الفصل الأول

عليَّ أن أقص الآن ما آل إليه غرامي وما طرأ على نفسي من تغيير بالرغم من عجزي عن تعليله، ولكنها الحقيقة آليت ألا أكتمها.

وما كان مضى على استسلام مدام بيارسون لي أكثر من يومين، وكنت خرجت من الحمام في الساعة الحادية عشرة ليلًا، وسرت أجتاز المنتزه قاصدًا بيتها وقد استولى عليَّ المرح حتى جعلني أقفز على الطريق قفزًا ويداي ممدودتان نحو السماء.

ووجدت بريجيت واقفة على قمة السلم مسندة ذراعها إلى عارضته وأمامها شمعة تتقد، وقد كانت في انتظاري، فما لمحتني حتى سارعت إلى لقياي، وما مضت لحظة حتى كنا في غرفتها وقد أوصدنا الباب علينا.

وبدأت تعرض عليَّ ما بدلت من زي شعرها مجاراة لذوقي، وتشير إلى إطار أسود نزعته عن الجدار لأنني رأيته قاتمًا محزنًا، وإلى ما وضعت من الأزهار في جوانب الغرفة، وأخذت تسرد عليَّ ما فعلت إذ كانت تشهد عذابي، مؤكدة لي أنها أرادت مرارًا مبارحة البلاد هربًا من غرامها، ولجأت إلى كل حيطة تقيها مني، واستشارت عمتها ومركانسون والكاهن، وأنها كانت حلفت أن تموت ولا تستسلم، وعادت تذكر من كلماتي ولفتاتي ما جعل كل هذا الحذر هباء. وكانت تُرفق كل قسم من اعترافاتها بقبلة تُلقيها على وجهي، وكنت أبديتُ استحساني لبعض ما في غرفتها من التحف، فأصرت على إعطائي إياها لأضعها على رفِّ غرفتي، وطلبت مني أن أضع لها منهاجًا تسير عليه في حياتها اليومية؛ لأن ما يهمها في الحياة إنما هو رضاي، فما تعبأ بأقوال الناس، وصرحت لي بأنها كانت فيما مضى تعللت بالقيل والقال، فما كان ذلك إلا بقصد إبعادي عنها. أما الآن فهي تصم أذنيها عن كل صخب، ولا تسمع إلا لهاتف قلبها يحدو بها إلى التمتع بالسعادة؛ إذ إنها بلغت الثلاثين وما يفسح العمر لها مجالًا طويلًا للتنعم بحبي لها، كانت تقول هذا ثم تسألني: هل ستحبني طويلًا؟ أصادقة هذه الكلمات العذبة التي أسكرتني بها؟

وتعود عاتبة عليَّ لتأخري في الحضور إليها، وتنتقد العطر الذي يفوح مني، فتراه حينًا قويًّا، وآونة ضعيفًا، ثم تقول إنها ألقت الخفين عن رجليها لأرى أن بياضهما يضاهي بياض يديها، ثم تستدرك قائلة: إنها ليست جميلة، وتتمنى لو أن لها أضعاف هذا الجمال، وقد كانت على مثل ما تتمنى وهي في الخامسة عشرة من سنيها.

وكانت تتكلم وهي تخطر في الغرفة يطير بها المرح، ويشعل خديها الغرام، فكأنما لم تكن تعلم ما يجب أن تقول وأن تفعل لتهب روحها وجسدها وكلَّ مالها.

وكنت مستلقيًا على المقعد أستمع إلى أقوالها فأشعر عند كل عبارة من عباراتها أن ساعة سوداء من ساعات حياتي الماضية تنفصل عني، فكنت أتطلع إلى كوكب السعادة يطل من الأفق عليَّ وكأنني شجرة جرى في أعراقها نَسْغُ الحياة، فهي تنفض أوراقها الجافة لتكتسي خضرة جديدة.

وجلست إلى البيانو وقالت: إنها ستعزف مقطوعة «ستراديلا»، وكنت — ولا أزال — أحب الموسيقى الخاشعة، وكانت أسمعتني هذه القطعة من قبل فهزَّت أوتار قلبي.

وبعد أن أتمت عزفها التفتت إليَّ وقالت: إن هذه القطعة من تأليفي أنا.

– أأنت واضعة هذه الأنغام؟

– أجل، وكنت أوهمتك أنها من موضوعات «ستراديلا» لأعلم رأيك فيها، وما تعودت أن أوقع على البيانو الأنغام التي أتوصل أحيانًا إلى تأليفها، وقد أردت هذه المرة أن أعرف مبلغ نجاحي، فجاء انخداعك مؤيدًا حسن ظني.

يا للإنسان وما فيه من غرائب!

إن هذه الحيلة البريئة التي تخطر لولدٍ يريد مفاجأة معلمه نشَرت أمام عينيَّ غمامًا، ولحظت هي أن سحنتي تغيرت فسألتني، فأخفيت عنها ما بي ورجوتها أن تكرر العزف.

وبدأت أخطر ذهابًا وإيابًا في الغرفة وأنا أستمع إلى الأنغام، فأمرر راحتي على جبيني كأني أحاول طرد ما يخيم على عيني من ضباب، فكنت أضرب الأرض بقدمي وأهز كتفي كأنني أوقع على ما يساورني من جنون، وجلست أخيرًا على وسادة على الأرض فهرعت بريجيت إليَّ وأنا أنازع تفكيري فيما يجتاحه من لبدات الظنون فقلت لها: الحق أنك ماهرة في الكذب. أأنت واضعة هذه الأنغام؟ أبمثل هذه السهولة تكذبين؟

فنظرت إليَّ باستغراب متسائلة عما يدور في خلدي وهي لا تصدق أن بي من الجنون ما يدفعني إلى تقريعها على مثل هذا المجون البريء، وكانت تعلم تفاهة السبب في كدري، فزاد هذا الكدر أهمية في تقديرها، ولاح لها أنني أردت مقابلة مجونها بمثله، ولكنها رأت على جبيني من الشحوب ما منعها من الأخذ بهذا الافتراض، فانفرجت شفتاها وانحنت فوقي وقد خانتها القوى فقالت: يا الله! أهذا ممكن؟

لقد تبتسم أيها القارئ وأنت تطالع هذه الصفحة، ولكنني — أنا كاتبها — لا أزال أرتعش منها حتى الآن.

إن للمصائب ما للأمراض من أعراض تدل عليها، ولا شيء أشد خطرًا في البحر من نقطة سوداء تلوح على أفقه.

ولما طلع الفجر وضعت بريجيت في وسط الغرفة خوانًا صغيرًا أعدت عليه طعام العشاء أو بالحري فطور الصباح؛ لأن العصافير كانت بدأت بالزقزقة في الحديقة، وأسراب النحل بدأت في الطنين.

وما كنت أرفع الكأس إلى فمي قبل أن تُرطِّب مرشفه بشفتيها.

واخترق نور الضحى الستائر المفوَّفة فاستقر على ما في وجهها من بهاء، وما على جفونها من استرخاء، وشعرت بالنعاس، فألقت رأسها على كتفي تُقبِّل عنقي متمتمة كلمات هيامها.

وغُلبت على شكوكي أمام هذا الاستسلام، فحسبتني تخلصت من أشباحها المزعجة، فطلبتُ العفو عن لحظة ثار فيها جنوني قائلًا بكل إخلاص: يؤلمني أن أكون وجهت إليك التقريع، فقد ظلمتك من أجل مزاح بريء، غير أنني أطلب إليك إذا كنت تحبينني ألا تكذبي عليَّ حتى في أتفه الأمور، فلا شيء أفظع لدي من الكذب، وما لي طاقةٌ باحتماله.

وانطرحت على سريرها تطلب الوسن، فأردت البقاء إلى جنبها إلى أن تنام، ورأيت جفنيها ينسدلان على جمال عينيها، ولاحت ابتسامة الهجوع على شفتيها، فانحنيت ملقيًا على وجهها قبلة الوداع، وخرجت مرتاح القلب أعلل النفس بالتمتع بسعادتي دون أن أعكر صفوها.

وفي اليوم التاني قالت لي بريجيت دون أن تقصد: إن لدي كتابًا أدون فيه مذكراتي وما يعنُّ لي من خواطر، وسأعطيك هذا الكتاب لتقرأ فيه ما كتبته في الأيام الأولى التي تعرفت فيها إليك.

وقرأنا سويًّا ما يتعلق بي، وأضفنا إليه ما عنَّ لنا من سانحات، وأخذت بعد ذلك أقلب الصفحات بحركة آلية، فإذا بنظري يقع على عبارة كتبت بأحرف كبيرة، فقرأت بعض كلمات ليس فيها ما يسترعي الاهتمام، حتى إذا تجاوزتها استوقفتني بريجيت قائلة: لا تقرأ هذا. فرميت الكتاب إلى الخوان قائلًا: لك الحق، فما كنت أعلم ما أفعل، فقالت — وقد لاحظت امتعاضي: أتواجه هذا أيضًا كأنه جدٌّ؟ خذ الكتاب؛ فإنني أريد أن تقرأ. فقلت: لنضرب صفحًا عن هذا، فما عساني أجد ما يثير اهتمامي في هذا الكتاب؟ إن أسرارك تعنيك أنت يا عزيزتي.

وبقي الكتاب على الخوان، غير أن عينيَّ كانتا منصبتين عليه، وسمعت فجأة صوتًا يهمس في أذني، ولاح لي أنني أرى وجه ديجنه في قساوته، وعلى شفتيه ابتسامته المتجمدة في صقيعها.

فتساءلت عما أتى يفعل ديجنه هنا، كأنني رأيته منتصبًا أمامي حقيقة لا خيالًا، وقد ظهر لي كما رأيته ذات ليلة وقد انحنى جبينه أمام شعاع مصباحي واندفع يلقي بصوته الأجش دستور العاشقين.

وكنت لا أزال معلقًا أبصارى على الكتاب، وقد ترددت على حافظتي بعض كلمات مبهمة لا أذكر أين سمعتها، فقبضت على فؤادي وشعرت أن روح الشك الحائمة حول رأسي قد قطرت سمها الزعاف في عروقي، وتصاعدت أبخرة هذا السم إلى دماغي فأورثني دوار السكر القاتل.

أي سر تخفيه بريجيت عني؟ وكنت أعلم أن ليس لي إلا أن أمدَّ يدي لأفتح الكتاب، ولكنني ما كنت أعرف أين يجب أن أفتحه لأصادف الصفحة التي وقعت أنظاري عليها.

وقد كنت فضلًا عن ذلك أرى كبريائي تحول دون رجوعي إلى فتح الكتاب، ولكن هل الكبرياء وحده كان السبب في امتناعي عن اقتحامه؟

واجتاحني حزن شديد فهتفت في نفسي قائلًا: هل الماضي طيف يبعث من الفناء؟ فيا الله! ويا لشقوتي! هل سأقف عاجزًا عن الشعور بالحب فيما بعد؟

واجتاز خاطري فجأة جميع ما كنت رددته من أمثال احتقار النساء، والهزؤ بهن أيام كنت ضاربًا في بيداء الفحشاء. ومن الغرائب أنني في ذلك الزمن كنت أردد هذه المأثورات مباهيًا بها دون أن أعتقد بصحتها، فأصبحت الآن أعتقد أنها تُصوِّر حقيقة ما يقع الآن أو على الأقل ما وقع فيما مضى.

وكانت مرت أربعة أشهر على تعرُّفي بمدام بيارسون دون أن أعرف شيئًا عن حياتها الماضية، ودون أن أسألها شيئًا عنها، فكنت مستسلمًا لحبها بثقة عمياء، فأجد لذة في تمنعي بالصمت تجاهها وتجاه كل ما يتعلق بها، وما كان في طبيعتي أن تساورها الشكوك وتحكمها الغيرة؛ لذلك كنت أشد استغرابًا من بريجيت لما تجلَّى بي من غيرة وشكوك، وما كنت يومًا في سابق غرامي أو معاملتي للناس رجل محاذرة ووساوس، بل كنت مقدامًا أذهب في طريقي صريحًا لا أحاذر شيئًا، ولا أظن السوء في شيء، ولولا أنني رأيت بعيني خيانة عشيقتي لما كان خطر ببالي أنها تخدعني. وقد كان ديجنه وهو يلقي عليَّ مواعظه يضحك من سذاجتي، ويراني أسهل الناس انخداعًا، وما كانت وقائع حياتي إلا دليلًا على سلامة طويتي وبُعدي عن كل وسواس؛ لذلك شعرت وأنا أحدج كتاب مذكرات بريجيت بعين الارتياب أن شخصية غريبة مثلت في ذاتي، وأن تفكيري يتمرد على هذا الحافز، وقد أرعبني الهدف الذي رأيته يدفعني إليه.

فكأنني وجدت نفسي فجأة تجاه ما كنت أحسبه قد توارى فيَّ من أوجاع تحملتها، ومن ذكرى مخادعات شهدتها، ومن دواء كان أفظع من العلة في نتائجه، ومن أقوال رددها الأصحاب على مسامعي، ومن انطباعات ألقاها عليَّ المجتمع الذي مررت بفجائعه، ومن مفاسد أدركتها استنتاجًا بنافذ بصيرتي، وأخيرًا تجاه الفحشاء واحتقار الحب والإفراط في كل شيء … وهكذا بينما كنت أؤمل الرجوع إلى الأمل والحياة هبَّت من نفسي هذه القوى الكامنة ثائرة تقبض على عنقي لتصيح بي قائلة: أنا لم أزل هنا.

ومددت يدي ففتحت الكتاب، ثم طويته ورميت به إلى الخوان، وكانت بريجيت شاخصة إليَّ وليس في لحاظها ما يدل على عزة جريحة، أو بادرة غضب، بل كان بها ما ينمُّ عن اضطراب أم تنظر إلى طفل مريض، وقالت وهي تطوقني بذراعها: أتحسب أن لدي أسرارًا؟ فقلت: لا، إنني لا أظن شيئًا، وليس بي إلا اعتقاد واحد؛ وهو أنك جميلة، وأنني أود أن أموت وأنا غارق في بحار حبك.

وعدت إلى مسكني، ولما جلست لأتناول طعامي قلت لخادمي لاريف: من هي مدام بيارسون؟

فالتفت إليَّ والدهش بادٍ على محياه، فقلت: إنك في هذه البلاد منذ سنوات عديدة، ولا ريب في أنك تعرفها أكثر مني؛ فماذا يقول أهل القرية عنها يا تُرى؟ وماذا كانت حياتها قبل أن عرفتها؟ ومن هم الأشخاص الذين ترددوا عليها؟ فقال لاريف: والله يا سيدي إنني ما رأيتها يومًا تفعل إلا ما تفعله في هذه الأيام، فهي تذهب إلى النزهة في الوادي، وتلعب بالورق مع عمتها، وتقوم بأعمال البر مُحسنة إلى الفقراء، ويدعوها القرويون بريجيت الوردية، وما سمعت قط كلمة سوء عنها، فكل ما يقال إنها تتجول في المزارع وحدها نهارًا وليلًا لغاية حميدة، فهي رسول العناية في هذه البلاد. أما معاشروها فهُما الكاهن والمسيو دالانس أثناء العطلة.

– ومن هو دالانس هذا؟

– هو صاحب القصر القائم وراء الجبل، وهو لا يزور هذه الأرجاء إلا للصيد.

– أهو شاب؟

– نعم يا سيدي.

– أبينه وبين مدام بيارسون صلة قرابة؟

– لا، بل كان صديقًا لزوجها.

– أمنذ زمن طويل مات زوجها؟

– في عيد جميع القديسين تكون قد مرت خمس سنوات على وفاته، وقد كان رجلًا طيب الخلال.

– وهل سمعت أن المسيو دالانس يتحبب إليها؟

– والله يا سيدي … قال هذا وسكت مترددًا.

– تكلم.

– قال الناس هذا وما قالوه … أما أنا فما رأيت شيئًا.

– قلت لي أولًا أن أحدًا في القرية لم يقل شيئًا عن مدام بيارسون.

– لم يقل أحد شيئًا، وكنت أعتقد أن سيدي عارف بالأمر.

– وأخيرًا هل تكلم أحد عن هذا؟

– أجل، أظن أن الناس تكلموا.

نهضت عن المائدة، وسرت إلى المتنزه فوجدت مركانسون هناك، وحسبت أنه سيتحاشى ملاقاتي، فرأيته يتقدم نحوي قائلًا: لقد أظهرت نحوي ذلك اليوم من الغضب ما لا يمكن لمثلي أن يذكره حاقدًا، فأنا أُقدِّم إليك الآن اعتذاري لاضطراري إلى القيام بمهمة مكدرة، فكنت مشوشًا في الأمر على غير مناسبة.

فأجبته متلطفًا ظانًّا أنه سيذهب عني، ولكنه تابع مسيره إلى جنبي، فبدأتُ أردد في ذهني اسم دالانس قائلًا في نفسي: إن لاريف لم يقل لي عنه إلا ما يمكن لخادم أن يسرد نقلًا عن خادمة أو عن مزارعين، وأنا أريد شاهدًا يكون رأى هذا الرجل عند مدام بيارسون. وتحكمت هذه الفكرة في دماغي فقررت أن أفاتح بها مركانسون.

وما تمكنت أن أعرف يومًا حقيقة خلق مركانسون وفطرته من المراوغة أو السذاجة، غير أنني ما ارتبت قط في أنه يضمر لي البغضاء، ويعمل على نكايتي ما وسعه. أما مدام بيارسون فكانت تنيل هذا الرجل قسطًا مما تبذل من مودة لعمه الكاهن، وهو جدير بالاحترام، وتملك مركانسون شيء من الغرور لالتفات مدام بيارسون إليه فأصبح غيورًا، وبعض الناس لا يملكون أنفسهم من الافتتان لكلمة عطف أو لابتسامة تبذل لهم من شفة تفترُّ عن نور الجمال.

ما طرحت أول سؤال على مركانسون حتى بدت عليه من دلائل الدهشة على ما بدا على خادمي لاريف، وما كنت أنا أقل اندهاشًا منهما مما أفعل، ولكن مَن مِن الناس يدرك ما في أغوار نفسه؟

وعرفت من أول جواب أورده مركانسون أنه نفذ إلى قصدي وقرر ألا يرضيني؛ إذ قال: أنت تعرف مدام بيارسون منذ زمن طويل، وتزورها بلا كلفة، فكيف لم تصادف المسيو دالانس عندها؟ ولعل لديك الآن أسبابًا أجهلها تدفع بك إلى الاستعلام عنه. أما أنا فكل ما بوسعي أن أقول عن هذا الرجل هو أنه كريم المحتد، ومن أهل الصلاح والبر، وقد كان مثلك يا سيدي يزور مدام بيارسون بلا كلفة، وهو صاحب أملاك واسعة، ومضياف في بيته، وكان مثلك يعزف أجمل القطع الموسيقية عندها، وما أعلم أنه قصر في شيء من واجباته في سبيل الإحسان، فقد كان أثناء وجوده في هذه البلاد يرافق مدام بيارسون في رحلاتها كما ترافقها أنت يا سيدي.

ولأسرة هذا السيد سمعة طيبة في باريس، وكنت كل مرة أزور فيها مدام بيارسون أصادفه عندها، والمعروف عنه أنه حسن السيرة والأخلاق. وما أعني بالصداقة التي ذكرتها إلا الصداقة الشريفة اللائقة بأمثال هذا الرجل، وأظن أنه لا يأتي إلى هذه الأرجاء إلا للصيد، وقد كان صديقًا لزوج الأرملة، ويقال: إن دالانس ذو ثروة كبيرة، وإنه جدُّ كريم، أما أنا فأكاد لا أعرفه إلا بما سمعت عنه …

بمثل هذه العبارات المشوشة كان هذا الجلاد الثقيل يُجهز عليَّ، ونظرت إليه وهو يتكلم وقد استولى الخجل عليَّ فما قدرت أن أوجه إليه أي سؤال، كما عجزت عن وضع حدٍّ لثرثرته، فذهب في أقواله — وقد أوردت مثالًا منها — إلى أبعد حد من النميمة والاغتياب، دافعًا بنصله المتعرج إلى قلبي حتى اخترقه إلى أقصاه، ثم تولَّى عني، فما تمكنت من إمساكه، فذهب وكأنه لم يقل لي شيئًا.

وبقيت وحدي على طريق المتنزه أرقب الظلام ينسدل على تلك الأرجاء وأنا أتردد بين عاطفتي الغضب والأسى؛ إذ لم يكن بوسعي أن أعتقد بضلال هذه الثقة العمياء التي استسلمت لها في حبي لبريجيت، فذقتُ منها مثل هذه اللذة الصافية، وكنت أرى في اندفاعي نحو هذه المحبوبة اندفاعًا شُلَّت مقاومتي أمامه دليلًا كافيًا على أنها أهل لتعلقي بها؛ لذلك كان يصعب عليَّ التصديق بأن هذه الأشهر الأربعة الطافحة بالسعادة لم تكن إلا أحلامًا.

وتساءلت فجأة في سريرتي عما إذا كانت هذه المرأة مُخلصة عندما ظهرت في مظهر المتمنع، في حين أنها استسلمت بعد ذلك بسرعة، وقد كفتْ كلمة واحدة لتبديد مقاومتها، ولاح لي أن من شغلتني لم تكن إلا واحدة من بنات الدلال المغريات، أو أن الدلال وسيلة كل امرأة تريد أن تتبع غريزة الدفاع أسوة بكل أنثى.

أفما باحت بريجيت بغرامها من تلقاء نفسها في حين اعتقدت أنها أفلتت إلى الأبد من يدي؟

أفما رضيت في أول يوم عرفتها فيه أن تستند إلى ذراعي قبل أن تعرف من أنا بشيء من الخفة كان عليَّ أن أتنبَّه له لإثارة ريبتي؟

إذا كان هذا المدعو دالانس قد توصل إلى امتلاكها، فالأرجح أنه لم يزل يتمتع بها حتى الآن، فإن من هذه العلاقات ما لا بداية لها ولا انتهاء في المجتمع، فإذا ما التقى عاشقان قديمان استسلما لما تعوَّداه، وإذا افترقا نسي أحدهما الآخر.

إذا كان هذا الرجل يأتي إلى هذه الأرجاء في كل موسم صيف؛ فإنها ستجتمع به عند قدومه، وقد لا تقطع علاقتها بي.

من هي عمة هذه المرأة يا ترى؟ وما معنى هذه الحياة السرية المستترة وراء أعمال البر والإحسان؟

أفلا تكون هذه المرأة وعمتها من مشعوذات المجتمع تتوسلان إلى اكتساب المقام السامي بهذا البيت الصغير، والتظاهر بالوداعة والحكمة؟ إنني ولا ريب قد علقت في شرك غاوية وأنا مغمض العينين أحسب أن في قلبها حبًّا وهيامًا. فما عليَّ أن أفعل الآن وليس أمامي سوى هذا الكاهن الذي يتذرع بالإبهام تجاهي، وإذا أنا لجأتُ إلى عمِّه فلا بد أن يكون أشد تكتمًا منه؟

من سينقذني من هذه الورطة؟ من سيُمزِّق ستار الريب فتنجلي الحقيقة لعيني؟

بهذا كانت تخاطبني غيرتي، فتنسيني كل ما ذرفتُ من دموع، وما تحملت من أوصاب، فأصبحت وما مرَّ يومان بعدُ على استسلام بريجيت لي أضطرب لتوصلي إلى التمتع بها. وما كنت في هذا إلا كسائر المتشككين، أضرب صفحًا عن العواطف والأفكار لأصارع الوقائع نفسها، مقدمًا على تشريح مَن أهوى كأنها جثة لا روح فيها.

وكانت تجول هذه الأفكار في دماغي ورجلاي تقودانني إلى مسكن بريجيت، ولما اجتزت الحاجز الحديدي لاح لي نور من نافذة المطبخ، وخطر لي أن أستجوب الخادمة، فاتجهت نحوها وأنا أتلمس بعض القطع الفضية في جيبي، غير أنني ما وصلت إلى العتبة حتى وقفت واجمًا — وكانت هذه الخادمة امرأة مسنة، ناحلة، حفَر العُمر في وجهها أثلامًا، وأصبح ظهرها مقوسًا لفرط ما انحنى — ونظرت إليها فإذا هي تعمل في غسل الأواني على مصب قذر، وفي يدها شمعة ترتجف أشعتها، وحولها أوعية الطبخ والصحون، وبقايا طعام يحدجه كلب دخل ورائي متجسسًا خجولًا. وكانت تفوح من الجدران الرطبة رائحة تعفن تملأ المكان، وما لمحت الخادمة وجودي حتى ابتسمت ابتسامة معنوية؛ لأنها كانت رأتني منسلًّا من غرفة معلمتها عند الفجر، فارتعشت والاشمئزاز يملأ نفسي مما أتيت أطلب في هذا المكان من أمرٍ يشبه حقارته، فوليت الأدبار هاربًا من هذه المرأة ومن غيرتي، كأن الروائح الكريهة المنتشرة هنالك خارجة من قلبي.

وكانت بريجيت أمام النافذة تسقي أزهارها وبقربها طفل إحدى جاراتها جالسًا بين المساند اللينة، وقد أمسك بكمها وهو يسرد لها حديثًا طويلًا لا يُفهم وفمُه محشوٌّ بالحلوى، فتقدمت وقبَّلت الطفل على خديه كأنني أستعيد لنفسي بعض الطهارة منهما.

فاستقبلتني بريجيت بشيء من الحذر؛ لأنها رأت شخصها منطبعًا في عيني وقد غشيتها الشكوك، وكنت من جهتي أحاذر أن ألتقي بنظراتها؛ لأنني كنت كلما أمعنت في جمالها ومظاهر إخلاصها أذهب إلى القول بأن: هذه المرأة شيطان رجيم إذا هي لم تكن ملكًا كريمًا. وكنت أستعيد في ذهني كلمات مركانسون لأقابل بينها وبين ملامح عشيقتي وإشراق وجهها الرائع، فأقول في نفسي: «إنها لبديعة الحسن، ولكنها جد خطرة إذا هي أتقنت المخاتلة، ولسوف تجد خصمًا عنيدًا يقاتلها بمثل سلاحها.»

وبعد أن صمت طويلًا قلت لها: قبل أن أجيء إليك تلقيت كتابًا من صديق يسألني نصيحة في أمره، وهو شاب ساذج يقول: إنه اكتشف أن المرأة التي تستسلم له تستسلم أيضًا لعاشق آخر.

– وبماذا أجبته؟

– ألقيت عليه سؤالين؛ وهما: أهي جميلة؟ وهل أنت تحبها؟ فإن كنت عاشقًا لها فاتركها، وإن كانت جميلة ولستَ ولوعًا بها؛ فاحتفظ بها وتمتع بجمالها، ولك أن تُسرِّحها حين تشاء؛ إذ ما الفرق بينها وبين سواها؟

وما سمعت بريجيت كلماتي حتى ابتعدت عن الطفل، ومشت أمامي إلى الغرفة وجلست على مقعد لا تصل إليه أشعة القمر، وكنت أنا أشعر بشدة ما ألقيت من كلمات وقد امتلأ فؤادي مرارة من معانيها القاسية.

وذعر الطفل فبدأ ينادي بريجيت وينظر إليها من بعيد بعين ملؤها الحزن، وما لبث حتى سكت عن مناغاته واستغرق في النوم على مقعده، وهكذا حكمنا الصمت نحن الثلاثة، ومرت غمامة على القمر حجبت أنواره.

وبعد هنيهة دخلت خادمة تحمل مصباحًا لتأخذ الطفل من مرقده، فوقفت وبريجيت في آنٍ واحدٍ، ورأيتها تربط على قلبها براحتيها وتهوي إلى الأرض أمام السرير، فهرعت إليها مذعورًا، وكانت لم تزل محتفظة بوعيها، فرجتني ألا أدعو أحدًا وقالت: إنها تصاب بالخفقان منذ صباها دون أن يكون من هذه النوبات التي لم تجد لها علاجًا أقلُّ خطرٍ على حياتها، وجَثَوت بقربها، ففتحت لي ذراعيها، فألقيت رأسي على كتفها، وعندئذٍ قالت لي: إنني أشفق عليك يا صديقي! فهمستُ في أذنها: يا لشقاوتي! ويا لجنوني! ولكنني لا أستطيع كتمان أمر تضمره سريرتي. من هو يا تُرى المسيو دالانس الذي يقطن الجبل ويأتي لزيارتك أحيانًا؟ ولاحت دلائل الاستغراب على وجهها عند سماعها هذا الاسم فقالت: دالانس هو صديق لزوجي.

وحدجتني كأنها تريد الاستفهام عن سبب سؤالي وقد امتقع لونها، فعضضت شفتي بأسناني وقلت في نفسي: إذا كانت ترمي إلى مخادعتي فقد أسأتُ التصرف بإعلان ما أضمرت.

ونهضت بريجيت متثاقلة تتمشى في الغرفة مستروحة بمروحتها، وقد تهدَّجت أنفاسها، وشعرت بأنني رميتها بسهمي فحكمها الصمت، وتلاقت نظراتنا وفيها برود وفيها شيء من العداء، وتوجهت إلى مكتبتها وفتحت الدرج، وأخرجت منه لفافة أوراق مربوطة بشريط من حرير فألقتها إليَّ دون أن تفوه بكلمة.

وبقيت ذاهلًا عنها وعن رزمة الأوراق التي ألقتها إليَّ؛ إذ كنت مستغرقًا كمن طرح حجرًا في هاوية وصمد يتنصت إلى دَوِيِّه.

ولاحت لأول مرة أمامي أمارة الكبرياء الجريحة على وجه بريجيت، وقد محيت عنه سطور الاضطراب والإشفاق، فشعرت أنني منها تجاه شخص غريب، وقالت: اقرأ هذا.

فتقدمت نحوها مادًّا يدي، فكررت قولها: اقرأ هذا، بلهجة باردة.

وشعرت وأنا أقبض على الأوراق أن شكوكي قد زالت، فاعتقدت ببراءة بريجيت، ورأيتني ظالمًا يخترق الندم قلبه.

وقالت: أنت تُذكِّرني بأن عليَّ أن أسرد تاريخ حياتي، اصغِ إليَّ لأقُصَّه عليك، وبعد ذلك تفتح أدراج مكتبي لتقرأ كل ما فيها من رسائل كتبتها أنا وكتبها سواي.

وجلست مشيرة إليَّ بالجلوس، ورأيتها تتجلد لتبدأ بحديثها وقد علت وجهها صفرة الموت، وتشنج عنقها فتهدج صوتها.

فصحت بها: بريجيت … بريجيت … أستحلفك ألا تتكلمي، ويشهد الله أنني ما خُلقت على ما ترين، وما كنت من قبلُ لا متشككًا ولا متحديًا. لقد ضللني الناس وأفسدوا قلبي، لقد مرت بي غيرة مفجعة ألقت بي إلى الهاوية، فأنا منذ سنة لا أرى من الحياة إلا شرورها، ويعلم الله أنني ما كنت حتى صدمني هذا الاختبار لأعتقد بإمكان استسلامي إلى الغيرة، وهي أفظع ما يمثله الإنسان من أدوار الحياة. يشهد الله أنني أهواك، وليس لسواك أن يشفيني من علل أيامي الماضيات، وما عرفت فيها من النساء إلا من خدعنني وكنَّ قاصرات عن إدراك الحب. لقد عشت فيما مضى كعاشق وفي قلبي من التذكارات ما لا قبل لي بمحوها. فما الذنب ذنبي إذا كانت أضعف التهم وأبعدها عن التصديق تقرع من هذا القلب أوتارًا لم تزل تهتز بآلامها، وهي مهيأة لقبول أية ضربة تستنطق الأوجاع.

لقد ذُكر هذا المساء أمامي اسم رجل لا أعرفه ولا علم لي بوجوده، وقيل لي إن شائعات لا طائل تحتها دارت حولك وحوله، وأنا الآن لا أسألك شيئًا عن هذا الأمر الذي آلمني؛ لأنني ارتكبت فيه ذنبًا لا يُغتفر، وأتيت معترفًا به أمامك، وبدلًا من قبول ما تعرضينه عليَّ سألقي بهذه الأوراق إلى النار.

بحقك لا تحاولي تبرير نفسك لئلا أذل أمام نفسي. لا تُنزلي بي العقاب وما لي من ذنب غير فجيعتي وآلامي.

وهل لي أن أرتاب فيك وأنت على هذا البهاء، وعلى هذا الإخلاص، فإن لفتة واحدة منك تحمل من الإفصاح ما لا يمكن أن أستجليه بنفسي لتثبيت هيامي. آه لو تعلمين بما ابتلي من الفجائع والأكاذيب هذا الفتى الماثل أمامك الآن! لو تعلمين كيف عامله الناس، وكيف هزئوا به وبخير صفاته، وكم اجتهدوا لتعليمه كل ما يقود إلى الشكوك والغيرة واليأس!

وأسفاه أيتها الحبيبة! إنك لا تعرفين من هو هذا الذي تعشقينه، لا توجهي إليَّ اللوم والتقريع، بل تجلدي وأشفقي عليَّ؛ إذ لا بد لي من أن أنسى وجود كل كائن على الأرض إلا إيَّاك، فإن أمامي مآزق من الآلام يجب عليَّ اجتيازها، وما كنت أتوقع أن أراها معترضة سبيلي تتحدى قواي للمجادلة والنضال. إنني ما عرفت ما في ماضيَّ إلا منذ ضممتك بين ذراعي؛ إذ شعرت وأنا أضع قبلاتي على شفتيك بما على شفتي من أوضار. المعونة يا بريجيت! إنني ألجأ إليك فساعديني بحق ربك على الحياة؛ فإن ربك قد خلقني خيرًا مما ترينني الآن.

وفتحت بريجيت معصميها وضمتني إليها طالبة مني اطلاعها على الوقائع التي أدت بي إلى هذا الموقف، فما سردت لها إلا ما قاله لاريف؛ لأنني جبنت عن الإقرار لها بأنني استنطقت مركانسون. وعادت فأكرهتني على سماع إيضاحها فقالت: إن دالانس أحبها، ولكنها رأت ما هو عليه من خفة وتقلُّب، فأعلنت له أنها لا تقصد الزواج، ورجته ألا يعود إلى ذكر عواطفه؛ فخضع لإدارتها، ومنذ ذلك الحين أصبحت زياراته نادرة حتى انقطع عنها.

قالت هذا وسحبت من الرزمة كتابًا عرضته عليَّ، وهو يحمل تاريخًا حديثًا، فما ملكت وجهي من الاحمرار إذ رأيت فيه إثبات ما أعلنته من الحوادث.

وأكدت لي أنها تعفو عني، غير أنها فرضت عليَّ كعقاب أن أوافيها بلا إبطاء بكل ما يدعو إلى ثورة شكوكي فيما بعدُ، وتبادلنا العهد بقبلة، وعندما بارحتها عند انبثاق الفجر كنا نسينا أن في الوجود رجلًا يدعى دالانس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤