الفصل السابع

وفي اليوم التالي عند الظهر، كان شاب وامرأة يخترقان حديقة «القصر الملكي» وذراعاهما مشتبكان تحت أشعة الشمس. دخلا مخزن صائغ واختارا خاتمين متشابهين، فقدم كل منهما خاتمًا إلى الآخر وهما يبتسمان، وسارا في نزهة قصيرة ثم دخلا مطعم «بروفينسو»، وصعدا إلى إحدى غرفه المطلة على أجمل مناظر الدنيا، وهنالك انفردا بعد انسحاب الخادم، وتقدَّما إلى النافذة يُسرحان النظر ويد كل منهما تربط على يد رفيقه.

وكان الشاب مرتديًا أثواب السفر وقد طفح وجه بشرًا كعريس يُري عروسه لأول مرة مباهج باريس، وكان مرح هذا الشاب حبورًا هادئًا ينم عن سعادة لا اضطراب فيها. ولو أن رجلًا مرت به تجاريب الحياة نظر إلى هذا الشاب لتبين فيه طفولة تستحيل إلى رجولة، وعزمًا تستقيه العاطفة من التفكير.

وكان هذا الشاب يتطلع إلى السماء ثم يتأمل ملامح رفيقته، فتنحدر من أجفانه دموع يتركها سائلة على وجنتيه وقد أنارتها ابتساماته.

أما المرأة فكانت شاحبة، وقد انطبعت على ملامحها آثار التفكير العميق، وهي لا تحدق إلا في وجه رفيقها، ولا تملك نفسها من مسايرة مرحه، غير أنها في الوقت نفسه لا تحاول إخفاء ما يطفو على وجهها من قرارة قلبها.

وكانت إذا ابتسم رفيقها ابتسمت له، فكأنها في حبورها تساير مسايرة ولا تختار اختيارًا، فإذا ما تكلم تكلمت، وإذا ما قدم لها طعامًا أكلت، ولكنها كانت تذهب في نفسها من حين إلى حين كأنها في غيبوبة عما حولها، وكانت سكنات هذه المرأة وحركاتها كلها تنم عن استرخاء تستسلم فيه لرفيقها استسلام التابع الضعيف يستمد حياته من متبوعه، وقد أصبح خيالًا له، وصدًى لصوته، وما كان الشاب مخدوعًا بحالة رفيقته، بل كان ينفذ إلى سريرتها وفيه شيء من الغرور وكثير من الرضى، فإذا هي تراخت وألصق تذكارها عينيها بالأرض، هب يعالجها بقوته متكلفًا المرح لينقذها من ضعفها؛ فقد كان بين هذين الرفيقين تمازج غريب من الفرح والحزن، والاضطراب والسكون، فإذا ما نظر إليهما متأمل خالهما تارة أسعد الناس، وتارة أشقى من في الحياة، وغاب عنه هذا السر يشد أحدهما إلى الآخر برابطة الأسى عُقدت على عاطفة أقوى من الحب. وهل أقوى من الحب سوى عطف الصديق على الصديق؟

وما كان يلوح في عيونهما شيء من لمعات الشهوة ويد الواحد تشد على يد الآخر، فكانا — ولا ثالث بينهما — يتحدثان بصوت خافت، فيسندان جبينًا إلى جبين كأنهما يتعاونان على التذكُّرات المرهقة دون أن تتجاذب الشفاه إلى قبلات الغرام. ودقت الساعة تؤذن بالأولى بعد الظهر وكل منهما محدقٌ في عيني رفيقه يستنجدهما، فكأنهما ضعيفان يتلمسان من الضعف مخرجًا إلى الصلاح، وتنهدت المرأة وقالت: لعلك مخطئ يا أوكتاف.

فقال: لا، لست مخطئًا يا صديقتي، ثقي بما أقول. إنك مقدمة على تحمل العذاب، ولقد يطول صبرك عليه. أما أنا فلا نهاية لعذابي، ولكننا سنُشْفَى كلانا. لك الزمان أنت، وأنا لي الله.

– أوكتاف … أوكتاف … أأنت واثق من أنك لست على ضلال؟

– لا أعتقد بأن أحدنا سيسلو الآخر يا بريجيت، ولكنني واثق من أن ليس لنا أن نتبادل المغفرة الآن، غير أن هذه المغفرة محتومة علينا حتى ولو قدر علينا ألا نلتقي بعد.

– ولماذا لن نلتقي يومًا؟ فأنت لم تزل في ريعان الشباب.

وأردفت بابتسامة مُرَّة: سنلتقي بمأمنٍ من كل خطر لأول غرام يحتل قلبك بعد غرامي.

– لا، يا صديقتي. ثقي بأنني لن أراك دون أن يثور بي كامن غرامي. قدَّر الله أن يكون الرجل الذي أتخلى له عنك أهلًا لك. إن سميث فتى صالح وطيب القلب، ولكن مهما بلغ حبك له فسوف لا تنقطعين عن حبي. ولو أنني أقرر الآن بقاءك معي هنا أو اللحاق بي لما كنت تترددين في اتِّباع ما أريد.

– ما أصدق ما تقول!

– أصحيح هذا؟! أتلحقين بي إذا أنا دعوتك؟

ولكنه بعد أن هتف بهذه الكلمات من أعماق قلبه، استطرد على مهل: من أجل هذه المطاوعة يجب ألا نلتقي أبدًا. إن من الحب في هذه الحياة ما يبلبل الرأس والحس، وما يزعزع العقل والقلب، وليس غير نوع واحد من الحب يختفي في الروح دون أن يعكر صفوها؛ لأنه ينشأ منها ولا يموت إلا بانطلاقها.

– وهل ستحرمني من مراسلتك يا أوكتاف؟

– لا، سأكتب إليك مدة من الزمن؛ لأن ما سأواجهه من عذاب في بادئ الأمر سيقتلني لا محالة إذا أنا حرمت نفسي من كل تعزية. لقد اقتربت منك على مهل وبكل حذر حتى عرفتني، وحتى … لا، لنَدَع الماضي، ولسوف تنقطع رسائلي عنك رويدًا رويدًا، وهكذا سأنحدر على مهل من الذروة إلى رقيتها منذ سنة، ولقد يكون لهذه الرجعة الحزينة روعتها.

وإذا ما رجعت بالذكرى إلى الأيام التي كنت حيًّا فيها، فلأقفن أمامها وقفة المتأمل في قبر عقدت الخضرة والأزهار فوقه قبابًا تظلل اسمين لراحلين عزيزين يرقدان فيه، فأشعر بحزن مفعم بالأسرار، وأريق دمعة الأسى حلوة لا مرارة فيها.

وارتمت المرأة عند سماعها هذه الكلمات على مقعد معولة باكية، وبكى الشاب معها، ولكنه بقي دون حراك كأنه ينكر على نفسه لوعتها، وعندما جفت مآقيه تقدم إلى صديقته وقبل أناملها على مهل وقال: صدقيني، إن من يشعر بحبك له مهما كانت العاطفة التي تشملينه بها إنما يستمد من هذا الشعور قوة وإقدامًا. لا يداخلك ريب يا بريجيت في هذه الحقيقة، وهي أنه لن يفهمك أحد كما فهمتك أنا، ولعل سواي يبذل لك من الحب ما أنت أهل له، ولكن لن يصل أحد بحبه لك إلى الأعماق التي أحببتك منها. سيداري سواي ما أهنت فيك من الصفات فيحوطك بغرامه، ستجدين عاشقًا أفضل مني، ولكنك لن تجدي لك أخًا مثلي.

هاتي يدك ودعي الناس يهزءون من كلمة أقولها وهم لا يفهمونها: «لنبق صديقين، وليستودع كل منها الله رفيقه إلى الأبد.»

عندما تعانقنا لأول مرة كان في كل منا ذات خفية أدركت أننا سنتحد، فلندع هذه الذات الخفية وقد اتحدت مني ومنك أمام الله جاهلة افتراقنا على الأرض، فلا تقوى ساعة خلاف تافه من الزمان على حل اتحادنا في السعادة التي لا تزول.

وكان لم يزل قابضًا على يدها فنهضت وهي تشرق بدمعها، وتقدمت نحو المرآة بابتسامة غريبة، وأخذت مقرضها من حقيبتها، وقطعت خصلة طويلة من شعرها، ثم نظرت إلى وجهها مليًّا بعد أن شوهته بحرمانه قطعة من تاجه، وتقدمت بهذه القطعة إلى عاشقها.

وضربت الساعة ثانية فخرجا عائدين من الحديقة وعلى وجهيهما علامات الرضى التي كانت تلوح عليهما وهما قادمان إليها.

وقال الشاب: ما أجمل هذه الشمس!

فقالت المرأة: إنه نهار جميل لن يُمحى أثره من هنا، وضربتْ بشدة على صدرها.

وأسرعا بالمسير وتواريا بين الجموع.

•••

وبعد ساعة مرت عربة على مرتفع وراء حواجز فونتنبلو، وكان الشاب مستقلًّا وحده هذه العربة يلقي نظرة أخيرة على المدينة، التي رأى فيها النور، وهو يُوجِّه الشكر لله؛ لأنه من ثلاثة ابتلاهم العذاب بجريرته، لم يبقَ إلا شقيٌّ واحد …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤