الفصل الأول

قدمنا من باريس مصممين على الرحيل منها إلى سفر بعيد، فأقمنا في منزل خاص لنعدَّ ما نحتاج إليه، وكأن تصميمنا على مغادرة فرنسا بدَّل كل شيء في نظرنا، فعاد إلينا الفرح والأمل والثقة مرة واحدة، وتبدد الحزن من حولنا، وقضت فكرة الانتقال القريب على كل مشاكسة وجدال.

واستغرقنا في أحلام سعادتنا، وأصبحت لا أنقطع عن ترديد أغلظ الأقسام بأنني لن أتحول عن حبي ما عشت، مُوجِّهًا كل عنايتي إلى إنساء خليلتي كل ما حمَّلتها من شقاء وأوصاب، وما اكتفت بريجيت بإنالتي عفوها، بل أظهرت أنها لا تتردد في تضحية كل ما عزَّ للحاق بي، وهكذا رأيتني مدفوعًا بدافع الإنصاف إلى مبادلتها إخلاصها بمثله، فتغلب حبي لبريجيت وإعجابي بها على ما بقلبي من جامح النزعات.

وانحنت يومًا على «الخريطة» مفتشة عن مكان نتوارى فيه، وما كان وقع اختيارنا على مكان موافق بعدُ، وكنا نطيل التردد متلمِّسين في الحيرة لذة جديدة ونحن مكبان على الرسوم يصدم جنبي جنبها، ويطوق ذراعي خصرها، فتسألني وأسألها عن مكان عزلتنا، وعما سنفعل في حياتنا الجديدة.

بأي بيان أوضح ما كان يخالجني من ندم على ما فات عندما كنت أرفع رأسي متأملًا في هذا الوجه الشاحب الحامل آثار الآلام الماضية، وقد أنارته ابتسامة الأمل، وكنت أنصت إلى كلماتها العذبة تصور ما سنكون عليه، فأتمنى أن أريق دمي فداء لها.

أي أحلام المُنى، لعلك أصدق سعادة نتمتع بها في هذه الحياة!

ومضت سبعة أيام ونحن نفتش عن مأوى لنا، ونتجول في المدينة لابتياع ما نحتاجه لتزيينه، وفي اليوم الثامن طرق بابنا شاب لا أعرفه يحمل رسائل لبريجيت، وبعد أن قابلها وانصرف رأيتها حزينة واهية القوى، وما عرفت عن هذه المقابلة سوى أن الرسائل واردة من المدينة التي كنتُ تَبِعْتُ بريجيت إليها لأُملي عليها غرامي حيث يقطن أقرباؤها.

وأعددنا في زمن وجيز كل ما احتجنا إليه، فأصبحت مأخوذًا بفكرة الرحيل، وقد تولاني منها ثملٌ منع كل راحة عني، فكنت أنهض من فراشي مبكرًا وأدخل إلى غرفة بريجيت ماشيًا على رءوس أصابعي متحاشيًا إيقاظها لأجثو أمام سريرها، حتى إذا أفاقت رأتني شاخصًا إليها، وقد بللت أجفاني الدموع، وما كنت أدري أية وسيلة أتخذ لأثبت لها إخلاصي في ندامتي، فتجاوزت حدود الأعمال الجنونية التي لامستها في غرامي الأول، وأصبحت أستوحي غرامي الجامح كل عمل يتجه إلى الشطط والإفراط، فتحول عشقي إلى نوع من العبادة، فكنت كلما دنوت منها أنسى أنني مالكها منذ ستة أشهر، ويخيل إليَّ أنني أراها لأول مرة، فأكاد لا أجسر على لمس أردانها وهي من حملت من فظاظتي ما لا يُحتمل. فإذا تكلمتْ ارتعشتُ كأنني أسمع صوتها لأول مرة، ويدفعني الهوس إلى الارتماء على أقدامها منتحبًا، أو إلى الاستغراق في الضحك دونما سبب، وكنت إذا ما تذكرت معاملتي الماضية أشعر باشمئزاز، وأود لو أن على وجه الأرض هيكلًا للحب أذهب إليه فأعتمد في مائه المقدس، وأرتدي مسوحه فلا أخلعها إلى الأبد.

ومثلت لخيالي اللوحة التي رسم فيها تيتان مشهد الحَوَاريِّ توما يلمس بأصبعه جرح المسيح، فرأيتني أُشبه هذا الحواري إذا صحَّ وجه الشبه بين حب الإنسان وإيمانه بربه! إن في ملامح توما وهو يسبر الجرح ما يصعب تحديده من عاطفة تتراوح بين الشك والإيمان، فتلوح لك كلمة التجديف الحائرة كأنها تذوب على شفتي الحواري وقد ارتفعت منهما كلمة الصلاة، فلا تعلم أجاحد هو أم رسول، ولا تدري إذا كان بلغ في ندمه ما بلغه من كفره. ولعل هذا الحواري نفسه لم يدرك، كما لم يدرك الرسام ولم يدرك الناظر إلى الرسم، هذا السر الغامض الذي ترفُّ عليه من المخلِّص ابتسامة كأنها التماع الندى تحت شعاع الرحمة والحنان.

وما كنت أقف أمام بريجيت إلا مثل وقفة الحواري توما، وقد حكمني الصمت، وتولتني الدهشة، فارتجفت فرقًا خشية أن يكون ما تبدل من حالي قد دفع بسريرتها إلى الارتياب بي، ولكن ما مرت علينا خمسة عشر يومًا حتى نفذت بصيرة بريجيت إلى ما يدور في خلدي، فأيقنت أنها استنبتت بإخلاصها إخلاصي، وأن صفاء نيتي قد نشأ من مجالدتها وصبرها، فما وسعها إنكار المعلول والعلة لا ريب فيها.

وكانت الحوائج ومجموعات الصور والأقلام والكتب والرزم تملأ الغرفة، وقد نشرت عليها الخريطة التي استولت على كل جوارحنا، وكنت أذهب وأجيء في هذه الغرفة لأقف أمام بريجيت، وأنطرح على أقدامها، فتصفني بالكسل وتقول: إنها لا تجد بدًّا من القيام لوحدها بالأعمال جميعًا ما دمتُ أنا لا أنفع لشيء.

وبينما كانت ترتب الحقائب وتقفلها كان الحديث لا ينقطع بيننا عما ننويه لسفرنا، فكنا نقول: إن سيليسيا على بُعدها معتدلة الجو في فصل الشتاء. إن جنوا جِدُّ رائعة بما وراءها من جبال وما فيها من حدائق انبسط الاخضرار على أعراشها، ولكنها مكتظة بالناس، يملؤها الصخب، ويقلقها الضجيج، وإذا مر في أسواقها ثلاثة رجال فلا بد أن يكون فيهم راهب وجندي. إن فلورنسا حزينة ولا تزال معرضًا لحياة القرون الوسطى، فكيف نحتمل مشاهدة نوافذها المحترقة وجدرانها القذرة؟

أما روما فما شأننا بها وما نحن من السائحين الذين يتوقون إلى الغرائب، أو يطلبون العلم؟

أفما يجدر بنا أن نذهب إلى ضفاف الرين؟ ولكنا لن نصل إليها إلا بعد انقضاء الموسم، ويصعب على الإنسان أن يقيم في الأماكن المهجورة.

أما إسبانيا فحركتها مستمرة، وعلى مرتادها أن يعيش فيها كما يكون في ساحة حرب، فيتوقع مصادفة كل شيء ما عدا الراحة.

لنذهب إذن إلى سويسرا مقصد العدد الغفير، وإن لم ترق لبعض الناس، فهنالك يتجلى أروع ما خلق الله من الألوان: هنالك زرقة السماء، وخضرة السهول، وبياض القمم العالية.

وصاحت بريجيت: هيا بنا! لنَطِرْ كغَردَين في الأجواء، وليقم في ذهننا أننا لم نلتق إلا منذ أمس الدابر في أحد المراقص، فأعجبت بك وأعجبت بي، ولسوف تقص عليَّ بعد أن نبتعد أميالًا أنك في القرى الصغيرة عشقت امرأة تدعى مدام بيارسون، فلا أصدق شيئًا مما ستسرده عنها؛ إذ لا أريد أن تُسِرَّ إليَّ بما وقع بينك وبين امرأة هجرتها لتتبعني، ولسوف أقول لك أنا أيضًا: إنني منذ أمد غير بعيد أحببت رجلًا ذا أخلاق سيئة حملت الشقاء من صحبته، فتُسمعني كلمات الإشفاق وتُلزمني السكوت، وهكذا نطوي إلى الأبد تلك الصفحة القديمة.

وعندما كانت بريجيت تتكلم بمثل هذا كنت أشعر بجشع الحريص وارتياعه، فأضمها إلى صدري بساعدين يرتجفان، وأنا أهتف قائلًا: إنني لا أعلم ما يوجب ارتعاشي أفرحي أم خوفي؟ سأحملك إلى بعيد يا بريجيت؛ لأنك كنزي الوحيد، فتكونين لي تحت هذه الآفاق الوسيعة. هيا إلى الأمام، ولتمت ورائي أيام شبابي وتذكاراتي، فتضمحل معها آلامنا وأوصابنا.

أي خليلتي، لقد حولت بصبرك الولد رجلًا، فإذا ما تخليت عني الآن يمتنع عليَّ أن أحب بعدُ.

من يدري؟ لعل امرأة غيرك كانت ستتولى معالجتي لو لم تعثري عليَّ. أما الآن فأنت وحدك في العالم المرأة التي بيدها إنقاذي وهلاكي؛ لأنني أحمل على قلبي وسم جميع ما حملتك إياه من عذاب. لقد كنت عاقًّا فعميت بصيرتي، وقسوت عليك. وإنني أشكر الله لأنك لا تزالين تحبينني، فإذا ما عدت يومًا إلى القرية التي رأيتك تحت أشجارها، فتطلعي مليًّا إلى ذلك المسكن المقفر؛ إنك لتجدي فيه طيفًا يتوه في أرجائه، ذلك هو الرجل الذي دخل إليك من باب هذا المسكن فبقي فيه؛ لأن الرجل الذي خرج معك منه إنما هو رجل آخر.

وكان جبين بريجيت يشع بنور الحب، وتلتفت إلى السماء قائلة: أصحيح أنني لك، وأننا سنبتعد عن هذا العالم الذي أهرمك في شرخ شبابك. إنك ستعرف ما هو الحب فتنجلي أمامي حقيقة نفسك، وإذا وهنت محبتك لي يومًا إيان يستقر بي الترحال فإنك لن تتملص من تبكيت ضميرك؛ لأنني أكون قمت بالمهمة التي قُدِّرت علي، فإذا ما تخليت عني أجد في السماء إلهًا أوجه إليه شكري على ما أولاني من نعمته.

إن هذه الكلمات لم تزل تُصْدي في جوانب تذكاري فتملأني حزنًا وروعة.

وأخيرًا قررنا أن نسافر إلى «جنيف» فنختار لنا مسكنًا هادئًا على منحدر جبال «الألب»، فبدأت بريجيت تذكر البحيرة الجميلة، فأحسبني أنشق النسمات التي تعقد زردًا على سطحها حاملة عطور أزهار الوادي، فكنا نشاهد بعين الخيال «لوزان» و«فيفي» و«أوبرلند»، ووراءها قمم الجبل الوردي الذي يفصلها عن سهول «لومباردي» الواسعة، فكأننا كنا نسمع في هذه الأماكن هتاف السكينة وهمسات أرواح العزلة تدعونا إليها لإغراق حياتنا فيها.

وعندما كان يحين المساء وأربط على أنامل بريجيت بأناملي كنا نشعر كلانا بشيء من التسامي يقصر البيان عنه، وما هو إلا عاطفة كل قلب يستعد للرحيل، فتتنازعه روعة الابتعاد وآمال ما يتوقع مشاهدته في سفره.

إن في فكر الإنسان أجنحة خافقة وأوتارًا ناطقة تمثل الألوهية فيه، فإذا ما استعد للرحيل ينتصب فيه عالم جديد كأنه خلق فيه خلقًا.

وما عتَّم حتى ظهرت على بريجيت دلائل الشحوب، فأصبحت صامتة تحني دائمًا رأسها، وإذا ما سألتها عما بها تجيب بصوت خافت أنها لا تشعر بشيء، ونبهتها يومًا إلى قرب ميعاد السفر فنهضت متخاذلة لتتمم معدات الرحيل، وأردت أن أشدد عزمها بتأكيدي لها أنها ستلقى السعادة، وأنني سأكرس لها حياتي، فلجأت إلى ذرف الدموع، وقبَّلتُها فعلا وجهها الشحوب وأعرضت بعينيها عني تاركة شفتيها لشفتي، وقلت لها: إن بوسعها العدول عن الرحيل، فقطبت حاجبيها.

ودعوتها إلى إعلان ما تضمر مكررًا لها أقسامي بأنني سأضحي حياتي لتأمين سعادتها، فارتمت على عنقي، غير أنها لم تلبث حتى دفعتني عنها وهي لا تعي.

ودخلت يومًا إلى غرفتها حاملًا ورقة السفر بالعربة التي تتجه إلى «بزانسون»، وإذا اقتربتُ منها واضعًا هذه الورقة على ركبتيها، رفعت ساعديها وصرخت، ثم سقطت فاقدة رشدها أمامي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤