الفتح الأول

الراوية : من الأمجاد، من الأشعة الأولى لنور الإسلام، من هذه الشواهق تعلو فلا يلحق بها نظر، وتسمو فلا يهفو إليها فكرٌ، وإنما هي تهدي فنهدى، وتبين فنسير، وتضيء فنَرشُد. من القمم الباسقات للآباء والأجداد، وقف عندهم التاريخ العربي خاشعًا في إجلال، وقف دونهم التاريخ الغربي صاغرًا في ذلةٍ من العرب الأولين، خلص إلينا تاريخهم نقيًّا نقاء إيمانهم بالله، رفيعًا رفعة اعتناقهم للمبدأ، حاول المؤرخون أن ينالوا من تاريخهم، ولكن الأدلة تكاثَرت عليهم، وانثالت إليهم الحجج إرسالًا، فلم يملكوا إلَّا الذهول والحَيْرة، ولم يملكوا إلَّا الاعتراف أنه الحق. وإنه الحق.

(موسيقى.)

صوت : متى تقرأ خطاب النبي الذي معك يا عبد الله بن جحش؟
عبد الله : وما يهمُّك من قراءته؟
الصوت : أعلم إلى أي مكانٍ نحن قاصدون.
عبد الله : لقد أمرني عليه الصلاة والسلام ألا أفتح الخطاب إلا بعد مسيرة يومَين من المدينة.
الصوت : فموعدنا غدًا.
عبد الله : موعدنا غدًا.

(موسيقى.)

الصوت : هلا قرأتَ لنا الكتاب يا عبد الله؟
عبد الله : نعم، لقد مر اليومان. نقرأ الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، إذا نظرتَ في كتابي هذا، فامضِ حتى تنزل نخلة فترصد بها قريشًا، وتعلم لنا من أخبارهم.»
الصوت : أيقصد عليه السلام ذلك المكان الواقع بين مكة والطائف؟
عبد الله : إياه يقصد، فهل أنتم سائرون معي؟
الصوت : على بركة الله.
عبد الله : إن النبي أمرني ألا أُكره أحدًا منكم على متابعة السير، فهل بينكم من يُريد الرجوع إلى المدينة؟
أصوات : امضِ بنا على بركة الله.
عبد الله : إن سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان قد خرجا وراء بعيرٍ لهما تخلَّف عن السرية. أننتظرهما حتى يعودا أم نمضي في سبيلنا؟
الصوت : ما نظن إلا أن النبي يتعجَّل أخبارنا، فلنمضِ نحن على بركة الله، فقد طالت بهما الغيبة.
عبد الله : على بركة الله.
أصوات : على بركة الله.

(موسيقى.)

الراوية : وأخذَت سرية عبد الله بن جحش طريقها إلى نخلةٍ، وحطَّت رحالها ترقُب الطريق، ولم يُطل بها الترقُّب، فقد مرت بهم قافلةٌ تحمل تجارة لقريش فقال قائلهم:
الصوت : أنترك الكفار يمرون بنا لا نمسُّهم بأذى، وهم من أحاطونا بالويل والعذاب، فتركنا ديارنا نحمل ديننا وإيماننا ولا نقي جسومنا بغير البرد اللافح والهجير اللاهب، فنحن في دار غربة وهم في ديارهم مقيمون يرعاهم الخفض من العيش، ويقيهم الظل من الهجير؟ والله لا أسكت أبدًا.
آخر : وماذا تريد أن تفعل؟
الصوت : أقتلهم، فإمَّا أقتلهم أو يقتلونني، أمَّا أن يمروا على مرمى السهم مني وأنا هاجع خامد، فلا والله، لا ومحمد.
الآخر : هوِّن عليك الأقسام يا أخي، فإن مُحَمَّدًا لم يأمر بقتالهم، ونحن في الشهر الحرام.
الأول : إن مُحَمَّدًا لم يكن يعرف أن تجارةً لهم ستمر بنا، ولا يعرف أحدٌ ماذا كان قائلًا لو عَرفَ بهذه التجارة.
الآخر : إنه لا يمكن أن نقاتل في الشهر الحرام.
الأول : أيهما أشد إيلامًا للعدل ولعرف العرب، أن نُخرج من ديارنا، وقد أشعلَت الفتنة ما بيننا، أم أن نُقاتل في الأشهر الحرام؟ إني محاربٌ.
الآخر : ويحك! لقد جاوزت حدَّك، ونسيتَ أن عبد الله بن جحش على رأس السرية، وعليه وحده يرجع الأمر بالقتال.
الأول : ولكني أراه صامتًا لا يأخذ من الحديث طرفًا.
عبد الله : لقد والله اعتمل في نفسي الرأيان معًا، فأنا بين مُقدمٍ يدفعني إلى الحرب، ما ذاق قومنا من أهوال جسامٍ، وبين مُحجمٍ يدعوني إلى الإحجام الشهر الحرام الذي نحن يه، ويدعوني إليه أن النبي لم يأمر بالقتال.
الأول : إنه لا بد لك أن تحزم أمرك، فوالله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلُن الحرم فيمتنعوا عليك.
الثاني : وإن قتلتموهم سفتكم الدماء في الشهر الحرام.
عبد الله : والله إن ما صنعوه بنا لأكثر حرمةً عند الله من الشهر الحرام، دونكم وإيَّاهم، البدارَ البدارَ.
أصوات : الله أكبر، الله أكبر.
الراوية : وانبعثَت السرية تُهاجم تجارة عمرو بن الحضرمي، ورمى أحدهم عمرًا بسهم فأصابه وقُتل، وأسرت السرية رجلَين من رجاله واقتسَموا الفيء، وأخرجوا خمسه للنبي، وأخذوا سبيلهم إلى المدينة. وهناك …

(موسيقى.)

عبد الله : لقد غضب النبي من قتالنا.
الأول : أمَا لإرضائه من سبيل؟
عبد الله : لقد أبى أن يأخذ الفيء، وأراد أن يردَّ الأسيرَين.
الأول : ولكن قريشًا أسرت مِنَّا سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان.
عبد الله : ولكن هذا لم يشفع لنا، حتى لقد عنف على الأصحاب والإخوان وما أدري ما أنا فاعل.
الأول : اصبر يا أخي، فو الله ما أردنا إلا وجه الله.
الآخر : لقد جلوتُ لكم الرأي فأبيتُم أن تأخذوا به، ولتَروُنَّ غدًا قريشًا تهُبُّ إليكم برجالها ونسائها فلا يدفعها إلا الله.
عبد الله : والله إن غضبَ محمدٍ لأشدُّ من هبَّة قريش ومن معها.
الآخر : لقد أثرتَها شعواءَ يا عبد الله.
صوت (مناديًا من بعيد) : يا عبد الله بن جحش، يا عبد الله بن جحش!
عبد الله : لبيك.
الصوت : بُشراك، بُشراك. لقد أنزل الله آياتٍ ترفع عنك غضب النبي والصحاب، آيات من عند الله يا عبد الله، بشراك عبد الله بُشراك.
عبد الله : الحمد لله. هو وحده يعلم، فله كان جهادي، وما ابتغيتُ إلا وجهه. قُل الآيات يا أخي، قلها بربك.
الصوت : بسم الله الرحمن الرحيم: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا.
عبد الله : الحمد لله، الحمد لله.
الصوت : ولقد فرح رسول الله، وقَبِل أن يأخذ الفيء.
عبد الله : وهل جاء أحدٌ من قريش يطلب الأسيرَين؟
الصوت : نعم، ولكن النبي قال: «حتى يُقدِم القوم صاحبينا.» يعني سعدًا وعتبة، وقد ذهب رسول قريش ليرد الأسيرَين.

(موسيقى.)

الراوية : وعاد الأسيران، وأذن النبي للقرشيَّين أن يعودا إلى مكة، ولكن أحدهما وهو الحكم بن كسبان قال:
الحكم : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك يا محمد رسول الله. إني هنا مقيم. الإسلام مرتعي وإيماني وولدي ووطني. لقد أسلمتُ لله، ولن أعود إلى الشرك أبدًا.
الراوية : وأقام. وهكذا كانت سرية عبد الله بن جحش هي بداية الجهاد في سبيل الله، وكان السهم الذي أطلقه المسلمون فأصابوا به عمرو بن الحضرمي هو أوَّل سهمٍ أُطلق في سبيل الله، وحين أنزل الله آياته عرف المسلمون أن الله قد أذن لهم أن يقاتلوا في سبيله. أمَّا قريش فقد اضطرب منها الأمن وتوفَّر فيها الغضب فيقول قائلهم:
صوت : ها قد بدأ محمد ينال ثأره.
آخر : إنها والله لمخجلة الدهور عار الأبد. أيتعرَّض محمد وأصحابه لقوافلنا؟!
آخر : بل إنه يأبى أن يُسلِّم لنا أسراه، أو نسلِّم له أسرانا. لقد أصبحَت شرذمة محمد تُناوِشنا ونحن صاغرون.
آخر : نسيتم أننا عنفنا على محمد وهو بين ربوعنا حتى أرغمناه أن يترك الديار هو وصحبه، ويخرج من مكة مهد صباه، ومراح شبابه ومأوى الأهل لأصحابه، وكهف الأمن لذويهم.
صوت : لقد سفَّه آلهتنا، وسبَّ عقولنا، بل إنه لقد امتدَّ بسبابه إلى آبائنا وأجدادنا ورماهم بالغفلة والبله.
آخر : نسيتَ يا أخي أن آباءه هم آباؤك، وأجداده هم أجدادك، ووالله ما أرى إلا أنه يقول رأيًا فما استمعنا منه لرأي، وإنما حزمنا أمرنا على شدة وجميع قواتنا على جهلٍ.
الصوت : أراك اليوم تكاد تُسلم يا أخي، وما بعُد العهد بهجوم محمد مع قافلتنا.
الأول : لا تخشَ، فإن أبا سفيان لن يسكت إذا عرف أن مُحَمَّدًا يتربَّص به.
الصوت : إن أموال قريش جميعها في هذه القافلة، لعلنا لم نُسهم في قافلةٍ مثلما أسهمنا في هذه.
الأول : لا تخفْ، فإن أبا سفيان سوف يعلم.

(موسيقى.)

صوت : البدار أبا سفيان البدار.
أبو سفيان : ماذا؟ مم البدار وإلى أين؟
الصوت : البدار من محمد وأصحابه، إلى مكة.
أبو سفيان : وماذا يريد محمد؟
الصوت : لقد عرف أن قافلتك في الطريق، فهيَّأ لك من رجاله جيشًا جعل له قافلتكَ غنيمة.
أبو سفيان : أنصبح نحن غنيمة لمحمد؟!
الصوت : لا تستهن أبا سفيان، إنها نفوسٌ أبية مسَّها منكم الأذى الشديد، فاحذر النفس الأبية إن رامت انتقامًا.
أبو سفيان : فالبدار أنت البدار.
الصوت : إلى أين؟
أبو سفيان : إلى مكة، إلى مكة. اندب رجالها، أبلغ قريشًا.

(موسيقى.)

الصوت : اللطيمة، اللطيمة!
صوت (لمن كانوا يتحدثون) : هذا ضمضم بن عمرو الغفاري، وقد شقَّ قميصه من قُبل.
ضمضم : يا آل قريش، الغوث الغوث.
أصوات : ماذا بك يا ضمضم؟
ضمضم : أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه فأدركوها، أدركوها، الغوث، الغوث.
أبو جهل : أحقٌّ ما تقول؟
ضمضم : يا أبا جهل، أفي مثل هذا يكذب الناس؟
أبو جهل : فهلُم يا معشر قريش، والله لنؤدبنَّ مُحَمَّدًا وأصحابه أدبًا يتسامع به العرب جميعًا.
صوت : على رِسلكَ أبا جهل، فإنها الأمور الكبر!
أبو جهل : وأنا لها.
الصوت : لقد والله ظلمنا مُحَمَّدًا وأصحابه، فانقضَّ قرارهم، فهم لاجئون إلى الأحباش حينًا، أو إلى أهل المدينة حينًا آخر.
أبو جهل : أنتركُ تجارتنا إذن يعدو عليها محمد، ويسمع العرب أن قريشًا هان العزيز من أمرها، ومال الرفيع من ركنها، تخاذلَت يا أخا العرب، وما نحن بمتخاذلين؟!
الصوت : إنها أحدوثة يرمي بها فرد من الناس لا نعرف مقدار صدقه.
ضمضم : إنه الصدق ما أقول.
الصوت : فهل رأيتَ رجال محمد رأي العين، أم هي الأنباء يرمي بها نفرٌ منكم إلى آخر؟
ضمضم (متردِّدًا) : إنها أنباء ولكنها صادقة.
أبو جهل : لبيك إذن لبيك. إنَّا لسائرون.
الصوت : نسيتَ شيئًا يا أبا جهل.
أبو جهل : إني ماشٍ، ومن شاء فليتبعني.
الصوت : إن بني كنانة يترقَّبون بنا الفرصة، فإن نحن نفرنا إلى محمد خلا الطريق لهم، فأصابوا ثأرهم.
أبو جهل (في شيء من التخاذل) : لعلك على حقٍّ يا أخي، لعلك في هذا محق.
صوت : بل سبيلكَ فامضِ يا أبا جهل.
أبو جهل : من؟ مالك بن جعشم المدلجي؟
مالك : إنه أنا. سبيلكَ فامضِ، فما كُنا لننال الثأر من قومٍ ينفرون عن ديارهم، ما كنا لننال الثأر والربوع منكم خالية.
أبو جهل : إنك من أشراف كنانة، وإنَّا لنقبل منك الوعد، واثقين أنه الحق.
مالك : وإنه الحق، فقد سفَّه محمد آلهتنا، وإنا لنخشى أن يُصيبنا منه شرٌّ بعد أن يصيبكم، فلا تخشَوا ثأر كنانة، وامضُوا أنتم إلى ثأر أنفسكم.
أبو جهل : فإليَّ معشر قريش، إليَّ، إليَّ.
الراوية : ونفرت قريش بحقدها وزهوها لم يبقَ منها رجلٌ أو فتى، بل بقي منها واحد، هو أمية بن خلف، لم يقم إلى الحرب فقد كان ثُقل جسمه يمنعه عن القيام فقعد، فأثاره نفرٌ من قريش في مجلسه وأخذوا يقولون له:
صوت : هاك أمية، هاك مجمرة وبخورًا، تصلُح للنساء، فهي لك، وهل أنتَ إلا من النساء يا أمية؟
آخر : بل هاكَ أمية مكحلةً فاكتحل فإنما أنتَ امرأة.
الراوية : ولم يجد أمية بُدًّا من القيام فقام. وذهبَت قريش للقاء محمد، وقد خُيَّل لأفرادها أن النصر عالقٌ بحوافر خيلهم، وسبقهم خيلاؤهم، يُغشي الحقد على عيونهم فهي العمى، وعلى أفئدتهم فهي الظلام، وعلى نفوسهم فهي السخيمة. وكان محمد — عليه الصلاة والسلام — قد خرج في أصحابه من المدينة في اليوم الثامن من شهر رمضان، عُدَّته إيمانٌ يعمُر قلوب أصحابه، وغضبٌ يملأ نفوسهم من أولئك العتاة الذين أجلَوهم عن ديارهم. وكان عدد رجاله خمسة وثلاثمائة رجل، وفي الطريق جاءت أنباء قريش إلى النبي.
صوت : يا رسول الله، لقد خرجَت قريش بقضِّها وقضيضها لتُدافع عن قافلة أبي سفيان.
الراوية : إذن فهي قريش جميعها، فكيف يلقاها النبي بهذه القلة من الناس العدة؟ ويفكر النبي — عليه الصلاة والسلام — في العودة، ويشير أصحابه فيقولون:
آخر : والله يا رسول الله لئن عُدت لتطمعنَّ فينا قريش ولنُصبحَن أحدوثة بين العرب.
آخر : يا نبي الله، إنها الحرب، وإنا لها لصامدون، هلم.
آخر : يا رسول الله، امضِ بنا أراك الله الهدى فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى، اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
الراوية : كان هؤلاء الذين أبانوا عن رأيهم من المهاجرين، وكان النبي يريد رأي الأنصار؛ فالمهاجرون يدفعهم إلى القتال إيمانهم، وما أصابتهم به قريش من أذًى. أمَّا الأنصار فإيمانهم وحده، فالنبي يسأل القوم مرةً أخرى قائلًا: أشيروا عليَّ أيها الناس. فأحسَّ سعد بن معاذ عميد الأنصار أن النبي يقصد رأيهم، فهو يقول:
سعد : لكأنكَ تريدنا يا رسول الله، لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئتَ به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثكَ لو استعرضتَ بنا هذا البحر فخُضتَه لخضناه معك، وما تخلف منا رجلٌ واحد. وما نكره أن تلقي بنا عدونا غدًا. إنا لصُبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقَر به عيناك، فسِرْ بنا على بركة الله.
الراوية : وأشرق وجه النبي، وهو يرى الإخلاص حوله سياجًا، والإيمان يحيط به حائطًا منيعًا، فقال عليه الصلاة والسلم: «سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتَين.» وسار الإسلام.

(موسيقى.)

صوت : لقد سمعتُ أن قافلة قريش مضت في طريقها.
آخر : فتلك إذن إحدى الطائفتَين، وبَقِيَت الطائفة الأخرى، طائفة البغي والظلم والجَوْر.
الأول : ولكنها أيضًا طائفةٌ جرداءُ لا مال لديها، ولا مطمع فيها.
الثاني : أوَنُحارب من أجل المال يا أخي؟ إنه الإسلام ما نحارب له، وإنه الدين ما ندافع عنه، وإنه النبي ما نبذلُ حوله الأرواح.
الأول : إنها همهمة تدور بين بعض الناس.
الثاني : لا والله، ما كانت هذه الهمهمة لتنبُع من نفوس المسلمين. إنها همسات اليهود والمنافقين، فحذارِ حذارِ أن تعيدها.
صوت : بسم الله الرحمن الرحيم: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ.

(موسيقى.)

الراوية : وعَرفَت قريش أن قافلة تجارتهم قد نجت من محمد، وأن أبا سفيان قد أخذ طريقه إلى مكة، فأراد بعضهم العودة.
صوت : فما أصبح لنا في القتال إرب، ولا فائدة، وقد نجا أبو سفيان بتجارته.
أبو جهل : لا والله لا نرجع حتى نرد بدرًا، فنقيم عليه ثلاثة أيام ننحر الجزر ونُطعِم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وبمجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها.

(صوت حوافر حصان.)

أبو جهل : من القادم؟
صوت : إنه قابل من قِبَل مكة (يقترب صوت الحوافر جدًّا ثم ينقطع).
صوت : إني رسول أبي سفيان إليك.
أبو جهل : وماذا يريد؟
الصوت : إنه يقول إنكم خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجَتْ، فارجعوا.
أبو جهل : لا والله لا نرجع حتى نرد بدرًا فنقيم.

(موسيقى.)

الراوية : وكالفراشة الحمقاء تلوب حول موتها، اندفع أبو جهل إلى بدر، وكان النبي قد نزل عند بئر بدر، وقد أراد عليه الصلاة والسلام أن ينزل عند أول ماء بدر، وكان الحباب بن المنذر على خبرة بالمكان والحرب، فهو يسأل النبي:
الحباب : يا رسول الله، أرأيتَ هذا منزلًا أنزلكه الله، فليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
الراوية : فقال عليه الصلاة والسلام: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة.»
الحباب : يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزلٍ، فانهض بالناس حتى نأتي أقرب ماء من قريش، فننزل، ثم نكبسه بالتراب فينضُب ماؤه، ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.
الراوية : وما محمد إلا بشر من البشر، يُشير فيُشار، فيقبل المشورة، وقد قبلها عليه الصلاة والسلام.
أبو جهل : أرسلوا إلى أصحاب محمد مَن يتقصَّى أنباءهم ويخبرنا عنهم.
صوت : إني ذاهبٌ.

(موسيقى.)

الراوية : وأرسل النبي من يعرف كم بعيرًا تنحر قريش في اليوم، فقال قائل:
صوت : إني ذاهب.

(موسيقى.)

الصوت (القرشي) : إنهم ثلاثمائة يزيدون قليلًا أو ينقصون قليلًا.
أبو جهل : فهو النصر المؤزَّر.
عتبة : يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقَوا مُحَمَّدًا وأصحابه شيئًا. والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل منكم يظهر في وجه رجلٍ قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلًا من عشيرته، فارجعوا، وخلُّوا بين محمد وسائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك لم تتعرَّضوا منه لما تكرهون.
أبو جهل : جبُنتَ واللاتِ وأردتَ الحكمة. أنترك دم عمرو مُراقًا لا نثأر له، هيه يا عامر بن الحضرمي، ألا تطلب ثأر أخيك؟
صوت : وا عمراه!

(موسيقى.)

الراوية : وقال سعد بن معاذ للنبي:
سعد : يا نبي الله، نبني لك عريشًا تكون فيه، ونُعِدُّ عندك ركابتك، ثم نلقى عدوَّنا، فإن أعزَّنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلستَ على ركابتكَ، فلحِقتَ بمن وراءنا من قومنا، فقد تخلَّف عنك أقوامٌ يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبًّا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلَّفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك.

(موسيقى عنيفة.)

الراوية : واندلعَت الحرب بين إيمانٍ وزهوٍ، بين دين وكبر، بين نبي وظالمين، بين الله والشيطان، وراح النبي يدعو في عريشه قائلًا: «اللهم هذه قريش قد أتت بخُيلائها تُحاول أن تُذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتَني، اللهم أن تَهلِك هذه العصابة فلن تُعبد بعد اليوم.» فيقول له أبو بكر، وهو يعيد رداءه إلى كتفه: «يا نبي الله بعض مناشدتك ربك فإن الله مُنجز لك ما وعدك.» فيقول النبي: «والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجلٌ فيُقتل صابرًا محتسبًا مُقبلًا غير مدبرٍ إلا أدخله الله الجنة.»

(ثم تخفت قليلًا وتظل مصاحبة للمشهد.)

(موسيقى عنيفة.)

الراوية : واندفع المسلمون إلى القتال يذودون عن دينهم، ويردُّون العذاب الذي لاقَوه، ويُرسون الأساس الأول لفتح الله، إنه الفتح الأول، وإنه دين الله، ونزلت الآيتان: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. واطمأن النبي إلى النصر، واطمأن المسلمون. وأخذ النبي يسير بين خيالة الكفار يمسك بالحصى، ويرمي به في وجوههم: «شاهت الوجوه.» وشاهت الوجوه، وانخذل الكفار، وعاد زهوهم ضيعة وكبرهم انكسارًا، وكيف لا ينهزمون والله يقول: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى؟ وكيف لا ينهزمون وسبحانه يقول: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ. صدق الله العظيم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤