مال وبنون

الراوية : أغنى ملوك التاريخِ ما مضى منه، وما هو في مطوي الغيب مستقبلٌ، قارون، أوَّل من سكَّ النقود، وما ذُكر الغنى إلا وقال قائل:
صوت (صوت في صدًى) : قارون.
الراوية : ربُّ المال الذي لم يَشمَلْه عَد، قارون.

(جونج.)

سرور : المال عندك بحورٌ، والناس عند بابك خدمٌ، والزمان طوع أمرك، فاسعد إنما السعادة أن تُحسَّ بها وتلتذَّها.
قارون : إنما السعادة أن أنال كل ما أريد، ولم أنَلْه.
سرور : فإذن إن لم يأت الولد، ماذا أنت فاعلٌ؟
قارون : لا بد أن يأتي. إنه السعادة، لا بد أن تكتمل لي السعادة؛ فإني قارون.
سرور : مولاي، الحياة لم تُخلق للسعادة كاملة أبدًا، مولاي. إن السعادة ومضات في النفس تخبو وتشرق، مولاي. لم يَرَ الناسُ في الأزمان الماضية على طول الأزمان سعادةً لا تنغِّصها تعاسة، مولاي، إن السعادة التي ترنو إليها صورةٌ لم يخلقُها إلا خيالكَ تأبى الحياة أن تُحقِّقها فاسعد بما أنت فيه؛ فإنك في سعادةٍ لا تدري بها.
قارون (في سخرية) : سرور، أنت تهذي. السعادة أمل يتحقق، والسعادة هي ما أتخيله أنا. إن فكري أنا عن السعادة ليست فكرتك أنت وآمالك. ما أتصوره أنا سعادة لي هو سعادتي، أمَّا آمالك أنت وما تتخيله أنت سعادة، أمَّا هذه فصورةٌ غريبة عني لا تعرفها نفسي ولا تسعد لها ولا ترضاها من المال، الغنى، الذهب، الملك السلطة، المجد، وكل هذا في نظركَ أنتَ ولعله في نظر كثيرٍ غيرك سعادة. أمَّا عندي، عندي أنا فعبءٌ حينًا، ومادةٌ مختلفة الألوان جامدة حينًا آخر.
سرور : مولاي، هو ما تقول، ولكن لا بد لنا أن نُبيِّن لك ما تمرح فيه من نعيمٍ، فإنه قلَّ بين البشر من يتمتَّع بمثله.
قارون : لا بد أن أُحِس أن هذا هو النعيم، وإذا أحسستُه فلن أحتاج إلى أحد ليُبيِّنه لي.
سرور : سوف يأتي يومٌ يا مولاي تعرف فيه أي نعيمٍ كنت فيه، وأخشى والله يا مولاي أن تأسف يومذاك، ولن يفيد يومذاك أسف.
قارون : هُراء، هُراء ما تقول.
صوت : مولاي.
قارون : ماذا تريد؟
الخادم : مولاتي تريد أن تلقاك.
قارون (ساخرًا) : أنبئها أنِّي سأذهب إليها حين أنتهي من المجلس.
الخادم : مولاي عفوك. إنها تريد أن تراك الآن.
قارون (ساخرًا) : الآن؟
الخادم : إن أَذِنتَ يا مولاي.
قارون : أنا قادمٌ إليها.
الخادم : أمركَ يا مولاي.

(يُسمَع صوت الباب يُغلق.)

قارون : عاقر وتشتدُّ في طلبي وكأنها أنجبَت لي أولياء العهد.
سرور : أهي يا مولاي العاقر؟!
قارون (غاضبًا) : يقينًا.
سرور : ومن أين يأتي اليقين يا مولاي؟ إنها الزوجة الثالثة، ولم تحمل واحدةٌ قبلَها حتى تقول عن هذه إنها عاقر.
قارون : بل حملَت الأولى.
سرور : ذلك الحمل الذي لم يتم، مولاي عفوك، فلماذا تركتَها إن تكن ولودًا؟
قارون : سرور، أنت كثير الكلام.
سرور : مولاي، عوَّدتَني أن أقول الحق، وما أظنُّك ألا تغضبَ مني إن أنا أخفيتُ عنك ما أراه صوابًا.
قارون : أنتَ تُغالي في الحق.
سرور : الحق يا مولاي هو الحق، وهو جامدٌ لا يقبل مغالاةً ولا تهوينًا. الحق لا يتغير يا مولاي.
قارون : هو ما ترى يا سرور، هو ما ترى. والآن لا بدَّ لي أن أرى العاقر.
سرور : سترى زوجتك يا مولاي، سترى الملكة.

(موسيقى.)

الملكة : مولاي.
قارون (في ضيق) : خيرًا ماذا تُريدين؟
الملكة (في فرح) : مولاي إنِّي …
قارون (مقاطعًا) : لا تقولي إنك حاملٌ.
الملكة : وما لي لا أقول وهو الحق.
قارون : حديثٌ مُعاد. أسمعُه منكِ في كل حينٍ، ثم ما يلبث أن ينكشف عن وهمٍ خالص.
الملكة : ولكنه في هذه المرة حقٌّ خالصٌ، مولاي إن ولدكَ يركلُني.
قارون (بين مصدقٍ ومكذبٍ) : بلقيس، أحقًّا ما تقولين؟ أحقًّا ما تقولين؟
الملكة : مولاي، إن شئتَ ركلَ يدكَ أنت أيضًا.
قارون : هو الحق إذن! هو الحق أن لي ولدًا. أن لي … (متراجعًا) أهو ولدٌ يا بلقيس؟
الملكة : أرجو أن يكون يا مولاي.
قارون : إنه ولد. إني أعرف ذلك، إنه …

(موسيقى.)

صوت امرأة : وليُّ عهدكَ يا مولاي.

(موسيقى.)

قارون : هيه يا سرور، أرأيتَ اليوم؟ إنها السعادة الكاملة.
سرور : مولاي أدامها الله عليك، ولكن.
قارون : بربك يا سرور بغيرِ ولكن.
سرور : لا بد منها يا مولاي. إن الولد لم يكبَر بعدُ. أهو الذرية التي كنتَ تريدها؟ أنجيبٌ هو مثل أبيه؟ أيستطيع أن يقوم على مالك، ملكك، غير مسرفٍ ولا شحيحٍ، غير ظالمٍ ولا ضعيفٍ. من يدري مولاي؟
قارون (في تفكير) : سرور.
سرور : مولاي.
قارون : من الذي سمَّاك سرورًا؟
سرور : أبي يا مولاي.
قارون : أخطأ أبوك.
سرور : بل أصاب. إن السرور أن تعرف الحق بلا وهمٍ ولا تمويه.
قارون : إنك قادرٌ على أن تقلب السرور تعاسةً.
سرور : فاذكُر يا مولاي يوم كنتُ أُحاولُ أن أقلب التعاسة سرورًا.
قارون : لم تُفلح في إدخال السرور إلى نفسي، ولكنك في إدخال التعاسة موفَّقٌ كل التوفيق.
سرور : هو الحق يا مولاي.
قارون : أخشى والله أن أكره هذا الحق.
سرور : لن يخسر الحق يا مولاي، وستخسر أنت.
قارون : إنني اليوم سعيدٌ، فاسعد معي يا سرور، ودَعِ الغد إلى الغد. إنني اليوم سعيدٌ.
سرور : مولاي جعل الله غدك أسعد من يومك، ويومكَ أسعد من أمسك، فليس أحب لي يا مولاي من أن تكون سعيدًا، وأن تدوم هذه السعادة، أدامها الله يا مولاي، أدامها الله يا مولاي.

(موسيقى.)

قارون (في حزن) : بلقيس أشيري عليَّ، ماذا أفعل؟
بلقيس : مولاي إنك الملك. الأطباء في أنحاء الأرض يتمنَّون أن يُطيعوا لك أمرًا.
قارون : وهل رأيتَ الطبَّ أجدى في مثل هذه الحال؟
بلقيس (باكية) : بربك يا مولاي، بحياتي، بعض الأمل يا مولاي، بعض الأمل، فمن يدري ما يريد به الزمان؟
قارون : إن الزمان قد أجمع أمره على السخرية مني.
بلقيس : نُحاول يا مولاي.
قارون : سنوات خمس نُحاول ونُحاول، فما نفعَت المحاولة شيئًا. أيُّ خيرٍ يعود علينا إلا إحياء أملٍ ما يلبث اليأس أن يُميته، وليس أبشع من اليأس إلا الأمل يحيا ثم يموت.
بلقيس : بعض الصبر يا مولاي.
قارون (في سخرية) : عجيبٌ هذا الزمان، أنا، قارون، أغنى ملك عرفه العالم، أريد بعض الصبر فلا أجد، ومع ذلك لا أجد إلا الصبر ملجأً، فيا لي من غنيٍّ فقير، ويا لي من ملكٍ ذليل! ألا من يبيعني ولدًا صحيحًا بمالي، وملكي؟ ولكن كيف للبنين أن يُباعوا؟ إنهم قطعةٌ مِنَّا، مِنَّا نحن.
بلقيس : مولاي، إن من أنجب مرةً قد يُنجب أخرى.
قارون : فإذا جاء الولد أصمَّ أبكمَ مثل الأول؟
الملكة : مولاي بربك لا تَزد الجرح ألمًا.
قارون (صارخًا) : ماذا؟ أتخشين الحق؟ إنه أصمُّ أبكم. إنه الحق.
الملكة (في ضراعة) : مولاي.
قارون : معذرةً، أنتَ لم يعوِّدكَ أحدٌ سماع الحق كما عوَّدَني سرور أن أسمعَه.
الملكة : بعض الشفقة يا مولاي، بعض الشفقة.
قارون (في تلطُّف) : نعم، معذورةٌ أنتِ، أقسو عليك ومصيبتي في ابننا هي مصيبتُك، بل لعلها عليك أشدُّ، ولكن اغفري لي؛ فأنت تدركين.
الملكة : غافرة يا مولاي.
قارون : أتمنى اليوم أن …
الملكة : حذارِ يا مولاي.
قارون : وممَّ الحذَر؟ إن حياته كارثةٌ عليه وعليَّ وعليكِ وعلى الملك.
الملكة : مولاي اذكُر كم كنتَ تتوقُ إليه.
قارون : كنتُ أتوقُ إلى ابنٍ لي لا إلى مسخٍ أصَمَّ أبكمَ لا يبين ولا يعي.
الملكة : مولاي، إنها مشيئة السماء.
قارون : السماء رحيمةٌ غير قاسية.
الملكة : لعل في ذلك رحمةً وأنت لا تدري.
قارون : أين الرحمة؟ أين الرحمة في والدٍ يتمنَّى أن يموت ابنه الذي كان يتوق إليه؟ أين الرحمة في ملكٍ ماله لا يُعدُّ ولا يُحصى ولا يستطيع أن ينال ابنًا مثل أحقر مخلوقٍ في مملكته؟ أين الرحمة في أملٍ كنتُ أهفو إليه وأتمنَّاه فإذا هو حلمٌ يتحقق حين يتحقَّق نقمة قاتلة؟ أين الرحمة في ألمٍ عاصفٍ كلما رأيتُه أو سمعتُ خطواتِ أقدامه، فما أسمع منه غير خطوات أقدامه؟ لا إن السماء رحيمةٌ، أرحم من أن تصيبنا بهذا البؤس والألَم والشقاء.
الملكة : لعل غيره يُعزِّيك يا مولاي.
قارون : غيره تقولين.
الملكة : إنني منذ أشهر يُخيَّل إليَّ.
قارون : لا تزيدي الجروح يا بلقيس، لا تزيدي الجروح.
الملكة : أزيدُها يا مولاي.
قارون : فكيف إن جاء الثاني مثل الأول، أصمَّ أبكَم؟
الملكة : السماء أرحم من هذا يا مولاي، السماء أرحم من هذا.
قارون : فلتكن مشيئة السماء إذن، لتكن مشيئة السماء.

(موسيقى تصاحب كلام الراوية.)

الراوية : وكانت مشيئة السماء وجاء الولد، ولم يكن أصم، لا ولم يكن أبكم، بل كان صحيحًا قويًّا فارسًا شجاعًا.

(تنقطع الموسيقى.)

قارون : نحمد الله يا سرور. لقد جاء اليوم الذي تتم فيه سعادتي.
سرور : أدامه الله يا مولاي.
قارون : غير أني أخافُ على ابني.
سرور : أيهما يا مولاي؟
قارون : ابني، أَلي غير ابن واحد؟
سرور : بل لك اثنان يا مولاي.
قارون : ويحكَ يا سرور، ما تراني سعيدًا إلا وذكَّرتَني بما يُنغِّصُني.
سرور : ابنك يا مولاي.
قارون : إنه تعاستي الوحيدة في الحياة.
سرور : مولاي إن السعادة لا تكتمل.
قارون : أعرف يا سرور. إنه الحق. إنه الحق دائمًا.
سرور : دائمًا يا مولاي.
قارون : ولكنِّي أخشى على ابني سليم، على رائد.
سرور : وما خشيتُكَ عليه؟

(صوت فتح الباب.)

رائد : أبي، هل أمرتَ أن أمثُل بين يدَيك؟
قارون : ما هذا الذي سمعتُ عنكَ يا رائد؟!
رائد : ماذا يا أبي؟
قارون : سمعتُ أنكَ تُخاطر بنفسك، ولا تخاف الليل، ولا ترتدُّ عن الصيد إلا وتصيبه.
رائد : إنما هي رياضةٌ يا مولاي.
قارون : يا بني، إنك أمل بلادك وأمل أبوَيك، فحذارِ أن تجُرَّك الرياضة إلى مصرع هذه الآمال التي تُحيط بك؛ فقد أصبحنا شيوخًا لا نُطيق لهذه المصيبة احتمالًا.
رائد : مولاي أمرك.
قارون : حذارِ يا رائد، حذارِ يا بني.

(موسيقى.)

صوت (من بعيد) : وا مصيبتاه! قُتل رائد، مولاي يا ملك الملوك، قُتل رائد، مولاي.

(موسيقى تصاحب كلام الراوية.)

الراوية : قُتل الأمل البك، صُرع الفتى اليافع، اليأس والحزن والقنوط. لم يُجدِ مالُ قارون، بل لعل المال زاد النار لهيبًا، فقد أصبح بلا وارثٍ له إلا هذا الفتى الأبكم الأصم.

(تنقطع الموسيقى.)

قارون : صادقٌ أنت يا سرور، صادقٌ أنت، تعاسةٌ هي الحياة تعاسةٌ كامنة.
سرور : مولاي، أنا لم أقل هذا أبدًا.
قارون : فقُله إذن يا سرور، فهذا هو الحق.
سرور : بل إنه بعيدٌ عن الحق كل البعد.
قارون : أمَا ترى حالي يا سرور؟ أمَا ترى؟ لشيخٍ قضى حياته تتعلق آمالُه بفتاهُ أن يرث ماله وملكه، ويبقى المال والملك ولا يبقى الفتى.
سرور : مولاي لا تستسلم للحزن؛ فإن عليك أعباءً لا بد لك أن تقوم بها.
قارون : دعني وما بي يا سرور، لا أريد أعباءً ولا ملكًا.
سرور : مولاي، أنت لا تملك لهذا العبء دفعًا، فمن يقوم به إن لم تقم أنت؟
قارون : ليكن ما يكون، أمَّا أنا فما أُطيق يا سرور، لا، لا أُطيق.
سرور : مولاي، إن الأعداء يتربَّصون بنا شرًّا، ولا بد لنا أن نجهِّز لهم قبل أن يدهمونا.
قارون : جهِّز لهم أنت ما تُريد.
سرور : مولاي، لم أكن يومًا من الذين يُقحِمون أنفسهم فيما لا يُحسنون أداءه. الجيش جيشك، وأنت أدرى الناس به، ولا بد يا مولاي أن تقوم أنت بشأنه.
قارون : سرور، بربك دعني وحزني.
سرور : إنك يا مولاي إن أعملتَ ذهنك في شئون الدولة نفَضتَ عنك هذا الحزن القاتم، واستطعتَ أن تخلص منه.
قارون : ولمن الملك بعدي؟
سرور : للأجيال والقرون، للأزمان القادمة، للتاريخ يا مولاي؛ فإني أخشى أن يقول عنك التاريخ تسلَّم بلاده حرة وأسلمها ذليلةً محتلة.
قارون : ألا يُمهِّد لي التاريخ عذرًا في آمال شبابي التي قُتلَت؟
سرور : مولاي إننا نحن — ونحن نحيا معك — لا نُمهِّد لك العذر، فكيف بالتاريخ وهو أصداء الوقائع؟
قارون : ألا تلتمسون لي العذر؟
سرور : الملك يا مولاي فوق العواطف والأحزان.
قارون : سرور، دعني بربك يا سرور، لا أُطيق، لا أطيق.

(موسيقى.)

سرور : مولاي، الأعداء يُجهِّزون الجيش.
قارون : دعني بربك يا سرور.

(موسيقى.)

سرور : الأعداء يا مولاي.
قارون : سرور، إنِّي لا أطيق.

(موسيقى تنتهي بطبول حرب وجلبة وضجيج.)

سرور : أدركنا يا مولاي.
قارون : وهل أُطيق أن أدرك أحدًا؟
سرور : الأعداء يا مولاي يحيطون بنا من كل جانبٍ، فبربك يا مولاي إلا نجوتَ.
قارون : أنجو؟ ولمن أنجو؟ وكيف أنجو؟
سرور : مولاي، لقد أتيتُ لك بملابس الرعاة، فتنكَّر فيها يا مولاي واخرج من المدينة، اخرج يا مولاي.
قارون : أين زوجتي؟ وأين ابني؟
سرور : هنا يا مولاي. إني مناديهم الآن. البس أنتَ هذه الملابس حتى أُناديهم.

(موسيقى قصيرة.)

قارون : هلُمي يا بلقيس.
الملكة : إلى أين؟
قارون : نهرب.
الملكة : أمَّا أنا فلا.
قارون : كيف؟!
الملكة : شيخةٌ أنا أنتظر الموت وكأنه أمل لا سبيل لي إليه، فاهرب أنت وابننا، أمَّا أنا فمقيمةٌ هنا مع قبر ابني لا أتركه.
قارون : لا أتركُكِ أبدًا.
الملكة : بل وتتركني، فإنك إن أُسرتَ أو قُتلتَ بأيدي أعدائك فعار الأبد وهزيمة لشعبٍ يتمثل فيك أملًا ضخمًا. أمَّا أنا، ما أنا؟ ما أنا؟ زوجةٌ عقيم، بل شرٌّ من زوجةٍ عقيم، مات السليم من أبنائي وبقي المريض. دعني أُحقِّق أملي بالموت يا مولاي، بربك.
سرور : بربِّك ألا أطعتَ زوجكَ. آه! أصابني السهم. النجاة يا مولاي. لقد بلغ أعداؤكَ القصر.
قارون : هلُمي يا بلقيس.
الملكة (في نزعات الموت) : لات حين أيها الملك، فقد نفذ السهم إلى قلبي. لقد شاءت السماءُ أن أموت إلى جانب ولدي، وداعًا يا مولاي.

(موسيقى.)

الراوية : وخرج قارون من قصره ومعه ابنه الأصم الأبكم، رفيق ولا رفيق، ولد ولا ولد، ويحك قارون، لكم دارت بك الأيام، في ثياب الرعاة تخرج فارًّا وأنتَ من ملك أموالَ الأرض أجمعين.
قارون : فأنت إذن كل ما بقي لي أيها الابن، بقية ملك ومالٍ وولدٍ، أنت بأذنٍ لا تسمع ولسان لا ينطق، أنت من بقي لي، ليس لي غيرك، غَضبَت منِّي الدنيا وأنا في مجدي ومالي وسلطاني وازداد غضبي عليهما حين جئتَ أنت عاجزًا عجزك هذا، فإذا هي تسخر من غضبي وتسلبُني كل شيءٍ إلَّا الشيء الوحيد الذي يزيدني تعاسةً وألمًا! كم أُحس بالجُرم نحوكَ كلما رأيتك! لماذا جئتُ بك إلى هذه الدنيا؟ ولماذا بقيتَ فيها بعد أن جئت؟ ألا تشهد ظلم الزمان لأبيك؟ مسكينٌ أنتَ يا بني لا تُحس شيئًا مما هو حولك، ولكن أمسكين أنت حقًّا. أتعرف أنك عاجز؟ أم لعلك لا تعرف؟ ويلي أخدع نفسي! لكم رأيتُ الدموع جامدةً في عينَيك ومنهمرة لا تطيق لها كتمانًا! إلى أين بنا الطريق؟ يا بني، إلى أين بنا الطريق؟
الراوية : وفي عرض الصحراء مشى الملك ومعه هذه النفاية التي تخلَّفَت من ملكٍ عريض ومالٍ عديد وولد قوي، وبعد لأيٍ وجهد لقي الملك خيمة.
قارون : سلامًا يا صاحب الدار.
صوت : سلامًا أيها الغريب.
قارون : انقطع بنا الطريق، فهل لمبيتٍ لنا مكان؟
الصوت : إن الأعداء تحيط بنا من كل جانب، فكيف نعرف أنكَ لستَ منهم؟
قارون : إنني لا أملك سلاحًا، والأعداء منتصرون، والنصر لا يتأتى لشريدٍ في الصحراء.
الصوت : ومن هذا الذي معك؟
قارون : إنه ابني.
الصوت : قويٌّ هو شديدٌ؟
قارون : ولكنه أصمُّ أبكم، لا يسمع ولا ينطق.
الصوت : فادخلا.
قارون : أوحيدٌ أنت؟
الصوت : معي أخي. ادخلا.

(موسيقى.)

الصوت : إن هذا العربي يحمل مالًا كثيرًا فيما يُخيَّل إليَّ.
الأخ : وكيف عرفت؟
الأول : سمعتُ صليل الذهب تحت ملابسه وهو سائر.
الثاني : الذهب؟
الأول : الذهب.
الثاني : فماذا تنتظر؟ هلُم نقتله. أنائمٌ هو؟
الأول : إنه نائمٌ.
الثاني : هلُم بنا.
الأول : احذر أن يسمع أقدامك.
الثاني : ومِمَّ الحذر؟ الأب؟ نائمٌ، والابن أصم، أبكم. لو رأى ما استطاع أن ينطق.
الأول : فهاتِ الحبل.
صوت (يحاول أن ينطق فهو ضعيف) : أبي.
الأول : أسرع.
الثاني : هل معك الخنجر؟
الأول : ها هو ذا.
الثاني : هاته، هاته.
الابن : حذارِ أيها اللصوص، حذارِ. إنه قارون. إنه الملك.
قارون : من؟ أنت!
الابن : لقد حاولا أن يقتُلاك.
قارون (باكيًا) : أتنطق؟ أتنطق يا بني؟
الأول : عفوك يا مولاي.
الثاني : عفوك يا مولاي.
قارون : عفوي وشكري وحمدي. لقد نطق ولدي. لقد نطقتَ في اللحظة التي أُريدك فيها أن تنطق، لقد جعلتَ لحياتي معنًى يا ولدي العزيز. لقد جعلتَ يأسي أملًا وتعاستي سعادةً. هلُما بنا يا ابني إلى الحياة. لقد مَنحَتني السماء خير ما سلبه منِّي الزمان. مَنحَتني ولدي، منحَتني الحياة والأمل، المستقبل، إلى المستقبل يا بني، إلى المستقبل. لقد أشرق لي الطريق الآن. إليه، يا أمل الشباب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤