الفصل الثاني عشر

في ساعات معدودة كان جميع المشتبه بهم معتقَلين، وكان قواد فرق الجيش قد قبضوا على ناصية الحال، وجعلت كتل الشعب تتبدَّد إلى أن انطفأت الثورة تمامًا واستتب النظام.

ثم انعقد مجلس الملك من بعلزبول وفينوموس وجستوس وانفنتورس وبعض كبار الرجماء لدرس الحالة، وقدم جستوس تقريره الموجز وهذا نصه:

مولاي! خلاصة ما تحققته: أنَّ جمال الحسناء المدعوة القديسة جوكوندا التي تدلت إلى جهنم على عاتق الرجيم أرجنتوس لبَثِّ الدعوة إلى التوبة؛ ذلك الجمال الرائع أحدث فتنة أفضت إلى الثورة …

فقاطعة الرئيس بعلزبول: أَعَلَى منكب أرجنتوس المكار تدلَّتْ؟

– نعم يا مولاي! وكان ذلك الجمال مخدرًا لدماغ أرجنتوس فصعقه.

– عجبًا! كيف يمكن أن يصعقه؟

– الجمال البشري المقدَّس سِحْر يا مولاي! وأنت تعلم أنه متى سطا على دماغٍ خبله.

– ولكن السحر من اختراعنا — نحن الشياطين — فكيف يخبل شيطانًا رجيمًا؟

– إنَّ سحر الجمال البشري يا سيدي أقوى من السحر الشيطاني جدًّا — وقاك الله منه — لذلك خبل جمال الحسناء القديسة عقل أرجنتوس حتى أنساه كل شيءٍ.

– ماذا أنساه؟

– أنساه أنَّ في جهنم ملكًا رئيسًا.

– ويحك ما الذي دلَّكَ على نسيانه هذا؟

– زينت له نفسه المفتونة بذلك الجمال أنَّ تلك الحسناء الملقبة بملكة الجمال هي ملكة جهنم، وأنه هو الذي تلقَّاها من العلى إلى الدرك الأسفل فجدير بأن يكون إلى جنبها.

فصاح بعلزبول: ماذا؟

– ملكًا.

– ويحه! ادعه إلى هنا حالًا لكي يُقطَع رأسه.

– حلمك يا مولاي! تظلمه لأنه لم يدع تلك الجدارة إلا لأنه تحت تأثير ذلك السحر، فهو معذور ومستحق عفوك، وإلا فليس لنا أرجنتوس آخَر يقوم مقامه.

فقال بعلزبول متجهمًا تغيظًا: آتوني بتلك الساحرة التي فتنت جهنم لكي أقطع شأفة فتنتها.

فاضطربت فينوموس وقالت: حاذر يا سيدي أن تستحضرها إلى هنا؛ إني أشفق من سحر فتنتها عليك أن يخبلك، الأفضل أن تطردها.

فقال بعلزبول ساخطًا: ليس لسحر عليَّ تأثير، يجب أن يُؤتَى بها إليَّ الآن.

فقالت فينوموس: إنَّ للسحر الأرضي البشري تأثيرًا هائلًا، لا يُعَدُّ السحر الجهنمي إلى جانبه إلا خزعبلة.

– وا عجباه! تزيدونني رغبة بمشاهدتها، أود أن أراها ولو لمحة.

فقالت له بصوت خافت: هذا يستحيل، إذا كنت تجازف بعرشك فأنا لا أجازف به، إنَّ رؤيتها تُفقِدك شخصيتك في الحال، فاسمح لي أن أطردها في الحال طردًا لبقًا.

– بل يجب أن أقطع عنقها.

– ويك أنَّ هذا الوعيد فاتحة الخبل يا عزيزي، كأن مجرد ذكرها أثر بعقلك.

– أبدًا كيف؟!

– أنسيت أنها إنسانة قديسة يحرسها ملائكة الله، فإذا قطعت عنقها أنبت الله لها ألف وجه جميل، وكل وجه منها يُحدِث فتنة في جهنم لا نستطيع إخمادها، فأذن لي أن أصرفها بسلام لئلا يشدد الله علينا نكير العذاب.

فغمغم بعلزبول كأنه يكلم نفسه: كيف ترحل من غير أن أتمتع برؤية ذلك الجمال البارع الذي يقولون أنه فاتن.

ثم وجَّه الخطاب إلى الحضار قائلًا: دعوها الآن فنقرر أمر مصيرها بعد تقرير أمرنا، أتوافقون على رأي جستوس بأن نسامح أرجنتوس لأنه مغرور؟

فوافقوا.

– إذن أَتِمَّ تلاوة تقريرك يا جستوس، تقولون: إنَّ تلك القديسة جاءت لكي تدعو الأبالسة إلى التوبة، فيصفح الله عنا، وندخل إلى الأرض مسالمين بموكب بهيج، فكيف أحدث وجودها فتنة أفضت إلى ثورة؟

– تلك الفتنة نفسها خبلت عقل فيرومارس …

– عندي علم أنه كان ينوي أن يقمع الثورة بقوة الجيش لكي يبقى بعد القمع ديكتاتورًا، فيجب أن يُقطَع رأسه في الحال.

– عفوًا يا مولاي، تظلمه؛ لأنك تُقَاصُّه قبل أن تُرتكَب الجريمة.

– أما كانت هذه نيته؟!

– مَن يدري وهو لم يفعل؟ وإن كانت هذه نيته فهو معذور لأنه كان مخبولًا تحت تأثير الفتنة.

– إذن لا بد من قطع رأس الفاتنة.

– لا بل الفاتن يا سيدي.

– مَن هو؟

– رسبوتين الذي رقيناه إلى رتبة رجيم، فهو الذي بدهائه الساحر خبل عقلَيْ فيرومارس وأرجنتوس.

فبهت عزرائيل ثم قال: يكاد عقلي يتضعضع من هذا الكلام! لا أستطيع أن أفهم كيف أنَّ عقل الداهيتين أرجنتوس وفيرومارس ينصرع تحت تأثير سحر رجيم دخيل مثل رسبوتين! فأين سحر دهائهما؟ ويلكم نحن ابتدعنا السحر!

فقال جستوس: إنَّ سِحْرَ دهاءِ الأبالسة يتبدَّد أمام سِحْرِ دهاءِ البشر، كما تبدَّد سحر سحرة المصريين أمام سحر موسى.

– إذن آتوني برسبوتين هذا لكي أتمتع بضرب عنقه.

– حاذر يا مولاي! الثورة لم تخمد بعدُ، إذا ضربت عنقه اشرأَبَّتْ ألوف الأعناق البشرية بدهاءٍ يطبق سقف جهنم على دركها الأسفل.

– إذن لم يكن رسبوتين وحده اﻟ …

– لا بل جميع الذين قبضنا عليهم هم زعماء الدهاء الذين حرضوا على الثورة!

– ويحهم! ماذا يريد هؤلاء الأنجاس.

– يريدون أن يغتصب البشر الجهنميون الحكم من الأبالسة، فتصبح الدولة الجهنمية بشرية والأبالسة عبدًا للبشر.

فهاج بعلزبول وماج وقال: أَوَنصبر حتى الآن على هؤلاء الطغام؟! يجب أن أسحقهم سحقًا في الحال.

– حلمك يا سيدي، عد العشرة إلى أن يهدأ غضبك، ثم نبحث في أمرهم.

فصمت بعلزبول برهة وهو يفكر منفعلًا إلى أن قال: «طيب» ما رأيكم في معاقبة هؤلاء البشريين الذين جاءوا إلى جهنم لكي يزيدوا شقاءنا فيها؟

فقال جستوس: إذا شئت ثبوت أساس الملك يا سيدي فاسمع الحكم من دار العدل بلسان جستوس وزيرها.

– ماذا؟

– لا أصوب من نفي هؤلاء البشر الدهاة الفاتنين.

– إلى أين؟ الأرض لم تَعُدْ تقبلهم، والسماء نبذتهم منذ الأزل.

– على الزميل أنفنتورس وزير الاختراع أن يعدَّ سفينة أثيرية تقلهم إلى الفضاء المجهول؛ حيث يطرحون في أوقيانوس الأثير، ويبقون فيه تائهين إلى الأبد.

– رأي صائب، ادعهم إلى هنا لكي أُسْمِعَهم نص الحكم عليهم.

•••

في هنيهات كان رسبوتين وزملاؤه من عظماء أشرار التاريخ إلى اليوم مصطفين لدى مجلس الرجماء، وأمائر المكر والدهاء تتلاعب في وجوههم، فرفع بعلزبول نظره فيهم وقال: أيها الماكرون الملاعين! لقد رحبنا بكم إذ نبذتكم الأرض إلينا، وأكرمنا وفادتكم وأنزلناكم منا منزلة الإخوان الأصفياء لكي تكونوا أعوانًا لنا في جهادنا لغزو الملكوت الأرضي، فإذا بكم تسعون المساعي الخبيثة لكي تغتصبوا الملكوت الجهنمي، تبًّا لكم لقد أفسدتم قلوب الأبالسة وعثتم في جهنم فسادًا، وعكرتم الصفاء بين رعاياي وقلقلتم السلام في مملكتي.

عني أيها الملاعين الخبثاء إلى الأوقيانوس اللامتناهي، لعل شعبي يطمئن بعد نفيكم ويهدأ ثائره، هذا حكمي على كل بشري يبدو منه مكر في جهنم، فعلى مدير قلم المطبوعات إذاعة هذا الحكم، وعلى الزعيم أنفنتورس تنفيذه!

والتفت عزرائيل إلى جنبه فلم يَرَ فينوموس فراح يبحث عنها، فما عتم أن رآها وعلى كاهلها جوكوندا القديسة الحسناء، والقديس سلفستروس في الشرفة يأخذ بيد جوكوندا لكي يصعدها وهو يقول: لقد بقي ذَنَبُ الكلب في القالب عشرين سنة يا عزيزتي ومع ذلك بقي أعوج، أفي يوم تريدين أن تُقَوِّمي اعوجاج أهل جهنم؟ تعالي إلى مطهرنا حيث نهتم بتطهير أنفسنا، إنَّ خلاص كل امرئ بيده.

وعند ذلك رأت جوكوندا بعلزبول واقفًا ينظر إلى جوكوندا ذاهلًا ثم قال باسمًا: مع السلامة يا ملكة الجمال؟ لقد أنقذت برحيلك فينوموس من داء الغيرة.

وأومأت فينوموس إلى جوكوندا بيدها إيماءة الوداع قائلة: أنبئي زملاءك أنَّ عجائبك لا تنجح إلا على الأرض.

وأومأ سلفستروس إليهما قائلًا: لا تتعبوا أنفسكم في محاولة إفساد الأرض لأنكم لا تستطيعون أن تزيدوها فسادًا، وإن كنتم تصرون على غزوها فجندوا ضيوفكم الأرضيين من أشرارها، فهم أقدر منكم.

فهز بعلزبول رأسه قائلًا: نعم، وأقدر منهم مَنْ يستطيع أن ينجو من غوايتهم.

وتبودِلَتْ تحيات الوداع من بعيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤