الفصل الخامس

إنها لقوة مروِّعة هذه القوة الكامنة في الفكر الإنساني! فهي السلاح الذي ندافع به، والمعقل الذي نلجأ إليه. إنها لأفضل ما وهب الله للإنسان، فهي تابعة لنا تأتمر بأمرنا، نقذف بها إلى الآفاق ولكنها إذا ما تخطت حدود ذهننا ذهبت طليقة لا نملك لها زمامًا.

وكنت وأنا أرجئ الرحيل من يوم إلى يوم تبارحني قواي ويهجرني الوسن، فتنسرب مني حياتي دون أن أشعر، فإذا أنا جلست إلى المائدة كرهت طعامي، وإذا أسدل الليل ستاره وانطرحت على فراشي تراءى لي حتى في أحلامي وجهان شاحبان؛ هما: وجها سميث وبريجيت كأنهما يرقبانني كما أرقبهما من صباحي حتى مسائي.

وكنت كلما ذهبا كل مساء إلى الملاهي أرفض مرافقتهما، ثم أتبعهما إلى المسرح الذي قصداه، فأقعد مختفيًا بين النظارة لأراقبهما، وإذا ما جلسنا نتحدث في غرفة ادَّعيت أن لي ما يشغلني في غرفة أخرى، فأختفي ساعة أتجسس وأتنصت إلى حديثهما، ولكم خطر لي أن أوجد خلافًا بيني وبين سميث فأدعوه إلى المبارزة! فكنت أدير له ظهري وهو يوجه الخطاب إلي، فأراه يتبعني مندهشًا ويمد يده ليصافحني. ولكم قصدت أن أنهض من فراشي ليلًا لأفتح أدراج مكتب بريجيت وأفحص أوراقها! ولكنني قاومت هذه الفكرة حتى اضطررت مرة إلى مغادرة البيت كيلا أستضعف لها. وخطر لي يومًا أن أدخل عليهما شاهرًا خنجرًا لأكرههما على الإقرار لي بسبب الحزن المستولي عليهما. وفي يوم آخر انقلب غضبي عليهما إلى عداء لنفسي. إنني أدوِّن هذه الأحوال بمداد الأسى والخجل، ولو أن أحد الناس انتصب أمامي ليسألني عما يدفع بي إليها لكنت ولا ريب أصاب بالعيِّ فلا أجد كلمة أبرر بها ما أفعل.

لقد كنت موجهًا كل قواي إلى التجسس والارتياب، أخلق الاضطراب والشقاء لنفسي، فأقضي أيامي في إرهاف أذني بالتسمع، وليالي في ذرف الدموع، مُرددًا قولي: إنني سأموت غمًّا وألمًا، مشددًا إيماني بأن هنالك ما يستلزم هذا الفناء. وهكذا كنت أحس أن الضعف يجتث الأمل من قلبي، ويخيل إليَّ أنني أتجسس في حين لم أكن أسمع في الظلام سوى خفقان قلبي، فلا أنقطع عن ترديد هذه العبارات الفارغة التي يتلهَّى الناس بها في كل مناسبة، فأقول: إن الحياة حلم، وكل شيء باطل زائل، وأتوصل أخيرًا إلى سوء الظن بالله وأنا سائر على سبيل هوسي وآلامي.

هذه هي الحياة التي كنت أستقطر منها لذتي، وبمثل هذه المشاغل كنت أنقطع متخلِّيًا عن الحب، حارمًا نفسي نقاء الهواء، وصفاء السماء، وسعادة الحرية.

أجل، إن الحرية الخالدة كانت تستهويني بالرغم مما وصلت إليه؛ لأنها ما انقطعت عن مراودة تفكيري، فكنت أشعر وأنا مستغرق في غرائب أطواري وجنوني بقوة تنبت في نفسي فتطلقها من أجواء سجنها. تلك فترات كنت أتمتع بسكونها عندما تنفحني نسمات من الهواء البليل، أو عندما أدع جانبًا المؤلفات المشحونة بالنقد العنيف، وبثورات الإلحاد التي تجتاح المجتمع لتُمنِّيه بالعلل، فأطالع سواها كمذكرات كونستان مثلًا. ولأوردن بضعة أسطر قرأتها من هذه المذكرات فأعادتني إلى حقيقة حياتي:

أصيب سالسدورف الجرَّاح الساكسوني التابع للبرنس كريستيان بشظايا قذيفة كسرت ساقه في معركة واغرام، وكان منطرحًا على التراب وهو على آخر رمق، فإذا به يرى «أميديه دي كربورغ»، مرافق أحد القواد، يسقط مصابًا بقنبلة صدمت صدره، فتدفق الدم من فمه، وتيقن أن هذا المصاب سيموت مفلوجًا إذا لم يبادر أحد لإسعافه، فزحف مستجمعًا بقية قواه حتى وصل إلى المرافق الصريع وعالجه بفصدٍ أنقذ حياته، وحُمل الجرَّاح بعد المعركة إلى فيينا حيث قطعت رجله، فلم يعش إلا أربعة أيام.

قرأت هذه السطور فسقط الكتاب من يدي، وطفقت أبكي بدموع أعادت إلىَّ السكينة يومًا كاملًا؛ إذ تحولت عن كل همٍّ، وانقطعت إلى ذكر سالسدورف، فما خطر لي أن أُصوِّب ريبتي إلى أحد.

وما كانت تفيدني مثل هذه اللحظات سوى التفكير في زمن ساد الصلاح فيه عواطفي وحياتي، فأبسط ذراعي نحو السماء أستعطفها في شقائي، وأسائل نفسي عن هدفها في هذه الحياة، مديرًا لحاظي في الآفاق، متوقعًا أن تقذف إليَّ بقنبلة تضع حدًّا لأوهامي، غير أن هذه الحال لم تكن تنجلي أمامي إلا كلمعات بروق خاطفة في دياجير أيامي.

ما أشبه الفكر عندما يدور على نفسه بدرويش يطلب الاستغراق في نشوة دورانه، فلا يلبث حتى ينهكه جهده فيقف مرتاعًا، وما اكتشف في محاولته شيئًا؛ إذ لا يقوده الانصباب على أغواره إلا إلى المهاوي؛ حيث ينقطع الهواء كما ينقطع في الآبار السحيقة وعلى الذرى المحتكة بالسحاب، فقد وضع الله حدًّا لكل مجال تحتم على الإنسان ألا يخترقه، وعند هذا الحد المنيع يتطرق الصقيع إلى القلب، وتسوده غفلة يندفع فيها إلى اجتياز نطاقه طلبًا للحياة، حاسبًا أنه ينشق الهواء، وليس ما حوله إلا أثير أوهام تحتشد فيه جهوده المضيعة أشباحًا تدور به لتقضي عليه.

ووهنت قواي في موقفي حتى غدوت لا أطيق الحياة في وساوسي وشكوكي، فصممت على القيام بعمل أتوصل به إلى معرفة الحقيقة.

استأجرت عربة، وأمرت أن تكون مُعدَّة للسفر عند الساعة العاشرة ليلًا، وأوصيت الخدم ألا يدعوا مدام بيارسون تشعر بالأمر.

وجاء سميث وقت العشاء فجلسنا إلى المائدة وأنا أتكلف المرح وأقول لبريجيت: إنني لا أعارض في العدول عن السفر إذا كانت ترغب عنه؛ لأنني أستحسن باريس، ولا أجد بين المدن مدينة تَفضُلها في ملاهيها ومسراتها، وأعربت أخيرًا عن ميلي إلى البقاء ما دام ليس هنالك ما يضطرنا إلى الرحيل.

وكنت أتوقع أن تعلن بريجيت إصرارها على السفر إلى جنيف، فما كذب ظني إذ أبدت رغبتها في ذلك، ولكن بلهجة لا تنم عن عزم أكيد، فانتهزت الفرصة للنزول عند إرادتها وغيرت مجرى الحديث، قاطعًا خط الرجعة على ما اعتبرته أمرًا مقضيًّا، ثم عدت أقول: وهل هناك ما يمنع مرافقة سميث لنا في رحلتنا؛ فإن بإمكانه أن يحصل على إجازة، وفضلًا عن ذلك فإن مهارته في فنه — وإن أنكرها هو — تضمن له العيش حرًّا في أي بلد نزل فيه. إن عربتنا تتسع له، وليس من الخير لشاب في سنه أن يمضي أيامه سجينًا، ووجهت الخطاب إلى بريجيت أطلب منها أن تبذل نفوذها لإقناع سميث بأن يضحي من أجلنا ستة أسابيع من وقته، على أن يعود بعد هذه السياحة إلى مكتبه.

وكانت تعلم أن هذه الدعوة لم تكن إلا نوعًا من المزاح، ولكنها لم تتردد في ضم صوتها إلى صوتي، غير أن سميث تعلل بإمكان فقد وظيفته إذا هو تغيب عنها، واعتذر إلينا متأسفًا.

واستحضرت زجاجة من خير الشراب، واستمررنا في الحديث حتى انتشينا، وخرجت بعد العشاء لأتأكد من أن أوامري قد نُفذت، ثم عدت مسرورًا إذ رأيت كل شيء على ما يرام، وأبديت رغبتي في عدم الذهاب إلى الملاهي، وطلبت أن يعزف سميث لنا على قيثارته لنمضي السهرة سوية، فأخذ يوقع الأنغام، وذهبت بريجيت تطلق صوتها بالإنشاد، وجلست أنا أضرب على البيانو، وقمنا بعد ذلك نحتسي «البونش» ونلعب بالورق وأنا معلق أنظاري على الساعة، حتى إذا وصلت إلى العاشرة سادني ارتعاش تغلبت عليه، وقرقعت العجلات أمام الباب، فقبضت على يد بريجيت وسألتها عما إذا كانت مستعدة للرحيل، فنظرت إليَّ مستغربة وقد حسبتني مازحًا، فقلت لها: إن ما بدا لي من إصرارها أثناء العشاء دفعني إلى التعجيل، وما خرجت بعد الطعام إلا لأطلب العربة. ودخل خادمٌ المنزل يُشعرنا بأن الحوائج قد رُتِّبت ورُبطت، وأن السائق في انتظارنا.

وقالت: أصحيح أنك تريد الرحيل في هذا الليل؟

فقلت: ولم لا ما دمنا متفقين على مغادرة هذه المدينة؟

– وهل نسافر الآن في هذه الساعة؟

– أجل، سنسافر. ألسنا على أهبة منذ شهر؟ وما دمنا قررنا الأمر فالتعجيل خير من التسويف. أفما رأيت كيف تم كل شيء بسهولة؟ ومن رأيي أن يقضي الإنسان في شئونه على هذه الطريقة، فلا يدع لغده ما يستطيع أن يفعله في يومه. إذا كان يحلو لك السفر هذا المساء، فلماذا لا أنتهز الفرصة للتخلص من التسويف، وقد ثقلت هذه الحياة علي؟ إذا كنت عازمة على الرحيل فلنرحل.

وساد بيننا السكوت، فتقدمت بريجيت إلى النافذة، فإذا بالعربة أمامها تؤيد ما عزمت عليه، وما كان لها أن ترى في هذا إلا تنفيذًا سريعًا لما شاءت هي، فأصبحت تجاه أمر واقع لا تملك العدول عنه. وبعد أن تحققت أن كل شيء قد أعدَّ سرَّحت نظرها في جوانب المسكن، وأخذت قبعتها ودثارها قائلة: هيا بنا، ولكنها وقفت مترددة، وأخذت بيدها مصباحًا وذهبت تدور في غرفتي وفي غرفتها فاتحة أدراجهما، ثم سألتني عن مفتاح مكتبها قائلة: إنه كان معها منذ ساعة وقد فُقد، وعادت تقول: هيا بنا؛ إنني مستعدة، وهي لا تملك نفسها من الارتعاش، وجاءت فجلست حيث كنت جالسًا وأنا أحدق في سميث الواقف أمامي وقد ملك نفسه، فما نمَّ عن اضطرابه شيء سوى قطرتين من العرق تدحرجتا على فوديه، وكانت بين أنامله قطعة عاج من قطع اللعب انحطمت وتساقطت كسرها على الأرض، ومد يديه إلينا ليصافحنا قائلًا: سفر سعيد يا صاحبيَّ.

وعدنا إلى الصمت وأنا أتوقع أن يُضيف إلى توديعه كلمة واحدة، وقد قلت في نفسي: إذا كان هنالك سر؛ ففي أية مناسبة غير هذه سأُوفَّق إلى اقتناصه؟ إن في مثل هذه الساعة تنعكس الأسرار على الشفاه، وها أنا ذا أترصد خيالها.

وقالت: في أي بلد سنقيم يا عزيزي أوكتاف؟ وأنت يا هنري ستكتب إلينا، ولن تنسى أهلي فتسعى جهدك لديهم من أجلي.

فقال بصوت طغى التأثر على هدوء نبراته: أعدك بألا أدخر جهدًا في هذا السبيل، ولكن الرسائل التي تلقيتها لا تدع لي أملًا كبيرًا، فإذا ما حبطت مساعيَّ فلا تتهميني بالقصور، وعلى كلٍّ لا تتوقعي ورود أخبار تسرُّك في القريب العاجل. ثقي بي؛ فإني مخلص لك.

وبعد أن وجه سميث إلينا بعض كلمات من قبيل المجاملة تحوَّل نحو الباب، فسبقته إليه وخرجت لأدع له مجالًا لخلوة أخيرة، ودفعت الباب، ورأى كأنني أبتعد، ثم عدت فألصقت أذني بفتحة المزلاج.

وحدق سميث فيها قائلًا: متى أراك؟

فقالت: لن تراني بعدُ. الوداع يا هنري.

ومدت إليه يدها، فرفعها إلى شفتيه وخرج، ولو لم أندفع بسرعة إلى الوراء لكان اصطدم بي.

وعندما خلوت ببريجيت وهي حاملة دثارها تنتظر إشارتي — وقد بدا التأثر بجلاء على ملامحها — شعرت بانقباض في حشاشتي. وكانت قد وجدت مفتاح مكتبها؛ إذ رأيت أدراجها مكشوفة، فارتميت على المقعد قرب الموقد وقلت لها وأنا لا أجسُر على التحديق في عينيها: اصغي إليَّ يا بريجيت. لقد أسأتُ إليك كثيرًا، وقد حق عليَّ أن أتحمل آلامي فلا أشكو إلى أحد. لقد طرأ على حالك من التبدل ما ضعضعني، فاضطررت إلى دعوتك لجلاء أمرك، ولكنني أعدل اليوم عن الاستفسار، وأصرح لك بأنني راضٍ بالبقاء هنا إذا كان يصعب عليك الرحيل.

فقالت: هيا بنا؛ فلنرحل.

– لك ما تشائين، ولكنني أقتضي الصراحة منك، فأنا مهيأ لاقتبال أي سهم يُسدَّد إليَّ دون أن أسأل عن مصدره، فلا أتململ ولا أشكو، وإذا كان قضي عليَّ بأن أفقدك، فما أطلب منك إلا حجب الأمل عني كيلا أتعثر بأذياله فأموت.

فحدقت فيَّ قائلة: حدثني عن حبك ولا تذكر أوجاعك.

فقلت: أحبك أكثر من الحياة، وما أوجاعي إلا أوهام تجاه هذا الغرام. تعالي لنذهب إلى آخر الدنيا؛ فأحيا بك أو أموت من أجلك.

وتقدمت نحوها فإذا بالاصفرار يعلو وجهها، وإذا بها تتراجع إلى الوراء مرغمة وهي تُكره شفتيها المتقلصتين على الابتسام، وذهبتْ إلى مكتبها قائلة: أنلني هنيهة من الزمن؛ إذ عليَّ أن أحرق بعض أوراق، وأبرزت رسائل أقاربها أمامي ثم مزقتها وألقت بها إلى النار، وعادت فأخرجت أوراقًا أخرى طالعتها ووضعتها على الخوان، وما كانت هذه الأوراق إلا قوائم حسابات لبعض موردي حوائجها، وبينها ما لم تكن دفعت ثمنه بعدُ، وطفقت تتكلم وهي تدقق في هذه الحسابات، راجيةً عفوي عنها لاحتفاظها بالصمت طوال المدة الأخيرة، مبديةً نحوي أشد العطف، مستسلمة لإرادتي، فرأيت فيها مجسَّم الحب أو مجسَّم مظاهره، وذهب مرحها المصطنع يحزُّ في قلبي؛ إذ رأيت فيه ألمًا يجحد نفسه، فيتكلَّف سرورًا أفجع من النواح، واستسلامًا قرارته أمرُّ عتاب، وقد كان خيرًا لي لو أنها ظهرت جامدة ولم تلجأ إلى هذا الهياج المكذوب للتغلب على نفسها.

وظهرت بريجيت لعيني كأنها ممثلة تقلِّد ما كانت عليه قبل خمسة عشر يومًا؛ فإذا بكل حركة منها كانت تُسكرني غرامًا من قبل تصدم قلبي فينقبض لها ارتياعًا.

وصحت بها فجأة: أي سر تضمرين يا بريجيت؟ إذا كنت تحبينني حقيقة، فإلامَ ترمين بهذا الدور الذي تحكمين تمثيله أمامي؟

– أأنا أُمثِّل؟ وما الذي يدعوك إلى هذا الظن؟

– أفما يجدر بك أن تعلني أن روحك تلامس الموت، وأنك تتحملين عذاب الشهداء؟ إنني أفتح لك ذراعيَّ؛ فألقي رأسك إلى صدري، وأطلقي سراح دموعك عليه، فلعلَّني أذهب بك إذا فعلتِ، أما أن أختطفك وأنت على ما أرى فذلك مما لا أقدم عليه.

فصرخت: هيا بنا فلنذهب.

فقلت: لا! قسمًا بحياتي، إنني لن أفعل ما دام بيني وبينك هاوية سرٍّ أو سواد نقاب. إن أشد مُصاب لأهون وقعًا عليَّ من هذا المرح الذي تتصنعين.

فوجمت إذ رأتني نافذًا إلى أقصى سريرتها بالرغم مما تبذل لحجبها عني.

واستطردت قائلًا: لماذا نخادع نفسينا؟ لو لم أكن تراميت إلى المهاوي في نظرك لما كان بوسعك أن تتظاهري بغير حقيقتك أمامي. أفترين هذا السفر تنفيذًا لحكم مبرم قضيت به عاتيًا، وأتيت به جلادًا يقودك إلى الإعدام؟ أي شيء يروعك من غضبي لتلجئي إلى مثل هذه الحيل؟ وما هو هذا الخوف الذي يقودك إلى مثل هذه الأكاذيب؟

– أنت مخطئ يا أوكتاف. قف عند هذا الحد ولا تزد.

– لماذا هذا الحذر؟ إذا كنت قد فقدتُ صفة الأمين على سرك؛ فعامليني معاملة الصديق على الأقل، وإذا امتنع عليَّ أن أعرف مصدر دموعك، فهل أُحرم النظر إلى انسكابها من عينيك؟ أتراجعت ثقتك عني إلى حيث لا تعتقد باحترامي لأوجاعك؟ وما هي الجناية التي أُعاقب عليها بحرماني معرفة هذه الأوجاع؟ أفليس لدائك من دواء؟

– لا، وخير لك ولي أن تشدد النكير عليَّ. إنك لتدفع بنا كلينا إلى الشقاء، أفلا يكفيك أن نرحل عن هذه البلاد؟

– وهل بوسعي أن أرحل وكل حركة منك تدل على نفورك من هذا السفر؟ فأنت تقتحمينه مكرهة، وبوادر الندم تسبق إقدامك عليه، فما تُخفين عني يا ترى؟ وما يُفيد التلاعب بالألفاظ إذا كانت الفكرة أوضح من النهار؟ وهل يجمل بي إذا لم أنحط إلى أدنى دركات الإنسانية أن أقبل عن رضًى ما تجودين به مكرهة آسفة؟ على أنني أقف حائرًا في رفضه وأنت تحطمين قواي بصمتك.

– لا، إنني لا أتبعك مكرهة. أنت على خطأ في اعتقادك هذا؛ فأنا أحبك يا أوكتاف، فكف عن تعذيبي.

وتساقطت هذه الكلمات من فمها بكل عذوبة الحنان، فرأيت نفسي منطرحًا على قدميها وقد غلبتني نظراتها ونبرات صوتها فهتفت: أتحبينني يا بريجيت؟! أحق ما تقولين يا خليلتي؟

– أجل، إنني أحبك. أجل إنني ملكك؛ فافعل بي ما تشاء. إنني سأتبعك. هيا يا أوكتاف؛ فإن العربة بانتظارنا، وشدت بأناملها على يدي وهي تلقي على جبيني أحرَّ قبلاتها مكررة قولها: لا بدَّ من أن أتبعك، إنني أريد أن أسير معك إلى آخر يوم من حياتي …

رددت كلمة «لا بد» في نفسي، ووقفت ناظرًا إلى بريجيت تُقلِّب آخر صفحة من أوراقها، فسألتها عما إذا كانت أتمت عملها، فأجابت إيجابًا.

عندما أوصيت العربة لم أكن مقررًا الرحيل، بل رميت إلى القيام بتجربة، فإذا أنا تجاه أمر واقع.

وتقدمت فاتحًا الباب وأنا أرفع صوتي قائلًا: «لا بد» وما تعني هذه الكلمة؟ بل أي شيء وقع هنا وأنا لا أدري به؟ أوضحي لي الأمر وإلا بقيت حيث أنا؟ أفيكون حبك لي فرضًا عليك، وعاطفة لا بد منها؟

فارتمت على المقعد وهي تفرك يديها ألمًا وتصرخ: ويحك! إنك ستجهل الحب طول حياتك.

– لعلك تقولين الحق، ولكنني أستشهد الله على أنني أعرف العذاب، لقد قلت: إنه لا بد لك من حبي، فلا بد لك أيضًا من إبداء الجواب، وما أنا مبارحٌ موقفي حتى ولو اضطرني إصراري إلى فقدك، حتى ولو سقطت هذه الجدران عليَّ قبل أن أطلع على هذا السر الذي يقضُّ مضجعي منذ شهر. إنني تاركك إذا لم تتكلمي. لقد أكون مجنونًا، لقد أكون مُقدمًا على هدم حياتي بيدي، ولقد يكون من الخير لي أن أتجاهل ما أطلب إيضاحه، فلا أثير بيننا أمورًا قد تقتل سعادتنا وتمزِّق شملنا، وتحول دون هذا السفر الذي حصرت أمانيَّ فيه، لقد يكون كل هذا ولكنني لا أرتجع عن عزمي. تكلَّمي أو أتخلَّى عن كل شيء.

– لا … لا … لن أتكلم.

– بل سوف تتكلمين. أفتحسبين أنني أُخدع بأكاذيبك؟ أيخيل إليك أنني جاهل أمرك وأنت تتبدلين بين صبح ومساء متقلبة كتقلب الظلمة والنور؟ وتلجئين إلى تبرير موقفك بإبرازك رسائل لا تستحق أن ألقي عليها نظرة واحدة. وهكذا تقنعين بأنني أكتفي بأول تعليل يخطر لك تقديمه. أوجهك وجه تمثال من الجير لتضمحلَّ وراءه أشباح عواطفك؟ فما هو اعتقادك فيَّ يا ترى؟ إنني لا أنخدع بنفسي على قدر ما يلوح لك، فحذارِ أن ينمَّ لي سلوكك عما تبذلين لستره كل هذه الجهود.

– وماذا تعتقد أن يكون هذا السر الذي أخفيه؟

– أإليَّ يوجه هذا السؤال؟ وما تقصدين من هذا التحدِّي الصريح إذا لم يكن ما ترمين إليه إحراجي لإثارة كرامتي الجريحة حتى إذا انفجر غيظي تخلصت مني.

إنك تتوقعين مني تصريحًا لتقابليه بخبث الأنوثة. تريدين أن أتهمك لتردي عليَّ بقولك: إن امرأة مثلك لا تتنازل للدفاع عن نفسها. إن أشد النساء لؤمًا تعرف كيف تتشح ببرود العظمة، وتذود عن نفسها بسلاح التحقير؛ فالصمت أقوى ما تتمنع به المرأة، وما تعلمت هذه الحقيقة من أمس. إنك تراودين الإهانة بالسكوت، ولكن إذا كان بوسعك أن تحاربي قلبي لأن قلبك خافق فيه، فأنت أضعف من أن تهاجمي تفكيري. إن رأسي أقسى من الفولاذ وفيه من المعرفة ما لا تعلمين.

– يا لك من ولد مسكين! أفلا تريد أن نرحل؟

– لا. إنني لن أسافر إلا بصحبة خليلتي، وما أنت بخليلتي الآن. لقد جاهدت طويلًا، وتعذبت كثيرًا وأنا أقرض شغاف فؤادي. لقد طال ليلي، وآن للصبح أن ينجلي. فهل أنت موردة جوابك أم لا تزالين مصرة على السكوت؟

– لن أجاوب.

– ليكن ما تريدين؛ فأنا مصر على الانتظار.

وذهبت لأنطرح على مقعد في آخر الغرفة مصممًا على عدم الحركة حتى أعرف ما أريد معرفته. أما هي فأخذت تتمشى أمامي رافعة رأسها وقد انطبعت آثار التفكير على جبينها المتجهم.

وبت أتبعها بأنظاري، وكلما استغرقت في صمتها أوغلت في غضبي، وكنت أحاول إخفاء ثورتي، فتوجهت إلى النافذة وصرخت بالخدم أن يؤدوا للسائق أجره، معلنًا عدولي عن السفر هذا المساء.

فقالت بريجيت: مسكين أنت!

وأقفلت النافذة، وعدت إلى مقعدي متظاهرًا بأنني لم أسمع شيئًا وفي أحشائي نار تتقد تجاه هذا الصمت الجليدي، وهذه القوة السلبية، ولو أنني كنت في موقف عاشق تيقن خيانة محبوبته له لما كنت شعرت بضنك أشد على روحي من هذا الضنك.

وما قررت البقاء في باريس إلا وأنا مصمم على استنطاق بريجيت مهما كلفني الأمر، فأخذت أستعرض الوسائل توصلًا لبغيتي فلا أجد، وأتمنى لو خطرت لي وسيلة ناجعة أبذل في اتخاذها كل ما أملك.

ما العمل؟ ماذا أقول؟ وهي واقفة أمامي هادئة تحدجني بنظرات ملؤها الأسى.

وسمعت قرقعة حوافر الخيل وقد حلت من مرابط العربة، وما لبث حتى ساد الصمت على الشارع، وقد كان بوسعي أن أقف وأصرخ لأسترجعها، غير أنني جمدت مكاني كأن القضاء قد حتَّم بابتعادها دون معاد.

تقدمت إلى الباب ودفعت مزلاجه وأنا أسمع في أذني همسًا يقول لي: لقد أصبحت وحدك تجاه المخلوقة التي في يدها حياتك أو موتك.

وعدت إلى التفكير في حيلة تهتك الأستار أمامي، فإذا بي أتذكر قصة من قلم ديدرو عن امرأة تأكلتها الغيرة على عشيقها، فلجأت إلى حيلة غريبة توصلًا لجلاء ريبتها به؛ إذ صرحت له بزوال حبها له، وبأنها عازمة على هجره. وكان هذا العاشق يدعى المركيز أرسيس، على ما أذكر، فوقع في الحبالة واعترف لخليلته بأنه هو أيضًا لم يعد يشعر بالحب لها.

وكنت قرأت هذه القصة وأنا في زمن المراهقة فأعجبت بحيلة بطلتها، وعندما عنت لخاطري وأنا في هذا المأزق ابتسمت وقلت في نفسي: لعل بريجيت تقع في الشرك نفسه إذا أنا مددته لها فتُفضي إليَّ بسرها.

وهكذا انتقلت من حالة الهياج والغضب إلى المراوغة والمخاتلة، وخيل لي أن اقتياد امرأة إلى الإقرار ليس من صعاب الأمور، وقلت في نفسي: ما دامت هذه المرأة خليلتي فلن أعجز عن استنطاقها إلا إذا كنت من صعاليك الرجال.

وتراخيب مستلقيًا على مقعدي وتكلفت عدم المبالاة والمرح، فقلت: أما ترين أن زمن التصريح قد حان؟

وإذ رأيتها تنظر إليَّ بعيني الاستغراب ذهبت في حديثي قائلًا: لا بد من التوصل يومًا إلى المصارحة بالحقائق، وسألجأ إلى اقتحام هذه الصراحة فأكون قدوة تحررك من كل حذر، وليس خير من التفاهم والاتفاق بين الأصدقاء.

وما توقفت عن ذرع الغرفة ذهابًا وإيابًا كأنها لم تسمع كلماتي، وقد رأت ولا ريب على أسارير وجهي ما يكذب بياني، فتابعت قائلًا: لا تجهلين أننا منذ ستة أشهر نعيش جنبًا إلى جنب، وما كان أبعد حياتنا عن السرور أو ما يشبهه، أنت في مقتبل العمر وأنا كذلك، فهل لو شعرت بنفور من هذه المصاحبة تجدين في نفسك ما يدفعك إلى مصارحتي بنفور؟ وما أكتمك أنني لو مللت هذه الصحبة فلن أتردد في الاعتراف بها؛ إذ لا يوجد سبب يحول دون هذه الصراحة؛ لأنه إذا كان الحب ليس جريمة، فلا يمكن أن نرى جرمًا في تناقص هذا الحب أو في زواله، وهل يستنكر أن يحتاج من في سننا إلى التغيير؟

ووقفت واجمة وهي تردد قولي: «من في سننا.» أإليَّ توجه هذا الكلام؟ بأي دور تريد أن تقوم في تمثيلك هذا؟

وتصاعد الدم إلى رأسي فقبضت على يدها قائلًا: اجلسي واسمعي.

فقالت: ولماذا أستمع وما أنت الذي يتكلم؟

وخجلت من محاولتي المراوغة فعدلت عنها وقلت: أصغي إليَّ واقتربي مني. إنني أتوسل إليك أن تجلسي إلى جنبي. إذا كنت لا تزالين مصرة على الصمت فاستمعي لي على الأقل.

– أنا مصغية فتكلم.

– لو جاءني أحد وقال لي: أنت جبان، وأنا من لم يتجاوز الثانية والعشرين، وقد أقتحم المبارزة، فلا ريب في أنني أغضب لامتهان كرامة أعرفها في نفسي، فأسير إلى الميدان مجازفًا بحياتي لأشبك سيفي بسيف نكرة من الناس، وما أقدم على هذا إلا لأثبت أنني لست جبانًا، وإذا أنا لم أفعل ألصق المجتمع بي ذل الرعاديد؛ إذ لا يورد الجواب على مثل هذه الإهانة إلا كلمة السيف.

– لا ريب فيما تقول، ولكن إلى أين تتجه بهذه المقدمة؟

– إن النساء لا ينزلن إلى ميدان المبارزة، غير أن لكل إنسان سواء أكان ذكرًا أم أنثى ساعة يناقش فيها الحساب مهما انتظمت حياته، ولا يفلت من هذا المأزق إلا رجل يرضى بالعار، وامرأة تقنع بالقطيعة والنسيان. لقد حق على كل مخلوق أن يثبت حيويته، فإذا ما هُوجم رجل دافع بسيفه. أما المرأة فما يجديها امتشاق الحسام لصيانة نفسها، بل عليها أن توجد لنفسها ما يوافق موقفها من سلاح، فإذا هاجمها رجل لا تأبه له ردَّته بالترفع والاحتقار. أما إذا كان المهاجم محبوبًا سلاحه الشك والارتياب، فلا قبل لها باحتقاره، وقد وضعت روحها في صدره.

– إذا كان المهاجم محبوبًا، فلا جواب إلا الصمت.

– لقد أخطأت في بيان قصدك، فإن الجواب الذي ترين للمحبوب الذي يلطِّخ بارتيابه حياة امرأة إنما يقوم بذرف الدموع، وباستشهاد ما بذلت من صبر ومن إخلاص فيما مضى. إنك تتركين للزمان أن يظهر براءتها من التهم إذا تركها عاشقها وهو يؤاخذها بجريرة سكوتها.

– لعل ذلك صحيح، ولكنني أرى الصمت أولى.

– إنك تَلجئِين إلى الصمت! وكوني واثقة من أنني سأذهب وحدي إذا أنتِ لم تعدلي عن هذا السكوت.

– وأخيرًا … يا أوكتاف.

– أخيرًا ليأتِ الزمان مبررًا لك بعد ذلك، إنك تنتظرين عدل الزمان.

– أجل، وذلك ما أرجو.

– ذلك هو أمَلُكِ! اسبُري أقصى سريرتك؛ فهذه هي المرة الأخيرة التي يتسنى لك أن تستنطقيها أمامي. لقد قلتِ إنك تحبينني فصدقت، فهل تقصدين الآن تجاه ارتيابي بك أن أهجرك تاركًا للزمان مهمة تبرئتك؟

– ألك أن تصارحني بريبتك؟

– ما كنت أود أن أصرح بها؛ إذ لا فائدة من هذا التصريح، ولكنني أصبحت ولا مناص لي من مقابلة الصَّغار بمثله. إنك تخونينني! إنك تحبين رجلًا غيري، ذلك هو سرك، وذلك هو سري.

– ومن هو هذا الرجل؟

– هو سميث.

ومدت يدها تطبق أناملها على شفتي وهي تعرض بوجهها عني، فسكتُّ وأطرق كل منا مستغرقًا في تفكيره.

وسمعتها تقول حزينة مجهدة: أصغ إليَّ. لقد جالدت العذاب طويلًا يا أوكتاف، ولتشهد السماء على أنني أبذل حياتي فداء لك، وما دام أمامي بصيص من الأمل أتحمل كل عذاب للاتجاه إليه، ولكنني مضطرة إلى تذكيرك بأنني امرأة، ولو أغضبك هذا التصريح، وللمرأة حدود تقف قواها عندها؛ فلا تقاوم الطبيعة البشرية بإصرارك على استنطاقي، فإنني لن أجيب على سؤالك، وليس بوسعي الآن إلا أن أجثو لآخر مرة على قدميك متوسلة إليك أن نسرع في الرحيل.

وترامت نحوي، فهببت أصيح: إنه لمجنون من يحاول — ولو مرة واحدة في حياته — أن يفوز بالحقيقة من فم امرأة. إنه ليعود بغنيمة الاحتقار وقد استحقها.

إن من يتوصل إلى كشف حقيقة المرأة إنما هو المتنصِّت إلى هذيانها في نومها، أو المستنطق خادمتها بقوة الرشوة، وما يعرف المرأة إلا من استحال امرأة ليهتك بدناءتها الأشباح الملفعة بالظلام. أما الرجل الذي يطلب هذه الحقيقة بكل صراحة وإخلاص، الرجل الذي يمد يدًا تأنف الدنايا مستجديًا هذه الحسنة الرائعة؛ فإنه لن يظفر بها طوال حياته. إن المرأة تحترس من أمثال هذا الرجل، فلا تجيب على سؤاله إلا بهز كتفيها، وإذا ما خانه الجلد انتصبت في وجهه كعذراء الهيكل غاضبة لعفافها وصيانتها، وهل تدافع المرأة إذا شعرت بالريبة تدور حولها بسوى آية النساء العظمى: إن في الشك مقتل الحب، وما تغتفر المرأة إهانة لا يسعها أن تجيب عليها.

أما والله، لقد ثقل هذا الحال علي، فإلى أي زمن سيدوم؟

فقالت وقد تجمدت نبراتها برودًا على شفتيها: لك أن تضع له حدًّا؛ فإنه ليرهقني بقدر ما يرهقك.

– سأضع له حدًّا في هذه اللحظة، فأنا هاجرك إلى الأبد، وللزمان أن يفعل فعله ليبررك.

الزمان! الزمان! هذه كلمة الوداع، أيتها العاشقة الباردة.

تذكري وداعك هذا عندما يمر الزمان فتفتشين عبثًا عن السعادة والحب والجمال. أين فجيعتك لفقدي أيتها العاشقة؟

إن كل ما يمر في ذهنك الآن هو أن المحب الغيور سيدرك يومًا ما ارتكب من ظلم عندما ينطح البرهان بصره، فيعلم أيَّ قلب أدمَى، وعندئذ تسحُّ دموعه خجلًا من نفسه، فيفقد لذة العيش، ويهجره وسنه، وتصبح حياته مأتمًا ينوح به على أيام كان له أن يقضيها فرحًا سعيدًا، ولكن ألا يخطر لك أن معشوقة هذا التعس قد تقف مذعورة في ذلك الحين من نتائج انتقام الزمان لها، فتصرخ قائلة: ليتني فعلت ما كان يجب فعله قبل فوات الأوان.

صدقيني! إن كبرياء هذه العاشقة لن تأتيها بأية تعزية إذا كانت أحبت حقيقة.

وكنت أود أن أتكلم هادئًا فأفلت زمامي من يدي، وبدأت بدوري أذرع الغرفة طولًا وعرضًا، فتشتبك نظرات بريجيت بنظراتي اشتباك السيف بالسيف، وكنت أراها أمامي كأنها باب منيع سجنت وراءه، فأفتش عن وسيلة أبذل في سبيل امتلاكها حياتي لأحطم أقفال فمها، وأغتصب سرها.

وقالت: ماذا تقصد؟ وما الذي تريد أن أقوله لك؟

– أريد أن تبوحي لي بما تضمرين. أفليس من القساوة أن تُكرهيني على تكرار هذا القول؟

– وأنت … وأنت … أين قساوتي من قساوتك؟ تقول: إن من يطمح إلى معرفة الحقيقة مجنون، أفلا يحق لي أن أرد على هذا بقولي: إنها لمجنونةٌ المرأة التي يخيل لها أن ما ستعلنه من حقيقة سيُصدق.

إن السر الذي تريد معرفته هو أنني أحبك. ذلك هو سري. فيا لي من عاشقة أضاعت رشدها! إنك تفتش عما يكن وراء شحوبي، وشحوبي أنت ألقيت به عليَّ ثم عدت تتهمه وتستنطقه. يا لي من مجنونة! لقد أردت الانكماش على آلامي لأقف عليك صبري واحتمالي، أردت ستر دموعي عنك، فإذا أنت تتجسس عليها وتحسبها دلائل جرم خفي. يا لي من مجنونة! لقد أردت قطع البحار وهجر وطني لأتبعك، وأموت بعيدة عن كل من أحبني، منطرحة على قلب يرتاب في إخلاصي. يا لي من مجنونة! لقد كنت أحسب أن للحقيقة من النظرات والنبرات ما ينمُّ عنها ويدعو إلى احترامها.

أواه، إن عبراتي تخنق أنفاسي عندما أفكر في حالي. لماذا اقتدتني إلى هذا السبيل أخضع عليه حياتي إذا كنت ستقف بي هذا الموقف الحائر لا أهتدي فيه إلى نفسي؟

وانحنت عليَّ والدمع يتساقط من أجفانها وهي تصرخ: يا لي من مجنونة!

وعادت إلى حديثها: إلى متى تستمر على هذا الضلال؟ فقد أعجزتني بشكوكك وهي لا تشب حتى تنطفئ، ولا تنطفئ حتى تشب. أنت تطلب إليَّ أن أُبرر نفسي، ومن أية جناية عليَّ أن أبررها؟ أمن هجر بلادي، أم من غرامي، أم من موتي، أم من قطع رجائي؟ إذا أنا تكلفت السرور حسبت سروري إهانة لك. لقد ضحيت كل شيء لأرحل معك، وما أنت سائر معي مرحلة دون أن تلتفت إلى الوراء، فأنا لا أتلقى غير الإهانة، ولا أشهد غير الغضب أيَّان كنتُ ومهما فعلت.

أي بني الحبيب! ليتك تعلم بأي صقيع قاتل أحس، وأية أوجاع تقطع أحشائي عندما أراك تقابل أصدق كلمة تصعد من قلبي على لساني بالريبة، فلا تصغي إليها إلا هازئًا ساخرًا. إنك لتحرم نفسك السعادة التي لا سعادة سواها على الأرض، وهي الاستسلام في الحب. إنك لتقتل بما تفعل كل عاطفة رقيقة سامية في قلب من يحبك، ولن يطول بك الأمر حتى يمتنع عليك أن تؤمن إلا بكل خشن كثيف، فلا يبقى لك من الحب إلا ما تراه بعينك، وما تلمسه بيدك.

أنت لم تزل فتيًّا يا أوكتاف، وأمامك مراحل طويلة في الحياة؛ فستتخذ لك خليلات غيري.

لقد قلت حقًّا، ليست الكبرياء شيئًا معدودًا، وما أتوقع منها تعزية وسلوانًا، ومع ذلك فإنني أطلب من الله أن يُقدِّر ذرف دمعة واحدة تتحدر يومًا كفارة عما أذرفه الآن من دموع.

ووقفت وهي تقول أيضًا: أيجب عليَّ أن أعلن، وعليك أن تعلم، أنني منذ ستة أشهر لم أنطرح على وسادي ليلة دون أن أكرر قولي لنفسي: إنك لن تشفى من دائك، ولا حيلة لي فيك. أيجب أن تعلم أنني ما نهضت يومًا في صباحي دون أن أصمم على محاولة شفائك، وأنك ما قلت لي كلمة دون أن أشعر منها أن لا بد من هجرك، وأنك ما ضممتني مرة إلا وأعلن لي قلبي أنه يفضل الموت على الانسلاخ عنك، وأنني في كل يوم، بل في كل دقيقة حاولت — وأنا كالكرة بين أملي وخوفي — أن أتغلب بحبي على أوجاعي، أو أتغلب على حبي بهذه الأوجاع، وأنني ما فتحت لك قلبي مرة دون أن تنفذ منه بنظراتك الساخرة إلى أعماق أحشائي، فإذا أنا أوصدته دونك شعرت أنه ينطوي على كنز رصده القضاء عليك، ولن يناله سواك؟ أعليَّ أن أُحدِّثك عن ضعفي، وعن هذه الأسرار التي تتجلى تافهة لعين مَن لا يجد لها حرمة في نفسه؟ أأقول لك: إنك في كل مرة ذهبت من بين يدي غاضبًا كنت أوصد بابي لأنفرد برسائلك الأولى أطالعها بدموعي، وإن بين ما أعزفه قطعة — تعرفها أنت — ما زلت أستقطر من نغماتها الصبر في غيابك حتى تعود.

يا لشقائي! إنني أعلم الآن ما ستكلفني هذه الدموع التي ذرفتها في الخفاء، وهذا الجنون الذي يتدفق ضعفًا وحنانًا. إنني أبكي لأن كل ما تحملت من عذاب لم يُجْدِ شيئًا.

وأردت مقاطعتها فصاحت: دعني، دعني أقول لك ما لا بد من إعلانه: لماذا ترتاب بي وأنا لك بكليتي منذ ستة أشهر، وعليك وقفت فكري وروحي وجسدي؟ فما تكون يا ترى هذه الخيانة التي تجسر على اتهامي بها؟

إذا كنت قررت السفر إلى سويسرا، فها أنا ذي مستعدة للرحيل معك، وإذا كنت تظن أن لك مزاحمًا عليَّ، فاستكتبني الرسالة التي تريد وسلمها للبريد بيدك.

ما لنا لا نعلم ما نفعل؟ وإلى أين نتجه؟

تعال نستقر على رأي، فقد عشنا دائمًا سوية، فقل لي: ما الذي يدعوك إلى هجري؟ إنني لا أطيق أن أكون ملتصقة بك وبعيدة عنك في وقت واحد.

قلت إن من حق الرجل أن يتمكن من الوثوق من خليلته، وأنت مصيب، ولكن إذا كان في الحب خير للرجل، فعليه أن يؤمن به، وإذا أصابه منه ضير، فمن واجبه أن يعتبره داء يعمل على شفاء نفسه منه.

أفما ترى أن ما نفعله الآن إنما هو مجازفة في ميسر؟ وما نجازف إلا بقلبنا وحياتنا. إن ذلك لأمر فظيع.

مَنْ أنا لتصبَّ عليَّ شكوكك؟

وتوقفت أمام المرآة وهي تكرر قولها: من أنا؟ انظر إلى ما أصبح وجهي عليه.

وأردفت توجه الخطاب إلى خيالها: أإليك يوجه الارتياب أيتها المرأة التعسة؟ أحولك تدور الشكوك أيها الوجه الشاحب، أيتها الوجنتان الذابلتان ترويهما محرقات الدموع؟ أكملي مراحل عذابك يا هذه! وليأت الفم الذي جفف رواء جمالك بقبلاته لينطبق الآن على عينيك فيغمضهما.

انزل إلى الحفرة الرطبة الباردة أيها الجسد الناحل وقد تراخت قوائمك عن حملك، لعلهم يصدقونك وأنت ممدد في اللحد إذا كانت الشكوك تؤمن بالموت.

ويحك أيها الشبح الحزين! إلى أي شاطئ من شواطئ العذاب تترامى معولًا باكيًا؟ أية نار تشب بين عظامك فتقف واضعًا خططًا لرحيل وأسفار وإحدى رجليك ناشبة في ثلمة القبر؟

مت أيها الشبح، وليشهد الله أنك ما أردت إلا أن تجود بحبك. أية قوة من الوجد أثاروا في فؤادك؟ وإلى أي حلم قذفوا بخيالك ليجرعوك أخيرًا هذا الزعاف القاتل؟

أية جناية ارتكبت حتى تهب هذه الحمى المحرقة فيك؟ وأية ثورة تجتاح روح هذا العربيد الذي يدفعك برجله إلى الحفرة ومن شفتيه تتدفق كلمات الغرام؟

إذا أنت بقيت في الحياة، أيتها المرأة، فإلى أين مصيرك؟ ألم يحن حينُك؟ أما كفاك الدهر عذابًا؟

أي برهان يطلب منك لتصديقك إذا كنت أنت البرهان الحي تكذبين في شهادتك على نفسك. أبقي عذاب لم تقتحميه؟ فأية تضحية تُعدِّين لإطفاء أوار هذا الحب الذي لا يرتوي؟

إنك ستصبحين أضحوكة تفتش عبثًا عن طريق مهجور تفزع إليه كيلا يشير إليك الناس بأصابعهم مقهقهين …

ستفقدين الحياء فتتعرين حتى عن مظهر هذه الفضيلة المتحطمة، ولطالما عزت عليك من قبل، وسيكون الرجل الذي تلتحفين بالعار من أجله أول من يمد يده للاقتصاص منك فيزجرك؛ لأنك وقفت الحياة عليه، وتحديت المجتمع في سبيله، وعندما يتهامس أصدقاؤك حولك يتفرس في ملامحهم ليرى ما إذا كانت الشفقة قد تجاوزت حدودها في نظراتهم. إنه ليتهمك بالخيانة إذا امتدت يد لتصافح يدك عندما تعثرين في صحراء حياتك على أحد يمكنه أن يمر بك فيشفق عليك.

يا الله! أتذكرين اليوم الذي وضع الناس فيه على رأسك إكليلًا من الورود البيضاء، أهذا هو الجبين الذي تزين ببياض تلك الورود؟ فيا ليت هذه اليد التي علقت الإكليل على جدار المعبد قد تناثرت رمادًا قبل سقوط وريقاته الذاوية.

أي واديَّ الجميل! أي عمتي المحنية تحت وقر السنين، الراقدة الآن بسلام في لحدها! أي أشجار الزيزفون أشجاري! أي جدْيِي الأبيض الصغير! أي ابنا مزرعتي، لقد أحببتموني جميعًا، فهلَّا ذكرتم الزمان الذي رأيتموني فيه سعيدة فخورة محترمة؟

أية قوة ألقت بهذا الغريب ليضلني سواء السبيل؟ مَن أجاز له أن يمر على طريق قريتي؟ ويل لك أيتها المرأة، لماذا تلفَّتِ وراءك لأول مرة أقتفى أثرك؟ لماذا رحَّبت به كأخ؟ لماذا فتحت له بابك ومددت له يدك؟

أي أوكتاف، لماذا أحببتني إذا كان هذا هو مصيرك ومصيري؟

وتداعت إلى الحضيض، فهرعت إليها أسندها بذراعي، وحملتها إلى مقعد ارتمت عليه ملقية رأسها على كتفي وقد حطَّمها ما بذلت من جهد وهي تتدفق ببيانها الرائع المرير.

وتوارت عن عياني الخليلة المهانة، فإذا بي لا أرى مكانها غير طفلة تئن من آلامها …

وأطبقت جفنيها فطوقتها بذراعي وقد سكنت بينهما لا تعي.

ولما ثاب إليها رشدها شكت الضعف، ورجتني بصوت منخفض حنون أن أتركها لتذهب إلى مرقدها، وتهادت في مشيتها، فرفعتها على ذراعيَّ وألقيتها على مَهَلٍ فوق الفراش، وما بقي على وجهها شيء ينمُّ عن الألم، بل رأيتها تتجرد من آلامها وتنساها كمن يرتاح من جهد جسدي أضناه؛ ذلك لأن طبيعتها الضعيفة الرقيقة أرهقها العراك، فاستسلمت بعد أن ذهبت بها إلى أبعد ما تحتمل قواها، وبقيت رابطة أناملها على يدي وأنا مُكبٌّ على وجهها أُقبِّله، وإذا بشفاهنا — ولما تزل ثملة بغرامها — تتلاقى؛ فيلتصق فمها بفمي دون أن نشعر، وما عتَّم حتى استغرقتْ في الوسن بعد هذه المصادمة العنيفة وهي تتوسد صدري مفترة الثغر كأننا في الليلة الأولى من ليالينا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤