الفصل الأول

هذه ألف باء الحرية

المدينة هادئة

كأهدأ ما تكون مدينة في هذا العصر الذي كُتب علينا أن نعيش فيه، وهي مدينة صغيرة، تتوسَّطها بحيرةٌ واسعة، وتحيط بالبحيرة — دائرة ما تدور — سلسلة من جبال ليست شديدة الارتفاع، وعلى سفوح تلك الجبال تقوم المباني … وكان الفندق على أسفل السفح، يوشك أن يستوي مع البحيرة على مسطَّح واحد.

وللفندق حديقة فسيحة الأرجاء، كثر فيها الشجر صنوفًا صنوفًا، وغزر على أرضها العشب الأخضر، وتناثرت فيها المقاعد للنزلاء، وكان النزلاء جميعًا — كما بدوا لعيني — من طلاب الراحة الساكنة، تقدمت السن بمعظمهم، ولا بد أن قد كان لكل منهم ما أنقض ظهره من هموم الحياة، ولقد جاء منهم كثيرون مزوَّدين بوسائل التسلية، منها ما عهدته في شعوبهم، ومنها ما لم أعهده، فلم أكن قبل ذلك قد عهدت أن أراهم يلعبون الطاولة، أما هذه المرة، فقد رأيت أكثر من أسرة، تحلَّقت حول منضدة، حيث فُتحت «الطاولة» بين اللاعبين، ولأول مرة في حياتي رأيت الطاولة مكسوة كلها بالمطاط وكذلك كُسيت بالمطاط أحجار اللعب، وأعدَّ كوب من المطاط ليضع اللاعب «الزهر» فيه ليقذفه على سطح الطاولة، وبهذه الكسوة المطاطية التي غلَّفت كل شيء لم يُسمَع للعبة ولا لاعبيها صوت، فكانوا وكأنهم صورة تشاهدها على سطح مرآة، وليسوا بشرًا من البشر، جاءوا ليقضوا إجازتهم في لهو صاخب.

وفي تلك الحديقة الفسيحة الهادئة قضيت ساعات الضحى من نهار جميل، فرأيت أول ما رأيت «أسرة من النخل»، ولم أكن أتوقع نخلًا في تلك البقعة من الأرض، وقد كنَّ نخلات ثلاثًا، ملساء الجذوع شامخات الرءوس، فأحسست حيالها بشعور قوي غريب، وهو الشعور بالقربى، فكأننا أبناء أسرة واحدة، لم يفرق بينها أن يكون بعض أبنائها نباتًا، وبعضها بشرًا، والحق أنني هكذا أحس كلما رأيت نخيلًا خارج الوطن العربي، وعبثًا أذكِّر نفسي بأن المسألة لا تعدو ضربًا من النبات وبيئة تصلح لحياته، ولا شأن هنا للقومية العربية والوطن العربي، نعم عبثًا أحاول أن أذكِّر نفسي بذلك؛ ففي أعماق نفسي شيء يربط النخل بأرض العرب، فأنظر إلى النخلة وهي في غير أرضها وكأنها — مثلي — قد اغتربت عن ديارها.

كانت «أسرة» النخلات الثلاث، أول ما وقع عليه البصر مما يُحيط بي، ولبث البصر مركِّزًا فيهن فترة طويلة، يصعد مع الجذوع الفارهة الممشوقة حتى الرءوس، ثم يهبط من الرءوس إلى المنابت على الأرض المعشوشبة بنجيلها الأخضر … يا سبحان الله! إنهن ثلاث نخلات، ينتمين إلى أسرة نباتية واحدة، وقد اشتدَّت بينهن أوجه الشبه، لكن انظر! انظر كيف أبت عليهن الحياة إلا أن يتميَّزن بخصائص تتفرد كل منهن بما يميِّزها من أختَيها؟ وذلك لكي لا يكون للكائن الحي شبيه، وتلك هي حكمة الخالق فيما خلق من «أحياء»، وهي أن يكون للكائن الحي فرديته الفريدة، حتى وإن ارتكزت تلك الفردية المتميزة المتفردة على بضع تفصيلات صغيرة، وكان مدار الحكمة الإلهية هنا هي أنه إذا تشابه كائنان من الأحياء كل الشبه في كل تفصيلة، كان أحدهما قد خُلق عبثًا، وتعالى الله الخالق البارئ المصوِّر أن يجيء في خلقه ما هو عبث … وهل كان يمكن أن تخطر برأسي هذه الخاطرة، دون أن نلحق بها خاطرة أخرى، تقول لي: إذا كانت أسرة النخل، على شدة ما بين أفرادها من شبه، لم تمنع أن يتفرَّد أبناؤها بما يطيب لكلٍّ منها أن يتفرد به، وهو تفرُّدٌ ينمُّ في أعماقه عن شيء من «حرية» تركت لكل نبتة أن تمارسها، كي تستطيع مقابلة مواقف حياتها بما يلائمها، فهل يجوز لأسرة من البشر أن تصبَّ أبناءَها في قوالب من حديد، حتى لا يجد أي منهم متنفسًا حرًّا إذا أراد أن يتنفس؟

أغمضت عيني قليلًا، مسندًا رأسي على ظهر مقعدي، وكان مقعدًا مديدًا من قماش، يأذن للجالس أن يتخذ لجسده وضعًا فيه نصف الرقاد، فنزعت بي أفكاري نحو ذكريات أليمة لم أكن أحب لها أن تنزوي في الذاكرة وسط هذا الهدوء الساكن الجميل، ففتحت عيني لينشغل البصر بما يراه حولي، فكان أن رأى بجانب المقعد «أسرة» من ست حمامات رمادية اللون، يخالط لونها الرمادي ريشات بيضاء على الجناحين وحول العنق، ولم تكن الحمائم ساكنة في مواضعها سكون النخلات في مغارسها من الأرض؛ بل كانت تتحرك كلها، بعضها حول بعض، بحيث يظل لها تكوينها العام، وهو تكوين شبه دائري، وهكذا لبث لها إطار عام له شيء من الثبات، برغم الحركة الدائبة التي أخذت تتحرك بها كل حمامة على حدة، وكل من عبر منَّا البحر الأبيض المتوسط إلى أي بلد في أوروبا، لا بد أن يكون قد لحظ — في عجب — كيف لا تفزع الحمائم من أبناء آدم، إذ علَّمتها الخبرة ألَّا خوف عليها من الإنسان؛ فاطمأنت له، يتحرك أمامها ووراءها وإلى جوارها كيف شاء، فلا تنفر حمامة لتطير.

ولما أمعنت النظر في أسرة النخل، أمعنته في أسرة الحمام، لأجد العبرة أقوى وأوفى، بمقدار ما يعلو به حيوان على نبات، فقد التزمت كل حمامة جماعتها، ولم يكن لها بد من أن تحصر نفسها في طبيعة الحمام، إذ ليس في وسعها أن تخرج على طبيعتها لتصبح صقرًا أو تنقلب عصفورًا، لكنها مع هذا كله تُرك لها شيء من «حرية» الحركة لتتفرد به في مواجهة ما عساها تصادفه مما لا يصادف سواها، وكما ختمت حديثي عن النخل، أختمه في حديثي عن الحمام، فأتساءل: أتكون الحياة وقوانينها قد أمدَّت كل حمامة فردية تتفرد بها دون سائر أخواتها؟ ثم نجد من جماعات الإنسان من يريد أن يتنكَّر لهذا الحق الذي أراده للأحياء خالقُ الأحياء، بحيث ترى هؤلاء المتنكرين وكأنهم يريدون لكل فرد معهم أن يتقيَّد في تفكيره وفي سلوكه بقضبان من حديد، صنعوها بأوهامهم، وثبتوها على الأرض بجبروتهم … وا فضيحتاه، ووا خجلتاه!

وهنا أغمضت عيني مرة أخرى، ومرة أخرى نزع بي الفكر نحو أن تنزوي في الذاكرة صورة أليمة لم أكن أريد لها أن تعكر صفو هذا الهدوء الساكن الجميل، ففتحت عيني ليُشغَل البصر بما يرى، فرأيت تلك الأسرة البشرية التي جلست بجوارنا، وكنت قد شغلت عنها بمتابعة النخل والحمام، ولقد كفاني منها لمحة أسرع من السريعة؛ لأرى والدَين وأبناءهما الثلاثة، الوالد يقرأ الصحيفة اليومية والوالدة تتحرك أصابعها بإبرة التطريز فيما لست أعرف ماذا، وفتاة تقرأ كتابًا، وفتًى يشبه أن يكون قد أخذه النوم على كرسيه الطويل، وطفل جلس على قماشة فُرشت له على العشب، وأخذ يخرج من صندوق بجانبه مكعبات، ليبني منها شيئًا لست أدري ماذا عساه أن يكون.

فلو كنت مصوِّرًا فنانًا، لأسرعت إلى مرسمي لأثبت على لوحة تلك الأسرة في جلستها التي رأيتها؛ لأنها نموذجٌ جيد، سواء أخذناها في حقيقتها كما تبدَّت للمشاهدين، أم أخذناها من حيث هي رمز يشير إلى حقيقة كبرى، فأما وهي مأخوذة على الصورة التي شُوهدت بها، فواضح أن مجموعة أفرادها قد ترابطت في كيان يجمعها، لكنها في الوقت نفسه تركت لكل فرد منها أن ينفرد باهتمام خاص، إنها «الحرية» من الداخل، الحرية التي لم تُشرَّع لها قوانين، بل شاءتها طبيعة الحياة نفسها، ولذلك هي الحرية التي شملت الأحياء جميعًا، من الأميبا الأولى إلى أرقى ما ارتقى إليه البشر، إنها هي، الحرية التي تعني أن يعبر الكائن عن دخيلته بسلوك ظاهر، وأرجوك أن تقف لحظة عند كلمة يعبر هذه؛ لأنها كلمة استطاعت بها عبقرية اللسان العربي أن تبثها معنًى ضخمًا بعيد الدلالة، فالتعبير إنما هو «عبور»، فهنالك في دخيلة الكائن الحي سره الإلهي العظيم، لكنه سر لا يراد له أن ينكتم، فمُهِّدت له وسائل «العبور» من الداخل إلى الخارج، وذلك هو نفسه «التعبير». الشجرة تعبر عن سرها الذي يعتمل به جسدها من الداخل، فتخرج إلى الدنيا الخارجية أوراقها وثمارها وأزهارها. الحيوان، كل الحيوان يعبر عن السر الإلهي الذي يسري في خلاياه فيكون منه ما نراه في حياته الظاهرة من براعة ومهارة، وأي براعة ومهارة في جمع قوته وفي بناء مأواه، وفي الوقاية من الأعداء! حتى إذا ما وصلت بنا درجات السُّلَّم الصاعدة إلى الإنسان، رأينا عجبًا من العجب في إرادة «التعبير» أولًا، ثم في ممارسته ثانيًا؛ لأنه لا يقف عند الحدود التي وقفت عندها صنوف النبات والحيوان، بل إن عملية «العبور» هنا لتتسع وتتسع، حتى نراه — أعني الإنسان — وهو يعالج ما قد اضطرمت به نفسه من «معانٍ»، محاولًا أن يمهِّد لها طرقًا تعبِّر عليها من دنيا الجوانح في ظلامها وغموضها، إلى عالم النور فتراها الأبصار مجسَّدة في رموزها، أو تسمعها الآذان أنغامًا وألحانًا وشعرًا وأدبًا، وليس في وسعنا مقدمًا أن نتنبأ أي الطرق يستطيعها فلان هذا أو فلان ذاك لإخراج كوامن نفسه، أيخرجها حديثًا ساذجًا يديره مع مَن يريد الاتصال بهم، أم هل يبلغ مبلغًا من القدرة الفنية والأدبية، فيخرج تلك الكوامن معزوفة، أو قصيدة، أو لوحة، أو تمثالًا، أو عمارة، أو ما شاء له الله أن يكون؟ ولقد كانت الأسرة التي حدثتك عنها مثلًا جيدًا، يرمز إلى تنوع الناس في وسائل العبور من داخل النفس إلى ظاهر الدنيا.

واصبر معي قليلًا — أيها القارئ — لأريك كيف أن هذا الجمع بين حرية الأفراد في حركاتها، وفي خلجاتها، ثم في رغبة التعبير عن تلك الخلجات تعبيرًا يهيئ لها العبور من محابسها لتصبح مرئية ومسموعة، أقول إني سأحاول أن أريك كيف أن الجمع بين حرية الأجزاء من جهة، والتزامها حدود الكيان الذي هي أجزاء فيه، إنما هو سر عظيم في بناء الكائنات جميعًا، من الذرة الصغيرة إلى الكون الكبير في مجموعه، فانظر إلى الذرة الصغيرة، تجدها — كما ينبئنا عنها علماؤها — مؤلفة من كهارب تدق حتى لتتعذر رؤيتها بالمجاهير، وإنما هي استدلال علمي أثبت صدقه بصدق تطبيقاته العملية، أقول: انظر إلى الذرة الصغيرة تجدها مؤلفة من كهارب، لكل كهرب منها فلك يجري فيه، لكنه «حر» في أن يقفز من فلك إلى فلك داخل الذرة، حرية تجعل التنبؤ بها قبل وقوعها أمرًا مستحيلًا، لكن تلك الكهارب الصغيرة، في حريتها تلك، إنما تلتزم أن يكون نشاطها ملتئمًا مع البناء العام، الذي هو الذرة في مجموعها.

وهذا الجمع بين حرية الفرد والتزامه، تراه في كل كائن أيًّا كان نوعه. خُذ الفرد الواحد من أفراد الإنسان مثلًا، تجده مؤلفًا من مجموعة أعضاء، لكل عضو فيها تكوينه ووظيفته وقوانينه، فالقلب يعمل من حيث هو قلب، والكبد تعمل من حيث هي كبد، والمعدة تعمل من حيث هي معدة، وهكذا، لكنها في عملها إنما تلتزم حدود الكيان الكبير، وهذا الذي قلناه عن الفرد الواحد من أفراد الإنسان يصدق بحذافيره على الكون العظيم في مجموعه، فكل ما في الكون يسبح في فلكه، لكنه في الوقت نفسه يلتزم العلاقة التي تنسِّق بينه وبين سائر الكائنات.

ولم نكن لنرى موضعًا للعجب في هذا، إذا كان كل جزء قد رُسم له الطريق رسمًا لا يترك له مجالًا آخر إلا أن يسير، لكن المعجزة الكبرى هي أن لكل جزء حريته التي هي نفسها مجموع الحريات المتمثلة في الذرات الصغيرة التي منها يتألف، ومع ذلك، فهي حرية لا تتنافى مع الاتساق العام.

الأساس — إذن — في نظام الكون كله مجتمعًا في كيان واحد، وفي كل كائن من كائناته — وبصفة خاصة وواضحة في الأحياء من تلك الكائنات — هو حرية الأجزاء، أو قل حرية الأفراد، حرية مقيدة ومحكومة بطبيعة الكيان التي تكوِّن تلك الأجزاء، أو الأفراد، هي قوامه، وليس في هذا القول تناقض؛ إذ قد يُقال: كيف تكون «حرية» و«مقيدة»؟ فأنت — مثلًا — حرٌّ في تحريك رجليك لتمشي أو في تحريك ذراعيك لتتعامل مع الأشياء، لكن رجليك أو ذراعيك في تلك الحركة الحرة، محكومتان بطبيعة ما فيهما من عضلات وأعصاب وعظام وغيرها مما تتكون منه الرجل أو الذراع، إن لاعب الكرة حرٌّ وهو يضرب الكرة، فقد يتجه بها إلى يمينه أو يساره، أو إلى أمامه أو ورائه، لكن حريته تلك محكومة بالقصد الذي يستهدف الوصول إليه بالتعاون مع زملائه، فضلًا عن أنها حرية تحكمها قواعد اللعبة نفسها. وهكذا تستطيع أن تسوق لنفسك من الأمثلة الموضِّحة أي عدد تريد، لكن الذي نحب أن نضيفه هنا هو أنه كلما ازداد القيد صعوبة، ازدادت الحرية حرية، إذا جاز لنا مثل هذا القول، فالشاعر وهو ينظم لفظه في قصيدة أكثر حرية ممَّن يقذف بكلماته قذفًا كما اتفقَّ في حديث عابر؛ لأنه يضع أمام نفسه صعوبات الوزن ليغلبها وكأنها ليست عقبة في الطريق. إن صاعد الجبل إذ تعترضه العقبة تلو العقبة، فيغالبها ويَغلبها، هو أعمق في شعوره بالحرية ممَّن يمشي على «سهل» منبسط، والصائم أقوى شعورًا بحريته من المفطر، فالمعول في الحرية هو دائمًا قدرة الحر على مواجهة الصعب ليقهره. وإذا خلت حياة الإنسان من كل صعوبة (وهذا فرض نظري محال له أن يتحقق) لما عرف ماذا تكون الحرية وماذا يكون معناها، وهكذا قل في «الأخلاق»، فليس من حق إنسان أن يدَّعي لنفسه الفضيلة، إلا إذا عُرضت له الرذيلة فقاومها وانتصر عليها، ومن يدري ربما كانت الحكمة في وجود الشيطان بغوايته أن تظهر الفضيلة في الإنسان الفاضل.

أما الحرية المقيدة، بالمعنى الذي شرحناه لتكون أساسًا أوليًّا لما يشمل الكون وكائناته من نظام، فالأمر فيها درجات تتصاعد بتصاعد الكائن ونوعه. فالكائن كلما علت رتبته، كان أقدر على مجاوزة قيوده، حتى نصل إلى الإنسان، فنرى الحرية بمعناها الذي أسلفناه قد بلغت ذروتها؛ إذ هو لا يكتفي بصعوبات تصادفه فيغلبها، بل إنه ليخلق الصعوبة خلقًا ليزداد شعورًا بحريته — وبالتالي يزداد شعورًا بإنسانيته — حين يزيح العقبة من طريقه، بل إنه ليُكلَّف بحكم عقيدته الدينية نفسها أن يصنع الصعوبة ليقهرها فهو مُكلَّف بالجهاد. وما الجهاد إلا مجاهدة لتذليل عقبات قائمة. ولعل مجاهدة الإنسان في محاربة نفسه الأمَّارة بالسوء، أن تكون من أخص خصائص الإنسان، بالقياس إلى سائر الكائنات. وقمة الحرية هي قدرة الإنسان على إلجام نفسه، ليحكمها بدل أن تحكمه.

وانظر كم يُحرم الإنسان من هذه الخاصية التي تميزه، إذا ما أرادت له الجماعة التي يعيش فردًا من أفرادها، أن يتقولب مع الآخرين في قالب واحد، كأنه قطعة من الصلصال يصوغها القابض عليها في أي شكل يريد، وماذا يكون الرق إذا لم يكن هو فقدان الفرد لفرديته، ليصبح عجينة طيِّعة بين أصابع سواه؟ وإن هذا المعنى ليبرز أمام أعيننا واضحًا في الأسطورة اليونانية التي تحكي لنا قصة رجل (هو بروكر ستيز) أقام نزلًا في طريق المسافرين، ليبيت فيه من يلحقه الليل، لكنه أعد الأسرَّة (جمع سرير) لتكون متساوية في الطول، وصمم على أن يخضع المسافر الذي يبيت في نزله لذلك المقياس، فإذا شاءت المصادفة أن يجيء المسافر مستوفيًا بطبيعته لذلك الشرط المفروض، كان بها، وإلا فقد جهَّز آلة تجز ساقي المسافر إذا كان أطول من سريره، كما جهَّز آلة أخرى تمط من هو أقصر في قامته من طول السرير، حتى يتساوى الطولان. فصاحب النزل لم يتصور أن يختلف الأفراد في أطوالهم عن المقياس الذي فرضه عليهم. وهكذا تكون الحال في مجتمع يريد لأبنائه أن ينصبوا جميعًا في قالب من حديد، لا يقبل من أحد أن ينقص دونه أو أن يزيد عليه، وقل في مجتمع كهذا إن فردية الأفراد عليها العفاء، فتصبح حرية الإنسان — بناءً على ذلك — سرابًا في سراب.

وقد يطول بنا القول، إذا نحن أخذنا في تحليل طبيعة «الإنسان» تحليلًا يبيِّن على وجه الدقة ما نعنيه، حين نطالب للإنسان بحريته، بالمعنى الذي تكون الحرية فيه محكومة بقيود تؤكد وجودها، وتزيد من عمقها، لكننا نكتفي بلمحة موجزة عن جانب هام في تلك الطبيعة (وليس هو الجانب الوحيد) وأعني جانب «العقل» من الإنسان، وقبل أن نتحدث عن «حرية» هذا العقل لا بد من تذكير القارئ بالصفة الرئيسية التي تميز العقل عن سائر القدرات البشرية، وتلك الصفة هي أنها حركة انتقالية يبدأ سيرها من شواهد وبيِّنات ومقدمات، وينتهي عند نتيجة تتولَّد به ممَّا بدأ به، فليس عقلًا ذلك الإدراك الذي يُدرك ما يدركه بلمحة مباشرة، أو بلمعة (كما يقولون)؛ لأن أمثال هذه الإدراكات المباشرة لها أسماء أخرى، وطبائع أخرى، ليس هنا مكان تفصيلها، أما العقل فإدراكه دائمًا غير مباشر؛ لأنه قدرة استدلالية، ومعنى ذلك أنه يتضمن قيام طرفين، طرف نبدأ منه، وطرف آخر هو النتيجة التي ننتهي إليها.

ويكون العقل حرًّا في اختيار الطرف الأول، وما دام قد حدد لنفسه نقطة البدء، فلم تعد له بعد ذلك حرية النتائج؛ لأن هذه النتائج تلزم بالضرورة عن نقطة الابتداء، ونقطة الابتداء هذه إنما هي «فكرة ما»، يرى فيها صاحبها صلاحيتها لتوليد النتائج النافعة للناس، فإذا حرمنا إنسانًا من أن يتقدم بأفكاره وما يترتب عليها؛ جرَّدناه من آدميته، إذ نكون قد سلبنا منه حرية عقله حتى ألف بائها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤