رءوس في السماء

المذيع : في قصر الخليفة «أبو جعفر المنصور» يجلس بين خاصته الأقربين، إنهم يَزِنون كل كلمةٍ ويتحسَّسون كل حرفٍ. إنه أبو جعفر المنصور مؤسس الدولة العباسية، شديدٌ كريمٌ في شدته، قاسٍ رحيمٌ في قسوته، عادلٌ جبَّارٌ في عدله. احذروا، احذروا أن تُغضبوه أيها القوم. إنه المنصور. إن الباب ليُفتح. إنه عبد الخليفة، ماذا يقول؟
الخادم : رجلٌ يقول إنه من الشام يلتمس الإذنَ بالدخول في خطيرٍ من الأمر.
الخليفة : أوَتَعرفه؟
الخادم : لا يا مولاي، لم أرَهُ قبل اليوم، ولكن وجهه يُنبئ عن جليلٍ. آذنُ له؟
الخليفة : إئذَنْ.
أحد الجالسين : ألا يأذنُ مولاي لأحدنا يراه فيسأله عما يريد؟
الخليفة : بل أراه أنا فما في ذلك ضير.
الخادم (معلنًا) : إبراهيم بن علي، من الشام.
إبراهيم : جئتُ يا مولاي في أمرٍ أراه جدَّ خطير.
الخليفة : نعم، إني أرى دلائل خطورته في عينيك. أَدلِ به.
إبراهيم : أُدلي به على انفرادٍ يا مولاي.
الخليفة : ولِم؟
إبراهيم : هو السرُّ وأخشى أن يَذيع.
الخليفة : إن من ترى هم حفَظة سِرِّي.
إبراهيم : ولكنه سرِّي يا مولاي، وأخشى عليه أن يَذيع.
الخليفة : حسنًا إذن.
أصوات : أتأذنُ لنا يا مولاي؟
الخليفة : لا بأس بكم، انتظروني في الحجرة المجاورة (بعد فترة يُسمَع فيها أصوات خروج القوم وإقفال الباب).
الخليفة : هاتِ ما عندَك.
إبراهيم : أنتَ يا مولاي تؤسِّس الدولة العباسية، فتُوطِّد أركانها، وقد سمعتُ أن مولاي في حاجة إلى المال.
الخليفة : نعم، لقد أنفقتُ أموالًا كثيرةً.
إبراهيم : في الشام رجلٌ يُدعى محمد بن القاسم، لديه من المال ما تريد.
الخليفة : ويحكَ يا رجل! أتريدني أن أَسلبَ الناسَ أموالهم؟!
إبراهيم : حاشاك يا مولاي، والعدلُ أساسك، ولكن هذه الأموال ليست ملكًا لابن القاسم هذا.
الخليفة : فلمن هي؟
إبراهيم : هي أموالُ بني أمية، استأمنوا هذا الرجل عليها، فهي في بيته، إن أَمر بها مولاي حُملَت إليه.
الخليفة : وأنتَ ما نَفعُك؟
إبراهيم : إن هذا الرجل يا مولاي قد أخذ يجمع الناس منذ أيامٍ، وقد ذهبتُ فيمن ذهب. إنه يدعوهم إلى الثورة يا مولاي وإن عنده من الأموال ما يُقيم به ثوراتٍ لا ثورة. وخشيتُ أن يُشعلها فتنةً لا تُخمد، فقَصدتُ إليك تُخمدُها وهي بعدُ ما تزال هيِّنةً.
الخليفة (يصفق) : يا مرجان، ادعُ حمدانَ رئيس الشرطة.
مرجان : أَمْر مولاي.
الخليفة : وأنتَ يا إبراهيم، انزل ضيفًا على قصري.
مرجان : حمدان رئيس الشرطة يا مولاي.
الخليفة : أُريد نفرًا من جندك الأقوياء ليذهبوا إلى الشام، هناك رجل …

(موسيقى.)

أموالٌ ليست ملكًا لابن القاسم هذا.
المذيع : يا لكَ من مسكينٍ يا ابن القاسمِ! تُرى أتدري إلى أي دوامةٍ ألقى بك القدَر؟ إنه أبو جعفر المنصور. نعم معذورٌ أنتَ حين تجلس إلى زوجكَ هذه الجلسة الهادئة تُرسل نفسكَ على سَجيَّتها وشريكةُ حياتكَ إلى جانبكَ تغمركَ بفيضٍ كريم من حُنوِّها، فإذا أنتَ في هدوءٍ سابغٍ وسعادةٍ وهناء. معذورٌ أنت، فما تدري بعدُ أي لقاءٍ ينتظركَ وأيُّ رجل؟
الزوجة : لقد أسرفتَ على نفسك يا أبا القاسم، فإني لأراك مُربدَّ الوجه كعهدي بك إذا نال النصَب من نفسك.
ابن القاسم : إنه خازني.
الزوجة : صديقكَ الذي جعَلتَه خازنكَ المشرفَ على تجارتك؟
ابن القاسم : ومن غيره؟ لقد تهيَّأَت لي فرصةٌ ما أدري ألعنها أم أحمدها. لقد كشفتُ فيه عن سارقٍ حقير، ولو كان قد سألَني ما سَرقَ ما منعتُه.
الزوجة : إنها النفس الوضيعة يا ابن القاسم، وما لك فيها من يد. كم دينارًا سرق منك؟
ابن القاسم : ليس المالُ ما آلَمَني، ولكنها صداقةٌ تُخان وأمانةٌ تُهتك ونفس تنحطُّ.
الزوجة : وماذا فعلتَ به، أسلمتَه للشرطة؟
ابن القاسم : أهكذا تعهدينَني أُسلِّم صديقي للشرطة؟
الزوجة : بل تُسلِّم خائن الأمانة.
ابن القاسم : أوَلَستُ أنا من ائتمنه؟
الزوجة : أوَتَسكُت إذن؟
ابن القاسم : وماذا أفعل؟
الزوجة : حقًّا ما تفعل! أنت ابن القاسم لا تفعل شيئًا، ولكن لو كان غيركَ في مكانك.
ابن القاسم : ولكن غيري لم يكن في مكاني.
الزوجة : نعم أنتَ على حقٍّ، لقد كنتَ في مكان نفسك. لعلَّك أيضًا لم تسأله لِم سَرق. ولعلَّك أيضًا أعطيتَه شيئًا على سبيل المكافأة.
ابن القاسم : بل سألتُه: هل سرقتَه؟ فقال: مبلغًا احتجتُ إليه. قلتُ: فخذ هذا عليه واترك خدمتي.
الزوجة : الله الله! ما أضيعكَ لحق نفسك!
ابن القاسم : بل ما أحفَظَني لحق الصديق!
الزوجة : ما أبصَركَ في معاملة الخائن!
ابن القاسم : بل ما أقساني في معاملته! ما كان لي أن أفضحَ فِعلَته.
الزوجة : وحقِّ أولاك لا تزد كلمةً. لقد كدتُ أجنُّ. قم على بركة فأَصِبْ بعض النوم بعد أن أصابك هذا النصَب من الضمير. قُم فنَم، أو انتظر حتى آتيكَ بشيءٍ من الطعام أعدَدتُه لك.
ابن القاسم : ما أخلصكِ! عليَّ به.

(قرعٌ شديد على الباب.)

صوت : باسم أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور افتحوا الباب.

(جونج.)

ابن القاسم : السلام على أمير المؤمنين.
الخليفة : لا سلام عليك يا ابن القاسم.
ابن القاسم : سبحانه وتعالى! لقد قال: وإذا حُيِّيتُم بتحيةٍ فحيُّوا بأحسَنَ منها.
الخليفة : أو رُدُّوها.
ابن القاسم : أراك فهمتَ من الردِّ عدم السلام؟
أمير المؤمنين : على الخائنِ نعم.
ابن القاسم : رضي الله عن عمر. لقد قال: «البيِّنة على من ادَّعى.»
الخليفة : واليمين على من أنكر.
ابن القاسم : فأين البيِّنة؟
الخليفة : فهل تُقسِم؟
ابن القاسم : وهل أنكرتُ؟
الخليفة : فأنتَ مُقر؟
ابن القاسم : فهل ادَّعَيتَ؟
الخليفة : أتُكذِّبني؟
ابن القاسم : فيمَ يا مولاي؟ أنا لا أعرفُ جريمتي.
الخليفة : لا تعرفها! ففيمَ كلامُك؟!
ابن القاسم : أنا لا أتكلَّم، بل أُجيبُ.
الخليفة : ألا تعرفُ فيمَ جئتَ من بلادك إلى هنا؟
ابن القاسم : بل أعرفُ أن أمير المؤمنين أعزَّه الله أمر بي فجئتُ.
الخليفة : ألا تعرف أنك جئتَ لأسألكَ عن أموال بني أمية التي تُخفيها عندك؟
ابن القاسم : أوَتُهمةٌ هذه يا مولاي؟
الخليفة : إن شئتَ أن تُسمِّيها كذلك فسَمِّها.
ابن القاسم : فإن كان عندي مالٌ؟!
الخليفة : فأنا أُريده.
ابن القاسم : أدامك الله. أوارثٌ أنتَ لبني أمية؟!
الخليفة : بل القيِّم على أموال المسلمين.
ابن القاسم : أدام الله الأمير، فإن بني أمية تجَّار عادت عليهم التجارةُ بالربح الأوفَر.
الخليفة : أعلم ذلك، ولكن ما شأنه وما نحن فيه؟! كانوا أغنياء نعم.
ابن القاسم : رعى الله الخليفة، فكيف يعرف أن المال الذي عندي على خالص ملك المسلمين وليس ملكًا خاصًّا لبني أمية؟!
الخليفة : الحرب تُهدد المسلمين ونحن في حاجةٍ إلى المال.
ابن القاسم : أخون الأمانة إذن؟!
الخليفة : هذا شأنُك.
ابن القاسم : بل شأنُك، فماذا أنت قاضٍ إن حُمِلتُ أمامك مُتَّهَمًا بخيانة الأمانة؟
الخليفة : خيانةُ الأمانة أكرم من خيانةِ الوطن.
ابن القاسم : ليس للكرامة شأنٌ بالخيانة على أي نوعٍ لها.
الخليفة : احمل هذا المال إليَّ، لقد سئمتُ اللَّجاجة.
ابن القاسم : أهو أمر خليفةٍ أم أمر قاضٍ؟
الخليفة : بل أمر مُسلمٍ يُدافعُ عن دينه.
ابن القاسم : أتُدافعُ عن دينكَ بالخروج عليه؟!
الخليفة : ماذا تقول أيها الرجل؟!
ابن القاسم : عَفوًا مولاي، إنه الحق.
الخليفة : وما أدراكَ أنه الحق؟!
ابن القاسم : إن كنتُ مخطئًا، فسل قاضيَ القُضاة وحُكمُه فيصل.
الخليفة : ماذا تقول أيها القاضي؟
القاضي : أرى مولاي أن الرجل محقٌّ فيما يذهب إليه. لا يخلُص هذا المال إليك عن طريقٍ عادل أبدًا.
الخليفة : إنه مال الخونة!
القاضي : لا يُصادِر الشرع مال الخونة!
الخليفة : لقد خرجوا على الشرع.
القاضي : بل خرجوا على بني العباس، وحتى لو كانوا خرجوا على الدين، أرأيتَ النبي يأخذ من الكفَرة غير الجزية؟ لقد كان في نطقهم بالشهادة الموحدة خلاصٌ لهم من دفع الجزية.
الخليفة : أأتركُ الخونة يعبثون بالأموال في بلاد الله؟!
القاضي : إن الله يأمُر بالعدل والإحسان، وليست مصادرة أموالهم من هذا في شيءٍ.
الخليفة : ولكنني أريدُ هذا المال.
القاضي : فمُر به أَمْر مَن لا ينظر إلى العدل.
الخليفة : وماذا يقول الشرع؟
القاضي : الشرع. يقول ما جاء عن طريقٍ مُحرَّم فهو مُحرَّم، وارتكابُه إثم.
الخليفة : فالمال له؟
القاضي : له ومَن بعثَ محمَّدًا بالحق.
ابن القاسم : ليس لي يا مولاي؛ فلستُ في حاجةٍ إليه، ولكنه لبني أمية.
الخليفة : لكَ أو لهم، إن الأمر لم يعُد يُهمُّني، ولكن أتظُنُّني تاركَكَ تعبثُ في الأرض وتُشعِلها ثورات؟!
ابن القاسم : فماذا أنت فاعلٌ بي يا مولاي؟
الخليفة : سأسجنُكَ.
ابن القاسم : وتُهمتي.
الخليفة : إشعالُ الثورات في الشام، وتأليبُ الناس على حكم العباسيين، والتحيُّز لبني أمية.
ابن القاسم : فهل عند مولاي دليلٌ لأي تهمةٍ من هاته التهم؟
الخليفة : لقد أدلى لي بذلك من لا تُكذب شهادته.
ابن القاسم : أآخذ بشهادة واحدةٍ من شخصٍ لا أعرف حتى اسمه؟!
الخليفة : ذلك شأني.
ابن القاسم : ولكنك خليفة الله في الأرض!
الخليفة : لقد أسمحتُ لك في المال، فأمَّا أن أتركك فدونَ هذا الموت.
ابن القاسم : الأمر لك في ذلك، ولكنَّ لي عيالًا وزوجةً، ألا يسمح مولاي بمن يُخبرهم؟
الخليفة : ولا هذا، فإن سجنك لن يطول وسوف أتحرَّى أمرك، حتى أتبين جلاءه، فإن كنتَ بريئًا أطلقتُك، وإن أدانَتكَ الحُجة قتلتُك.
ابن القاسم : هيَّأ الله لك السبيل العادل، وكشَف لكَ من أمري ما استتر.
الخليفة : يُشرِّفكَ أن ينكشف ما استتر؟
ابن القاسم : كُلَّ الشرف.
الخليفة : حسنًا إذن. عليَّ بحمدان رئيس الشرطة.
خادم : أمر مولاي.
الخليفة : سوف أُبقيكَ عنده حتى يَبينَ أمرك.
الخليفة : يا حمدان، إن هذا الرجل أسيرُك، إن هرب فقدتَ حياتك.
حمدان : مَنْ (في لهجة من عرف شخصًا) أنت؟!
الخليفة : أتعرفه؟
حمدان (متلجلجًا) : لا، لا يا مولاي لا أعرفه.
الخليفة : حسنًا إذن، سِر برجُلِك وحذارِ يا حمدان، حذارِ أن يُفلِت.
حمدان : يُفلِت! وعمري يا مولاي (يقفل الباب).

(موسيقى.)

الخليفة : أين سجينُك يا حمدان؟
حمدان : أطلقتُه يا مولاي.
الخليفة : أطلقتَه، ولم يهرُب؟
حمدان : أطلقتُه ولم يهرُب.
حمدان : أطلقتُه يا مولاي.
الخليفة : حياتك دونه.
حمدان : وحياتي مِلكُك.
الخليفة : ويلك! أبعد صادقِ خدمتكَ لي تخون أمري؟!
حمدان : بل فعلتُ ما أوجب عليَّ كريم خُلقِك. فعلتُ ما لو لم أفعله لقتلتَني.
الخليفة : ولكنَّني قاتلُكَ بما فعلتَ.
حمدان : أَحبِب بها قتلة!
الخليفة : ويحكَ، إن لكَ لشأنًا!
حمدان : وأي شأن! خرجتُ من عند مولاي ومعي أسيري.

(موسيقى.)

حمدان : مرحبًا ابن القاسم، نزلتَ سهلًا.
ابن القاسم : مرحى بك حمدان. أي سهلٍ ذلك الذي نزلتُ؟! هل بعد هذا الوَعْر وَعْر؟ شكٌّ ولا خيانة وسجنٌ ولا تهمة! وخليفةٌ قاسٍ يُشيد ملكه فهو أخشى ما يكون عليه، وصديقٌ غادر يتجاهل صديقه وهو أحسنُ الناس معرفةً به.
حمدان : أنت محقٌّ في كل ما تذهب إليه، ولكن أين الصديق الذي تجاهل صديقه؟
ابن القاسم : حقًّا، إن أحدًا من الناس لا يمكن أن يعرف نفسه. أتجاهُلٌ هذا يا حمدان أم جهل؟!
حمدان : جهل.
ابن القاسم : ألا تعرف الصديقَ الذي تجاهَل صديقه؟
حمدان : لعلَّكَ تعنيني.
ابن القاسم : وهل هناك غيرك؟ ألم تتجاهلني الآن أمام الخليفة؟!
حمدان : ألم تَدرِ ما قصدتُ إليه بذلك؟
ابن القاسم : أقسمتُ لم أَدرِه.
حمدان : إنك أذكى من هذا.
ابن القاسم : يجول بذهني أمر.
حمدان : هو ما يجول بذهنك، قُله.
ابن القاسم : لك الخير، أتطلقني؟
حمدان : وما في ذلك؟ نعم، فأنت طليق.
ابن القاسم : إي والله إنه السهل الذي نزلتُ به. ورأسُك؟
حمدان : فداك.
ابن القاسم : حمدان.
حمدان : نعم يا ابن القاسم، فداك رأسي.
ابن القاسم : ولكن الأمر لا يستقيم.
حمدان : بل يستقيم، ولا تُناقِش. اذهب. اذهب فأنت طليق.
ابن القاسم : لستُ فاعلًا يا حمدان، لستُ فاعلًا.
حمدان : إن لم تفعل قتلتُ نفسي بين يدَيك. أأُحمَّل جميلًا ولا أردُّه، اذهب يا ابن القاسم، اذهب أقسمتُ عليك، أقسمت.
ابن القاسم : أقسمتُ أنا لا تقسم فأنا ذاهب، ذاهب يا حمدان ولن أنسى.
حمدان : في حفظ الله.
ابن القاسم : وبقيتَ في حفظه.

(تنتهي الموسيقى.)

حمدان : وهكذا يا مولاي أطلقتُ الأَسير.
الخليفة : أجُنِنتَ يا حمدان، أتقصُّ عليَّ هذه القصة ولا أدري سبب إطلاقك له؟ إلا أنه رفض أن تُطلِقه.
حمدان : ليس هذا يا مولاي.
الخليفة : ألأنَّكَ تعرفه؟
حمدان : نعم مولاي هو ذاك.
الخليفة : الله الله في الخلافة، أصبحَت معرفتُكَ بشخصٍ كافيةً للخروج على أمري.
حمدان : معاذَ الله يا مولاي، مُر بأولادي أقتُلهم بين يدَيك.
الخليفة : تكلَّم إذن، ما الذي حمَلكَ على ما فعلتَ؟
حمدان : قصةٌ طويلةٌ يا مولاي.
الخليفة : قُصَّها، قُل.
حمدان : تذكُر يا مولاي يومَ أرسلتَني إلى الشام في حملةٍ تأديبيةٍ؟ كان الجنود معي قلةً، وكنتُ قد أرسلتُ أطلبُ المدد، وقبل أن يصلَ هجَم الأعداء هجمةً شديدةً مزَّقَت القلة الضعيفة التي معي، وأزمع الأعداء قتلي، فجريتُ في الأزقَّة وهم خلفي، ولا أعرفُ أين أختفي حتى صادفتُ بابًا، هو باب ابن القاسم هذا، بابه يا مولاي دخلتُ إليه (جونج).
ابن القاسم : ويحك! على رِسلكَ أيها الغريب، إن للبيت حُرمتَه.
حمدان : قائد جيشٍ الخليفة أبي جعفر المنصور، الجيش الذي هُزم، والقائد مُطارَد، وحالتي على ما ترى، غريب ليس له قوة، ضعيفٌ ولا عون، قائد ولا جند، لاجئٌ ببابك مستجير، فهل من مجير؟
ابن القاسم : عرفتَ المنزلَ يا أخا العرب. ادخل هنا.
حمدان : يجدونني.
ابن القاسم : ادخل. سوف أمنعهم.
حمدان : ليس لكَ بهم طاقة، إنهم العدد الكثير.
ابن القاسم : حسنًا، حسنًا، ادخل في هذه الحجرة مع زوجي وسوف ترى.
الزوجة : تعالَ أَسرِع، أسرع حتى أقفل الباب بالمزلاج.

(صوت باب يُقفَل يتبعه لغطٌ كثير.)

أصوات : نعم، رأيتُه يدخل هذا البيت.
صوت : أين الرجل يا ابن القاسم؟
صوت : الذي دخل هنا.
ابن القاسم : لم أَرَه.
صوت : لقد رأيناه.
ابن القاسم : كذَبتْ رؤيتكُم.
صوت : نُفتِّش البيت حجرةً حجرة.
ابن القاسم : أمن حقِّكم هذا؟
صوت : بل من واجبنا. إنه قائد الحملة التأديبية.
صوت : أَسلِمه لنا يا ابن القاسم لنؤدِّبه نحن.
ابن القاسم : كرمًا مني أترك البيت. فتِّشوا، فإن وجدتموه فهو لكم.
صوت : ابحث في هذه الغرفة.
صوت آخر : وأنت فنقِّب هذه الحجرة.
صوت : وأنت فاذهب إلى أعلى المنزل.
أصوات : لم نجد أحدًا. إنه ليس هنا.
صوت : بقِيَت هذه الحجرة، افتحها.

(صوت محاولة لفتح باب.)

ابن القاسم : أقصروا، إن زوجتي هنا.
صوت : لا بد أن ندخل الحجرة ولتُحجب زوجتك.
الزوجة (يظهر صوتها خارجًا من خلف الباب) : اخسئوا أيها الرجال، كيف يذهب بكم الظن أن أُدخل غريبًا إلى حجرتي وأبقى معه وزوجي بالمنزل، وأنا من تعرفون جميعًا نسبها، ألا تخجلون؟ تَسبونَني في منزلي؟
صوت : لقد ألقمَتْنا ما لا طاقة لنا به. إنها على صواب.
آخر : لا شك في ذلك. لقد أخطأنا في شأنها.
آخر : فماذا تنتظرون إذن؟ هيا اتركوا منزل الرجل، إن ابن القاسم لأعزُّ علينا من أن نُغضِبه.
آخر : لا بد أن الرجل قد ذهب إلى منزلٍ آخر.
آخر : فيمَ بقاؤنا إذن؟ هلُم بنا.
أصوات (خارجة) : هلُم، هلُم.
حمدان : أنقذتِني أنقذكِ الله.
الزوجة : لا تقُل. إن هذا بيت الغريب.
حمدان : نعم إنه البيت، ملجأ الملتجئ وحمى المحتمي، أبقاكِ الله لزوجكِ، وأبقى لكِ زوجك، ومدَّ عليكما في هذا البيت ظلال الخير المقيم، وشعاع البركة الدائمة، أبقاكم الله.
حمدان : وأُنقذتُ — يا مولاي — وكان هذا الرجل الذي عهدتَ إليَّ به هو من أنقذَني، ولم أرَه قبلها. أدخلَني إلى حجرة زوجته وهو لا يعرفني، وأنقذَني من موتٍ محققٍ وهو لا يعلم منِّي شيئًا غير ما قلتُه، أفلا أُطلِقه؟ ألا أردُّ المعروف بشيءٍ منه؟
الخليفة : وتُخالف أمري؟
حمدان : بل أُطيعه.
الخليفة : أتُطلِق الرجل وتطيعني؟!
حمدان : أُطيع روح أوامركَ وأُخالف صريحها.
الخليفة : أوَتأمُر روح بشيءٍ يخالف صريحها؟!
حمدان : يا مولاي، إنكَ لم تعرف ما فعلَه لي هذا الرجل، فإذا أنا أطلقتُه فمُعتمدٌ على خلقٍ كريمٍ فيك يأبى أن أُبقي المعروف على كتفي لا أُزيح بعضًا منه. كنتُ واثقًا أنكَ حين تعلَم ما فعلَه هذا الرجلُ لأجلي ستعفو عنه.
الخليفة : ولكنه أمرُ رئيس، وأنت رجلُ حرب.
حمدان : ولكن الرئيس أبو جعفر، وأنا إنسان قبل أن أكون رجل حربٍ.
الخليفة : ما هكذا تقوم الدول. سأسجنكَ حتى أرى في أمرك.
حمدان : القتلُ أهونُ يا مولاي. أيقومُ بحراستي من كنتُ رئيسًا له؟!
الخليفة : أقتلُكَ إذن؟
حمدان : ذلك شأنُك، منذ متى كنتُ مِلكًا لنفسي؟! لقد عشتُ سيفًا لك، إن شئتَ رميتَ بي أعداءك، أو شئتَ أعدمتَني، أو شئتَ حطَّمتَني.
صوت : بل تبقى في يده يُحطِّم بك أعداءه، ويذودُ بك عن الدين، ولا زلتَ السيف المُشرَع في سبيل الله.
حمدان : من؟ ابن القاسم؟ ماذا أتى بك؟
ابن القاسم : رأسك، أَفصلها عن جسدكَ لأنعم أنا بالحرية؟!
الخليفة : إنكَ والله لرجل، فمن أدراك أني لن أقتلك؟!
ابن القاسم : وما أدراكَ يا مولاي أني أطمعُ في عفوك؟
الخليفة : لا والله لا أقتلُكَ أبدًا.
ابن القاسم : فاعلم إذن يا مولاي أنه لا مال عندي لبني أمية، وإنما أنا عباسيٌّ معروفٌ بنسبتي لك.
الخليفة : ويحكَ! لِمَ أخفيتَ هذا؟
ابن القاسم : أإن كنتُ أخبرتكَ به تُصدِّقني؟ أإن كنتُ قلت لك أنْ لا مال عندي لبني أمية كنت تُصدِّقني؟
الخليفة : كنتُ أبحث.
ابن القاسم : وإذا لم تجد؟ إنما كنتَ تعتقد أنني أخفيتُ المال في مكانٍ لا تصل إليه يمين. لا يا مولاي إنما جئتُ أدافع الحُجة بالحُجة والدليل بالدليل، وأنت العدل العادل.
الخليفة : إنكَ والله لأكثر عقلًا من أن تُقيم ثورة.
ابن القاسم : لي رجاءٌ.
الخليفة : قُلْه.
ابن القاسم : مَن الواشي؟
الخليفة : رجلٌ من الشام يُدعى إبراهيم بن علي.
ابن القاسم : لقد كان خازنًا لي وصديقًا، اختلس منِّي بعض المال فأخرجتُه وأعطيتُه بعضًا آخر.
الخليفة : اسمع أيها الرجل، لقد جعلتُك خازنًا لأموال الدولة، وجعلتُ هذا الواشي بيدكَ فافعل به ما تريد.
ابن القاسم : أمَّا خازن الأموال يا مولاي فشكرًا؛ فإني تاجرٌ لي كثير من العملاء أخشى أن أُغضِبهم بتركي لهم، وأمَّا إبراهيم فأمره إليك.
الخليفة : إن شئتَ يا ابن القاسم فإني أقتلُ هذا الواشي.
ابن القاسم : إلا هذا يا مولاي؛ فإن له أولادًا وزوجة. أَبقِه يُجرِ عليهم الرزقَ، أجرى الله بالخير يمينَك.
الخليفة : ما تشاء أيها الكريم. وإذا أردتَ أمرًا فبحسبك أن تعرف أنك صديقُ الخليفة.
ابن القاسم : وحسبي شرفًا، أنا عبد الخليفة ملكُ يمينه ناشر فضله ذاكر معروفه مهتدٍ بهديه ملتمس رضاه. سلامٌ على أمير المؤمنين.
المذيع : هكذا، أيها الرجل، وهكذا أيها القائد، وهكذا أيها الخليفة، بكم وبأشباهكم إن كان لكم أشباهٌ تقوم الدول، ويعلو البناء، ويشتد الأَزْر، وترتفع الهامات. إنه الإباء، إنه الترفُّع، إنها الرجولة، إنها الكرامة، إنها … إنها رءوسٌ في السماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤