الفصل الثاني

معجزة الحياة إبداعها

عن الحرية أتحدث

وليس السجين الذي نبحث له عن حريته هنا هو سجين زنزانة ضاقت حولها الجدران، وضُربت على بابها ونافذتها المرتفعة الصغيرة قضبان الحديد، كلَّا، ولا هي الحرية التي سلبها من صاحبها غاصب مستبد، بل هي الحرية التي كبَّلتها خيوط من حرير، غزلها صاحبها لنفسه على مغزله هو، ونسجها قماشة ناعمة بمنواله هو، ثم أحاط جسده كله بلفائفها حتى أوشكت أن تسدَّ له أذنيه، فلا يسمع إلا خشخشة خفيفة تجيئه منها إذا تحركت أطرافها، وكادت تنسدل على عينَيه، فلا يرى شيئًا إلا خلالها.

إنه سجنٌ من حرير، من شأنه إذا مسَّت جدرانه بدن السجين أن يشيع شيء من الخدر اللذيذ في جوارحه فتستريح، وفي أوصاله فتسترخي؛ ولذلك ترى السجين يقاتل من أجل بقائه فيه، وإذا أحسَّ يدًا تمتد لتفك عنه الأغلال، بترها بترًا إذا استطاع، وأما ذلك الحرير الذي نعنيه، فهو الماضي إذا ما سرى في القلوب وفي العقول بسحره الأسطوري العجيب، وموضع المفارقة في هذا الموقف المحير المربك، هو أن أي إنسان، وكل إنسان، يحب أن يتمسك بماضيه، بل إنه لا اختيار للإنسان في ذلك، فهو — مثلًا — لم يخلق لنفسه اللغة التي يتكلم بها ويكتب، عندما استيقظ من نومه هذا الصباح، بل أخذها جاهزة كما انحدرت إليه من ماضيه، وهو لم يُصمِّم لنفسه ثيابه، وصنوف طعامه، وأساليب تعامله مع الآخرين، بل هي أمور جاءته من أبناء أمسه القريب أو أمسه البعيد، ومحال محال أن يخلع ماضيه عن حياته، كما يخلع ثيابه القديمة عن جسده، لا، بل إنه ليرفض ذلك رفضًا قاطعًا حتى لو كان في مستطاعه أن يفعل، ومع ذلك فالفرق بعيد بين الإنسان السوي السليم وهو يستبقي لنفسه ماضيه، والإنسان الذي أخذته في ذلك علة المرض، فبينما الأول يثبِّت قدميه على أرض حاضره، ويستدعي الماضي لينسج من خيوطه خيوطًا يراها حيوية وضرورية لحياة عصره، ترى الثاني وقد خفَّت قدماه عن أرض حاضره فقفل بجسده كله راجعًا إلى حيث الأجداد ليحيا معهم حياتهم، فالقول ما يقولونه، والفعل ما يفعلونه، وكل ما أبدعته العصور بعدهم من ثقافات وحضارات باطل مذموم.

ليس في هؤلاء المساكين الأبرياء ذرة من شر، فنواياهم هي أطيب ما تكون النوايا، وهم فوق ذلك معذورون؛ لأن لمسة الماضي عند كل إنسان هي من لمسات الحرير، وهل رأيت إنسانًا واحدًا إذا تلفت وراءه لم يقل إنه إنما كان عصرًا ذهبيًّا ذلك العصر الذي ذهب؟ لكن هذا الشعور الطبيعي الجميل لا يلبث أن يستر الحق عن صاحبه، فهو كشعور الناعم بشفق الغروب في روعته، لا يريد للشمس أن تغيب ليظل الشفق بورده الأحمر، حتى ولو قيل لذلك النشوان: إنه إذا غابت الشمس وذاب الشفق؛ فما ذلك إلا لتشرق شمس جديدة في الصباح، وكيف تريد للنشوان بلحظته أن يستمع إليك، وهو لا يرى شيئًا سواها، ولا يرغب في أن يرى.

فأين السبيل إلى تحرير ذلك المخمور بلحظته، وقد اختارها من الماضي الذي هو دائمًا عصر ذهبي، كان نقاءً كله، وكان صفاءً كله، وكان بلاغة وفصاحة، وكان طهرًا واستقامة، وكان حكمة وصدقًا وخيرًا؟ كيف تُقنع النشوان بلحظته التي اختارها من ماضيه أن الزمن ليس صفًّا من لحظات رصت لحظة «مستقلة» بعد لحظة مستقلة، بحيث يستطيع أن يختار إحداها «ليسكن» فيها، بل هو سيَّال مستمر لا سبيل إلى تقطيعه شرائح شرائح، وإذا كنت ترانا نقسمه أعوامًا وشهورًا وأيامًا ودقائق، فذلك لنيسر على أنفسنا طريق الحساب، وسيَّال الزمن كسيال الماء في النهر الدافق، كسيال الحياة نفسها، يتجه اتجاهًا واحدًا لا رجعة فيه، فإذا تشبث إنسان بضرورة أن يرتد بسيال حياته إلى الوراء كان معنى ذلك هو الموت؟

ومعجزة الحياة في مجراها، هي أنها «تبدع» جديدًا، بعد جديد، في أثر جديد، خلال ذلك الجريان يموت ما يموت ومن يموت من أبنائها، فتلد الجديد، وضرب من المحال في عالم الأحياء أن يولد جديد ليكون صورة مكررة بكل حذافيرها وتفصيلاتها من سالفه، بدءًا من أوراق الشجر التي تسقط عن شجرها أثناء الخريف والشتاء، لينبت مكانها في الربيع أوراق جديدة، فصاعدًا إلى الإنسان كلما جاء ولد بعد والد، ولو كان الزمن لحظات متفرقات تتعاقب، وكانت الحياة أفرادًا متشابهة في كل نوع من أنواعها، تجيء خلفًا بعد سلف؛ لأمكن أن نغير في ترتيبها، فنأتي بقديمها ليكون هو جديدها، ونرتد بجديدها — ولو بمجرد الخيال — ليكون هو قديمها، لكن ذلك محال، وفي كل حالة من الحالات يجيء الحاضر الجديد أكثر امتلاءً بمضمونه من الماضي القديم.

وحتى لو فرضنا المستحيل، وهو أن تيار الحياة يسير بالأحياء من الممتلئ إلى الهزيل، ومن الغني بمضمونه إلى الفقير، لبقي لنا أن نقول إن الحاضر الهزيل الفقير إنما يكون أكثر أداءً لدوره الحيوي، إذا هو صنع لنفسه حياته بنفسه، و«أبدع» جديدًا لم يشهد الماضي مثيلًا له، وهذا «الإبداع» الذي فرضنا فيه الهزال والفقر إنما هو أرفع قيمة عند الحي المبدع من كمال صنعه سواه، وذلك لأن ما يصنعه إنسان لنفسه بنفسه يحقق له هويته ووجوده، في حين يبقى المستعار مستعارًا. انظر إلى طفل وهو يرسم بيده صورة لأي شيء يجتذب خياله، وقارن شعوره بذاته وبوجوده، بحالته إذا ما جئت له بصورة رسمها فنان عظيم، إنك إذا قلت له: اترك هذا الرسم الهزيل الفقير الذي صنعته، وخذ بديلًا له هذه الصورة في روعتها وكمالها! إنك إذا فعلت ذلك، صرخت «الحياة» كلها على لسان الطفل قائلةً: ابعد عني بهذا الباطل الذي تفوه به، فالكمال الذي بين يديك هو كمال صاحبه، قد أقتنيه فيكون عندي بعض ما أملكه، لكنه ليس إياي، فأنا فيما أبدعته، ويحكي طاغور — شاعر الهند العظيم — حكاية غنية بمغزاها، فيقول إنه شهد طفلًا جاء له أبوه الغني بطائرة صغيرة من بلد ما في أوروبا كان قد سافر إليه، والطائرة قد بلغت في صناعتها غاية الدقة، ثم شاءت المصادفة لذلك الطفل أن يخرج إلى الطريق العام بلعبته الأنيقة، وإذا بمجموعة من الأطفال مشغولة بالتعاون معًا على صنع طيارة من الورق، ولبث الطفل صاحب اللعبة الجميلة يرقبهم، حتى أوشكوا على الفراغ من صنع طيارتهم، فلم يسعه إلا أن يقذف بلعبته جانبًا ليشارك ولو بالقليل في استكمال ما تصنعه مجموعة الأطفال، حتى إذا ما فرغوا جميعًا من مهمتهم، وطارت في الهواء طيارتهم، وهم ممسكون بخيطها في أيديهم الصغيرة، أحس الطفل صاحب اللعبة الجاهزة، بنشوة لم يحس بشيء منها وهو يلهو بلعبته الأنيقة الجميلة، التي اشتراها له أبوه.

ومن هذا القبيل نفسه أذكر شيئًا كان كثير الحدوث في صباي، ولا أدري إن كان لا يزال قائمًا، وهو أن كتبًا كانت تُباع، فيها خطابات مكتوبة تصلح للمناسبات المختلفة، فيشتريها من يشتريها، حتى إذا ما جاءت له مناسبة ليكتب خطابًا، بحث في الكتاب عن صورة تصلح لمناسبته، لينقلها ويرسلها، وكذلك كان من المألوف الشائع في المدارس أن يحمل مدرس اللغة العربية تلاميذه على حفظ عبارات بعينها، ليدخلوها في إنشائهم … فقارن كل هذه النماذج الجاهزة مهما بلغت من درجات الجودة، وبين كلمات يكتبها صاحبها مملاة عليه من نفسه، مهما بلغت بدورها من درجات الفقر والهزال. أقول: قارن بين الحالتين، من حيث القدرة على تحقيق الذات وإثبات الوجود! كانت والدتي — عليها رحمة الله ورضوانه — لا تكتب، فلما ذهبت إلى الحج للمرة الأولى (فقد حجت سبع مرات) أرسلت إليَّ خطابًا مطبوعًا يباع جاهزًا، فلما عادت بسلامة الله من حجها، أبلغتها كم انقبضت نفسي لخطاب ليس فيه شيء منها، فقالت: وماذا كنت أصنع؟ أجبتها: كان خيرًا لي أن ترسلي ورقة بيضاء وعليها بصمة أصبعك. نعم، الفرق بعيد بين أن يكون في حياتك شيء منك، وبين أن تستعير صورة من حياة الآخرين، من المعاصرين أو من الغابرين، حتى ولو بلغت ما بلغته من درجات الكمال.

لقد كان من أروع ما لفت أنظارنا إليه، من حيث القوة الإبداعية في فطرة الإنسان، فيلسوف اللغة الرائد في عصرنا هذا «نوام تشومسكي» أن الطفل منذ المرحلة الأولى لتعلمه اللغة لا يقف عند حرفية ما يسمعه من الذين حوله، بل هو لا يلبث حتى يأخذ في التصرف الحر فيما قد سمعه، فقد تعددت التحليلات ووجهات النظر عند فلاسفة اللغة — والمعاصرين منهم بوجه خاص — فمنهم من يذهب إلى أن الطفل لا يعدو أن يحاكي ما يتلقَّاه من مفردات وتراكيب لغوية، فيتساءل تشومسكي — بحق — كيف إذن يُتاح للطفل، بعد قليل جدًّا من بدء تعلمه للغة، أن يُعيد «المعنى» المعين بعدة صور للعبارة التي سمعها تعبِّر عن ذلك المعنى؟ فمثلًا قد يسمع من يقول له: فلان أخذ لعبتك، فترى الطفل بعد ذلك يردد ما سمعه، ولكن بصور أخرى، إذ قد يقول: لعبتي أخذها فلان، أو لعبتي فلان أخذها، وهكذا إلى ما لا نهاية، ويطلق تشومسكي على هذه الخاصية «الإبداعية» في القدرة اللغوية، ثم يستطرد في تحليلاته العميقة الدقيقة، ليبين أن من أهم ما يميز الإنسان في مجال اللغة، هو سرعة اكتسابه ذوقًا خاصًّا في لغته، بحيث يعرف ابن اللغة ما يجوز وما لا يجوز استعماله من تراكيب لغوية، ومن هنا نرى الفرق بين ابن اللغة وبين الأجنبي الذي يتعلم تلك اللغة، فبينما ترى ابن اللغة قادرًا على تنويع التراكيب للمعنى الواحد بتذوق لغوي يفرق به بين ما يصح وما لا يصح، ترى الأجنبي الذي تعلم تلك اللغة مقيدًا بما سمعه أو قرأه، دون أن يكون له — إلا بعد ممارسة طويلة — ذلك الذوق اللغوي الذي يمكنه من التصرف المبتكر في حدود ما يجوز قوله عند أهل اللغة الأصليين. وبهذه المناسبة أروي قصة كنت سمعتها من المرحوم الأستاذ أحمد أمين، وهي أنه أرسل نسخة من كتاب له — لعله كان «ضحى الإسلام» — إلى أحد المستشرقين الكبار، فأرسل إليه الرجل خطابًا باللغة العربية يشكره على الهدية، خاتمًا ذلك الخطاب بعبارة يقول فيها: «أدامك الله لننتفع من خرَّارة علمكم»، فلم يكن له ذوق اللغة الذي يعرف به متى يجوز استخدام كلمة «خرارة»؛ إذ هي عنده كلمة مشتقة من الفعل «خر» ولا شيء أكثر من ذلك.

ولهذه القدرة الإبداعية التي أشار إليها تشومسكي في مجال اللغة، علاقة قوية — فيما أرى — بموضوعنا الذي نتحدث عنه، وهو وجوب أن يكون لكل عصر طابعه الخاص الذي يميزه من أسلافه، فإذا كنا قد أخذنا اللغة العربية عن أسلافنا، وليس لنا بديل آخر سوى أن تكون هي لغتنا التي نفخر بها ونفاخر، فلا بد لنا كذلك أن نمارس فطرتنا البشرية في الإبداع اللغوي، بحيث تجيء عبارتنا وقد تميَّزت بمذاق خاص، كما تميزت اللغة في العصر الأموي، أو العصر العباسي، عنها في العصر الجاهلي، مع أن اللغة في كلتا الحالتين هي هي، تلتزم قواعد معينة، لكن كان لكل عصر ذوقه المتميز.

معجزة الحياة في إبداعها، سواء أكان ذلك الإبداع — في المجال الإنساني — على مستوى الأفراد أم كان على مستوى الجماعات، وإن حيوية الإنسان في شتى جوانب حياته لتُقاس بمقدار ما أبدع، أعني بمقدار ما أضافه من ناتج جديد، أما الذي يحيا حياته محاكاة لحياة غيره — من السلف أو من الخلف على حد سواء — فهو إنما يحيا صورة باهتة لأصل كانت له قوته عند صاحبه.

لكن هذا القول لا يعني أن يقوم الفرد أو الجماعة كل صباح، ينقض كل ما تم غزله على أيدي سواهم، ليغزلوا هم الخيوط من جديد، لكي يقال إنهم مبدعون، بل يعني أن يضع الإنسان بين يديه — فردًا أو جماعة — ما استطاع أن يضعه من تراث السلف، ومن إنتاج المعاصرين، ليتمثَّل من هذا كله ما وسعت قدراته الهاضمة أن يتمثل لكي يعود فيُخرج منه إبداعًا جديدًا، فهذا هو ما حدث في كل حياة ثقافية ناهضة عندنا أو عند غيرنا، ولك أن تراجع في رويَّة وأناة ما صنعه العرب الأقدمون، إبَّان القرنين الثالث والرابع بالتاريخ الهجري «التاسع والعاشر بالتاريخ الميلادي»؛ لترى كيف كان على أطراف أصابعهم معظم ما أنتجته الإنسانية قبل ذلك من فكر وكل ما أنتجه أسلافهم العرب في العصر الجاهلي، ليكون هذا كله ماثلًا أمام عقولهم وقلوبهم، لا ليحفظوه حفظًا أصم، ويعيدوه مكرورًا بحروفه كالببغاوات؛ بل ليتمثلوه ولينتجوا هم بعد ذلك نتاجهم الأصيل، مشبَّعًا بذلك الزائد الوفير، ومعبرًا في الوقت نفسه عن ذوات أنفسهم، وإذا أردت مثلًا آخر، فراجع كذلك ما صنعته النهضة الأوروبية إبَّان القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وعندئذٍ ترى الصنيع نفسه، فلقد كانوا على إلمام واسع ودقيق بما تركه الأسلاف — أسلافهم اليونان والرومان، مع أسلافنا العرب — لا ليحفظوه حفظًا أصم «وأقولها للمرة الثانية»، بل ليمزجوه بخبراتهم المباشرة، ليخرج لهم بعد ذلك كله ثمر جديد.

ولماذا لا نضيف إلى تلك الأمثلة التاريخية الكبرى، مثلًا محليًّا من حياتنا نحن خلال المائة العام الأخيرة، فيما قبل هذه المرحلة الراهنة التي نجتازها، فقد كنَّا على وعي شديد بضرورة أن نلم أوسع إلمام ممكن بتراثنا وأوسع إلمام ممكن بما ينتجه الغرب؛ ليمتزج الرافدان في نهر واحد، نملأ أكوابنا منه، فإذا نحن قد أصبحنا أكثر قدرة على إبداع شيء جديد.

إن أفتك ما يفتك بالطاقة الإبداعية في أصحاب المواهب، هو أن تُوضع أمامهم نماذج العباقرة من أسلافنا وأسلاف غيرنا، لا ليستلهموها جديدًا يبدعونه هم، بل ليضعوها من أنفسهم موضع التقديس فيجلسوا أمامها فاغري الأفواه من دهشة الإعجاب، إنهم في هذه الحالة ليكونون أشبه شيء بمن جلسوا في مسرح يشاهدون رواية عظيمة التأليف يقوم بتمثيلها كبار الممثلين القادرين، أما هم — أعني المتفرجين — فجالسون في الظلام، وأما الممثلون فهم وحدهم الذين تنصبُّ عليهم الأضواء القوية، فيخرج المتفرجون آخر الأمر وقد كادوا ينسون أنهم أحياء؛ إذ لم يعد يملأ خيالهم إلا من شاهدوهم من الأبطال.

كان للفيلسوف البريطاني «هوايتهد» في ذلك ملاحظة لطيفة، إذ سُئل مرة: لماذا أخرجت جامعة كيمبردج عددًا أكبر ممن أخرجتهم جامعة أكسفورد من أدباء وشعراء، مع أن المعروف هو أن كيمبردج تغلب عليها نزعة العلوم، في حين تغلب على أكسفورد نزعة الآداب؟ فأجاب هوايتهد «وهو نفسه خريج كيمبردج في العلوم الرياضية» قائلًا: إن علة ذلك هو أن دارس الآداب في أكسفورد توضع أمامه نماذج العمالقة من الشعراء والأدباء في جو يوهمه بأن هؤلاء العمالقة كقمم الجبال العالية التي يتعذَّر الوصول إليها، فيحدث أن تشلَّ في الدارس موهبته إذا كان من أصحاب المواهب. وأما دارس العلوم في كيمبردج إذا تصادف أن كانت له موهبة الإبداع الأدبي، فإن موهبته تنمو وتبدع دون أن تعرقلها العراقيل.

أليس مما قد يفيدنا أن نسأل: لماذا كثرت العبقريات العربية في شتى ميادين الفكر والأدب إبَّان القرون الخمسة الأولى من التاريخ الإسلامي، لتقل بعد ذلك بصورة تلفت النظر؟ ففي تلك القرون الخمسة ظهر أعظم الفقهاء على الإطلاق، وأعظم الفلاسفة وأعظم علماء اللغة، وأعظم الشعراء وأعظم الناثرين، وعدد ملحوظ من أعظم المتصوفة ومن أعظم النقاد ومن أعظم رجال العلوم الطبيعية، ثم جاءت بعد ذلك قرون أربعة غلب عليها «التجميع»، أعني تجميع ما كان قد أبدعه عباقرة الفترة السابقة، وأما بعد ذلك فتكاد لا ترى إلا تكرار المحاكاة.

وقد يكون التعليل لتلك الظاهرة هو أن عباقرة القرون الخمسة الأولى لم يكن لهم سابقون من أسلافهم، بلغوا من الضخامة في ميادينهم حدًّا من شأنه أن يخيفهم، بحيث يؤثر في ثقتهم بأنفسهم، اللهمَّ إلا في ميدان واحد، هو ميدان الشعر؛ إذ لبث الشعر الجاهلي هو الذي يقيم للشعراء مقياس فحولة الشعر، ولهذا أبدع عباقرة القرون الخمسة الأولى ما أبدعوه وهم أحرار من المعوقات النفسية، وأما بعد ذلك فكلما نشأت موهبة في أي ميدان كان لسان الحال كأنه يصيح في وجه الموهوب قائلًا: أين أنت من هؤلاء؟! فتضعف قواه وتفترُّ همته.

وبعد هذا الذي قدمته فلننظر إلى المرحلة الراهنة التي نجتازها، ولست أظن أن المتتبع النزيه لحياتنا الفكرية يستطيع أن يتغافل عن شيء من شلل المواهب في ميدان الفكر الاجتماعي؛ إذ علت الصيحة التي تنادي بأن يكون لنا من نماذج الماضي وحدها مصادر الهداية، أما في غير هذا الميدان فقد تُركت للمواهب حرية الإبداع إلى حد معقول، فأمكن فيها أن نساير الزمن بعض المسايرة، ففي ميدان السياسية نتحدث عن أفكار ونظم لم يكن للسابقين عهد بها، وفي ميدان التعليم نتحرك في إطار ليس هو الإطار الذي كان فيما مضى يقام فيه التعليم، وفي مجالات الفن والأدب نشأت صورٌ جديدة جاءت في معظمها صدًى لما نقلناه عن الغرب، وفي ميادين العلم والصناعة وغيرها وغيرها، سايرنا العصر بالقدر الذي سمحت به قدراتنا وظروفنا، إلا ميدان الفكر الاجتماعي، فبعد أن استطعنا في النصف الأول من هذا القرن أن نزيح عنه جانبًا من القشرة الجامدة التي كانت تغلفه وتسد عليه الطريق، عُدنا بعد هزيمة ١٩٦٧م بصفة خاصة إلى الحيلولة بينه وبين روح العصر، وقد يكون في هذه العودة شيء كثير من الرغبة في تحصين هويتنا حتى لا تنهار جدرانها، فتنجرف في تيار غيرها، فتضيع، لكن هذا الفرض نفسه حتى لو صدق؛ لا يمنع أن يكون مجال الفكر الاجتماعي عندنا قد جمد، بل تراجع إلى الوراء بخطوات سريعة، ويُخشى أن يكون للتخلف في هذا الميدان الحيوي أثره في الحد من قوة الإبداع فيه وفي غيره، ونُصبح كالدمى، لا تحركها أيدي الأحياء، بل يحركها سحر الموتى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤