جبران خليل جبران

(١) وعظتني نفسي

وعظتني نفسي، فعلمتني حب ما يمقته الناس، ومصافاة من يضاغنونه، وأبانت لي أن الحب ليس بميزة في المحب، بل في المحبوب، وقبل أن تعظني نفسي كان الحب بي خيطًا دقيقًا مشدودًا بين وَتَدين متقاربين. أما الآن فقد تحول إلى هالة، أولها آخرها، وآخرها أولها، تحيط بكل كائن، وتتوسع ببطء، لتضم كل ما سيكون.

•••

وعظتني نفسي، فعلمتني أن أرى الجمال المحجوب بالشكل واللون والبشرة، وأن أحدق متبصرًا بما يعده الناس شناعة، حتى يبدو لي حسنًا، وقبل أن تعظني نفسي، كنت أرى الجمال شعلات مرتعشة بين أعمدة من الدخان. أما الآن فقد تبدد الدخان واضمحل، فلم أعُد أرى سوى ما يشتعل.

وعظتني نفسي، فعلمتني الإصغاء إلى الأصوات التي لا تولدها الألسنة، ولا تضج بها الحناجر، وقبل أن تعظني نفسي، كنت كليل المسامع مريضها، لا أعي سوى الجلبة والصياح. أما الآن فقد صرت أتوجس بالسكينة، فأسمع أجواقها منشدة أغاني الدهور، مرتلة تسابيح الفضاء، معلنة أسرار الغيب.

•••

وعظتني نفسي، فعلمتني أن أشرب مما لا يُعصر، ولا يُسكب بكئوس لا تُرفع بالأيدي، ولا تُلمس بالشفاه. وقبل أن تعظني نفسي، كان عطشي شرارة ضئيلة في رابية من رماد، أخمدها بغبة من الغدير، أو برشفة من جرن المعصرة. أما الآن فقد صار شوقي كأسي، وغلتي شرابي، ووحدتي نشوتي، وأنا لا ولن أرتوي، ولكن في هذه الحرقة التي لا تطفي مسرة لا تزول.

•••

وعظتني نفسي، فعلمتني لمس ما لم يتجسد ولم يتجمد ولم يتبلور، وأفهمتني أن المحسوس نصف المعقول، وأن ما نقبض عليه بعض ما نرغب فيه، وقبل أن تعظني نفسي، كنت أكتفي بالحار إن كنت باردًا، وبالبارد إن كنت حارًّا، وبأحدهما إن كنت فاترًا. أما الآن فقد انتثرت ملامسي المتكمشة، وانقلبت ضبابًا دقيقًا يخترق كل ما ظهر من الوجود؛ ليمتزج بما خفي منه.

•••

وعظتني نفسي، فعلمتني استنشاق ما لا تبثه الرياحين، ولا تنشره المجامر. وقبل أن تعظني نفسي، كنت إن اشتهيت عطرًا طلبته من البساتين، أو من القوارير والمباخر. أما الآن فقد صرت أشم ما لا يُحرق ولا يُهرق، وأملأ صدري من أنفاس زكية، لم تمر بجنة من جنات هذا العالم، ولم تحملها نسمة من نسمات هذا الفضاء.

وعظتني نفسي، فعلمتني أن أقول «لبيك» عندما يناديني المجهول والخطير، وقبل أن تعظني نفسي، كنت لا أنهض إلا لصوت منادٍ عرفته، ولا أسير إلا على سبل خبرتها فاستهونتها. أما الآن فقد أصبح المعلوم مطية أركبها نحو المجهول، والسبل سلمًا أتسلق درجاته؛ لأبلغ الخطر.

•••

وعظتني نفسي، فعلمتني أن لا أقيس الزمن بقولي «كان بالأمس وسيكون غدًا»، وقبل أن تعظني نفسي، كنت أتوهم الماضي عهدًا لا يرد، والآتي عصرًا لن أصل إليه. أما الآن فقد عرفت أن في الهنية الحاضرة كل الزمن، بكل ما في الزمن، مما يرجى وينجز ويحقق.

وعظتني نفسي، فعلمتني أن لا أحدُّ المكان بقولي: «هنا وهناك وهنالك»، وقبل أن تعظني نفسي، كنت إذا ما صرت في موضع في الأرض ظننتني بعيدًا عن كل موضع آخر. أما الآن فقد علمت أن مكانًا أحل فيه هو كل مكان، وأن فسحة أشغلها هي كل المسافات.

•••

وعظتني نفسي، فعلمتني أن أسهر وسكان الحي راقدون، وأن أنام وهم منتبهون. وقبل أن تعظني نفسي، كنت لا أرى أحلامهم في هجعتي، ولا يرصدون أحلامهم في غفلتهم. أما الآن فلا أسبح مرفرفًا في منامي إلا وهم يرقبونني، ولا يطيرون في أحلامهم إلا وفرحت بانعتاقهم.

•••

وعظتني نفسي، فعلمتني أن لا أطرب لمديح ولا أجزع لمذمة، وقبل أن تعظني نفسي، كنت أظل مرتابًا في قيمة أعمالي وقدرها، حتى تبعث إليها الأيام بمن يقرظها أو يهجوها. أما الآن فقد عرفت أن الأشجار تزهو في الربيع وتثمر في الصيف، ولا مطمع لها بالثناء، وتنثر أوراقها في الخريف وتتعرى في الشتاء، ولا تخشى الملامة.

•••

وعظتني نفسي، فعلمتني وأثبتت لي أنني لست بأرفع من الصعاليك، ولا أدنى من الجبابرة. وقبل أن تعظني نفسي كنت أحسب الناس رجلين؛ رجلًا ضعيفًا أرق له أو أزدري به، ورجلًا قويًّا أتبعه أو أتمرد عليه. أما الآن فقد علمت أنني كونت فردًا مما كون البشر منه جماعة، فعناصري عناصرهم، وطوبتي طوبتهم، ومنازعي منازعهم، ومحجتي محجتهم، فإن أذنبوا فأنا المذنب، وإن أحسنوا عملًا فاخرت بعملهم، وإن نهضوا نهضت وإياهم، وإن تقاعدوا تقاعدت معهم.

•••

وعظتني نفسي، فعلمتني وأفهمتني أن السراج الذي أحمله ليس لي، والأغنية التي أنشدها لم تتكون في أحشائي، فأنا وإن سرت بالنور لست بالنور، وأنا وإن كنت عودًا مشدود الأوتار فلست بالعواد.

•••

وعظتني نفسي يا أخي وعلمتني، ولقد وعظتك نفسك وعلمتك، فأنت وأنا متشابهان متضارعان، وما الفرق بيننا سوى أنني أتكلم عما بي، وفي كلامي شيء من اللجاجة، وأنت تكتم ما بك، وفي تكتمك شيء من الفضيلة.

(٢) بين ليل وصباح

اسكت يا قلبي، فالفضاء لا يسمعك.

اسكت فالأثير المثقل بالنواح والعويل، لن يحمل أغانيك وأناشيدك.

اسكت فأشباح الليل لا تحفل بهمس أسرارك، ومواكب الظلام لا تقف أمام أحلامك.

اسكت يا قلبي، اسكت حتى الصباح، فمن يترقب الصباح صابرًا يلاقي الصباح قويًّا، من يهوى النور فالنور يهواه.

اسكت يا قلبي، واسمعني متكلمًا.

•••

في الحلم رأيت شحرورًا يغرد فوق فوهة بركان ثائر.

ورأيت زنبقة ترفع رأسها فوق الثلوج.

ورأيت حورية عارية ترقص بين القبور.

ورأيت طفلًا يلعب بالجماجم وهو يضحك.

رأيت جميع هذه الصور في الحلم، ولما استيقظت ونظرت حولي؛ رأيت البركان هائجًا، ولكني لم أسمع الشحرور مغردًا، ولا رأيته مرفرفًا.

ورأيت الفضاء ينثر الثلوج على الحقول والأودية، ساترًا بأكفانه البيضاء أجسام الزنابق الهامدة.

ورأيت القبور صفوفًا منتصبة أمام سكينة الدهور، وليس بينها من يتمايل راقصًا، ولا من يجثو مصليًا.

ورأيت رابية من الجماجم، وليس هناك من ضاحك سوى الريح.

في اليقظة رأيت الحزن والأسى، فأين ذهبت أفراح الحلم ومسراته؟

أنى توارت بهجة المنام، وكيف اضمحلت رسومه؟

وكيف تتجلد النفس، حتى يعيد النوم أشباح أمانيها وآمالها؟

أصغ يا قلبي واسمعني متكلمًا.

•••

كانت نفسي بالأمس شجرة قوية مسنة، تمتد عروقها إلى أعماق الأرض، وتتعالى غصونها نحو اللانهاية.

ولقد أزهرت نفسي في الربيع، وأثمرت في الصيف، ولما جاء الخريف جمعت أثمارها في أطباق من الفضة، ووضعتها على قارعة الطريق، فكان العابرون يتناولون منها ويأكلون، ثم يسيرون في سبيلهم.

ولما انقضى الخريف وتحولت تهاليله إلى الندب والولولة، نظرت فلم أرَ في أطباقي سوى ثمرة واحدة، أبقاها الناس لي، فتناولتها وأكلت، فألفيتها مُرة كالعلقم، حامضة كالحصرم. فقلت لنفسي: «ويحي لقد وضعت في أفواه الناس لعنة، وفي أجوافهم عداء، فماذا ترى فعلت يا نفسي بالحلاوة التي امتصتها عروقك من أحشاء الأرض، وبالأريج الذي تشربته قضبانك من نور الشمس؟»

بعد ذلك اقتلعت شجرة نفسي القوية المسنة.

اقتلعتها بعروقها من التربة، التي نمت فيها وترعرعت، اقتلعتها من ماضيها ونزعت عنها ذكرى ألف ربيع، وألف خريف.

وعدت فزرعت شجرة نفسي في مكان آخر.

زرعتها في حقل بعيد عن سبل الزمن، وكنت أسهر بجانبها قائلًا: إن السهر يدنينا من النجوم. وكنت أسقيها بدمي ودموعي قائلًا إن في الدم نكهة، وفي الدموع حلاوة.

ولما عاد الربيع أزهرت نفسي ثانية.

وفي الصيف أثمرت نفسي، ولما جاء الخريف جمعت أثمارها الناضجة بأطباق من الذهب، ووضعتها على ملتقى السبل، فمر الناس أفرادًا وجماعات، ولكن لم يمد أحد يده ليتناول منها.

فأخذت إذ ذاك ثمرة وأكلت، فوجدتها حلوة كالشهد، لذيذة كالكوثر، طيبة كالخمر البابلية، كأنفاس الياسمين، فصرخت قائلًا: «إن الناس لا يريدون البركة في أفواههم، ولا الحق في أجوافهم؛ لأن البركة ابنة الدموع، والحق ابن الدماء.»

ثم عدت وجلست في ظل نفسي المنفردة، في حقل بعيد عن سبل الزمن.

•••

اسكت يا قلبي حتى الصباح.

اسكت، فالفضاء قد أتخمته رائحة الأشلاء، فلن يتشرب أنفاسك.

أصغ يا قلبي واسمعني متكلمًا.

كانت بالأمس فكرتي سفينة تتقلب بين أمواج البحار، وتنتقل مع الأهواء من شاطئ إلى شاطئ.

ولقد كانت سفينة فكرتي خالية، إلا من سبعة أكواب طافحة مختلفة بألوان مختلفة، تشابه ألوان قوس القزح بنضارتها.

وجاء زمن مللت فيه التنقل على وجه البحار، فقلت سأعود بسفينة فكرتي الفارغة إلى ميناء البلد، الذي ولدت فيه.

ثم أخذت أطلي جوانب سفينتي بألوان صفراء كشمس المغيب، وخضراء كقلب الربيع، وزرقاء ككبد السماء، وحمراء كذوب الشقيق، وأرسم على شراعها ودفتها رسومًا غريبة، تجذب العين وتبهج البصيرة. ولما انتهيت من عملي، وقد ظهرت سفينة فكرتي كرؤيا نبي، تطوف بين اللانهايتين البحر والسماء؛ دخلت ميناء بلدي، فخرج الناس لملاقاتي بالتهليل والتعظيم، وأدخلوني المدينة ضاربين الدفوف، نافخين الزمور.

فعلوا ذلك؛ لأن خارج سفينتي كان مزخرفًا بهجًا.

ولم يدخل أحد جوف سفينة فكرتي.

ولم يسأل أحد ماذا جلبت فيها من وراء البحار.

ولم يدرِ أحد أنني عدت بها فارغة إلى الميناء.

عند ذلك قلت في سري: «لقد ضللت الناس، وبسبعة أكواب من الألوان، قد كذبت على باصرتهم وبصائرهم.»

•••

وبعد عام ركبت سفينة فكرتي وأبحرت ثانية.

سرت إلى جزر الشرق، فجمعت منها المر واللبان والند والصندل، وأدخلتها إلى سفينتي.

وإلى جزر الجنوب، فجلبت منها التبر والعاج والياقوت والزمرد، وجميع الحجارة الكريمة.

وإلى جزر الشمال، فعدت منها بالخز والوشي والبرفير.

وإلى جزر الجنوب، فحملت منها الدروع المزردة، والسيوف المشرفية، وسائر أنواع الأسلحة.

ملأت سفينة فكرتي بنفائس الأرض وغرائبها، وعدت إلى ميناء بلدي قائلًا: «سوف يمجدني قومي، ولكن عن جدارة، وسيدخلوني المدينة منشدين مزمرين، ولكن عن استحقاق.»

ولكن لما بلغت الميناء، لم يخرج أحد لملاقاتي، ودخلت شوارع بلدي فلم يلتفت إليَّ أحد.

ووقفت في ساحتها معلنًا للناس ما جلبت لهم من ثمار الأرض وطرائفها، فكانوا ينظرون إليَّ والضحك ملء أفواههم، والسخرية على وجوههم، ثم يتحولون عني.

فعدت إلى الميناء كئيبًا مستغربًا، ولكنني ما لمحت سفينتي حتى فطنت لأمر كنت مشغولًا عنه بمنازع أسفاري ورغائبها. فهتفت قائلًا: «إن أمواج البحر قد محت الطلاء من جوانب سفينتي، فبانت كهيكل من عظام، وعفت الأرياح والأنواء وحرارة الشمس الرسوم عن شراعها، فظهرت كأثواب رمادية بالية.»

لقد جمعت طرائف الأرض ونفائسها، في تابوت يعوم على وجه الماء، وعدت إلى قومي فنبذوني؛ لأن عيونهم لا ترى سوى المظاهر الخارجية.

في تلك الساعة تركت سفينة فكرتي، وذهبت إلى مدينة الأموات، وجلست بين القبور المكلسة، مفكرًا بأسرارها.

•••

اسكت يا قلبي حتى الصباح، اسكت فالعاصفة الهوجاء تسخر بهمس أعماقك، وكهوف الوادي لن ترجع بصداها رنات أوتارك.

اسكت يا قلبي حتى الصباح، فمن يترقب الصباح متجلدًا يعانقه الصباح مشتاقًا.

ها قد طلع الفجر يا قلبي، فتكلم إن كنت تستطيع الكلام.

هو ذا موكب الصباح يا قلبي، فهل أبقى سكوت الليل في أعماقك أغنية تلاقي بها الصباح.

هو ذا أسراب الحمام والشحارير تتطاير، متنقلة في أطراف الوادي، فهل أبقى هول الليل في جناحيك صلابة لتطير معها؟

هو ذا الرعيان يسيرون أمام قطعانهم، من الحظائر والمرابض، فهل أبقت لك أشباح الليل عزمًا لتسير وراءها إلى المروج الخضراء؟

هو ذا الفتيان والصبايا يمشون الهويناء نحو الكروم، فهلا نهضت ومشيت معهم؟

قم يا قلبي، قم وسر مع الفجر؛ فالليل قد مضى، ومخاوف الليل قد اضمحلت مع أحلامه السوداء.

قم يا قلبي، وارفع صوتك مترنمًا، فمن لا يشارك الصبح بأغانيه كان من أبناء الظلام.

(٣) البنفسجة الطموحة

كانت في حديقة منفردة، بنفسجة جميلة الثنايا، طيبة العرف، تعيش مقتنعة بين أطرابها، وتتمايل فرحة بين قامات الأعشاب.

ففي صباح، وقد تكللت بقطر الندى، رفعت رأسها ونظرت حواليها، فرأت وردة تتطاول نحو العلاء بقامة هيفاء، ورأس يتسامى متشامخًا، كأنه شعلة من النار فوق مسرجة من الزمرد.

ففتحت البنفسجة ثغرها الأزرق، وقالت متنهدة: «ما أقل حظي بين الرياحين! وما أوضع مقامي بين الأزهار! فقد ابتدعتني الطبيعة صغيرة، حقيرة، أعيش ملتصقة بأديم الأرض، ولا أستطيع أن أرفع قامتي نحو ازرقاق السماء، أو أحول وجهي نحو الشمس مثل ما تفعل الورود.»

وسمعت الوردة ما قالته جارتها البنفسجة، فاهتزت ضاحكة، ثم قالت: «ما أغباك بين الأزهار! فأنت في نعمة تجهلين قيمتها، فقد وهبتك الطبيعة من الطيب والظرف والجمال، ما لم تهبه لكثير من الرياحين، فخل عنك هذه الميول العوجاء، والأماني الشريرة، وكوني قنوعة بما قُسم لك، واعلمي أن من خفض جناحه يُرفع قدره، وأن من طلب المزيد وقع في النقصان.»

فأجابت البنفسجة قائلة: أنت تعزيني أيتها الوردة، لأنك حاصلة على ما أتمناه، وتغمرين حقارتي بالحكم؛ لأنك عظيمة، وما أمرُّ مواعظ السعداء في قلوب التعساء! وما أقسى القوي إذا وقف خطيبًا بين الضعفاء!

وسمعت الطبيعة ما دار بين الوردة والبنفسجة، فاهتزت مستغربة، ثم رفعت صوتها قائلة: ماذا جرى لك يا ابنتي البنفسجة؛ فقد عرفتك لطيفة بتواضعك، عذبة بصغرك، شريفة بمسكنتك، فهل استهوتك المطامع القبيحة، أم سلبت عقلك العظمة الفارغة؟

فأجابت البنفسجة بصوت ملؤه التوسل والاستعطاف: أيتها الأم العظيمة بجبروتها، الهائلة بحنانها، أضرع إليك بكل ما في قلبي من التوسل، وما في روحي من الرجاء، أن تجيبي طلبي وتجعليني وردة، ولو يومًا واحدًا.

فقالت الطبيعة: «أنت لا تدرين ما تطلبين، ولا تعلمين ما وراء الطعمة الظاهرة من البلايا الخفية، فإذا رفعت قامتك، وأبدلت صورتك، وجعلتك وردة، تندمين حين لا ينفع الندم.»

فقالت البنفسجة: «حوِّلي كياني البنفسجي إلى وردة مديدة القامة، مروعة الرأس، ومهما يحل بي بعد ذلك، يكن صنع رغائبي ومطامعي.»

فقالت الطبيعة: «لقد أجبت طلبك أيتها البنفسجة الجاهلة المتمردة، ولكن إذا داهمتك المصائب والمصاعب، فلتكن شكواك من نفسك.»

ومدت الطبيعة أصابعها الخفية السحرية، ولمست عروق البنفسجة، فتحولت بلحظة إلى وردة زاهية، متعالية فوق الأزهار والرياحين.

ولما جاء عصر ذلك النهار، تلبد الفضاء بغيوم سوداء مبطنة بالإعصار، ثم هاجت سواكن الوجود، فأبرقت وأرعدت، وأخذت تحارب تلك الحدائق الأنصاب، واقتلعت الأزهار المتشامخة، ولم تبقِ إلا على الرياحين الصغيرة، التي تلتصق بالأرض، أو تختبئ بين الصخور.

أما تلك الحديقة المنفردة، فقد قاست من هياج العناصر، ما لم تقاسِه حديقة أخرى.

فلم تمر العاصفة، وتنقشع الغيوم، حتى أصبحت أزهارها هباء منثورًا، ولم يسلم منها بعد تلك المعمعة الهوجاء، سوى طائفة البنفسج المختبئة بجدران الحديقة.

ورفعت إحدى صبايا البنفسج رأسها، فرأت ما حل بأزهار الحديقة وأشجارها، فابتسمت فرحًا، ثم نادت رفيقاتها قائلة: «ألا فانظرن ما فعلته العاصفة بالرياحين المتشامخة تيهًا وإعجابًا.»

وقالت بنفسجة أخرى: «نحن نلتصق بالتراب، ولكننا نسلم من غضب العواصف والأنواء.»

وقالت بنفسجة ثالثة: «نحن حقيرات الأجسام، غير أن الزوابع لا تستطيع التغلب علينا.»

ونظرت إذ ذاك مليكة طائفة البنفسج، فرأت على مقربة منها الوردة التي كانت بالأمس بنفسجة، وقد اقتلعتها العاصفة، وبعثرت أوراقها الرياح، وألقتها على الأعشاب المبللة، فبانت كقتيل أرداه العدو بسهم.

فرفعت مليكة البنفسج قامتها، ومدت أوراقها، ونادت رفيقاتها قائلة: «تأملن وانظرن يا بناتي، انظرن إلى البنفسجة التي غرتها المطامع، فتحولت إلى وردة لتشامخ ساعة، ثم هبطت إلى الحضيض، ليكن هذا المشهد أمثولة لَكُن.»

عندئذ ارتعشت الوردة المحتضرة، واستجمعت قواها الخائرة، وبصوت يتقطع قالت: ألا فاسمعن أيتها الجاهلات المقتنعات، الخائفات من العواصف والإعصار، لقد كنت بالأمس مثلكن، أجلس بين أوراقي الخضراء، مكتفية بما قُسم لي، وقد كان الاكتفاء حاجزًا منيعًا، يفصلني عن زوابع الحياة وأهوائها، ويجعل كياني محدودًا بما فيه السلامة، متناهيًا بما يساوره من الراحة والطمأنينة. ولقد كان بإمكاني أن أعيش نظيركن، ملتصقة بالتراب، حتى يغمرني الشتاء بثلوجه، وأذهب كمن ذهب قبلي إلى سكينة الموت والعدم، قبل أن أعرف من أسرار الوجود ومخبآته غير ما عرفته طائفة البنفسج، منذ وجد البنفسج على سطح الأرض. لقد كان بإمكاني الانصراف عن المطامع والزهد في الأمور التي تعلو طبيعتها عن طبيعتي، ولكن أصغيت في سكينة الليل، فسمعت العالم الأعلى يقول لهذا العالم: «إنما القصد من الوجود الطموح إلى ما وراء الوجود.» فتمردت نفسي على نفسي، وهام وجداني بمقام يعلو عن وجداني، وما زلت أتمرد على ذاتي، وأشوق إلى ما ليس لي، حتى انقلب تمردي إلى قوة فعالة، واستحال شوقي إلى إرادة مبدعة، فطلبت إلى الطبيعة — وما الطبيعة سوى مظاهر خارجية لأحلامنا الخفية — أن تحولني إلى وردة، ففعلت، وطالما غيرت الطبيعة صورها ورسومها بأصابع الميل والتشويق.

وسكتت الوردة هنيهة، ثم زادت بلهجة مفعمة بالفخر والتفوق: أي لقد عشت ساعة كوردة، لقد عشت ساعة كملكة، لقد نظرت إلى الكون من وراء عيون الورود، وسمعت همس الأثير بآذان الورود، ولمست ثنايا النور بأوراق الورود، فهل بينكن من تستطيع أن تدعي شرفي؟

ثم لوت عنقها، وبصوت يكاد أن يكون لهاثًا قالت: أنا أموت الآن، أموت وفي نفسي ما لم تكمنه نفس بنفسجة من قبلي، أموت وأنا عالمة بما وراء المحيط المحدود، الذي ولدت فيه، وهذا هو القصد من الحياة، هذا هو الجوهر الكائن وراء عرضيات الأيام والليالي.

وأطبقت الوردة أوراقها، وارتعشت قليلًا، ثم ماتت وعلى وجهها ابتسامة علوية — ابتسامة من حققت الحياة أمانيه — ابتسامة النصر والتغلب — ابتسامة الله.

(٤) حياة الحب

الربيع

هلمي يا محبوبتي نمش بين الطلول، فقد ذابت الثلوج، وهبت الحياة من مراقدها، وتمايلت في الأودية والمنحدرات. سيري معي لنتتبع آثار أقدام الربيع في الحقل البعيد، تعالي لنصعد إلى أعالي الربى ونتأمل في تموجات اخضرار السهول حولها.

ها قد نشر فجر الربيع ثوبًا طواه ليل الشتاء، فاكتست به أشجار الخوخ والتفاح، فظهرت كالعرائس في ليلة القدر، واستيقظت الكروم، وتعانقت قضبانها كمعاشر العشاق، وجرت الجداول راقصة بين الصخور مرددة أغنية الفرح، وانبثقت الأزهار من قلب الطبيعة انبثاق الزبد من البحر.

تعالي لنشرب بقايا دموع المطر من كئوس النرجس، ونملأ نفسينا بأغاني العصافير المسرورة، ونغتنم استنشاق عطر النسيمات.

لنجلس بقرب تلك الصخرة حيث يختبئ البنفسج ونتبادل قبلات المحبة.

الصيف

هيا بنا إلى الحقل يا حبيبتي، فقد جاءت أيام الحصاد، وبلغ الزرع مبلغه، وأنضجته حرارة محبة الشمس للطبيعة. تعالي قبل أن تسبقنا الطيور، فتستغل أتعابنا، وجماعة النمل فتأخذ أرضنا. هلمي نجني ثمار الأرض، مثلما جنت النفس حبوب السعادة من بذور الوفاء، التي زرعتها المحبة في أعماق قلبينا، ونملأ المخازن من نتاج العناصر، كما ملأت الحياة أهواء عواطفنا.

هلمي يا رفيقتي، نفترش الأعشاب، ونلتحف السماء، ونوسد رأسينا بضغث من القش الناعم، فنرتاح من عمل النهار، ونسمع مسامرة غدير الوادي.

الخريف

لنذهب إلى الكرمة يا محبوبتي، ونعصر العنب، ونوعيه في الأجران، مثلما توعي النفس حكمة الأجيال، ونجمع الأثمار اليابسة، ونستقطر الأزهار، ونستعيض عن العين بالأثر.

لنرجع نحو المساكن، فقد اصفرت أوراق الأشجار، ونثرها الهواء، كأنه يرد أن يكفن بها أزهار أقضت لوعة عندما ودعها الصيف. تعالي فقد رحلت الطيور نحو الساحل، وحملت معها أنس الرياض، وخلفت الوحشة للياسمين والسيسبان، فبكى باقي الدموع على أديم التراب.

لنرجع، فالجداول قد وقفت عن مسيرها، والعيون نشفت دموع قرحها، والطلول خلعت باهي أثوابها. تعالي يا محبوبتي، فالطبيعة قد راودها النعاس، فأمست تودع اليقظة بأغنية نهاوندية مؤثرة.

الشتاء

اقتربي يا شريكة حياتي، اقتربي مني، ولا تدعي أنفاس الثلوج تفصل جسمينا. اجلسي بجانبي أمام هذا الموقد، فالنار فاكهة الشتاء الشهية. حدثيني بمآتي الأجيال، فآذاني قد تعبت من تأوه الأرياح وندب العناصر، أوصدي الأبواب والنوافذ، فمرأى وجه الجو الغضوب يحزن نفسي والنظر إلى المدينة الجالسة كالثكلى تحت أطباق الثلوج يدمي قلبي … اسق السراج زيتًا، يا رفيقة عمري، فقد أوشك أن ينطفئ، وضعيه بالقرب منك؛ لأرى ما كتبته الليالي على وجهك … هاتي جرة الخمر لنشرب ونذكر أيام العصر.

اقتربي! اقتربي مني يا حبيبة نفسي، فقد خمدت النار، وكاد الرماد يخفيها … ضميني فقد انطفأ السراج، وتغلبت عليه الظلمة … ها قد أثقلت أعيننا خمرة السنين … ارمقيني بعين كحلها النعاس … عانقيني قبل أن يعانقنا الكرى … قبليني فالثلج قد تغلب على كل شيء إلا قبلتك … آه يا حبيبتي، ما أعمق بحر النوم! آه؛ ما أبعد الصباح … في هذا العالم!

(٥) في مدينة الأموات

تملصت بالأمس من غوغاء المدينة، وخرجت أمشي في الحقول الساكنة، حتى بلغت أكمة عالية، ألبستها الطبيعة أجمل حلاها. فوقفت، وقد بانت المدينة بكل ما فيها، من البنايات الشاهقة، والقصور الفخمة، تحت غيمة كثيفة من دخان المعامل.

جلست أتأمل عن بُعد في أعمال الإنسان، فوجدت أكثرها عناء، فحاولت في قلبي ألا أفتكر بما صنعه ابن آدم، وحولت عيني نحو الحقل كرسي مجد الله، فرأيت في وسطه مقبرة، ظهرت فيها الأجداث الرخامية المحاطة بأشجار السرو.

هناك بين مدينة الأحياء ومدينة الأموات جلست أفكر، أفكر في كيفية العراك المستمر والحركة الدائمة في هذه، وفي السكينة السائدة والهُدُوِّ المستقر في تلك. من الجهة الواحدة آمال وقنوط، ومحبة وبغضة، وغنى وفقر، واعتقاد وجحود، ومن الأخرى تراب في تراب، تقلب الطبيعة بطنه ظاهرًا، وتبدع منه نباتًا، ثم حيوانًا، وكل ذلك يتم في سكينة الليل.

بينما أنا مستسلم لعوامل هذه التأملات، استلفتَ ناظري جمع غفير يسير الهويناء، تتقدمه الموسيقى، وتملأ الجو ألحانًا محزنة، موكب جمع بين الفخامة والعظمة، وآلف بين أشكال الناس. جنازة غني قوي، رفات ميت تتبعها الأحياء، وهم يبكون ويولولون، ويبثون بالهواء الصراخ والعويل.

بلغوا الجبانة، فاجتمع الكهان يصلون ويبخرون، وانفرد الموسيقيون ينفخون الأبواق، وبعد قليل انبرى الخطباء فأبَّنوا الراحل بمنتقيات الكلام ثم الشعراء، فرثوه بمنتخبات المعاني، وكل ذلك كان يتم بتطويل ممل. وبعد قليل انقشع الجمع عن جدث تسابق في صنعه الحفارون والمهندسون، وحوله أكاليل الأزهار المنمقة بأيدي المتفننين.

رجع الموكب نحو المدينة، وأنا أنظر من بعيد وأفتكر، ومالت الشمس نحو الغروب واستطالت خيالات الصخور والأشجار، وأخذت الطبيعة تخلع أثواب النور.

في تلك الدقيقة نظرت، فرأيت رجلين يقلان تابوتًا خشبيًّا، ووراءهما امرأة ترتدي أطمارًا بالية، وهي حاملة على منكبيها طفلًا رضيعًا، وبجانبها كلب ينظر إليها تارة وإلى التابوت أخرى. جنازة فقير حقير وراءهما زوجة تذرف دموع الأسى، وطفل يبكي لبكاء أمه، وكلب أمين يسير، وفي مسيره حزن وكآبة.

وصلوا هؤلاء إلى المقبرة، وأودعوا التابوت حفرة في زاوية بعيدة عن الأجداث الرخامية، ثم رجعوا بسكينة مؤثرة، والكلب يتلفت نحو محط رحال رفيقه، حتى اختفوا عن بصري وراء الأشجار.

فالتفتُ إذ ذاك نحو مدينة الأحياء وقلت في نفسي: تلك للأغنياء الأقوياء، ثم نحو مدينة الأموات، وقلت: هذه للأغنياء الأقوياء، فأين موطن الفقير الضعيف يا رب؟

قلت هذا، ونظرت نحو الغيوم المتلبدة، المتلونة أطرافها بذهب من أشعة الشمس الجميلة، وسمعت صوتًا من داخلي يقول … هناك.

(٦) بنات البحر

في أعماق البحر الذي يحيط بالجزائر القريبة من مطلع الشمس، هنالك في الأعماق، حيث الدر الكثير، جثة فتى هامدة، بقربها بنات البحر ذوات الشعور الذهبية، قد جلسن بين نبات المرجان، ينظرن إليها بعيونهن الزرقاء الجميلة، ويتحدثن بأصوات موسيقية، حديثًا سمعته اللجة، فحملته الأمواج إلى الشواطئ، فجاء به النسيم إلى نفسي.

قالت واحدة: «هذا بشري هبط بالأمس إذ كان البحر حانقًا.»

فقالت الثانية: «لم يكن البحر حانقًا، ولكن الإنسان — وهو الذي يدعي بأنه من سلالة الآلهة — كان في حرب حامية، أُهرقت فيها الدماء، حتى صار لون الماء قرمزيًّا، وهذا البشري، هو قتيل الحرب.»

فقالت الثالثة: «لا أدري ما هي الحرب، ولكني أعلم أن الإنسان، بعد أن تغلَّب على اليابسة، طمع بالسيادة على البحر، فابتدع الآلات الغريبة، ومخر العباب، فدرى نبتون إله البحار، وغضب من هذا التعدي، فلم يرَ الإنسان بدًّا إذ ذاك من إرضاء مليكنا بالذبائح والهدايا. فالأشلاء التي رأيناها بالأمس هابطة، هي آخر تقدمة من الإنسان إلى نبتون العظيم.»

قالت الرابعة: «ما أعظم نبتون! ولكن، ما أقسى قلبه! لو كنت أنا سلطانة البحار لما رضيت بالذبائح الدموية. تعالين لنرى جثة هذا الشاب، فربما أفادتنا شيئًا عن طائفة البشر.»

اقتربت بنات البحر من جثمان الشاب، وبحثن في جيوب أثوابه، فعثرن على رسالة في الثوب الملاصق قلبه، فأخذت الرسالة واحدة منهن وقرأت:

يا حبيبي، ها قد انتصف الليل، وأنا ساهرة، وليس لي مسلٍّ غير دموعي، ولا معزٍّ سوى أملي برجوعك إلي، من بين مخالب الحرب، ولا أقدر بأن أفتكر إلا بما قلته لي عند الوداع، بأن عند كل إنسان أمانة من الدمع لا بد من ردها يومًا … لا أدري يا حبيبي ماذا أكتب، بل أترك نفسي تسيل على الورق، نفس يعذبها الشقاء، ويعزيها الحب، الذي يجعل الألم لذة، والأحزان مسرة، لما وحد الحب قلبينا، وصرنا نتوقع ضم جسمين تجول فيهما روح واحدة، نادتك الحرب، فاتبعتها مدفوعًا بعوامل الواجب والوطنية. ما هذا الواجب الذي يفرق المحبين، ويرمل النساء، وييتم الأطفال؟ ما هذه الوطنية التي من أجل أسباب صغيرة تدعو الحرب لتخريب البلاد؟ ما هذا الواجب المحتوم على القروي المسكين، والذي لا يحفل به القوي، وابن الشرف الموروث؟ إذا كان الواجب ينفي السلم من بين الأمم، والوطنية تزعج سكينة حياة الإنسان، فسلام على الواجب والوطنية … لا، لا يا حبيبي، لا تحفل بكلامي بل كن شجاعًا، ومحبًّا لوطنك، ولا تسمع كلام ابنة أعماها الحب، وأضاع بصيرتها الفراق، إذا كان الحب لا يرجعك إليَّ في هذه الحياة، فالحب يضمني إليك في الحياة الآتية.

وضعت بنات البحر تلك الرسالة تحت أثواب الشاب، وسبحن بسكينة محزنة. ولما بعدن قالت واحدة منهن: «إن قلب الإنسان أقسى من قلب نبتون.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤