الفصل الرابع

في المحكمة

حابي : مولاي يا ابن آمون المقدس الأزلي، نتشرف نحن كهنة آمون أن نقدم إليك قضية تلك الشريرة، التي كفرت بآمون، فدفعتني الغيرة وأنا خادم آمون بالنيابة عن ابنه فرعون مصر المقدس أن ألتمس من مولاي القبض عليها، ومحاكمتها على الكفر بأبيه الأزلي.
فرعون : أتذكر أن الملك أبيبي كتب إلي في شأن هذه المتهمة، ولهذا يداخلني الشك في أمر تهمتها؛ إذ قد يكون وشى بها بعض أعداء البلاد.
حابي : نحن لا نعلم شيئًا يا مولاي عن أمر الطاغية أبيبي، أما كفر نوب حتب فقد شاهده منا شهود عدول.
فرعون : أحضروا المتهمة أيها الجنود.
أحد الجنود : سمعًا وطاعة يا مولاي.

(تدخل نوب حتب يحضرها الجنود بين سلاسل طويلة من الحديد.)

فرعون : ما قولك فيما اتُّهمتِ به من الكفر بآمون؟
نوب حتب : حاشا يا مولاي أن أكفر بإله طيبة العظيم.
حابي : إن لدينا شهودًا عدولًا على كفرها.
فرعون : من هم هؤلاء الشهود؟
حابي : هم يا مولاي سوتيخ مفتش دور النظام، والكاهن فتاح، والسيدة رودوبيس المعلمة بدار النظام.
فرعون : ليحضر الجند الشاهدين الآخرين، أما الكاهن فتاح وهو أحد القضاة هنا، فيجب أن يقف موقف الشهود.

(يدخل الجند والشاهدان ويقف مع الشاهدين فتاح.)

فرعون : أدِّ شهادتك يا سوتيخ.
سوتيخ : أقسم بآمون وموت وخنسو أني أقول الحق، وهو أني رأيت السيدة نوب حتب تسخر من الإله آمون أمام التلميذات، وتهزأ بالكهنة الذين ينوبون عن مولانا الملك في خدمة آبائه آلهة طيبة العظام.
فرعون : ليتقدم الشاهد الثاني.
فتاح : أقسم بالثالوث المقدس أني أقول الحق، وذلك أن مولانا الكاهن الأعظم بلغه خبر كفر نوب حتب، فأرسلني لأتبين ذلك الخبر وأنصح لها بالعدول عنه، فلما ذهبت إليها قالت لي بكبريائها المعروف، إنها لا تسمح لأحد بالتدخل في عقيدتها الدينية، فخرجت من عندها مغضبًا، وأخبرت مولانا الكاهن الأعظم بذلك.
فرعون : أدِّي شهادتك يا رودوبيس.
رودوبيس : أقسم بالثالوث أي آمون وموت وخنسو أني أقول الحق، وهو أن السيدة نوب حتب كانت تسخر من الآلهة أمام التلميذات، فإذا نصحت لها بالعدول عن ذلك أساءت الأدب في الرد علي واضطهدتني.
فرعون : ما دفاعك يا نوب حتب؟
نوب حتب : إنهم يا مولاي يغيِّرون الحقيقة لحقد في نفوسهم، والواقع أنهم هم الذين كفروا بالآلهة، ودنسوا أماكنهم المقدسة وكان تحت يدي بينات مادية لا أعلم أين هي الآن بعد أن سُجنت.
أحد قضاة طيبة : ألتمس من مولانا الملك ألا يسمح لها بمثل هذا الكلام، الذي يلوث المعاهد الدينية والقائمين بأمرها.
حوريس : ولكن أليس للمتهم الحق في أن يدافع عن نفسه، وأن يقدم للمحكمة مستنداته إن كان لديه شيء منها؟
قاضي طيبة : نعم يا سيد حوريس تتكلم إذا استطاعت أن تقدم للمحكمة مستندات مادية تثبت صحة ما تقول، أما الطعن في رجال الدين بلا مبرر، فهو ما لا تسمح به هيبة هذه المحكمة، والمتهمة كما تعترف ليس لديها مستندات الآن، وقد عرفت بميلها إلى الطعن في الأعراض كذبًا وبهتانًا.
نوب حتب : أرجو أن يمهلني مولانا الملك ولو يومًا واحدًا، عسى أن تسمع صديقتي التي عندها المستندات بانعقاد المحكمة فتحضر بها إلى هنا.
حابي : إنها لا تريد بذلك يا مولاي إلا إساءة سمعة المعاهد، وليس لديها شيء من المستندات البتة.
أمنحتب : وما هو الضرر إذا أُجيبت إلى هذا الطلب العادل؟
حابي : إنها تريد أن تشغل أفكار الناس بأمور لا حقيقة لها، فيجب أن يغلق أمامها هذا الباب الآن، حتى لا يكثر الأخذ والرد حول طهارة المعابد ودور النظام.
فرعون : ما رأي القضاة في ذلك؟
قضاة طيبة : نرى يا مولانا الحكم الآن.
الحاجب : بالباب سيدة يا مولاي تقول إنها آتية لتشهد مع المتهمة ومعها رجل.
فرعون : دعهما يدخلان.

(تدخل ماريت رع وخاطي، وتقدم للملك الخطابين والصولجان، فيظهر على حابي الدهشة والخوف.)

فرعون : ما هذه الأشياء؟
نوب حتب : خطابان كتبهما الكاهن الأعظم إلى السيدة رودوبيس، يظهر منهما الغرض الحقيقي الذي دفعه إلى اتهامي بالكفر وصولجانه المشهور، الذي سقط أثناء تسلقه سور حديقة دار النظام ليلًا.
فرعون : وكيف وصل هذان الخطابان إليك؟
نوب حتب : تسلمتهما من الرسول وفضضتهما لعلمي بما فيهما، ثم نقلتهما في خطابين آخرين سلمتهما للسيدة رودوبيس.
فرعون : هل هذا خطك يا حابي؟
حابي : إن هذا يا مولاي محض افتراء.
فرعون : وما قولك في الصولجان؟
حابي : إنه سُرق مني فيجب أن تُعاقب على ذلك هذه السارقة.
قاضي طيبة : ويجب أيضًا أن تُعاقب على التزوير، الذي اعترفت به أمام المحكمة لمحاكاتها خط الكاهن الأعظم.
فرعون : إنها لو حاكت خط الكاهن الأعظم، لتتمسك بالخطاب الأصلي ضده في إثبات الجريمة عليه، فليس هناك تزوير؛ لأن نية تغيير الحقيقة لم تكن موجودة والتزوير معاقب عليه لتغيير الجاني الحقيقة بنية إلحاق الضرر بغيره، أما هي فقد نقلت الخطابين كما هما لتُبقي الأصل عندها إثباتًا للجريمة، أما أخذ الصولجان فلا يعد سرقة ما دامت قد أخذته أثناء الجريمة لتستدل به على حصولها، وكذلك أخذها الخطابين لأن نية التملك لم تكن موجودة عندها، والسرقة معاقب عليها لنية السارق الحصول على الشيء المسروق وتملكه له بغير حق، أما هي فقد أخذت هذه الأشياء لتقدمها إلى العدالة دليلًا على الجريمة، ولو جاز اعتبار ذلك سرقة لما استطاع الجند أن يكتشفوا أية جريمة ما دمنا نعتبر كل ما يأخذه الإنسان من البينات، سواء أكان ذلك إقرارًا كتابيًّا من الجاني بالجريمة، أو آلات أراد أن يصل بها الجاني إلى جريمته سرقة؛ بل على كل فرد من أفراد الأمة أن يضبط الجاني بجميع الوسائل المشروعة ويقدمه إلى العدالة، وإلا عُد شريكًا له في جريمته خصوصًا إذا كان لجريمته مساس بصالح البلاد العام، كإفساد الأخلاق في دور التربية والتهذيب.
قاضي طيبة : لك الكلمة العليا يا مولاي يا ابن آمون، ولكنها قد تكون كاذبة في كل ذلك.
فرعون : هذا أمر آخر إذا ثبت وجب أن تُعاقب عليه أشد العقاب؛ لأني لا أسمح مطلقًا بتدنيس دور النظام كذبًا وبهتانًا.
حابي : جلت حكمتك يا مولاي، وستعلم برأيك الصائب أنها كاذبة، وليس أدل على ذلك من اعترافها أمام قاضي التحقيق بكل شيء.
فرعون : هل حصل ذلك يا سنفرو؟
سنفرو : نعم يا مولاي، وهو مدون في محضر التحقيق.
فرعون : وكيف تنكرين يا نوب حتب بعد أن اعترفت؟
نوب حتب : لم يحصل ذلك مطلقًا يا مولاي والمحضر موجود.
قاضي طيبة (ساخرًا) : وهل عندك خطابات أيضًا ضد قاضي التحقيق لتثبتي لنا كذبه وافتراءه؟ وأين صولجانه هو الآخر؟
نوب حتب : إن البواب الذي قبض على الكاهن عند تسلقه السور موجود، فسله يا مولاي.
فرعون : تقدم يا خاطي وأدِّ شهادتك عما رأيته.
خاطي : إني أشهد بصحة ما يقوله مولانا الكاهن من كفر السيدة نوب حتب، وليس أدل على كفرها من إهانتها لكاهننا الأعظم، فهي لا تستطيع أن تبرئ نفسها أمام الإله أزوريس وقضاته الاثنين والأربعين في قاعة العدل، فهي كافرة لا محالة.
فرعون : مهلًا يا خاطي؛ إنك لم تقسم اليمين.
خاطي : أقسم بالثالوث وبأزوريس وقضاته العدول أني أقول الحق.
فرعون : تذكر موقفك في قاعة العدل يا خاطي وأخبرنا بالحقيقة.
خاطي : نعم يا مولاي بالحقيقة كما هي، فقد قالت لي السيدة نوب حتب في ليلة من الليالي إنه بلغها أن لصًا سيتسلق سور دار النظام، وأمرتني بمراقبة ذلك اللص، فبت ساهرًا في ذلك المكان وعند نصف الليل رأيت شخصًا ينزل من على ذلك السور وعليه رداء طويل يستره من رأسه إلى قدميه، فهجمت عليه وأنا أظنه اللص، فسقط رداؤه وظهر وجهه على ضوء القمر وإذا هو مولانا الكاهن، فخررت له ساجدًا، ولما قمت من سجودي لم أجده؛ بل وجدت صولجانه وبعد برهة حضرت السيدة نوب حتب فلمتها على كذبها واستخفافها بأمر الكاهن الأعظم، ولولا كذبها علي يا مولاي لما تجرأت على الهجوم على مولانا الكاهن، على أن مولانا الكاهن قبل أن تعين السيدة نوب حتب رئيسة لدار النظام كان كثيرًا ما يدخل الدار بعد منتصف الليل، ويبقى فيها إلى قرب الصباح، وكنت أفتح له الباب عند دخوله وعند خروجه، أليس كذلك يا مولاي الكاهن؟
فرعون : حسن يا خاطي وفي أي تاريخ حصلت هذه الحادثة؟
خاطي : لم تحصل في أي تاريخ يا سيدي؛ بل حصلت في حديقة دار النظام.
فرعون : أريد أن أقول لك كم عامًا مرت عليك بعد هذه الحادثة؟
خاطي : لم يمر علي أحد يا مولاي؛ بل كنت وحدي في حديقة دار النظام، ولم يمر علي بعد ذلك إلا السيدة نوب حتب، وقد أخذت الصولجان أمامي، فهي ولا شك السارقة.
فرعون : كم من الزمن أو السنين أو الأيام مضى بعد تلك الحادثة أيها الغبي؟
خاطي : فهمت يا مولاي، قبل حصول هذه الحادثة بيوم حضرت عيد الأموات وتمتعت برؤية الإله آمون محمولًا على أعناق الكهنة الكرام، ولم أر ذلك العيد بعد هذه الحادثة إلا مرتين فيكون قد مضى عليها سنتان حسب حسابنا نحن العامة.
فرعون : ما قولكم في هذه الشهادة، وهي تتفق مع التاريخ الموجود في خطاب الكاهن؟
قاضي طيبة : هذا الرجل مخرف لا تجوز شهادته، ولا يصح أن يلتفت إلى هذيانه.
حابي : إن بينه وبين نوب حتب اتفاقًا، ولهذا أتى مع شاهدتها.
نوب حتب : إن عندي بينة بكفر الكاهن أيضًا، هي شهادة السجانة التي سمعت بأذنها كفره وإلحاده.
قاضي طيبة : إن كلامها يا مولاي سخف وهذيان؛ إذ تريد أن تجرنا إلى سماع أقوال هؤلاء الجهلاء أمثال خاطي بوابها ومحال أن يسمح لها مولانا الملك بذلك.
فرعون : ما رأي والي منف؟
حوريس : يجب أن تسمع شهادة الشهود مهما كان مركزهم.
الحاجب : بالباب رسول من مولاي الأمير أحمس ومعه خطاب وأسير.
فرعون : دعه يدخل بسرعة فأمر الحرب مفضل على جميع القضايا.

(يدخل الرسول ومعه أسير ويسلم الخطاب لفرعون فيظهر على حابي الخوف الشديد.)

فرعون : اقرأ هذا الخطاب على المحكمة يا طاحوتي.
طاحوتي : سمعًا وطاعة يا مولاي (ثم يقرأ):

مولاي يا ابن الشمس الأزلية

لقد نصرتك الآلهة نصرًا مبينًا على أعدائك الطغاة.

الجميع : حمدًا للآلهة وشكرًا، فقد نصروا مصر وفرعونها المقدس وخذلوا الظالمين.
طاحوتي :

ولا يزال جيشنا المظفر محاصرًا عاصمتهم أواريس، وكان في استطاعة ابنك وخادمك أن يقتحم عليهم ذلك الحصن، ولكنني ضننت أن نخسر من الجيوش عددًا عظيمًا في عمل سوف يتم من نفسه وبدون خسارة، فإن الأعداء لا يستطيعون البقاء تحت هذا الحصار طويلًا وأنا مهتم الآن بتنفيذ أوامر مولاي في جمع كلمة جميع المصريين تحت رايته، وقد نجحنا في ذلك كثيرًا، وجمعنا حولنا أغلب أمراء مصر المستقلين وآخر من انضم إلينا الأمير سيتي من أمراء الفيوم، وأخبرني أنه كان أول من خرج على الهكسوس يوم خرجوا من عاصمة ملكهم لمحاربتنا في طيبة، وبينما كان ينتظر مرور أبيبي بجيشه إذ بصر بهذا الأسير المرسل مع هذا الخطاب آتيًا من طريق طيبة على جواد سريع، فقبض عليه وسأله عن وجهته، فأخبره أنه آت من عند مولانا الملك بخطاب إلى الملك أبيبي، ففض الأمير الخطاب، فإذا هو من الكاهن الأعظم لدير آمون، فاحتفظ بالخطاب والأسير وسلمهما إلي لأرسلهما إلى مولاي الملك وها هما هذان مرسلان إليك ولك الكلمة العليا.

عبدك المخلص
أحمس
فرعون : من هو هذا الأسير أيها الكهنة؟
منقرع : هو حرحور خادم الكاهن الأعظم لدير آمون.
فرعون : حسن فاقرأ كتاب الكاهن يا طاحوتي.
طاحوتي :

مولاي أيها الملك الفاتح

لقد تشرفت منذ بضعة أيام بإرسال خطاب إلى مولاي المقدس، أخبره فيه كيف يطيع الملك سكنن رع الثالث أوامره في الظاهر فقط، وكيف يعصاها فعلًا، حتى إنه لم يعاقب تلك التي خالفت أوامره العالية وعبدت الثالوث، فلما أرسلت إليه يا مولاي رسولك اضطر مرغمًا إلى القبض عليها وإيداعها في السجن، ولكنه أوصى بها خيرًا، وهو لا يريد بإطاعة أوامرك الآن إلا كسب وقت يمكنه من مهاجمتك، وهو يبث الحماس في نفوس جميع المصريين ويحرضهم عليك، ورجائي يا مولاي أن تشهر عليه الحرب قبل أن يشتد ساعده وتكثر أنصاره، فإنه داهية عنيد وسينصرك آمون الأزلي عليه ويساعدك فلا تتردد، فقد كُتب لك النصر وبصفتي كاهن آمون الأعظم أبشر مولاي بذلك.

خادمك المخلص
حابي
فرعون : ألم أقل لكم إن أبيبي كتب إلي في أمر نوب حتب، وأنه لا بد أن يكون قد وشى بها بعض أعداء البلاد.
الجميع : بئست هذه الخيانة الجريئة، ولعنت الآلهة فاعلها الأثيم.
فرعون : كيف خنت نعمتي يا حرحور، وذهبت بمثل هذا الخطاب إلى عدوي وعدو البلاد أيها الخائن؟
حرحور : لم أخن نعمتك يا مولاي، ولم أعلم بما احتواه ذلك الخطاب من الخيانة، ولكن الكاهن حابي أعطاه لي قائلًا إنه من عندك يا مولاي لملك الهكسوس، ولم يكن ذلك الطاغية قد أشهر الحرب علينا، فلم أشك في صدق الكاهن؛ لأنه خادمك وخادم أبيك آمون.
فرعون : ما رأيكم أيها القضاة في هذا الكاهن الخائن؟
الجميع : إنه خائن لبلاده جزاؤه القتل حرقًا، فلا ترحمه يا ابن الشمس الأزلية.
فرعون : قم وقف موقف المتهمين أيها الخائن لبلادك، فإن ماء النيل حرام على أمثالك، وأنتم أيها الجنود اتركوا نوب حتب، فهي بريئة مخلصة، وخذوا مكانها ذلك الخائن الشرير.
نوب حتب : شكرًا لابن آمون الأزلي، رافع لواء العدل والحكمة في بلاده.
فرعون : لا شك أيها القضاة أن هذا الخطاب بخط الكاهن، بشهادة رسوله وخادمه، فتبينوه جيدًا ووازنوا بينه وبين هذين الخطابين تجدوا أن خط الكتب الثلاثة واحد.
الجميع : نعم يا مولانا هو ذلك، وهو بعينه كاتب الخطابات الثلاثة.
فرعون : إذًا يكون ذلك الخائن قد اقترف جريمة اغتصاب النساء، وعبث بالفضيلة مع سيدات وكِل أمرهن إليه، فهو يستحق الإلقاء في الجب لجريمته هذه حسب قوانين البلاد، والويل لك أيها الخائن، ألم تقرأ ما كتبه فتاح حتب الحكيم القديم إذ يقول: «إذا دخلت بيت غيرك فاحذر أن توجه ذهنك إلى نسائه فكم هلك أناس من جراء ذلك» وأنت تدخل بيت الله فتعبث بالفضيلة فيه، ثم تتهم الأبرياء دون أن يؤنبك ضميرك؛ لأنه لا ضمير لك ولا ذمة، فبئس الرجل أنت، وبأفعالك وأفعال أمثالك من الخائنين تخرب البلاد، ولقد تنبأ أبوور النبي القديم بذلك، فقال إن مصر ستنحط فيها الأخلاق، ويسود سفلة الناس، وينحط كرامهم فيطمع فيها الأجانب، ويغتصبون بلادها لسوء أخلاق أهلها، وانغماسهم في الملاهي والفجور، وأنت أول هؤلاء الضعفاء المفسدين، ولهذا كان جزاؤك من هذه المحكمة القتل حرقًا وتعذيبًا، فخذوه أيها الجنود ونفذوا فيه هذا الحكم جزاء لخيانته وغدره وفجوره، وأنتم أيها الشهود المزورون ماذا تقولون؟
الثلاثة : وماذا عسى أن نقول يا ابن الشمس المشرقة غير طلب الرحمة والغفران، فقد قضى علينا ذلك الكاهن بآثامه، ولم نكن لنستطيع عصيانه.
فرعون : أنت يا فتاح شريك له في غوايته، وقد حكمت عليك المحكمة حسب قوانين البلاد بالإلقاء في الجب، فاذهبوا به أيها الجنود لتنفيذ هذا الحكم.
وما قولك يا رودوبيس؟
رودوبيس : لم أكن يا مولاي إلا مجنيًّا علي، أنا وأمثالي من النساء اللائي وضعهن القدر تحت سلطة ذلك الوحش الكاسر، الذي لا يردعه عن غوايته رادع، ولو عصيت أمره لجنى علي جنايته على السيدة نوب حتب، وليس لي ولا لأمثالي من الجَلَد ما لها، فرفقًا بي يا ابن الآلهة فإني مجني علي.
فرعون : صدقت يا رودوبيس فقد جُني عليك، وربما كان الذنب على مَن وَكَل أمركن إلى أمثال هؤلاء الرجال، فأستغفرك يا آمون من أخطائي السالفة، وآمر الآن بتعيين السيدة نوب حتب رئيسة للكاهنات حتى لا يكون للرجال سلطة عليهن، أما أنت يا سوتيخ ومثلك رودوبيس فقد وجب عليكما القتل لتأديتكما شهادة الزور أمام المحكمة، ولكنكما كنتما تحت تأثير قوي عاتٍ لا تستطيعان عصيانه، لهذا تحكم عليكما المحكمة بالطرد من طيبة، لضعف إرادتكما وميلكما إلى الشر، فاخرجا من وجهي، أراحت الآلهة البلاد من أمثالكما، وأنت أيها القاضي ما قولك فيما اعترفت به أمام المحكمة؟ وكيف ادعيت اعتراف السيدة نوب حتب بالجريمة؟ وأين محضر التحقيق؟
سنفرو : ها هو يا مولاي.
فرعون : إن أجوبتها لا تدل على شيء من الاعتراف، فكيف جاز لك أن تستنتج ثبوت التهمة عليها من اعتراف بريء كهذا؟
سنفرو : لقد أفهمني الكاهن الأعظم أنها كاذبة ميالة إلى الطعن في الأعراض، فأردت أن أطهر دور النظام والمعابد المقدسة بثبوت تهمة الكذب عليها.
فرعون : إن دور النظام والمعابد لا تطهر بالكذب والتلفيق، ولكنها تطهر بحكم عادل يقضي بإدانة كل من يسعى إلى تلويثها أو يعبث بالفضيلة بين جدرانها، فيكون عقابه الشديد القاسي رادعًا لغيره عن اقتراف تلك الجرائم، أما التستر على أعمال هؤلاء المجرمين فلا يطهر المعابد، ولكنه يلوث القضاء المقدس الذي لا يجوز أن يقوم به أمثالك ممن اعتادوا الضعف والانقياد لآراء غيرهم، فأنت لا تصلح للقضاء، وقد أمرت بعزلك فاخرج عن مقاعد العدالة. وأنتم أيها القضاة أوصيكم بالعدل في قضائكم، فإن القضاء يكفي لتدنيسه أن يتسرب الشك في نزاهته إلى القلوب، وليس بمطهره ابتعاد الناس عن انتقاده علنًا، إذا كان منشأ ذلك الابتعاد خوفهم من شدة العقاب، فإن قلوب الناس تتناجى ولو في الخفاء.

(يقوم فرعون)

الجميع : سلام يا ابن الشمس الأزلية! سلام يا ناشر لواء العدل! سلام يا روح الآلهة الساهرة على راحة الناس وسعادتهم!

(يخرج الجميع إلا نوب حتب وماريت رع.)

نوب حتب :
قد صفا الدهر وخاب المستبد
رب أرشدنا إلى الرأي الأسد
ساءهم يا مصر إدراك العلا
فرموك بالرزايا والنكد
وسعى المَفتون فينا جاهدًا
أن يذود الخير عنك ويرد
هادم الأوطان لا كان الذي
يهدم العلياء فينا ويهد
أنت غرس النيل هلا صنته
وبذرت الخير في هذا البلد
صدك الغانيات عن نيل العلا
ولهاك الحقد عنه والحسد
إن يعق النيلَ فردٌ واحد
فبنوه الغر موفورو العدد
كم بنوا في مصر دورًا للعلا
عجز التخريب عنها فقعد
مصر يا أم المعالي والألى
هم لأهل الفضل في الدنيا سند
هل بنوك منهم هذا الذي
أخجل الأوطان؟ لا كان الولد
أنت فردوس وهل في جنة
يدخل الشيطان صلى أو سجد؟
لا يغر الناس منه لينه
إنما الرقطاء ملساء الجسد
لم يسئني إذ تعدى حده
بل أساء النيل عمدًا وقصد
أنا لا أبغى ثراء أو منى
فأقول القصد ولى أو فقد
إنما غاية نفسي أن ترى
ملك وادي النيل مرفوع العمد
وكفاني أن أراه سالمًا
بعد عمر ضاع في أخذ ورد
إيه وادي النيل أعْجَزت الذي
كان يبغى السوء ظلمًا فخمد
قد سلمت اليوم فابق زاهرًا
وفداك الروح مني والجسد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤