الفصل الرابع

قال القديس أوغسطينوس — وهو الرجل الكامل عند ذكراه أيام شبابه: وما كانت جميع هذه المسرات والملذات الكاذبة إلا بذورًا لا تنبت غير المرارة والأوجاع، وقد استنفدت قواي حتى مللتها.

إنها لكلمات لا يتفوه بها إلا القلائل ممن مشوا في الحياة حيث مشى هذا الرجل، فهم يحفظونها في قلوبهم، وأنا أيضًا لا أجد سواها في صميم فؤادي.

وبعد أن عدت إلى باريس في أول الخريف بدأت حياة الشتاء مندفعًا إلى الملاهي والمآدب والمراقص، فما كنت أفترق عن ديجنه إلا نادرًا، وكان هو يبدي مزيد ارتياحه إلي، وما كنت أنا مرتاحًا إلى نفسي؛ لأنني كنت كلما توغلت في هذه الحياة تتزايد همومي، فما طال بي الأمر حتى بدأ هذا العالم الذي حسبته لأول وهلة واسع الأرجاء يضيق بي في كل خطوة، فكنت كلما لامست شبحًا من أشباحه يضمحل ويتوارى أمامي.

وكان ديجنه يستفسرني عن حالي فأقول له: وأنت مالك أيها الصديق؟ لعلك تتذكر قريبًا بارحك إلى القبور، أم أن في صدرك جراحًا نكأتها رطوبة الشتاء؟

وكنت أراه أحيانًا يتظاهر بعدم سماع ما أقوله، فكنا نهرع إلى الموائد ونشرب حتى نفقد الشعور، أو نستأجر فرسين وننطلق إلى الحقول قاطعين عشر مراحل لنتناول طعامنا هنالك، ثم نعود لنستحم ثم نتناول العشاء، ثم نتراكض إلى موائد القمار، ثم ننسحب إلى أسِرَّتنا، وما كنت أصل إلى سريري وأوصد الباب عليَّ حتى أنطرح جاثيًا أذرف الدموع. وتلك كانت صلاتي في كل مساء.

ومن غرائب حالتي أنني كنت أشعر بشيء من الغرور عندما كنت أتمكن من الظهور على غير الحقيقة التي أعهدها في نفسي، فكنت أباهي بالإغراق في وصف شروري، وأجد لذة شاذة يشوبها الحزن العميق. وما كنت أشعر إلا بالملال عندما كنت أسرد حوادثي على حقيقتها، وما أدري كيف أصف هذه اللذة التي كنت أستغرق فيها عندما كنت أقص وقائع جنون وفحشاء لا حقيقة لها.

وما كنت أتألم لشيء تألمي لاضطراري إلى ارتياد الأماكن التي كنت أرافق خليلتي إليها فيما مضى، فكنت أظهر كالمعتوه أمام رفاقي، وأذهب إلى مكان منفرد لأحدق في أصول الأشجار ونبات الأرض، حتى إذا مللت تأملي ضربتها برجلي وحاولت تحطيمها، ثم أعود إلى حيث أتيت وأنا أتمتم قولي المألوف: «إن الله لا يحبني.» وكانت تنتهي هذه النوب بي إلى سكوت يطول مدى ساعات.

واحتلت دماغي فكرة ملكت جوانبي، وهي أن لا حقيقة إلا في العري، فكنت أقول: إن العالم يسمي أصباغه وأدهانه فضيلة، ويدعو سبحته دينًا، وأثوابه أدبًا ولياقة، وما الشرف والأخلاق إلا وسائل لقضاء حاجته، فالعالم لا يشرب خمرته إلا من دموع المساكين الذين يؤمنون به؛ فهو يمشي مطرقًا ما دامت الشمس تتكبد السماء، فيذهب إلى الكنائس والمراقص والمجتمعات، وعندما ينسدل ستر الظلام يسقط عنه دثاره، فإذا هو مومس تتخطر على مثل قوائم التيوس …

ولكنني كنت أحتقر نفسي بهذا القول؛ إذ كنت أشعر أن تحت هذا الجسد الذي تستره الأثواب هيكلًا من عظام، فكنت أرتعش وأسأل نفسي ما إذا كان هذا كل الوجود.

وكنت أعود إلى المدينة، فأصادف في طريقي فتاة تمسك بيد أمها وتسير معها، فأتبعها بأنظاري متنهدًا، وأشعر أنني رجعت إلى الأيام التي كنت فيها طفلًا.

وبالرغم من أنني كنت أتبع دقة النظام الذي قررته أنا وأصدقائي في حياتنا المشوشة، فما كنت أهمل الذهاب إلى بعض المجتمعات العائلية؛ حيث كنت أشعر باضطراب شديد عندما أنظر إلى أية سيدة، فما كنت ألمس أيدي النساء إلا مرتعشًا بعد أن صممت على هجر الحب إلى الأبد.

ومع هذا، فإنني رجعت ليلة من أحد المراقص وفي قلبي من الألم ما أشعرني بعودة الحب إليه؛ لأنني كنت جلست إلى المائدة بقرب سيدة لها من الجمال والأدب الجم ما لا قبل لي بنسيانه. وعندما أغمضت عيني لأنام انتصب خيالها أمامي، فحسبتني مقضيًّا عليَّ بالهلاك؛ ولذلك صممت على أن أجتنب أية فرصة تمكنني من الاجتماع بها، وبقيت أغالب نفسي خمسة عشر يومًا ما بارحت فيها مقعدي، فكنت أنطرح عليه ساهيًا فتمر في مخيلتي جميع حركات هذه المرأة وكلماتها.

وما طال الأمر حتى ذاع صيتي في باريس؛ حيث يترصد الناس سكنات الناس وحركاتهم بأنني سيد الخلعاء، وكان ذكاء العالم في هذا مدعاة لإعجابي به؛ لأنني بعد أن كنت في عينه أشد الناس حماقة عندما وقعت لي حادثة خليلتي، أصبحت الآن الرجل المتصلب الذي يتحكم في شعوره، وذهب البعض إلى القول بأنني ما كنت عاشقًا لهذه المرأة، بل كنت ألعب دوري بمهارة، فكان ذلك خير ثناء يوجهه هؤلاء الناس إليَّ.

والأنكى من هذا أنني أصبحت أنا نفسي أنتفخ غرورًا بهذا الشرف المكين، وأتلذذ بغروري.

وكنت موجهًا كل جهدي إلى أن يراني الناس واصلًا إلى مقام من تحجرت عواطفهم، في حين أنني كنت أشتعل بالشهوات، وتذهب تخيلاتي الجامحة بي كل مذهب.

بدأت أعلن أن ليس للمرأة أقل شأن في نظري، وكنت أبذل الجهد لخلق أوهام أعلنها للناس وأقول إنني أفضلها على الحقائق، فكأنني لم أكن أرى لذة إلا في تشويه ذاتي، وكان يكفيني أن تلوح لي فكرة تصدم الرأي العام لأتطوع للدفاع عنها مهما كلفني الأمر.

وهكذا بليت بأعظم النقائص والعيوب: بليت بتقليد كل ما كان يستوقف انتباهي، لا لجماله بل لغرابته، وبما أنني لم أكن أرضى أن أظهر في مظهر المقلد التابع كنت أندفع إلى المغالاة لأثبت أنني مبتدع لا تابع مقلد، فلم أكن أرى شيئًا حسنًا حتى ولا مقبولًا، فأبدي عجبي ممن يفقدون رزانتهم في إعجابهم، ومع ذلك لم أكن أتورع في حماستي عندما كنت أدافع عن نظرية أريد أن آخذ بها، فكنت أندفع في بياني حتى تضيق اللغة عن إمدادي بالتعابير اللازمة لإبداء إعجابي، وكان يكفي أن يسلم أخصامي بما أرمي إليه لأفقد كل فصاحة وكل حماس.

وما كانت هذه الحال الفكرية إلا نتيجة ملازمة لحياتي التي كرهتها، وما قدرت على تبديل خطتي فيها، فكنت أعذب تفكيري كأنني أنتقم منه، وأتخذ كل وجهة طلبًا للتهرب من نفسي.

ولكن بينما كان غروري يداعب ذاته على هذه الوتيرة، كان فؤادي يتقلب على أوجاعه، فكأنني كنت أنطوي على رجلين أحدهما ضاحك والآخر باكٍ، وكان الصراع مستمرًا بين دماغي وقلبي، فكان مزاحي يدفعني إلى الحزن المفرط كما كان حزني يثير مزاحي فأستغرق في ضحكي.

وسمعت ذات يوم رجلًا يتبجح بأنه لا يعتقد بأية خرافة، وأنه يسخر بكل تفاؤل وكل تشاؤم، فجاء أصحابه إلى غرفته، ومددوا على فراشه هيكل رمة بشرية، وكمنوا في غرفة مجاورة، ودخل الرجل إلى غرفته في ساعة متأخرة، فلم يسمع الكامنون أية حركة حتى الصباح؛ إذ شاهدوا صديقهم جالسًا على فراشه وهو يلعب بالعظام. وكان الرجل قد جُنَّ.

لقد كان في داخلي شيء يشبه هذا الرجل يلعب بعظام رمة محبوبة، وما تلك الرمة إلا أنقاض غرامي، وهي كل ما تبقى لي من سالف أيامي.

وما كانت هذه الحياة المضطربة تخلو من أويقات لها لذتها وصفاؤها، فقد كان معاشرو ديجنه من الطبقة الراقية، وأكثرهم من أرباب الفنون، فكنا نمضي ليالي عديدة يسود سمرنا الخليع فيها ما يبعد جد البعد عن الفحشاء، وكان أحد الصحاب عاشقًا مغنية مشهورة تشجينا بصوتها الساحر الحزين. ولكم جلسنا إلى المائدة فنسينا ما عليها من طعام مستغرقين فيما يثير إنشاد هذه المغنية في نفوسنا من حنين! ولكم درنا بأقداح الشراب ونحن نصغي إلى أحدنا يلقي علينا بصوت عميق رائع بعض مقطوعات من لامارتين، فكنا نؤخذ بمعانيها كأن تفكيرنا حصر في دائرة منها، وكانت تمر الساعات دون أن نشعر بها، حتى إذا جلسنا بعدها إلى المائدة سادنا سكوت رهيب، وعلقت بأهدابنا الدموع.

وكان يتجلى هذا التأثير في مثل هذه الأوقات على ديجنه بأكثر من تجليه في الآخرين، وهو المعروف بيننا بصلابة خلقه، وبرودة طبعه، فكانت العواطف تتدفق من كلماته ولفتاته كأنه شاعر ساعة نزول الإلهام عليه. وما كانت تنتهي نوبة استسلامه لشعوره حتى يبدأ رد الفعل في أعضائه، فينقلب إلى المرح الجنوني كارعًا من الخمر ما يفقده رشده، فيستولي عليه روح الهدم والتحطيم، ولكم رأيته يختتم نوبه هذه بقذفه كرسيًّا إلى نافذة مغلقة يحطم زجاجها بفرقعة تصم الآذان.

وكنت أراني مندفعًا بالرغم مني إلى تشريح أخلاق هذا الرجل، فكان يلوح لي كأنه فرد من مجتمع غريب لا أعرف له مقرًّا على هذه الأرض. فما كنت أعلم أكان هذا الإنسان مسيرًا في عمله بيأس مريض، أم بدلال ولد صغير.

وكان ديجنه يبدو — بخاصة في أيام الأعياد — كأنه مأخوذ بثورة عصبية، فيأتي بأعمال صبيانية يحتفظ فيها بكل برودة خلقه، فكان من يراه لا يتمالك من الاستغراق في الضحك، وقد أقنعني يومًا بأن أخرج للتنزه معه وحدنا عند الغسق، فارتدينا أثوابًا غريبة الشكل، وقنعنا وجهينا، وحمل كل منا آلة موسيقية، وذهبنا على هذه الصورة تائهين في الأحياء الصاخبة، محتفظين برصانة أرباب الفنون، وصادفنا في تجوالنا عربة كان سائقها قد دبَّ فيه النعاس فنام على مقعده، فسارعنا إلى حل أربطة الفرسين، ثم تقدمنا إليه وصحنا به فأفاق، وركبنا العربة طالبين منه إيصالنا، وما لوح المسكين بسوطه في الهواء حتى ذهب الفرسان خببًا، وبقي هو في عربته مشدوهًا، وتوجهنا بعد ذلك إلى الشانزليزيه، فرأى ديجنه عربة تتقدم نحونا، فاعترضها وأمر السائق بالوقوف، وتهدده بالقتل إن لم يترجل عن مقعده، وإذ نزل الرجل عند إرادته مذعورًا أمره بالانبطاح على الأرض مُعرِّضًا نفسه لأوخم العواقب، ثم فتح باب العربة كأنه قاطع طريق، فرأينا شابًّا وسيدة استولى عليهما الرعب الشديد، وأمرني ديجنه بمجاراته فيما سيفعل، فأخذ يقفز من الباب ليعود فيقفز من الباب الآخر، وأنا أتبعه حتى خُيل إلى مَن في العربة والظلام سائد أن المهاجمين عصابة من اللصوص.

يقول لك بعض الناس: إن الحياة تُولي مَن يبتليها اختبارًا، ولعلهم يعجبون في سرائرهم إذ يصدقهم سامعوهم. وهل العالم إلا عاصفات إعصار لا تشبه إحداها الأخرى؟ وكل ما في الحياة يذهب بددًا كسرب أطيار ينتشر في الفضاء الفسيح، فما تجد مدينة تتشابه أحياؤها، ومن عرف أحدها يبقى جاهلًا لسائرها، غير أن هذه الأعاصير التي تدور منذ وجود العالم لم تزل تخترقها سبعة أشباح لا تتغير على ممر الأجيال: أولها يسمى الأمل، والثاني الضمير، والثالث الرأي، والرابع الشهوة، والخامس الحزن، والسادس الكبرياء. أما الأخير فيسمى الإنسان.

وما كنت وأصحابي إلا كسرب أطيار، فبقينا سوية إلى أن جاء الربيع نلعب حينًا، ونركض أحيانًا.

ولعل القارئ يتساءل: أين النساء في هذه الحوادث؟ وأين هي الفحشاء؟

وماذا عساني أقول عن هذه المخلوقات الحاملات اسم النساء، واللواتي راودن حياتي كأشباح أحلام؟ أيمكن للإنسان أن يحتفظ بالذكريات من وقائع لم يكن فيها شيء من الأماني والآمال؟

وأين أجد هذه الوقائع الآفلة لأثير منها تذكارًا؟ وهل من شبح أشد صمتًا منك أيتها المرأة العابرة كالظل؟ وهل من انطباع أسرع إلى الزوال منك في صفحة الذكريات؟

وإذا كان لا بد من إيراد شيء عن النساء، فلأذكرن منهن اثنتين:

وإليك الأولى:

أسألك أولًا عما يمكن أن تئول إليه عاملةٌ بالخياطة لها من العمر ثمانية عشر ربيعًا، تتدفق شهوة الصبا من إهابها الغض، وعلى خوان عملها رواية كل صفحاتها صبابة وغرام، وهي لم تتلقن علمًا، ولا تعرف عن الآداب والأخلاق شيئًا، فتقضي حياتها تخيط الأثواب أمام نافذتها؛ حيث تمتد طريق منع رجالُ الشرطة المرور عليها؛ ليجيئها عند المساء رهط من بنات الهوى الحاملات الإجازات يخطرن عليها ذهابًا وإيابًا، ما تفعل هذه الفتاة بعد أن تكون قطعت أصابعها، واستنفدت نور عينيها منذ الصباح حتى المساء، عاملة في رداء أو في قبعة، إذا هي اتكأت عند الغسق إلى نافذتها فرأت ما عملت فيه يداها الشريفتان لكسب قوت مَن حولها يرتديه قوام فاجرة ورأس عاهرة؟

ولكم من عربة تقف أمام بابها كل يوم فتترجل منها فتاة لها رقمها كالعربة التي تستقلها! وتدخل على هذه العاملة المسكينة لتحدجها بلفتات الاحتقار، وتقف أمام مرآتها لتجرب مرارًا الرداء الذي انكبت عليه سواد الليالي لإنجازه، وتخرج العاهرة من كيسها ستة دنانير يتوهج ذهبها، وهي العاملة لا تكسب إلا دينارًا طوال أسبوعها، فلا تملك نفسها من التفرس فيها، والتأمل فيما تلبس من حلي، ثم تتبعها بأنظارها حتى تركب عربتها وتتوارى.

ويجيء يوم ينقطع فيه العمل عنها، ويسود الظلام على البيت الذي تظلله الفاقة، وقد انطرحت في إحدى زواياه الأم المريضة، فتفتح العاملة البائسة بابها، وتمد يدها قابضة على مجهول يمر على الطريق …

هذه هي حكاية الفتاة التي تعرفت إليها، وكانت تحسن العزف قليلًا على البيانو، وتعرف شيئًا من فن الرسم، ومن التاريخ والصرف، فكانت كل معارفها على هذا النحو شيئًا يسيرًا من كل شيء، ولَكَم كنتُ أُنعِم النظر في هذه المخلوقة والأسى يرين على قلبي؛ إذ أتمثل فيها بداية عمل الطبيعة، ونهاية ما يأتيه المجتمع من التشويه! ولكم شخصت بشخوصي أمامها إلى ليلٍ مُدلَهِمٍّ تلوح فيه شرارات ضئيلة من نور عليل!

ولكم حاولت أن أشعل بعض الجمرات الخامدة تحت هذا الرماد، وقد كانت حلة شعرها بلونه، فكنا ندعوها «ساندريون»!

وما كانت ثروتي تسمح لي بأن أُعيِّن لها معلمين، فتولى ديجنه الإنفاق على تعليمها، ولكنها عجزت عن بلوغ أي نجاح، فما كان المعلم يتوارى عن نظرها حتى تكتف يديها وتبقى الساعات الطويلة محدقة بما وراء نافذتها. وكانت تمر الأيام على هذه الوتيرة، فتهددتها يومًا بأنني سأقطع عنها المال إذا هي لم تجتهد، فبدأت بالعمل دون إبداء أية مقاومة، ولكني عرفت بعد ذلك أنها كانت تخرج خلسة من البيت، ولا يعلم إلا الله إلى أين كانت تذهب، فرجوتها قبل أن أُسرِّحها أن تطرز لي كيسًا، وقد احتفظت بهذا الكيس مدة طويلة كذخيرة حزينة، وأبقيته معلَّقًا على جدار غرفتي كأنه رسم لكل طلل عافٍ في هذه الحياة.

أما الثانية فهذه قصتها:

وكانت الساعة العاشرة مساء، وكنا قضينا نهارنا في الرياضة المتبعة، فتوجهنا إلى منزل ديجنه، وكان هو قد سبقنا إليه لإعداد ما يلزم لليلة راقصة، ولما دخلنا البهو رأيناه مزدحمًا بالمدعوين، وبينهم عدد وفير من الممثلات، وقد بيَّن لي الصحاب السبب في دعوتهن إلى الحفلات فقالوا: إن الرجال يتزاحمون عليهن.

وما وصلت إلى القاعة حتى اندفعت مع تيار الراقصين، وكنت شديد الميل إلى رقصة «الفالس»؛ إذ ليس بين أنواع الرقص ما يماثلها خفة ورشاقة، وليس غيرها إلا حركات لا معنى لها يقصد منها انتهاز الفرصة للأخذ بأحاديث لا طائل تحتها. أما «الفالس» فرقصة تتيح لك أن تتمتع بالمرأة التي تضمها نصف ساعة بين ذراعيك، وتسير بها بين تصادم الراقصين وهي خفاقة الجوارح، فتكاد لا تعلم إذا كنت تغتصب إرادتها أو تحمي ضعفها، وكم بين الراقصات مَن يستسلمن إلى قيادتك بخَفَر تتدفق الشهوة منه، فلا تعلم ما يدور في خلدك: أشهوة هو أم حذر، وتقف مرتابًا في نفسك فلا تدري حين تشد بالراقصة إلى قلبك: أتترنح ثملة أم تنقصف كالقصبة الضعيفة بين يديك.

لا ريب في أن ألمانيا التي اخترعت هذا النوع من الرقص بلاد ما خفيت حقيقة الحب عن أهلها.

وكنت أخاصر راقصة رائعة الجمال تنتمي إلى المسرح الإيطالي، جاءت إلى باريس لتمضية أعياد المرفع، وكانت بزي الراقصات في هيكل إله الخمر ترتدي قفطانًا من جلد النمور، وما كنت رأيت في حياتي امرأة تشبه هذه المرأة في دلالها، فقد كانت ممشوقة القد، ناحلة القوام، تنطلق في خطواتها بسرعة، ولكنك تخالها تنسحب انسحابًا وهي تتقصف في دلِّها، ولقد يحسب الناظر إليها أنها تُتْعب مُراقِصها، في حين أنه لا يحس بها إلا كخيال ميال بين ساعديه.

وكانت هذه الغانية مزينة صدرها بطاقة كبيرة من الورد تورثني نشوة أين منها نشوة الراح، وكانت تنطوي على ساعدي لأقل حركة كأنها من الأماليد عاشقات الشجر، فإخالها بما فيها من ليونة وعذوبة خلابة وشاحًا من ناعم الحرير يلفني كأذيال الغمام. وكان عقدها المتدلي من عنقها يهتز في كل دورة من دوران الرقص ضاربًا على نطاقها المعدني، فأسمع له صوتًا خافتًا كحفيف الغصون. وكان في حركاتها من الجلال ما يوقفني منها أمام كوكب رائع يبتسم لي؛ فإخالها جنية تنشر جناحيها لتعود أدراجها، وكأن الموسيقى الشجية الهائمة كانت تصدح من بين شفتيها وهي مائلة برأسها إلى الوراء تكللها الضفائر السوداء، وقد أرهق عنقها من ثقلها فالتوى.

وما انتهى دور الرقص حتى ارتميت على مقعد في زاوية القاعة، وكان قلبي ينبض بسرعة قطعت أنفاسي، فهتفت قائلًا: يا الله مما رأيت! يا للمسخ الرائع! ويا لك من أفعى كلها حسن وجمال، تعرف كيف تلتف، وكيف تتململ بجلدها اللين الأرقط! لقد علمتك حية الجنان المغوية كيف تلتفين على شجرة الحياة وبين أسنانك ثمرة الموت. يا لك ساحرة تتحكمين في قلوب الناس، وتعلمين ما يفعل بهم هذا الدلال وهو يتجاهل قوته! وهلا تعلمين أنك تُهلكين وتُغرقين، وأن كل من لمسك سيحل به العذاب، وأن ابتسامك وعبق أزهارك والاقتراب إلى ملاذك يؤدي إلى الموت … ذلك هو سر الحلاوة في افترار ثغرك، وتفتق أزهارك، فأنت تعرفين هدفك عندما ترسلين معصمك متراخيًا على الكواهل.

لقد أعلن الأستاذ هاللي حقيقة مروعة حين قال: «إن المرأة عصب البشرية، والرجل عضلها.» وقد قال هومبولت العالم الجدي نفسه: إن أعصاب البشر يحوطها إشعاع خفي، وأتباع سبلانزاني يعتقدون أيضًا أنهم اكتشفوا الحاسة السادسة. إن في هذه الطبيعة التي تقذف بنا إلى الوجود، ثم تدفعنا إلى الموت وهي هازئة بنا، من القوات الخفية ما يكفيها، فلا نُضيفَنَّ إلى ما نتسكع به من ظلماتٍ ظلماتٍ أخرى.

ولكن أي رجل يعتقد أنه تمتع بالحياة إذا هو أنكر سلطان المرأة عليه، إذا هو لم يحس بارتعاش ساعديه بعد أن يكون خاصر امرأة جميلة وراقصها، وإذا هو لم ينفذ إليه ذلك الشيء المجهول، أو تلك الكهارب المُسكرة التي تنتشر في المرقص حين تتعالى النغمات، ويكسف لهب الجسوم أنوار المصابيح. وما تنتشر هذه الكهارب إلا من أجسام الحسان فيتكهربن بها أولًا، ثم تهب منهن كالعبق المتصاعد من مبخرة تتمايل مع الرياح.

واستولى عليَّ خبل مريع، وما كنت أجهل أن الحب يورث هذا الثمل، وما كانت هذه أول مرة عرفته، ولكنني ما كنت أعلم من قبل أن بوسع امرأة أن تدفع بالقلب إلى مثل هذا الخفوق، وأن تثير في المخيلة مثل هذه الأشباح بجمالها، وبأزهارها، وبثوب مخطط كجلد الحيوان المفترس، وبحركات دوران اقتبستها من أحد المهرجين، وبالتفاف معصم بضٍّ على كتف، وذلك دون أن تنبس بكلمة أو تبدي فكرة واحدة كأنها تترفع عن الاعتراف بعزتها وسلطانها.

وما كان ما أشعر به من الحب، بل من الظماء المحرق؛ فإنني لأول مرة في حياتي كنت أشعر باهتزاز أوتار مشدودة مني على غير قلبي، فإن تجلي هذا الحيوان الرائع لعيني كان قد استنطق وترًا غير أوتار القلب في أحشائي، وما كنت أحس بنفسي ما يدفعني إلى أن أقول لهذه الغانية: إنني أحببتها، أو أعجبت بها، أو حتى لأعلن لها تقديري لجمالها، بل كنت أشعر أن على شفتي تعطشًا للالتصاق بشفتيها لأقول لها: منطقيني بهذين المعصمين المتراخيين، وألقي على كتفي رأسك المائل، وارشقي بهذه البسمة العذبة شفتي.

لقد عشق جسدي جسدها، فكنت من جمالها في سكرة كسكرة الراح.

ومرَّ بي ديجنه فسألني عما أفعل حيث كنتُ، فأجبتُه: من هي هذه المرأة؟ فقال: وأية امرأة تعني؟ فقبضت على ساعده وسرت به في القاعة، ولحظت الإيطالية أننا نتجه نحوها فابتسمت، وإذ تراجعت قليلًا قال ديجنه: آه! لقد رقصت مع ماركو …

– ومن هي ماركو؟

– هي تلك المدللة الضاحكة هنالك … فهل أنت معجب بها؟

– لا، لقد رقصت معها، وأحب أن أعرف اسمها. وهذا كل إعجابي بها.

وما قلت هذا إلا لأنني شعرت بشيء من الخجل، وإذ تولَّى ديجنه عني ذهبت أنا نحو الإيطالية فاستوقفني قائلًا: رويدك، يا أوكتاف، ليست ماركو كسائر البنات، فهي في عهدة سفير ميلانو، وتكاد تكون زوجة له، وقد جاءت إلى هذه السهرة مع أحد أصحاب السفير، غير أنني سأكلمها في شأنك فلا أدعك تموت، إلا إذا لم يكن بدٌّ من موتك. سأحاول إبقاء ماركو عندنا للعشاء.

قال هذا وتوجه إليها، فسادني اضطراب يعجز بياني عن تحديده، وما بدأ بمحادثتها حتى تمشيا سوية وغابا عن عياني بين زرافات المَدْعوين.

وكنت أناجي نفسي قائلًا: أيمكن أن يصيب حدسي؟ أتكون هذه المرأة هي من سأحب؟ ولكن ما لقلبي ولهذا، فإن حواسي وحدها تعمل عملها بمعزل عنه.

وكنت أحاول بمثل هذا التفكير أن أهدئ روعي، وما طال انتظاري حتى شعرت بيد ديجنه على كتفي وهو يقول: سنذهب إلى المائدة، وعليك أن تشبك ساعدك بساعد ماركو؛ فهي تعرف أنك معجب بها، وقد تمَّ الاتفاق …

فقلت: اسمع، يا ديجنه، إن ما أشعر به يفوت إدراكي، فكأنني في رؤى أشهد «فولكان» فيها يسحب رجله العرجاء ليطبق على «فينوس» ويشبعها تقبيلًا، ولحيته تعبق بدخان مصنعه، وهو يحدج بنظراته الزائغة جسم إلهة الجمال البضِّ مستغرقًا في التحديق بها وهي كل ما يملك، فيحاول أن يبتسم ويتظاهر بالارتعاش مسرة وحبورًا، ولكنه في الوقت نفسه يتذكر أباه كبير الآلهة «جوبيتير» الجالس على عرشه في السماء.

وحدَّق ديجنه في وجهي، ولكنه لم يجب، بل قبض على يدي وجرني قائلًا: إنني جد متعب وأشعر بحزن؛ فإن هذا الصخب يقتلني. هيا بنا إلى المائدة نَستعِدْ قُوانا.

وجلسنا إلى مأدبة جمعت ما لذ وطاب، ولكنني كنت أشاهدها ولا أتمتع بها؛ إذ كانت شفتاي ترتجفان في انقباضهما، وسألتني ماركو عما بي، فبقيت شاخصًا كالصنم أسرح أبصاري من رأسها إلى قدميها صامتًا ذاهلًا.

وما تمالكت ماركو نفسها من الضحك، فضحك ديجنه معها من بعيد وهو يرقبنا، وكانت أمامها كأس كبيرة من البلور تنعكس عليها الأنوار فتتكسر على أضلاعها لتشعَّ بالسبعة الألوان، ومدت يدها المتراخية فملأت الكأس بخمرة قبرصية فيها حلاوة الشرق ونكهته، وقدمتها إليَّ قائلة: هذه لك يا بنيَّ.

أخذت الكأس ثم أعدتها إليها قائلًا: بل لك ولي.

ورطبت شفتيها من الحباب وأعادتها إليَّ، فكرعتها دفعة واحدة وأنا أنظر إليها نظرات حزينة فاتتها معانيها.

فسألتني: أرديئة هي؟

– لا.

– أمتعب أنت؟

– لا.

– أتشكو صداعًا.

– لا.

ما بك إذن إلا هموم غرام.

وظهرت على وجهها علائم الجد، وكنت أعلم أنها وليدة نابولي؛ لذلك نبضت إيطاليا في قلبها عندما تفوهت باسم الغرام.

وفي هذه الأثناء كانت الدماء تتصاعد إلى الرءوس، والأقداح تتصادم بين الأنامل، وبدأت الخدود تصطبغ بلون الخمر، فكأنها كانت تبرقع أشد الوجوه اصفرارًا كيلا تعلوها من الخجل حمرته، وكانت الضجة تتعالى وتنخفض كأنها هدير أمواج، والأحداق ترسل لمعانها إلى كل صوب ثم تذهب تائهة … فكأن في القاعة نسمات خفية كانت تخفق فيها كل هذه الأرواح الهائمة في نشوتها، وكل روح تتلمِّس طريقها إلى سواها.

وهبَّت إحدى النساء من مكانها بين الحشد كما تتعالى على صفحة البحر الساكن أول موجة تتنسم العاصفة فتعلو منذرةً باقترابها. وقفت وأشارت بيدها ليُنصت الحضور إليها، وكرعت كأسها ثم حولت أناملها إلى شعرها تنثر غدائرها الذهبية على كتفيها وعلى صدرها المتهدج بأنفاسه، فما أسمعتنا سوى نبرتين مختنقتين وامتقع لونها فجأةً فتراخت على مقعدها.

وقامت قيامة الحاضرين، فسادهم الهرج والمرج حتى نهاية السمر، فما كان لأحد أن يتميز شيئًا وقد اختلط الضحك بالغناء والصراخ.

وسألني ديجنه عما أقول في هذا، فأجبته بأنني لا أجد ما أقوله، فما لي إلا أن أسد أذنيَّ وأسرِّح أبصاري …

وبقيت ماركو ساكنة وسط هذه المعمعة، فلم تتكلم ولم تشرب، بل أسندت رأسها بيدها وتاهت في أحلامها، وما كان يلوح على وجهها ما يدل على تأثر أو استغراب، فقلت لها: أما تريدين أن تفعلي ما يفعلون؟ لقد سقيتني خمرة الشرق، فهل لك بتذوقها؟

قلت هذا وملأت كأسها دهاقًا، فرفعتها ببطء إلى فمها وارتشفتها حتى الثمالة، وبعد أن أعادت الكأس إلى المائدة عادت إلى استغراقها.

وكنت كلما أدمت النظر إلى هذه الغادة أزداد استغرابًا لحالها، فهي لا تُسرُّ لشيء ولا يضايقها شيء، بل تفعل ما يُطلب منها، ولا تقوم بأية حركة من تلقاء نفسها، فذكرتني بتمثال الراحة الأبدية، فقلت في نفسي: لو نُفخت روح في هذا التمثال لما كان يبدو لنا إلا كماركو ثانية.

وكنت أقول لها: أأنت طيبة القلب أم أنت شريرة … أحزينة أنت أم مرحة … أيروقك أن تحبي … أتهوين المال والملذات … وأي نوع منها تفضِّلين … أسباق الخيل أم الخمر أم الرقص … أي شيء يعجبك … وبماذا تحلمين؟

فما كنت أظفر منها إلا بجواب واحد على جميع هذا، وهو ابتسامة لا حزن فيها ولا سرور، كأنها تعني الاستسلام وعدم المبالاة.

وقرَّبت إلى مبسمها شفتيَّ، فألقت عليهما قبلة متراخية تشبهها، ثم رفعت منديلها إلى فمها، فصرختُ بها: ويل لمن سيحبك يا ماركو …!

فألقت إليَّ بنظرة من مقلتها السوداء، ثم رفعتها إلى العلا وأشارت بأصبعها بحركة إيطالية لا تُقلَّد، ولفظت بتمهل الكلمة الكبرى الخاصة بنساء بلادها: لقد يكون …

وقُدمت أشكال الحلوى والفاكهة، ونهض فريق من المدعوين إلى القاعة يدخنون ويلعبون، وما بقي على المائدة إلى العدد القليل، وكانت بعض النساء تستسلمن للرقص، والبعض الآخر للنعاس، وعادت جوقة الموسيقى إلى العزف، وتضاءلت أنوار الشموع، فاستبدلت بها سواها، فتذكرت وليمة «بترون» حيث ما كانت تطفئُ المصابيح حول من طرحهم السكر على مقاعدهم، حتى يتسلل الخدم إلى المائدة ليسرقوا ما عليها من الأواني الثمينة.

ودام الإنشاد يتعالى من أفواه الثلاثة المغنين الإنكليز ذوي الوجوه الشاحبة.

ودعوت ماركو إلى الانصراف فنهضت واستندت إلى ذراعي، فشيَّعنا ديجنه قائلًا: إلى الغد.

وخرجت بها من القاعة، وكنت كلما اقتربت إلى منزلها يزداد خفوق فؤادي، ويستولي الصمت عليَّ لحيرتي في هذه الغانية التي تترفع عن الشهوة كما تترفع عن الكره، وما كنت أدرك السرَّ في ارتجاف يدي وهي تلف هذه المخلوقة الساكنة الجامدة.

وبلغنا غرفة ماركو، فإذا هي على مثالها قاتمة تنتشر الشهوة في جوها، وكانت مُنارة بمصباح من الرخام الناصع البياض يرسل في جوانبها أشعة منكسرة، وكانت المقاعد كأنها أسرَّة وثيرة مشدودة بالحرير على زغب الطيور، وما دخلت إلى هذا المسكن حتى هبَّت في وجهي رائحة عطور تركية أصلية مستوردة من القسطنطينية، وهي أقوى العطور تهييجًا للأعصاب، وأشدها خطرًا.

وقرعت ماركو جرسًا، فجاءتها وصيفتها الفتية، وسارت وإياها إلى الخدر، وما لبثت حتى انطرحت فيه على سريرها وقد أسندت وجهها بيدها متراخية على عادتها.

ووقفت أمامها أمعن النظر فيها، وكنت كلما أوغلت في إعجابي، وكلما ازداد انجلاء محاسنها لعيني، يستولي عليَّ شعور غريب يبدد ما تثير هذه المحاسن من شهواتي.

ولعلني كنت مأخوذًا باستهواء من الإشعاع الخفي، فتحكم فيَّ ما في هذه الغانية من سكون وجمود، وانطرحت متمثلًا بها على المقعد المستطيل قبالة سريرها، وتغلغل صقيع الموت في روحي.

إن نبضان الدم في العروق ليشبه حركة ساعة غريبة لا تُسمعك خفقانها إلا في الليل، ففي طيات الظلام تتوارى مشاغل الإنسان حوله فيعود منكمشًا على نفسه ليسمع حركة الحياة فيه.

وامتنعت جفوني عن الغمض بالرغم مما تحملت من متاعب نهاري وأحزانه، وكانت عينا ماركو تحدقان بي، فكان كل منا شاخصًا في الآخر وقد خيم علينا السكون.

وقالت: ماذا يشغلك هناك؟ أفما تريد أن تجيء إلى جانبي؟

فقلت: بلى … إنك رائعة الجمال يا ماركو …

وسمعت صوتًا كأنه نبرة أنين، وكان ذلك صوت انقطاع وتر من قيثارة ماركو، وأدرت وجهي نحو مصدر هذه الأنَّة، فرأيت أوائل أشعة الفجر تلوح بنورها الباهت ستائر النوافذ.

نهضت فأزحت إحدى الستائر، فانتشر الضياء في جوانب الغرفة، ووقفت لحظة أنظر إلى السماء فإذا هي مجلوة صافية الأديم.

وكررت ماركو دعوتها إلي، فأشرت إليها بأن تنتظر.

وكانت هذه الغادة اختارت لسكناها هذا الحي البعيد عن مركز المدينة احتراسًا، وكان لها منزل آخر تستقبل فيه أصدقاء عشيقها، ولعل الغرفة التي كنا فيها ليست سوى موضع خلوة، فقد كانت تشرف على حديقة اللوكسنبور التي رأيتها منبسطة أمامي.

وكنت أشعر في قرارة نفسي بقوة أغالبها فلا أستطيع التحكم فيها، فكأنني منها كالقابض على قطعة من الفلِّين يريد إغراقها في الماء، فتتململ بين أصابعه وتأبى طبيعتها إلا الانفلات إلى سطحه، ولكنني عندما مددت بأنظاري إلى مسارح الحديقة انتفض قلبي بين جنبيَّ، فهبَّ التذكار بي يبدد كل فكرة تراودني. لكم هربت من المدرسة وأنا صغير لألجأ إلى ظلال هذه الأشجار؛ حيث كنت أنطرح وبيدي كتاب من جامحات الأشعار! وتلك كانت جميع ضلالات صباي، وا أسفاه …! وتنبهت ذكرياتي البعيدة تشارفني من الأشجار الباسقة العارية من أوراقها، وتتطلَّع إليَّ من خلال الأعشاب الذابلة تحت ظلالها. إلى هنا أتيت مرة للتنزه مع أخي ومعلمي، وكنت في العاشرة من عمري، فكنا نرمي بقطع الخبز إلى زرافات الطيور الجائعة، وهنا جلست مرة منزويًا أتفرج على رهط الفتيات يرقصن فيرقص قلبي لنغماتهن: نغمات نشيد الأطفال، وهنا أيضًا مررت ألف مرة على الطريق ذاتها في رجوعي من المدرسة وأنا أقذف الحصى برجلي، وأطارد بذهني بيتًا من قصائد فرجيل.

شخصت مليًّا أمام هذه المشاهد فهتفت: هذه أنت يا طفولتي، وها أنت هنا يا إلهي.

وأدرت طرفي في الغرفة فإذا ماركو نائمة وقد انطفأ المصباح، وكان ضوء النهار قد بدَّل منظر الغرفة تبديلًا، فإذا الورق الملصق على الجدران، وكنت حسبته في الليل مستعيرًا زُرقة الآفاق، يكتسي لون الأوراق الخضراء وقد أحالها الذبول، ورأيت ماركو، التمثال الرائع، منطرحة على سريرها، ووجهها ممتقع كوجه الأموات.

وملكتني رعشة لم أقوَ على امتلاكها، فكنت أنظر تارة إلى السرير، وطورًا إلى الحديقة، فأشعر بثقل هائل يخفض رأسي المتعبة.

وتقدمت بضعة خطوات إلى مكتب كان مفتوحًا قرب نافذة أخرى، فجلست مسندًا ساعدي إليه، والتفتُّ بلا قصد أحدق برسالة تُركتْ مفتوحة عليه، وهي لا تتضمن إلا كلمات قليلة، فقرأتها مرارًا دون أن أفهم معناها حتى انجلت تدريجيًّا؛ فذعرت منها فجأة، وأخذت الورقة بيدي أقرؤها، فإذا هي مشحونة بأغلاط الإملاء، وقد ورد فيها:

لقد ماتت أمس عند الساعة الحادية عشرة ليلًا. شعَرتْ بانقباضٍ فدَعَتْني وقالت لي: لويزون، أنا ذاهبة للقاء رفيقي. افتحي الخزانة وخذي منها الغطاء المعلق بمسمار؛ فإنه كذلك الغطاء …

جثوت باكية أمامها، فمدَّت إليَّ يدها صارخة: لا تبكي … لا تبكي … ثم أرسلت زفرة …

وكان باقي الصفحة ممزقًا.

يصعب عليَّ بيان ما فعلت بي هذه الأسطر الفاجعة. قلبت الرسالة بيدي فإذا على ظهرها عنوان ماركو، وتاريخ اليوم المنصرم، فصرختُ: لقد ماتت … ومن هي التي ماتت؟

وتقدمت نحو السرير مناديًا: مَن هي التي ماتت …؟

وفتحت ماركو عينيها فرأتني مستندًا إلى سريرها والرسالة في يدي، فقالت: هي أمي … أفما تريد أن تأتي إلى جنبي …؟ ومدت ذراعيها نحوي، فقلت لها: اسكتي … نامي ودعيني هنا، فانقلبتْ على جنبها لتستغرق في نومها ثانية.

وشخَصت إليها حتى تأكَّدت أنها لن تسمع حركتي، وتراجعت رويدًا وانسحبت من المكان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤