الفصل السادس

انبرى صاحب الصولة فيرومارس وقال ساخطًا: أنا صاحب الحول والطول، أنا الذي أقام قيامة الحرب العظمى، وأنا الذي تحاولون أن تغمطوا فضله وتحقروا فعله.

فقال بعلزبول: ما الداعي لهذا التشكي يا فيرومارس.

– كلما جاءت نوبتي في الكلام انتدبتم غيري، فما معنى هذا إلا التحقير لجهادي.

– أنت مخطئ، نحن نتتبع أنواع الجهاد بحسب تسلسلها، ومساعي ميديوموس كانت تمهيدًا لمساعي أرجنتوس.

فانبرى انفنتورس وزير الاختراع وقال: ومساعي أرجنتوس تمهيدًا لمساعيَّ التي هي تمهيد لمساعي فيرومارس.

فقال فيرومارس متمرمرًا: أرأيت يا سيدي الملك كيف يجعل العامل الفعال آخِرًا؟ هذا ما لا أطيقه، أحتجُّ وأنسحب وأتنازل عن المكافأة.

فقال فينوموس: معاذ الله أن نقبل انسحابك يا صاحب الصولة، بإذن جلالة الرئيس تكلَّمْ.

فهدأت حدة فيرومارس وطفق يتكلم: ما دامت بزور الشهوات تنبت فنبتها يزهر وزهورها تثمر وثمارها العداء والخصام، فالنزاع طبيعة في الإنسان، والقتال حتم عليه سواء كان لأجل الأديان أو في سبيل الأوطان، والعبرة في أساليب القتال التي تسقي الأرض دماءً، ولا تشبع منها الأرض مهما أمطرت منها السماء إلى أن ينضب معين الملكوت الأعلى، ويتخم بطن الملكوت الأسفل.

تعددت الأسباب والحرب واحدة، فإذا لم يقتتل البشر لأجل الدين اقتتلوا لأجل المال، اقتتلوا لأجل الحب، وإن لم يقتتلوا لأجل الحب اقتتلوا لأجل البغض، فهم يقتتلون على كل حال، والعبرة في درجة احتدام القتال وفي اندفاع الجماهير إلى ساحة النزال، وفي حصد الرءوس «بالجملة» لا «بالقطاعي»، وهذا ما فعله خادمكم المطيع.

جندت الذكور شبانًا وكهولًا، وشغلت النساء والأطفال والشيوخ في مصانع السلاح، فجميع النساء استخدمت في الحرب.

حوَّلتُ معامل السلع إلى معامل سلاح وذخائر.

حوَّلتُ الاختراعات إلى أدوات الهلاك: الحديد للمدافع والدبابات والقطرات المصفحة والغواصات والبوارج والنسافات والأسلاك الشائكة والقنابل، وحوَّلتُ الكيمياء التي يفاخر بها العلماء إلى مفرقعات وقذائف وغازات سامة ومكروبات فتاكة، والكهرباء إلى صوارع،١ وغذيت الطيارات في بدء طفولتها فترعرعت عاجلًا؛ لكي تصب الهلاك من فوق، كما تقذفه النيرات من تحت.

مددت خطوط القتال ألوف الأميال لكي تتقابل فيها ملايين الرجال، والردى بينها يتهادى ذات اليمين وذات الشمال، والأشلاء تتساقط كالنيازك في بطون الخنادق.

فانبرى انفنتورس بلا استئذان وصاح مقاطعًا: ها، ها، صه، مه، حتى ما هذا الافتئات يا فيرومارس! تدعي لنفسك كل عامل من عوامل الحرب، وأنت لم تضرب إلا بسلاح غيرك، ولم تهجم إلا بساعد سواك. إذا كانت الاختراعات الحديثة أفتك آلات الحروب، فلأني أنا الذي كنت أوسوس لوزراء الحرب أن يحوِّلوا كل اختراع جديد إلى أداة دمار وهلاك، فلولا وسوستي هذه لكان كل اختراع جديد لفائدة الجنس البشري وهنائه لا لتدميره وإفنائه.

فأجاب فيرومارس محتدًّا: ولو لم أوسوس لرجال الحرب أنَّ القتال رياضة الرجال، وأنَّ النصر فخر، وأنَّ أكاليل الغار تنتظر القواد الكبار، لما تواثب الأبطال للنزال.

فقال انفنتورس: وهل تحارب الجنود بلا سلاح وبلا بنود؟

فقال فيرومارس: وهل تحارب الجيوش إذا لم تستفزها للحرب! فهل اختراعاتك استفزتها؟

– وهل تحارب الجنود لتتصارع كتصارع الثيران يا شيطان؟

– نعم، يكفي أن تتصارع ولا لزوم لاختراعاتك.

– خسئت.

وكادا يشتبكان في صراع عنيف لو لم ينتهرهما بعلزبول زاجرًا: صمتًا وكُفَّا عن الخصام أيها الغبيان، أفي موقف تناظرٍ وتناحرٍ نحن يا أحمقان؟! ماذا تركتم للبشر من صنوف العداء والخصام! نحن نعترف لكلٍّ من الرجماء الفخام بقيمة جهاده. الحرب لم تتم بعمل واحد لكي يحتكر هذا الواحد الفضل فيها لنفسه، بل كان جهاد كل واحد لازمًا.

عند ذلك نبهت المؤتمر ضجة من بعيد فوجهوا أنظارهم إليها، وإذا جمع لا يُحصَى عدده قادم، فقال بعلزبول: ما هذا؟ ما هذا؟

فقال انفنتوروس: أظنها مظاهرة.

بعلزبول: مظاهرة! حفاوة بأبطالنا؟ هتاف لهم؟

انفنتوروس: أظنها مظاهرة تذمُّر وشكايات، يا ذا الجبروت.

– تذمُّر وشكايات! لماذا؟!

– لا أدري تمام الدراية بالحقيقة، وإنما سمعت لغطًا بأنَّ الحرب الكبرى كانت فشلًا.

فقال فيرومارس: إذن كانت اختراعاتك يا انفنتوروس نكبة لنا لا لأهل الملكوت.

فقال انفنتوروس: ألا تخبرنا ماذا كانت قيادتك لبني البشر في الحرب.

فصاح بعلزبول: صمتًا يا خبيثان، أَخِلَافُكما أعالِجُ الآن أم هذه المظاهرة المقلقة؟ هل لك يا ميديوموس أن تقابل هؤلاء المتظاهرين وتصدهم بالتي هي أحسن؟

فقال ميديوموس: مَن يستطيع يا مولاي أن يقف في سبيل السيل العرم؟

– لعل أوجستوس يستطيع أن يصرف هذا السيل في أقنية يمينًا وشمالًا حتى لا يصل إلينا إلا نزيز منه.

فقال أرجنتوس: لا يمكن حفر الأقنية في حالة الفيضان يا مولاي، إني أرى فيضانًا متدفقًا.

فالتفت بعلزبول إلى يمينه مكفهر الوجه كأنه يسترشد بدهاء عقيلته فينوموس، فنظرت فيه باسمة: لا تخف يا عزيزي دَعِ السيل يتدفق في مجراه ولا تعترضه، لقد اصطنعت سفينة نركب فيها متن هذا الطوفان، إني أحسب حساب هوج الشعب في حالة هياجه، فمهما كان الفرد متعقلًا فالجمهور أرعن، مهما تلاطمت الأمواج، فلا تتحطم السفينة إذا كانت بعيدة عن صخور الشواطئ، هلم نقابل الشعب قبل أن يصل إلى هنا.

– ويحك! أتريدين أن نوقد ثورة جنونية بتهجمنا عليه.

– لا نتهجم عليه بل نشترك معه بالمظاهرة.

– سياسة هوجاء لا أفهمها.

– لم يَبْقَ وقت للجدال، هلموا اتبعوني في الحال؛ فإني لكم قائدة في هذه المباغتة، هلموا.

ونزلت فينوموس عن عرشها ومشت نحو الجمع القادم، فلم يَسَع بعلزبول إلا أن يسير إلى جنبها، ولم يسع الرجماء إلا أن يتبعوهما.

وفي بضع دقائق لم يَبْقَ بين الجمع المتظاهر والجماعة المستقبلة إلا مسافة سمع الهتافات، فإذا جميع المتظاهرين يهتف: لتسقط الوزارة، لتسقط دولة الرجماء، لتحي الديموقراطية، لتحي الجمهورية، لتسقط الدكتاتورية.

فغمغم بعلزبول قائلًا: هذا ما اكتسبه شعبي من أشقياء الأرض الملاعين.

وصاحت فينوموس: ليحي الشعب، ليحي الاتحاد، لتحي راية الأمة الجهنمية، لتحي حكومة الشعب.

وكان الرجماء من ورائها يرددون هذه الهتافات.

وما أصبح المجال بين الفريقين على قاب قوسين حتى توقفت المظاهرة، ورفع قادة الجمع أكفهم يعنون إسكات الجمع وتهدئة ثائره؛ لكي يفهموا ماذا يهتف الرجماء.

عند ذلك تقدَّمَتْ فينوموس إلى مقدمة المظاهرة وأمسكت بطرف العَلَم الأول، وقبَّلته قبلات عديدة وهي تصيح: «(ليخفق) علم الشعب متعاليًا»، فردَّد الجمهور هتافها، وقابله قادة المتظاهرين بالهتاف: لتحي ذات الدهاء فينوموس، ليحي ذو الجبروت بعلزبول.

ثم زجت فينوموس نفسها بين القادة وهي تقول: الدولة تشكر للشعب مظاهرته الابتهاجية في حفلة النصر، وتمْتَنُّ لما أبداه من العواطف نحو الوزارة التي بسطت اليوم تقارير أعمالها المجيدة في حرب الملكوت البشري.

فتصدى لها كبير القادة وقال: ليست هذه مظاهرة ابتهاج يا سيدتي الموقرة، بل هي مظاهرة شكوى وتذمُّر.

– أَتذمُّرٌ من جهاد عظيم لم يسبق له نظير؟ أشكوى من نصر باهرٍ لم نكن نحلم به؟

– بل هي شكوى من أماني موعودة لم تُحقَّقْ، وتذمُّر من تبجُّح بنصرٍ وهميٍّ. لقد سئم الشعب الانتظار عدة أدهار على أمل الانتصار، وضجر من آمال كالآل (السراب)، ولم يَعُدْ يطيق صبرًا على هذه الحال، بل يبتغي تقرير المآل.

– حسن ما يبتغيه الشعب، فَلْيتفضل بانتخاب لجنة عنه تشترك مع جماعة الرجماء في تقرير المصير، فالحكومة تستند إلى الشعب، والوزارة لا تستغني عن مشورة الأمة، هلموا أيها الزعماء الأبطال معنا إلى دار الدولة لكي نتشاور في الأمر، اجمع زملاءَك واتبعونا وفدًا من قِبَل الشعب.

وارتدت فينوموس إلى جماعة الرجماء وقالت: لقد سكنت العاصفة، ولم يَبْقَ إلا النسيم يهب بتؤدة، فَلْنعد إلى الدار حيث نتنسم نسيم أخبار هذه الثورة، ولكلِّ مقامٍ مقالٌ.

فقال بعلزبول: لا عدمتك داهية يا حبيبة القلب، هل أنت واثقة من أنَّ النسيم الباقي ليس ريحَ سمومٍ؟

– لكل سم ترياق يا عزيزي، فتشجَّعْ.

– سمعت الهتاف للجمهورية، فهل الدولة دائلة؟

– وماذا يضيرك أن تُسمَّى الدولة جمهورية، وأن يسمَّى ملك الدولة رئيسًا للجمهورية؟ فالدولة تبقى دولتك، ولا يتغير إلا الأسماء.

فسُرِّيَ عن بعلزبول وتنهَّدَ الصعداء.

١  جمع صارعة، من صرَعَه يصرعه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤