نبل وخيانة

(موسيقى.)

المذيع : إبراهيم بن المهدي أخو الرشيد، شاعرٌ رقيقٌ، ولكن شُهرته بالعزف والغناء كانت أبعد مدًى. لما تولَّى الخلافة ابنُ أخيه المأمون وخرج عليه، ولم يعترف له بها وادَّعى هو الخلافة لنفسه، وأقام بالري يسكب على نفسه صفات الخلافة مدة سنةٍ وتزيد، لم يشأ المأمون خلالها أن يأخذه بأسباب الشدة، فلما رأى أنه لا ينتهي قصد إليه في جيش، لم يصبر عليه إبراهيم، وترك كرسيَّ الخلافة وخرج يبتغي من قصاص المأمون هربًا. إن ابن المهدي لفي حَيرةٍ من أمره ليس يدري أين يولِّي وجهه. ها هو ذا يقطع طرق الري مستخفيًا لا يتبعه من خاصته غير سميره الأمين هشام. لقد أَعيتهُما المطاردة واشتدَّت بهم الظلمة.

(موسيقى.)

ابن المهدي : مَرَّ اليوم يا هشام، لا نستطيع أن نصل إلى المأمن. إن الساعة لطويلةٌ على الخليفة الهارب، فما خطبك وقد مرَّت هذه الساعات؟
هشام : الله في عون مولاي. إلى أين يا تُرى يقودنا الخوف؟
ابن المهدي : إلى أين؟ إليها بلا ريب. إلى عاتكة. إنها نِعم الملجأ.
هشام : أتظن ذلك يا مولاي؟
ابن المهدي : أظن؟! بل هو الوثوق بعينه. إنها آمن عليَّ من نفسي.
هشام : أمرك.
ابن المهدي : ولكن أتظُن الطريق إليها أمينًا؟
هشام : والله يا مولاي لا أدري. إن الجائزة التي وعَد بها المأمون لمن يعثر عليك جائزة مغرية.
ابن المهدي : نعم … مائة ألف درهمٍ … وإني لأعرف كثيرًا من أغنياء هذه المدينة يتمنُّون لو حصلوا عليها، فما ظنك بالجند وكلهم فقيرٌ؟
هشام : أخاف يا مولاي.

(تسمع حوافر الخيل من بعيدٍ تقترب رويدًا رويدًا.)

ابن المهدي : ما هذا؟ … ادخل في هذا الطريق يا هشام … إن جماعةً من الجند قاصدةً إلينا.
هشام : وي، إن الطريق مقفلٌ يا مولاي.
ابن المهدي : وما نفعل؟ … أنُسلِّم؟ … اقتحم.
هشام : إنه حائطٌ.
ابن المهدي : انفذ دونه.
هشام : إنه سدٌّ منيع يا مولاي.
ابن المهدي : حسبي الله ونعم الوكيل، رحماكَ يا ابن الأخ، رحماكَ يا مأمون، الله للزوجة والأولاد، حسبنا الله.
هشام : بعض الأمل يا مولاي. إن الجند لن تفطن إلينا إلا بعد برهةٍ نكون فيها قد دبَّرنا أمرنا.

(موسيقى.)

المذيع : في بيتها، عاتكة تجلس إلى صاحبتها، فيمَ يدور الحديث، ومن ذلك المسكين الذي ألقى به بين لسانَيهما يتناوله؟ من ذلك الذي ألقى على وجهَيهِما كل هذا الجد وتلك الصرامة وذلك التنمُّر؟ لنُلقِ بآذاننا، وحذارِ حذارِ أن تصل إلينا العيون.
عاتكة : لهفي على سيدي على إبراهيم! تُرى أين استقر به المكان الآن؟ إني لأعلمه رقيق العاطفة حاد المزاج، يحب أن يرى كل شيء مهيأً لراحته، ويحب أن يرى كل إنسانٍ مقبلًا على رحابه. لهفي عليه الساعة! لا شيء مهيَّأ له ولا رحاب له يُقبل عليه.
رائقة : دائمًا دائمًا لفظَين لاسمٍ واحد، إبراهيم وابن المهدي. أصدقٌ ذلك أم تهويش؟
عاتكة : بل هو الصدق، الجائزة كبيرة يا رائقة، وليس في الناس أمين، ألا أخاف؟
رائقة : ما زال بالناس بعض الخُلق.
عاتكة : أي خلقٍ؟ لقد أصبح الشرف من كلمات التاريخ.
رائقة : الفضل في ذلك لكِ يا عاتكة. إن لكِ على العبث بالشرف قدرةً تعزُّ على الشيطان.
عاتكة : أمِزاحًا والأمير شارد والخطب مُحدِق والحالُ على ما ترين؟
رائقة : مزاح، أيُّ مزاحٍ تقصدين؟ فوالله ما قلتُ غير الجد.
عاتكة : أليس مولاي من أخاف عليه؟
رائقة : بل هو فوق ذلك، هو من مدَّ لك أسباب الحياة.
عاتكة : ألا أغضب إذن؟
رائقة : تغضبين نعم، ولكن حين تعلمين أنه سمح لغيركِ أن يشي به إن كان قد وشى به.
عاتكة : أمقتٌ ذلك يا رائقة؟
رائقة : بل ولاء.
عاتكة : لي؟
رائقة : للأمير.
عاتكة : فهي الغَيْرة إذن.
رائقة : منكِ؟
عاتكة : ولم لا، ألست امرأة؟
رائقة : أمَّا أنا فامرأة نعم، وأمَّا أنت؟
عاتكة : فماذا (في غضب)؟
رائقة : فالشيطان.
عاتكة : نعم هو ما حزرتِ. إنه المقت والغَيرة. والله ما جئتِ إلا مُتشفيةً لا تحمل غير الشر.
رائقة : إنه يا أخت لا يُتشفَّى في ميت. لقد عدمتِ الخير.
عاتكة : شكرًا، شكرًا، ألف شكر.
رائقة : عفوًا، ألف عفو، وفِّري عليكِ الحيلة في طردي، وفِّريها عليك تنفعكِ حين تُوقعين الأمير بالطيبِ.
عاتكة : كاد الحِلمُ أن يخرج من يدي. اخرجي رائقة، أنا لا أُطيق أن أرى الكره مجسمًا أمامي في منزلي، اخرجي بغير عودة.
رائقة : عودة، ولِمَ العودة؟ ولكن بربك إذا ظفرتِ به، فما أظنُّه إلا آتيًا إليكِ، فاذكري ثورتكِ بي واتقي الله في نفسكِ مرة. اذكري أن في العالم شيئًا يُسَمَّى الشرف، قُلتِه الآن على غير معرفةٍ فاعرفيه مرةً، مرةً واحدة.
عاتكة : إلى الخارج رائقة، وأسرعي.
رائقة : لا عليكِ عاتكة، فأنا خارجةٌ. سلامًا ولا تنسي.

(ضحكة تكملها موسيقى.)

عاتكة : مولاي، لقد أمضَّتني الفرقة، وأباتَني الانتظار على فراشٍ لا يهدأ. إنه النار الآخذة يا مولاي.
ابن المهدي : أراح الله مضجعكِ يا عاتكة.
عاتكة : بيتك مولاي. لم كُلُّ هذا الغياب يا مولاي؟ إن لم تذكُر جاريتك اليوم فمتى؟
ابن المهدي : اليوم وكل يوم. لستِ بالجارية عاتكة، ولكنكِ الأختُ والملجأ.
عاتكة : أهلًا بالأمين هشام أهلًا. ما أظنكما إلا لاقيتُما من يومكما هذا تعبًا، فهلُم إلى الراحة والهدوء.
ابن المهدي : نعم، هلُم إلى الراحة والهدوء. ألا يأتي أحدٌ لزيارتك؟
عاتكة : لا تخشَ شيئًا يا مولاي ولا أحدًا؛ فقد أذعتُ أني ذاهبةٌ في سفرٍ فلن يُخلَّ بهدوئك مزعج. أهلًا مولاي أهلًا.
ابن المهدي : أجل عاتكة. لقد كنتُ أنتظر منك هذا وفوق هذا. وكنتُ أخشى على رأسك الجميل أن … ولكن هذا أوان الشد، فاشتدِّي معي والله من فوقنا المعين.
عاتكة : غبتَ عني، فأنا في خشيةٍ دائمة وقلقٍ مبيد. خبِّرني يا مولاي ماذا فعلتَ في يومك وليلك؟ إن الرجال لا تتخذ ملبسنا إلا عند الشدائد، وها قد لبستَ وصاحبك هشام ثيابَ النساء. لا ضَيْر عليكم فأنتم لباسٌ لهن وهن لباسٌ لكم. فداك نفسي يا مولاي. لقد لاقيتما نَصبًا.
ابن المهدي : وأي نصبٍ يا عاتكة! لعلكِ تريدين أن تعلمي، لماذا لبستُ وصاحبي ملابس النساء؟
عاتكة : إي والله يا مولاي.
ابن المهدي : إليكِ ما كان، دهمَتْنا الشرطة وكادوا يلحقون بنا، وكلهم يعرفني، والجائزة مغريةٌ، فرأينا بابًا (صوت حوافر الخيل في الظلام).
هشام : مولاي إني أرى بابًا، ما زال ينفُذ من خلاله النور. نطرقُه والله معنا (يطرق الباب).
الصوت (من الداخل) : من يطرق الباب؟

(صوت وقع حوافر الخيل أثناء هذا الحديث.)

هشام : غريبان في ضيقٍ. هل للضيف مكان؟
الصوت (وهو يفتح الباب) : مكان رحيبٌ، مرحبًا بالأضياف، أهلًا (يُقفل الباب).

(وقع الحوافر يعلو ثم يخفت ممتدًّا.)

هشام : مكانٌ رحيب حقًّا، رحيبٌ بكرمك يا أخا العرب.
الرجل : أنا وحدي في البيت لا أنيس ولا سمير.
هشام : غريبان، نحن من الكوفة نزلنا المدينة الساعة وضربنا في طُرقها نطلب خانًا يضمنا ليلتَنا، فاشتبهَت علينا المسالك وضلَلْنا السبل. وصلنا دارك وقد أخذ مِنَّا التعب مأخذه جميعًا، فقلنا نطرق الباب ولن يخلو البيت من كريمٍ، فلم يخلُ.
الرجل : أهلًا بكما. ليس والله كرمًا ما لاقيتماه، ولكن الأنانية وحب الذات؛ فأنا وحيد ولا أنام من الليل إلا أقلَّه، فهو عبءٌ ثقيل، لا أعرف كيف أقطَعه.
هشام : نُعاوِنكَ على قطعه إن شاء الله يا أخا العرب.
الرجل : ولكن ترى أتأذن لي أن أغيب عنكما بعض الساعة؟ أقصد السوق وأعود، فلا أعوق إلا قليلًا.
ابن المهدي : تقصد السوق! أهو بعيد؟
الرجل : أنا وحدي في البيت لا يُساكنُني فيه أحد، فلا حرج عليكما من غرفاته جميعًا، والسوق قريب.
ابن المهدي (في خوف وتردُّد) : ما ترى، ما ترى يا أخا العرب.

(صوت باب يُقفل.)

(موسيقى.)

ابن المهدي : طالت غيبة الرجل.
هشام : أتخشاه يا مولاي؟
ابن المهدي : الجائزة تُعمي البصر. هشام، ما قولك؟ لقد أصبنا من الراحة الكفاية وما أظن الجند إلا قد انصرفوا.
هشام : أنخرج مولاي والليل أسودٌ والبرد قارسٌ والمأوى بعيدٌ والطريق مخوفٌ؟ فماذا نفعل؟
ابن المهدي : أي شيءٍ. لن أبقى.
هشام : أمرك يا مولاي (لحظة صمت) الباب مقفل بالمفتاح يا مولاي. ما أظن الرجل إلا عَرفَنا.
ابن المهدي : كذا! لا عجب أن تطول الغيبة إذن. لا بد أنه قصد المأمون ذاته. إن موكب الخليفة يستغرق إعداده وقتًا طويلًا يا هشام، ولعله الآن في طريقه إلينا يمشي في بطءٍ مشية الوقار والعظمة، وما يُعجله؟ الصيد في قفصٍ مقفلٍ وهو يسعى إليه ليلتذَّ النصر جميعًا، على مهله، على مهله، ولنمُت نحن من الخوف قبل أن يُميتنا السيف، ولكن لا، لا أنتظر انتظار النساء. حطِّم الباب يا هشام وليكن بعد ذلك ما يكون، حطِّم الباب قلتُ لك.
هشام : أمرك يا مولاي.

(يحاول كسر الباب، ثم يُسمع طرق.)

ابن المهدي : ما هذا؟
الرجل (يفتح الباب) : السلام عليكم. ألهذا الحد تأخرتُ؟ لقد أقفلت الباب حتى لا يزعجكما مزعج. اقبلا عذري في التأخير فالسوق بعيدٌ وما شَريتُه كثيرٌ.
ابن المهدي : أكنت تشتري حقيقة؟
الرجل : وما تظنني كنتُ أفعل؟ … إنني حجَّام صناعتي إخراج الدماء الفاسدة من الأجسام، صناعةٌ ليست بالنظيفة على ما أعتقد. خفتُ أن تتقرفا مما أستعمله، فذهبتُ أشتري أوانيَ جديدة.
ابن المهدي : نِعمَ أنت ونعمت صناعتك! إن من يزيل ألم الإنسان ملاكٌ بعثه الله إلى الأرض يُخفِّف به من شرورها.
الرجل : على أية حالٍ قد شريت الجديد، وكم أريد أن أطهو لكما شيئًا، ولكن طهوي بدائي وأنا حجَّام، فدونكما الأواني فاطبخا شيئًا تأكلانه. ها هو الأكل هذا، هذا لحم عبيط وهذا …

(موسيقى.)

ابن المهدي : ما شعرتُ لذةً لأكلةٍ مثل هذه. ما أجمل أن يتذوق الإنسان ما يصنعه!
الرجل : بارككما الله، لقد آنستما وحشتي وأمتعتماني ليلتي، ووالله لا بد أن يكمل هذا السرور. أملك هنا عودًا ألجأ إليه في أحدٍ من حالَين؛ إذا أخذ عليَّ الضيق كل مأخذٍ فهو نجاتي منه، وإذا ألمَّ بي السرور من كل صوبٍ فهو قمة السرور.
هشام : نعم الملجأ والقمة ما اخترتَ.
الرجل : أضرب لكما عليه، أم تكون جرأة كبيرةً منِّي أن أعزف على مسمعٍ من مولاي؟
ابن المهدي : ويحك رجل، أتعرفني؟
الرجل : منذ الوهلة الأولى يا مولاي، ابن المهدي، أخو الرشيد وعم المأمون، وخليفتنا أدامه الله.
ابن المهدي : تقصد خليفتكم السابق لا شك، ولكن.
الرجل : ولكن ماذا يا مولاي؟ تقصد الجائزة؟ أعلمها، مائة ألف درهم، قدرٌ كبير حقًّا، أعلم ذلك. إن طَرْقك بابي يا مولاي، مجرد طَرْقك، لا يكافئه مالٌ في العالم.
ابن المهدي : نفسٌ كبيرة تملكها. إن نفسك تلك هي التي لا يكافئها مال أيها الحجام. هاتِ العود، فوالله لأُسمعنَّك أنا لحنًا تقاصَرتْ عنه الفنون جميعًا.

(يدُق على العود.)

الرجل : فنُّك مولاي فنُّك، هو ملاذك وملجؤك، هو تلك النسمة التي يهبُها الله لفرد من عباده فيجدها عند الضيق فرجًا وعند الفرج لسانًا. فنكَ يا مولاي فنك، الجأ إليه، فإنكَ في عالمٍ تتحطم دونه كل قوة وتنكسر على سياجه كل شوكة، فنك يا مولاي، فلتعزف مولاي، ولنفسك تعزف والجمال والهدوء والسعادة كلها في هذه الأصابع الدقيقة تُجريها وفي هاته الحنجرة الذهبية تُطلقها إلى غير سكوتٍ إن شاء الله، فنُّك مولاي فنُّك.

(يرتفع صوت العود.)

(موسيقى.)

ابن المهدي : ها قد أقبل الصبح يا هشام، وإن فيه لعيونًا كاشفةً أخشى أن تفضَح من أمرنا ما نستر، فهلم نبغِ مأمنًا.
هشام : أمرك يا مولاي، ولكن ألا ننتظر الرجل حتى يعود نشكر كرمه وطيب ضيافته؟
ابن المهدي : ما أظُنُّني محتاجًا لهذه الإشارة يا هشام. إنك تُخاطب ابن المهدي، لئن زالت الخلافة فإن فيَّ أعراقًا عربيةً كريمةً، أنتَ أدرى الناس بها.
هشام : عفوًا مولاي، فوالله ما قصدتُ إلا …
الرجل (يدخل) : سعيدٌ صباح مولاي.
ابن المهدي : سعيدٌ صباحك أيها الكريم. لقد نوينا الرحلة إن شاء الله.
الرجل : على عيني ما انتويتَه.
ابن المهدي : كرمٌ عريض لاقيتُه عندك ولا أملكُ لجميلك الآن ردًّا، فهل زدت كرمك كرمًا، وقبلتَ منِّي هذه الدنانير على سبيل التذكار.
الرجل : والله يا مولاي ما دار بخلدي أن تُهينني هذه الإهانة. لقد ربحتُ من الدنيا فوق ما كنتُ آمل منها، ابن المهدي ضيف على داري الحقيرة، وابن المهدي يُغني وأنا أسمع، وابن المهدي يُكرمني، فيعتبر تفضُّله بالنزول عندي أمرًا يستحق منه الشكر. إن آمالي يا مولاي لتقصر أن تصل إلى ما وصلتُ إليه اليوم، وإنه إن لم ترُدَّ هذا المال إلى جيبك قتلتُ نفسي وأنتَ عن دمي مسئول.
ابن المهدي : وبعدُ لك أيها الرجل، تأبى إلا أن تترك جميلك كاملًا على كتفي، عبءٌ كبير، أسأل الله العون.
الرجل : مولاي، إني لا آمن عليكما أن تنزلا في وضح الصباح والجائزة مغرية، وما كلٌّ بمأمون الضمير.
ابن المهدي : أشِر عليَّ إذن، فما أُطيق أن أبقى لديك لا أريم فيعرف مكاني ويسعى إليَّ، أو أنا في الحق لا أُطيق أن أنتظر البلاء وأنا في مكان النساء لا أطيق. أشِر عليَّ فأخرجني.
هشام : النساء، أذكَرتَني مولاي، النساء.
ابن المهدي : ويحكَ أيها الرجل، هل بكَ مَس، ما لنا والنساء الآن؟
هشام : نلبس لباسَهُن ونخرج، فما أحسب أحدًا …
ابن المهدي : اخسأ يا رجل. لبس نساء، أنا ألبس لبس النساء؟!
هشام : وما يضيرك مولاي؟ ألستَ الرجل مشهورة رجولتك؟ ألستَ ابن المهدي؟ لا ضير عليك من أجل السياسة أن تلبس لباس النساء. إن لباس النساء يا مولاي هو أشرف ما يتنكَّر به الساسة من ملابس، فتوكل على الله مولاي، لبس النساء أيها الصديق، لبس النساء.
الرجل : أحسبه صادقًا فيما يذهب إليه يا مولاي؛ فإنها وسيلةٌ تكاد تنفرد. سأُحضر أنا هذه الملابس.
ابن المهدي : بئس يومٌ خطَرت لي فيه فكرة الخلافة. خنتُ القرابة وأضعتُ الأمانة، وها أنا ذا مُشتَّت الكرامة مسلوب مظاهر الرجولة.
هشام : أدام الله عليك الجوهر يا مولاي.
ابن المهدي : الجوهر، الجوهر، من يعلم الجوهر؟ الجوهر هو ذلك الدفين في أعماق النفس، لا يعلم أحدٌ عنه شيئًا. الدنيا كلها مظهر، أنتَ امرأة إذا لبستَ لباسها والمرأة رجل إذا لبسَت لباسه. أنتَ امرأة حين تبدو لرائيك بملابس النساء. أمَّا ما أنت عليه حقيقة فإن قلةً يعرفونه.
هشام : أحسَبني يا مولاي لا أستطيع ردًّا، كما أعتقد أننا محتاجون للوقت، فغُل يدك فيه بعض الشيء، وخيرٌ لنا أن نفكِّر أين سنولي الوجوه؟
ابن المهدي : أين نولي الوجوه؟ كأنك قد نسيتَ. إلى جاريتي عاتكة، نعم الملجأ هي.
هشام : أدامك الله مولاي. إن ما سكبتَ عليها من الفضل ليُلقي على قلوبنا الهدوء الأمين.
ابن المهدي : إنكَ تقول هذا لما تعرفه، أمَّا ما تجهله فهو أكثر بكثيرٍ. لقد عَرفَت هذه الجارية من أمري ما لم تعرفه عنِّي جاريةٌ أخرى في أي مكانٍ وأي وقتٍ.
هشام : إن قولكَ هذا يا سيدي وصفٌ لما رأيناه نحن، فإن كان ثَمَّةَ أكثر فإنني أخشى أن أقول لمولاي أنه أسرف.
ابن المهدي : لقد قلتَها فعلًا. على أية حالٍ أسرفتُ أو وفَّرتُ، فات الوقت فهلُم إلى عاتكة.
هشام : هاتِ أيها الرجل، هاتِ هذه الملابس.
الرجل : وأين عاتكة هذه يا سيدي هشام؟
ابن المهدي : شكرًا لك أيها الرجل النبيل. لا تكلف نفسك مشقة المجيء إلينا. سوف نوافيك بأخبارنا على أنك في غير حاجةٍ إلى أخبار، فهي خيرٌ ما دامت مقطوعةً، ولن يصلك منها إلا ما لا تُحب، فعلى هذا انتظر.
الرجل : يرعاكما الله. لقد شَرَّفتَني يا مولاي، وما أظنُّ الله إلَّا راعيك بفيض كرمه ووسيع فضله، يرعاك الله، يرعاك الله يا مولاي.
ابن المهدي : أمسك، فقد زدتَ الفضلَ أفضالًا بكلامك، فإلى لقاءٍ آخر، لقاءٍ قريب.
هشام : أسرع يا مولاي، أسرع، إلى عاتكة، إلى عاتكة. إنها نعم الملجأ.
ابن المهدي : وها أنا ذا عندكِ الآن يا عاتكة، لا خوف ولا إشفاق.
عاتكة : عند نفسك يا مولاي، بيتك، بيتك. لعلك تأذن لي مولاي، لو طلبُت إليك أن أخرج إلى السوق وأشتري ما أريد وأتسمَّع الأخبار. تأذن يا مولاي؟
ابن المهدي : نأذن يا عاتكة، فأنا في بيتي وفي مأمني. هيا هيا. وتَصيَّدي أخبارًا. هيا أسرعي.
عاتكة : إذن فدونكما يا مولاي نردًا. اقطعا به الوقت حتى أعود (صوت أحجار النرد).

(موسيقى.)

ابن المهدي : أيبعُد السوق عن هنا يا هشام؟
هشام : بل هو قريبٌ يا مولاي.
ابن المهدي : فما هذه الغيبة إذن؟ (صوت النرد)
هشام : ماذا؟ أخوف مولاي؟
ابن المهدي (في دهشة) : من عاتكة؟ أتخرفُ يا هشام؟
هشام : لا خوف ولكنه مزاح، عاتكة، هل يُخشى من عاتكة؟ إنها نعم الملجأ.

(جلبةٌ شديدة تظهر من بعيد وتقترب ثم يُقرع الباب بشدة.)

صوت (من الخارج) : باسم أمير المؤمنين المأمون بن الرشيد افتحوا الباب.
هشام (يكرر في سخريةٍ مريرة) : عاتكة! هل يُخشى من عاتكة؟! إنها نعم الملجأ.

(موسيقى.)

(مجلس المأمون.)

المذيع : المأمون بن الرشيد في مجلسه، تُحيط به الأُبهة من كل جانبٍ، وقد التفَّ حول عرشه النابغون من العلماء، وهو يأمر للمقرَّب فيجلس ولغيره فيقف، والناس على وجوهها الوجمة وفي نفوسهم الرهبة، والمأمون أثبت من الطود تترقرق في قلبه عواطف المحبة لعمِّه فلا يبديها، وتثور في نفسه عوامل الانتقام والثورة فلا تجرؤ واحدة من هذه الخوالج أن تصل إلى نأمة من وجهه. ها هو ذا إبراهيم بن المهدي يدخل متعثِّرًا.
ابن المهدي : السلام على أمير المؤمنين المأمون ابن أخي الرشيد.
المأمون : أوذكرتَ أخاك في قبره وابنه يئوده العبء فيكاد ينوء به؟ أذكرتهما تدَّعي الخلافة وتخرج عليه؟ لا أنزل الله عليك السلام أبدًا. لقد كان خيرًا لك تنسى العمومة والقرابة فلا توغل بهما في جراح هي في ذاتها عميقة كل العمق. أيعترف الكل لابن أخيك بالخلافة وتُنكِرها أنت عليه وتدَّعيها لنفسك؟ ولم تكن لك في يوم (في ثورة) أخلاقه.
ابن المهدي : يا أمير المؤمنين، إن ولي الثأر مُحكَّم في القصاص والعفو أقرب للتقوى، وقد جعلكَ الله فوق كل عفو، كما جعل ذنبي فوق كل ذنب، فإن أخذت فبحقك، وإن تعفُ فبفضلك.
ذنبي إليك عظيمٌ
وأنت أعظم منه
فخذ بحقكَ أوْ لا
فاصفح بحلمك عنه
إن لم أكن في فعالي
من الكرام فكنه
المأمون : موقفٌ لا أرضاه لك والله، ما كان أغناك عنه!
ابن المهدي :
أتيت ذنبًا عظيمًا
وأنت للعفو أهلُ
فإن عفوت فمنٌّ
وإن جزيتَ فعدلُ
المأمون : نسأل فيك الجالسين.
أصوات : نقتله شنقًا.
أصوات : بل نذبحه.
أصوات : نُمثِّل به.

(فترة صمت.)

المأمون : ما لأحمد بن أبي خالد لا يقول رأيًا؟ ألقِ الدلو في الدلاء.
أحمد : يا أمير المؤمنين، إن تقتله، وجدنا مثلك قتل مثله، وإن عفوت عنه لم نجد مثلك عفا عن مثله.
المأمون : إيه؟
قومي هُموا قتلوا أُميمَ أخي
فإذا رميتُ أصابني سهمي
ابن المهدي : الله أكبر، الله أكبر، عفا والله أمير المؤمنين.
ما إن عصيتُك والغواة تمدهم
أسبابها إلا بنيةِ طائعِ
مُلئَت قلوب الناس منك مهابةً
وتظل تكلؤهم بقلبٍ خاشعِ
فعفوتَ عمن لم يكن عن مثله
عفوٌ ولم يشفع لديكَ بشافعِ
المأمون : أعوذ بالله أن أُحوِجكَ إلى شافعٍ عمَّاه، ولكن ما ترى فيمن رأى قتلك أن أبا إسحق أشار بذلك؟
ابن المهدي : والله يا مولاي لو كنت مكانهما ما قلتُ بغير هذا. لقد أحسنا النصح يا مولاي، وأحسنتَ أنت العفو، وأنتَ له أهل، فدفعت خشيةً منِّي بأملٍ في صلاحي، فلستُ والله ابن المهدي إن سمحتُ لأملٍ لك أن يخيب.
المأمون : إن اعتذارك النابض بالحياة يؤكِّد صدقه يا عمَّاه، عماه لاقيتَ من المطاردة عنتًا، فهلا قصصتَ ما لاقيت.

(موسيقى.)

المأمون : إيذنوا للحجَّام بالدخول.
الحجَّام : السلام على أمير المؤمنين.
المأمون : وعليك السلام يا أخا العرب، إنك والله لأكرم من أن تكون حجَّامًا. أبلغوا أمير الجند أن يضمَّه إلى الجيش ويخلع عليه ويعطيه بيتًا يسكن فيه.
الحجام : مولاي، إنني أقبل ما تأمر به لأنه أمرٌ منك لا أملك من دونه ردًّا. أمَّا أنا، فوالله ما كنتُ أرجو بعد الشرف الذي نلتُه إلا أن أعيش في ذكراه، وسأعيش إن شاء الله في غمرةٍ من فضلك وفي ذكرى هذه الليلة التي شرَّفَني فيها عمُّك، أدامكما الله.
المأمون : إيذنوا للمرأة بالدخول.
عاتكة : السلام على أمير المؤمنين.
المأمون : خبِّريني يا امرأة؟ ما الذي حملك على ما فعلت؟ أتخونين من ائتمنك؟ أيُتقرب إليَّ بالخيانة؟
عاتكة : لا والله يا مولاي، إنما أنا فقيرة أريد مالًا.
المأمون : ألكِ زوج أو ولد؟
عاتكة : لا.
المأمون : أولم يسكب عليك مولاكِ الخير كله؟
عاتكة : بل يا مولاي، لقد كان خيرًا معي.
المأمون : فأعطوها الجائزة إذن. وأدخلوها السجن تعيش فيه ما بقي من حياتها. لا يُدفع الشر إلا بالشر، كما لا يزدهي الخير إلا بالخير.

(موسيقى.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤