل الرواية كما وصلت إليهم وسمعوها، لا يغيرونها من كتبهم، حتى اضطردوا ذلك في كلمات من القرآن، استمرت الرواية في الكتب عليها بخلاف التلاوة المجمع عليها؛ وذلك حماية للباب. لكن أهل المعرفة منهم، ينبهون على خطأها عند السماع والقراءة وفي حواشي الكتب، وكان أجرأهُم على هذا من المتأخرين، القاضي أبو الوليد هشام بن أحمد الكناني. فإنه لكثرة مطالعته، وتفننه في الأدب واللغة وأخبار الناس وأسماء الرجال وأنسابهم، وثقوب فهمه وحدة ذهنه، جسور على الإصلاح كثيرًا وربما نبَّه وصححه على وجه الصواب. لكنه ربما وهم وغلط في أشياء من ذلك، والحكم فيها بما ظهر له، أو بما رآه في حديث آخر، وربما كان الذي أصلحه صوابًا، وربما أيضًا غلط فيه وأصلح الصواب بالخطأ … وحماية باب الإصلاح والتغير أولى، لئلا يجسر على ذلك من لا يُحسن، ويتسلط عليه من لا يعلم، وطريق الأشياخ أسلم مع التبيين بذكر اللفظ عند السماع كما وقع، وينبه عليه ويذكر وجه صوابه، إما من جهة العربية أو النقل أو وروده كذلك في حديث آخر.»

هذا ما توصل إليه علماء الحديث في القرون الأولى، وهو المعوَّل عليه الآن لدى المؤرخين المعاصرين، والفرق بين الاثنين أن المؤرخين المعاصرين يعممون قول المحدثين على الحديث وغيره من النصوص التاريخية، ويندفعون في عملهم بعامل علمي بحت. أما المحدثون فإنهم اقتصروا فيما أوردوه من هذا القبيل على الحديث الشريف، واندفعوا في تحري الحقيقة بعاطفة دينية قلَّما نجد مثلها في هذه الأيام.

بقي علينا بعد هذا الاعتراف بفضل علماء الحديث، أن نطرق الموضوع من ناحيته العلمية الحديثة، فنقول: التاريخ علم في تحريه الحقيقة وكعلم يطلب الحقيقة كما هي، والأصول هي صلة المؤرخ الوحيدة بحوادث الماضي، وإذًا فهدف المؤرخ المنقِّب أن يتحقق من هذه الصلة ومن حرفية نص الشهادة التي فيها، ثم يروي هذه الشهادة كما صدرت عن صاحبها الأصلي متحريًا في ذلك درس ما يمكن أن يكون قد عرض عليها من زيادة أو تحريف أو نقصان.

والأصول التاريخية، من حيث تحرِّي النص والمجيء باللفظ، تكون على وجوه ثلاثة. فإما أن يكون الأصل بذاته أمامنا بخط واضعه أو بتصديقه، أو أن يكون الأصل مفقودًا ولم يبقَ منه سوى نسخة واحدة أو أن يكون الأصل قد فقد أيضًا، وبقيت عنه نسخ متعددة.

فحيث يظفر المؤرخ بالأصل نفسه، بخط واضعه أو بتصديقه، عليه أن يبقيه كما هو بحروفه وغلطاته؛ لأن ما يصحح اليوم ويحسب تقويمًا قد يمكن أن يكون اعوجاجًا وتضليلًا. فكم وكم من الاصطلاحات العامية، تفقد قوتها أو ضعفها. عندما تبدَّل بما يفتكره الناشر مقابلًا لها بلغته الفصحى، وكم وكم من المعاني الفصيحة والعامية أيضًا تتغير بتقديم أو تأخير أجزاء جملها بعض عن بعض. لا لا! علينا أن نثبت الأخبار كما رواها شاهدها لا كما كان «يجب عليه أن يرويها» وعلينا أيضًا أن نتحاشى جميع الطرق في النشر التي تعرض الأصل لمثل هذه المخاطر. التاريخ علم في تحريه الحقيقة، وكعلم يطلب الحقيقة كما هي لا كما يجب أن تكون. فهو يختلف عن الفنون بأسرها، أدبًا كانت أم تصويرًا، ويكتفي هو بما لا تكتفي هي به أحيانًا، وزد على هذا كله أنه إذا بقيت الأصول التاريخية على حالها الأول، سهل على الباحث إدراك ما وصل إليه رواته من العلم والرقي، إذ إن تضلع هؤلاء من قوانين اللغة وآدابها، ينبئ أحيانًا عن تهذيبهم العمومي، ومقدرتهم على فهم مجريات الأمور والتدقيق في العمل. هذا ولا يخفى ما في إبقاء لغة هذا النوع من الأصول، على حالتها الأولى من الفائدة الكبرى، لفهم تاريخ تطور معنى الكلمات والاصطلاحات بتطور الأزمنة والأحوال، ولإدراك دورة عقول الذين تكلموها على طريقة الفيلسوف البحاثة فيلهلم ماكس فوندت الألماني.

وقد تفنى أو تضيع نسخة المؤلف ولا يبقى عنها سوى نسخة واحدة، وفي مثل هذا الظرف يترتب على المؤرخ المدقق، الذي يود تحرِّي النص الأصلي والمجيء بلفظ المؤلف، أن يبدأ بدرس هذه النسخة درسًا وافيًا من جميع نواحيها. ثم ينتقل إلى ترجمة مؤلفها، فالمصادر التي أخذ عنها وتآليفه الأخرى، وعليه أن يتعرف إلى أشهر كتاب العصر الذي عاش فيه المؤلف ولا سيما زملائه في الموضوع، وإذا ما وقف على جلائل النسخة ودقائقها وعجم عود مؤلفها وتعرَّف إلى معاصريه وزملائه، عاد إلى نص النسخة التي يدرس ونبذ من صيغ كلماتها ما لا يتفق مع ذوق مؤلفها، أو ذوق معاصريه، وأثبت في الهامش جميع ما ينبذه كما ورد في النسخة التي يستعرضها، وليس في وسعنا إلَّا أن نعترف بأن العمل على هذا الشكل ضرب من المغامرات التي يتوقف النجاح فيها على ذكاء الباحث وسعة اطلاعه وسلامة استنتاجه.

ومما اختبرناه من هذا القبيل، أننا لما شرعنا في جمع الأصول العربية لتاريخ سوريا في عهد محمد علي باشا، وجدنا أن عددًا لا يُستهان به من النسخ الأصلية لمناشير إبراهيم باشا قد ضاع، وأنه لم يبق من هذه النسخ الأصلية في بعض الأحيان سوى نسخة واحدة، ومثال ذلك أن البيان الذي وجهه هذا القائد الفاتح إلى أهالي دمشق عن انتصاره في حمص على الجيش العثماني قد ضاع، ولم يبقَ عنه سوى نسخة واحدة في كتاب المذكرات التاريخية الذي نشره الخوري قسطنطين الباشا، وإليك نص هذا البيان كما ورد بالحرف:١٠

«قدوة الأماجد الكرام متسلم الشام حالًا أحمد بك بعد التحية والسلام بمزيد العز والإكرام المنهي إليكم، إنه نهار السبت الواقع في ٩ صفر سنة ١٢٤٨ الساعة بالسبعة من النهار كان ابتدا وصول عساكر المنصورة التي ساقته ركابنا ببحيرة حمص، وبتلك الساعة نظرنا قدوم عساكر خيل الترك المحتشدين لمعونة الباشاوات الموجودين بحمص، وحالًا هجمت عليهم عساكرنا المنصورة خيالة الجهادية والعرب، وضربوهم وشتتوا شملهم وأسقوهم كأس الوبال والنكال، وولوا هاربين وللنجاة طالبين، فاقتفوا آثارهم عساكرنا المظفرة وظهر أمامهم أربعة الآيات نظام قرابة إستانلية وثلاث الآيات خيالة، وعند ذلك تقدَّمت لحرابتهم عساكرنا المظفورة بترتيب الصفوف على رسم البديع، وهجموا عليهم هجوم الأسود الكواسر وأذاقوهم كئوس المنايا بقطع الحراب وفتك السيوف البواتر، ولا تحملوهم سوى ساعة واحدة إلَّا وولوا الأدبار صارخين: الفرار الفرار. من بعد أن وقع منهم من قتيل ومجروح ما ينوف عن ألف وخمسماية نفر منهم من انمسك مسك اليد ما ينوف عن ألفين وخمسماية نفر وارطتين قد كانوا في قلعة حمص للمحاصرة، عندما كانوا عزموا على الهرب مع جانب عساكر أرنقوط، ومجرد حلول ركابنا في أو رضى الباشاوات القاعدين بمدينة حمص، فاستولينا على أموالهم وخيامهم، وجبا خاناتهم وسائر ذخايرهم، وصاروا جميعًا أغنيمته لنا والأرطتين والعسكر الأرناءوط الذين كانوا في القلعة حينما نظروا هذه المهازل البديعة والظفر البديع استفاقوا وطلبوا الأمان وحنان العفو، وكان اللطف غنامهم مرحمة منا أعطيناهم الأمان، وخرجوا من القلعة آمنين مطمئنين نحمده تعالى على هذه النعمة العظيمة والمواهب الكبيرة الجسيمة، فالآن لأجل نبشركم أصدرنا مرسومنا هذا لكم ويلزم منكم بوصوله تشهروا ذلك إلى كافة الرعايا بعمل الشنك إلى كافة المقاطعات والبلاد؛ لكي يكونوا مثابرين على سنيات الدعوات الخيرية بدوام دولة وتأييد صولة سعادة أفندينا ولي النعم، والدنا المعظم وقهر أعداه المحجولين ما مر الأيام والسلام.»

نقول لدى اطلاعنا على هذا البيان، تخالج في صدرنا منه أشياء، وترددنا في صحة نصه، ولا سيما والقسم الأخير منه مشوش غير مفهوم، فرجعنا أولًا إلى المخطوطة التي أخذ عنها الخوري الباشا نص هذا البيان. لنرى هل أخطأ في قراءة خطها، وبعد أن تأكدنا من أمانة الناشر، عدنا إلى المؤلِّف نفسه، لعلنا نجد فيه من سائر بيانات الباشا ما يُبدد هذه الظلمات فلم نفلح، وعندئذٍ رأينا أن نعيد النظر في جميع البيانات التي صدرت عن إبراهيم باشا، والتي أعلن فيها أخبار حروبه في سوريا وانتصاراته على أعدائه. فوجدنا لحسن الحظ في سجلات المحكمة الشرعية في طرابلس بيانًا آخر وجه الباشا إلى متسلم هذه المدينة، يعلن فيه انتصاره على العثمانيين في حمص، وفي آخر هذا البيان ما نصه:

«والأرطتين والعسكر القرنبود الذين كانوا في القلعة حينما نظروا هذه المهاول المريعة والظفر البديع، استغاثوا وطلبوا الأمان، وحيث إن العفو زكاة الظفر أغثناهم مرحمة منا وأعطيناهم الأمان.»

فعلمنا عندئذٍ أن أحد النساخ الذين نسخوا بيان الباشا إلى متسلم دمشق أخطأ، في الأرجح، في قراءة هذا البيان؛ فقرأ استغاثوا «استفاقوا»، وحيث إن «حنان»، وزكاة «وكان»، والظفر «اللطف»، وأغثناهم «غنامهم»، وهلم جرًّا. على أننا نكرر القول بأننا لم نوفق دائمًا إلى الفوز في تحري النص والمجيء باللفظ. في حال ضياع الأصل وبقاء نسخة واحدة، كما توفقنا هنا، ونوافق الأستاذ شارل لانجلوا الإفرنسي في قوله: إن تحري النص في مثل هذه الأحوال هو نوع من المغامرات، التي يتوقف النجاح فيها على ذكاء المؤرخ المدقق وسعة اطلاعه وسلامة استنتاجه.

وقد تضيع أو تفنى نسخة المؤلف الأصلية ويبقى عنها نسخ متعددة، وفي مثل هذه الحال، يجتهد المؤرخ المدقق في نبذ بعض هذه النسخ، إذا ظهر له أن ذلك البعض يعتمد على سابقه. ثم يقسم النسخ الباقية إلى فصائل متخذًا الأغلاط المشتركة بينها قاعدة لهذا التقسيم. لأنه ليس من المرجح أن يجمع النساخ على غلطة ما، إلَّا ويكون أحدهم قد أخذ عن سابقه. كما إنه ليس من المحتمل أن يتفقوا منفردين بعضهم عن بعض إلَّا على الصحة. ثم يحاول المؤرخ استعادة اللفظ الأصلي بالمقابلة بين النسخ الباقية، وما يكون قد تشربه من روح المؤلف وذوق معاصريه، ولا بد من الإشارة إلى الاختلافات في منطوق هذه النسخ على هوامش ما ينشر؛ تسهيلًا للتحقيق وضنًّا بالحقيقة.

ومثال ذلك أننا لما أقدمنا على نشر تاريخ الأمير فخر الدين المعني لمؤلفه الشيخ أحمد الخالدي الصفدي لم نعثر على مخطوطة المؤلف الأصلية، ولكننا وجدنا خمس نسخ ثانوية. منها نسخة تمتاز عن أخواتها بتجانس أجزائها من حيث اللغة والأسلوب واختصاصها بالتاريخ الهجري، ورقها عباديٌّ صقيل من النوع الذي شاع استعماله في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وهي في حوزة الشيخ كسروان الخازن، وسنشير إليها بالحرف ك، والنسخة م وهي رقم ٤٢٧ من مجموعة المكتبة العمومية بمدينة موينخ الألمانية، وقد جاء في آخرها أنها بخط عبد اللطيف بن الشيخ أحمد الرشيدي، وعليها عبارة بخط إسكندر أبكاريوس هذا نصها: «خاصة الفقير إسكندر أبكاريوس.» مما يدل على أنها كانت تُباع وتُشترى في منتصف القرن الماضي، ونسخة جامعة برنستن في الولايات المتحدة، وقد استنسخها لنفسه الأستاذ عيسى إسكندر المعلوف، فتمَّ له ذلك في ١١ كانون الأول سنة ١٩١٢، وهي رقم ٣٨٠٥٠ من مكتبة بيروت الأميركية، وقد أشرنا إليها بالحرفين ج ب، ووجدنا أيضًا نسخة أخرى في مدينة طرابلس لدى الأستاذ جورج يني، استنسخها لنفسه عن نسخة للخوازنة.

فأخذنا ندرس هذه النسخ درسًا دقيقًا لننبذ بعضها، ولا سيما ما يعتمد منها على سابق له. فأهملنا بادئ ذي بدءٍ نسخة جورج يني؛ لأنها تتفق كل الاتفاق مع النسخة ك التي هي أقدم منها، ولما كانت ك مع هذا الاتفاق التام، موجودة لدى أحد الخوازنة، وكان الأستاذ جورج يني قد نسخ باعترافه عن نسخة خازنية أصبح من المحتمل أن يكون قد نسخ عنها نفسها، وكذلك فإنه بالإمكان أن نعتبر نسخة جامعة برنستن والنسخة ج ب نسخة واحدة؛ لأن الأستاذ المعلوف يعترف بهذه الصلة، ولأن المقابلة بين النسختين تؤيدها. ثم لاحظنا أيضًا علاقة ظاهرة بين النسختين م وج ب، وذلك بالأغلاط المشتركة بينهما. فقد ورد مثلًا في كل من هاتين النسختين ما نصه:

«فلما عاد مصطفى كتخدا وأعلم الأمير عليًّا بالذي صار في بعلبك من الاتفاق، وكتب الحجة واستدانته من ابن الحرفوش العشرة آلاف غرش وأرسلها لابن الحرفوش واستكثر خيره.»

وهو كلام مشوه بدليل النقص في معناه، ولا ينجلي المعنى إلا بالاتكال على ك فنقرأ عندئذٍ: «فلما عاد مصطفى كتخذا وأعلم الأمير عليًّا بالذي صار في بعلبك من الاتفاق، وكتب الحُجَّة واستدانته من ابن الحرفوش العشرة آلاف غرش، ودفعه لأرباب الديوان في الحال جهز الأمير علي العشرة آلاف غرش، وأرسلها لابن الحرفوش وتشكر منه.» وهنالك مثال آخر يؤيد هذه الصلة بين النسختين. فقد ورد في كل منهما أن الوزير «خليل باشا عين جملة بكلربكية وسناجق، ومعهم عشرون ألف عسكري جرد خيل وتوجهوا إلى أخذ المكسب من المذكورين تصور باله أن لا بد أن يجيء إلى كبسهم.» وفي هذا القول نقص ظاهر، وصحيحه في الأرجح كما ورد في ك: «وتوجَّهوا إلى أخذ المكسب من المذكورين، فلمَّا علم الشاه عباس أن جماعة الوزير مروا على التركمان والأكراد، تصوَّر في باله أنه لا بدَّ يجيء لكبسهم.» هذا وقد وجدنا من هذا النوع من الأغلاط المشتركة ما يربو على الستين، ولا يخفى كما أشرنا سابقًا أن النساخ لا يجمعون على مثل هذه الأغلاط إلَّا ويكون أحدهم قد أخذ عن سابق له، كما أنه ليس من المحتمل أن يتَّفِقوا منفردين بعضهم عن بعض إلَّا على الصحة. فأما أن تكون ج ب منقولة عن م، أو أن تكون م وج ب منقولتين عن أصل واحد مفقود، وأصبح لدينا بعد هذه الغربلة وهذا النبذ نسختان رئيسيتان هما ك وم، وتوجب علينا أن نقابلهما الواحدة بالأخرى وأن ننتقي منهما ما نراه أقرب لعصر المؤلف وللغته وأمياله، فنثبت نصه في المتن، ونرجئ للهامش نص النسخة الأخرى.

١  وذلك في رسالته القيِّمة «ابن عبد ربه وعقده»، وهي الرسالة التي تقدَّم بها من دائرة الدروس العربية في كلية العلوم والآداب بجامعة بيروت الأميركية لنيل شهادة أستاذ في العلوم، بيروت، ١٩٣٣.
٢  واللفظ في غالب الأحيان للأستاذ جبور. راجع رسالته المُشار إليها أعلاه، ص٩٨ فما بعد.
٣  ابن عبد ربه، ٣، ٥٩-٦٠.
٤  Die ghassanichen fürsten aus. Dem Hause Gefans, p. 50.
٥  ابن عبد ربه، ٣، ٥٩.
٦  ابن عبد ربه، ٣، ٥٢.
٧  ابن عبد ربه، ٢، ٣٥١.
٨  ابن عبد ربه، ٢، ٢٢٩.
٩  تاريخ الرهبانية الأنطونيانية، ص٤٤٩.
١٠  مذكرات تاريخية بقلم أحد كُتَّاب الحكومة الدمشقيين، لناشره الخوري قسطنطين الباشا (طبع حريصا لبنان سنة ١٩٢٩)، ص٦٤–٦٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤