الفصل الثالث

وشعرنا عند صلحنا بما لم نشعر بمثله في خصامنا، ولاح لي أن بريجيت تضمر أمرًا لم أدرك كنهه أولًا، ثم رأيت الاضطراب يستقر في نفسي ويعكر عليها صفوها، فكنت كلما مرت بي الأيام ينجلي فيَّ ويتفوق على مقاومتي عنصران من الشقاء أورثتني إياهما ضلالات ماضيَّ؛ أحدهما: غيرة ثائرة تتدفق لومًا وتحقيرًا، وثانيهما: نوع من المرح القاسي والخفة المصطنعة أذهب به إلى إهانة كل عزيز علي، فكنت وأنا أستسلم تارة إلى الغيرة، وطورًا إلى المرح الساخر، أعامل بريجيت كأنها خليلة خائنة، أو كأنها امرأة مستأجرة، فما لبثت حتى تولاها من الأسى ما جلل حياتنا بالسواد. ومن الغرائب أنني كنت أتململ من سيادة الحزن علينا وأنا لا أجهل مصدره، ولا أقوى على إنكار جنايتي فيه.

كنت في ريعان العمر ميالًا إلى السرور، فثقل عليَّ أن أنفرد كل يوم بامرأة أكبر مني سنًّا تتألم ويتزايد نحولها، وتبدو أمارات الجد على وجهها، فأحس بتمرد شبيبتي عليَّ وتطلعها على ما مضى آسفة على مرحها وحريتها.

وكنا عندما نتمشى على مهل في الغاب على ضوء القمر نشعر كلانا بالوحشة تتغلغل في أحشائنا، فتنظر بريجيت إليَّ وفي عينيها كثير من الإشفاق، ونتجه إلى صخرة مرتفعة تطل على واد مقفر؛ حيث نستعرض الساعات تمر بنا بطيئة، فأحس بعينَيْ خليلتي وقد غشاهما الأسى تغوران في عينيَّ نافذتين إلى قلبي، ثم تردهما عني لتُسرِّحهما على صفحة السماء ومسالك الوادي، فتقول: إنني أشفق عليك، يا بني؛ فأنت لا تحبني.

وكانت الصخرة تبعد مسافة مرحلتين عن القرية، فنضطر إلى قطع أربع مراحل ذهابًا وإيابًا، وما كانت بريجيت تخاف السير في الليل، فكنا نجعل مجيئنا عند الساعة الحادية عشرة؛ لنعود منها عند بزوغ الفجر، وكانت في هذه الرحلات ترتدي سترة زرقاء وسروال رجل قائلة: إن أثوابها العادية لا تليق لمثل هذه المغامرات بين الأشواك، وكانت تتقدمني على الطريق الرملية بخطوات ثابتة، فأرى فيها ليونة الأنوثة يشدها إقدام الطفولة، فما أتمالك نفسي من الوقوف في كل فترة لأنظر إليها معجبًا وهي مندفعة في سيرها كأنها مقدمة على القيام بواجب صعب تفرضه عقيدة مقدسة.

وكانت وهي مندفعة إلى الأمام منشدة بأعلى صوتها كالجندي المهاجم تقف بغتة لتعود أدراجها إليَّ مدغدغة وجهي بقبلاتها.

وفي عودتنا كانت تتكئ على ساعدي، فلا تركض ولا تغني، بل تناجيني بعبارات رقيقة تسرُّها إليَّ بصوت خافت كأنها تحاذر أن يسمعها أحد ونحن نمشي منفردين في الأماكن المقفرة، ولا أذكر أن كلمة واحدة من هذه الأحاديث شذت من دوائر الحب والولاء.

وسلكنا في إحدى الليالي مسلكًا نحو الصخرة افترضناه في الغاب غير المسلك المطروق، فذهبت بريجيت أمامي تختط السبيل وعلى رأسها قبعة صغيرة من القطيفة تنفر من تحتها غدائر شعرها الأشقر، فخُيل إليَّ أنها ليست امرأة، بل غلامًا يافعًا يقتحم الصعاب. ولكم سابقتها في تسلق الصخور فعَلِقت بنتوآتها مُستنجدةً بي وقد عجزت عن الارتقاء، فكنت أرجع إليها لآخذها بين ذراعيَّ قائلًا: أنت يا سيدتي من أبناء الجبال، لك القوة والرشاقة، ولكني لا أرى بدًّا من حملك بالرغم من عصاك الثقيلة وحذائك المصفَّح.

وصلنا إلى محجتنا وقد تهدجت أنفاسنا، وكنت شادًّا حَقوَيَّ بنطاق تتدلى منه قربة، وإذ طلبت بريجيت مني هذه القربة تبيَّنتُ أنها سقطت مني مع زنادٍ كنا نقدحه لإنارة معالم الطريق وقراءة لوحاتها حذرًا من الضلال. وكثيرًا ما كنا نضل فأتسلق الأعمدة، وأقدح الزناد مرارًا؛ فأتمكن من قراءة ما كُتب في أعلاها.

وقالت بريجيت: علينا أن نمضي الليل هنا؛ فقد أضعنا الزناد وأنا متعبة من طول السير، غير أن هذه الصخرة قاسية؛ فلنُلْق عليها من الأوراق اليابسة ما يحولها إلى فراش وثير.

كانت هذه الليلة من أروع الليالي سكونًا وجلاء، وقد زادها روعة ظهور القمر من ورائنا، فعلقت بريجيت أنظارها عليه وهو يتملص على مهل من سواد الأشجار المكللة أعلى الرابية، وانطلقت توجه إليه إنشادها، ولكنها ما رأت الكوكب يتعالى حتى خفت صوتها، وأصبحت نبراتها حزينة هادئة، فارتمت على كتفي وطوقتني بذراعيها قائلة: لا تظن أن حقيقة قلبك خافية عليَّ، فما أنا بلائمتك على ما تحملني من عذاب، وما أنت بالمذنب إذا خانتك قواك فعجزت عن نسيان حياتك الماضية. لقد أحببتني بكل إخلاص، ولن آسف، ولو قتلني حبك، على استسلامي إليك. لقد ظننت أنك ستبعث حيًّا بين ذراعي فتسلو من أوْردْنَك الهلاك من النساء.

ولقد تلقيتُ بالابتسام ما اعترفت لي به من اختبارك الحياة وأنت تسرد ما مر عليك متباهيًا كالأطفال في غرورهم؛ لأنني اعتقدت أن إرادتي ستكفي لهدايتك، وأن قبلة واحدة على شفتيك ستجذب إليهما ما ثوى من قلبك. لقد اعتقدت أنت أيضًا اعتقادي فضللنا كلانا.

إن في قلبك جرحًا يتمرد على الشفاء؛ فقد نالت المرأة التي خدعتك ما لم أنَلْهُ أنا من حبك. وها إن حبي المسكين لا يقوى على محو صورتها من تذكارك، وإذا كان إخلاصي لك لا يجديك نفعًا الآن، فما ذلك إلا لأن هذه المرأة قد ذهبت في خيانتها إلى أقصى ما تبلغ قسوة الخائنات. ومَن يدري ما فعلت الأخريات من بنات الشقاء حتى نفثن السم في أزهار شبابك؟ إلى أية درجة بلغت الملاذ التي اتبعتها منهن حتى تطلب مني الآن أن أتشبه بهن؟ إنهن يراودن تذكارك وأنت بالقرب مني، وذلك أشد ما أقاسيه منك يا بني. إنني أُفضِّل أن أراك مستبدًّا في ثورة غضبك، فترمي بوجهي ما يمكن لك أن تتصوره بي من سيئات وهمية منتقمًا لنفسك مما جَنَتْهُ عليك خليلتك الأولى، على أن أراك ذاهبًا في مرضك القبيح، وعلى وجهك أمارات المتهتك المستهزئ منطبقة على سحنتك كأنها قناع يحول بين شفتيك وشفتي.

لِمَ تُحمِّلني مثل هذا يا أوكتاف؟ ولِمَ هذه الأيام التي تتناول فيها الحب بأحقر بيان، هازئًا حتى بأعذب ما في استسلامنا من ملذات؟ ما فعلت بأعصابك الحساسة يا ترى هذه الحياة التي خضت عبابها حتى تركت على شفتيك هذه اللعنات تخفق بينهما حتى الآن؟ إنك تقذفها مرغمًا؛ لأن قلبك طيب كريم، ولأن حمرة الخجل تعلو جبينك مما تتفوه به، فأنت ولا شك متألم في حبك لي إذ تشاهد ما تُحمِّلني من عذاب.

إنني أعرفك الآن، ولكنني يوم رأيتك لأول مرة على مثل هذه الحال ملكني رعب يصعب عليَّ وصفه؛ لأنني حسبتك مخادعًا يتظاهر بحب لا يشعر به.

وحقِّك يا صديقي، لقد فكرتُ في اقتحام العدم في ذلك اليوم، ومرتْ عليَّ ليلة هي أشد لياليَّ روعًا ويأسًا …

أنت تجهل حياتي، ولا تعلم أن اختباراتي في الحياة لم تكن أقل مرارة من اختباراتك، ويلاه! إن الحياة مريرة لا يستعذبها إلا من يجهلها.

لست يا أوكتاف الرجل الأول الذي أحببت؛ فإن في قلبي حدثًا مشئومًا أريد أن تعرفه.

كان أبي قرر وأنا طفلة بعدُ أن يزوجني من ابن وحيد لأحد أصدقائه القدماء، وكان هذا الصديق صاحب أملاك مجاورة لأملاكنا، وكانت الأسرتان على اتصال دائم، ومات أبي. وكانت أمي قد ماتت قبله بزمن طويل، وهكذا بقيت تحت رحمة عمتي التي تعرفها، واضطرت عمتي إلى التغيب مدة، فأسلمتني إلى والد خطيبي الذي كان يدعوني دائمًا بيا ابنتي. وكان قد اشتهر في البلد أمر زواجي قريبًا بابنه؛ فأصبح هذا يتمتع بأوسع حرية في معاشرتي.

وكان الشاب — ولا فائدة لك من معرفة اسمه — عشيرًا لصباي، فانقلبت مودة الطفولة بيننا إلى محبة، وكان ينتهز فرصة انفرادنا ليذكرني بما سنلاقي من سعادة بعد الزواج، ويشكو تباريح الانتظار. وكان يكبرني بسنة، وله صديق من عشراء السوء ينقاد إليه، فقرر أن يخدع أباه وينكث بعهده بعد إيقاعي في فخاخه، وهكذا استغل جهلي وعبث بطفولتي.

ودعانا والده ذات صباح ليبلغنا أمام أفراد أسرته أن يوم زواجنا قد تعين، وما أسدل الليل ستاره حتى لقيني في الحديقة واندفع يشرح هواه قائلًا: إنه يعد نفسه زوجًا لي ما دام يوم العقد قد تعين، وإنه في الواقع زوجي أمام الله منذ كان طفلًا، واستعان عليَّ بثقتي وجهلي، فاستسلمت له قبل أن يُعقد له عليَّ، غير أنه هجر بيت أبيه بعد هذا الحادث بثمانية أيام هاربًا مع امرأة كان صديقه قدَّمها له، وأرسل إلينا كتابًا يقول فيه: إنه مسافر إلى ألمانيا، واختفى عنا منذ ذلك الحين.

هذه هي قصتي، وقد عرفها زوجي كما عرفتها أنت الآن. لقد عزت نفسي عليَّ فعاهدتها في وحدتي ألا أُعرِّضها مرة أخرى للشقاء. لقد نكثت بهذا العهد عندما رأيتك فنسيت عهدي، ولكنني ما نسيت أوجاعي. إن كلينا مريض يا أوكتاف، فليعالج أحدُنا الآخر بلين وتؤدة. أفلا ترى أنني أنا أيضًا أعرف ما هي ذكريات الماضي؟

ولكم تروعني هذه الذكريات وأنت قريب مني! غير أنني أشد شجاعة منك، ولعلني أتفوق عليك بالحزم؛ لأن آلامي كانت أشد من آلامك. لقد كانت حياتي ساكنة هادئة في هذه القرية قبل قدومك، وكنت وعدت نفسي بألا أُبدِّل من حالها. وهذا ما يجعل هذه النفس شديدة الشكيمة علي، ولكن ما يهمُّني كل هذا، فأنا لك. أفما قلت لي في أويقات الصفاء: إن العناية قد عهدت إليَّ بالسهر عليك كما تسهر الأم على ابنها؟ فما أنا خليلة لك كل يوم، بل أنا أكثر الأيام أُمك؛ لأنني أريد أن أكون أمًّا لك. إنني لا أرى فيك العاشق عندما ترهقني بالتعذيب، بل ولدًا مريضًا يساوره الحذر، أو يستخفُّه الطرب، فأبذل جهدي لمداواته وشفائه، طامحة إلى استعادة الرجل الذي أحب، وأريد أن أحب إلى الأبد.

ورفعت عينيها إلى السماء قائلة: ليعززني الله بهذه القوة، وهو السميع المجيب لدعاء الأمهات والعاشقات، فأتمكن من إتمام هذا الواجب ولو هلكت في سبيله، حتى ولو أصبحت معرَّة نفسي المتمردة وقلبي المنكسر وكل حياتي …

وشرقت بدمعها فاختنقت الكلمات في صدرها.

وإذا هي جاثية على الصخر وقد شبكت أنامل يديها وهزها الهواء كما يهز عاشقات الشجر حولنا.

يا لها من مخلوقة تجللها العظمة في ضعفها وهي تتوسل إلى الله من أجل حبها!

ورفعتها إلى صدري قائلًا لها: أي صديقتي الوحيدة! يا خليلتي، ويا أمي، ويا أختي، توسلي إلى الله من أجلي أيضًا؛ ليهبني قوة أحبك بها قدرَ استحقاقك. اطلبي لي الحياة ليغتسل قلبي بدموعك؛ فيصبح قربانًا لا دنس فيه نقتسمه أمام الله.

واستلقينا على الصخر، وساد الصمت حولنا، ولمعت السماء فوق رءوسنا بكل كواكبها، فقلت لبريجيت: أفما تُذكِّرك هذه الآفاق النَّيِّرة بأول استسلام؟

إنني أشكر الله لأننا لم نعد منذ ذلك الليل إلى تلك الصخرة، فبقيتْ هيكلًا طاهرًا تمرُّ وحدها بمخيلتي مجللة بالبياض بين أشباح حياتي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤