تمهيد

في سنة ١٨٣٦، أي منذ قرن تقريبًا، نشَر ألفريد دي موسيه كتابه الخالد «اعترافات فتى العصر»؛ ليصف الأدواء التي استحكمت بأبناء جيله بعد أن اجتاحت أوروبا بأسرها أعاصير الحروب، فوقفت على أطلالها شبيبة تعثَّرت آمالها وتزعزع إيمانها.

ومنذ ثلاثين عامًا، عندما وقفت الطليعة الأولى من فتيان القرن العشرين في الأقطار العربية تستشرف غدها حائرة بين تذكاراتها وآمالها، قرأت اعترافات موسيه، فرأيت «داء العصر» الذي يصفه فيها مُتجلِّيًا بأوائل أعراضه بين شبيبة موتورة عن ماضيها، حائرة في حاضرها، يستهويها الإلحاد في إيمانها والتسيُّب في عواطفها، فبادرت إلى ترجمة الفصول الأولى من هذه الاعترافات، وبدأت أنشرها في جريدتي لسان الاتحاد، وإذا بزعازع السياسة تهب دافعة الأقلام إلى معاركها، مُحوِّلة لها عن الإصلاح الاجتماعي، إلى أن اجتاحت الدنيا كارثة الحرب العظمى تزيد داء العصر استفحالًا في هذه البلاد ككلِّ بلاد ضُرب حولها نطاق النار والدم مكرهة أو مختارة، وما انقشع عثير الروع ملقيًا بياضه على لمم الطليعة الأولى، حتى بدأ فتيان الكتيبة الثانية يقتحمون الحياة، وفي كل موطن من بلادهم رجة لم تستقم لهم معها طريق، وفي كل أفق من آفاقهم لمعات بروق، وحالكات غيوم.

إن شبيبتنا اليوم تعاني داء روَّع الغرب في أوائل القرن التاسع عشر، وهو لما يزل يقوض في أساس مجتمعاته، غير أنه استحال هنالك إلى علة مزمنة أدمنها الشعور، وما من علة أقتل للفرد وللمجتمع من علة لا تؤلم ضحاياها. ولقد يقرأ فتيان الغرب في هذه الأيام اعترافات موسيه، فيضحكهم جحوده المتألم وضلاله الباكي، ومَن مِن أبناء الحضارة الناضجة يجيز للألم أن يلمس قناعة إلحاده وجامحات أهوائه؟

أما هنا فداء العصر لم يزل يراود تفكير الشبيبة وعواطفها مراودة لا تستسلم لها العقول والقلوب؛ فإن شمس هذه السماء لم تشرق يومًا على جيل جحد ربه، وقتل صيانة حبه بالقضاء على غيرته المقدسة.

ويقيني أن كل فتًى يقذف به تيار التقليد إلى هذه الحياة التي يصفها موسيه في اعترافاته، تجتاحه نوب من صراع الحقيقة مع الباطل في أعماق سريرته؛ لذلك أكملت نقل الاعترافات إلى العربية لأهديها إلى الشبيبة الحائرة المتألمة في أوطاني شهادة على المدنية الزائفة التي تراود حياتهم وتغالبها فطرتهم، شهادة حقٍّ يؤديها للتاريخ شاعر تسامى بإلهامه فوق إلحاد «فولتير»، ويأس «غوته»، وشكوك «بيرون».

ليقرأ فتيان عصرنا الحائرون هذه الاعترافات الخالدة التي كتبها موسيه بدماء قلبه عِبرًا، لا بد أن يجد فيها كل فتى صورة لحادث من حوادث حياته، إن لم يجد فيها صورًا لمعظم حوادثها …

ليقرءوا بإمعان نصائح «ديجنة»، فما هي إلا نبرات الوساوس الداوية في آذانهم من المشارب والمراقص والشواطئ والمواخير، وكل ظاهرة اجتماعية تدل على تفكك روابط الأسرة وتسيُّب الأخلاق، وليصغوا بعد ذلك إلى أقوال «أوكتاف»، وما هي إلا صوت الحياة يهتف به موسيه شاعر الآلام، بل شاعر الحقيقة المتألمة، صارخًا من أعماق الضلال، مفتشًا على جنتي إيمانه وحبه.

إن على شبيبة اليوم، وهي الكتيبة التي تلت طليعتنا الأولى في القرن العشرين، أن تتم جهادنا وتحقق أحلامنا؛ فنحن نتطلع إليها كتباشير الضحى بعد ليلنا الطويل؛ لنراها تنفض عنها ما علق بها من «أدواء العصر»، متنكبة مزالق العقول والقلوب، عاملة بالدعوة والقدوة المثلى على إقامة الحضارة الصحيحة، راسية على الحرية ومكارم الأخلاق.

إن من جحد إيمانه جحدته حياته!
ومن اتخذ الحب ألعوبة طرده الحب من جناته.
فليكس فارس
الإسكندرية، أول سبتمبر سنة ١٩٣٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤