الفصل الرابع

حنانيك قارئي

إجابة عن استفسار قارئ لموضوع الدولة الوهم.

كتب قارئ لموضوعي المنشور هنا بعنوان «الدولة الوهم» ما هو آت:

«إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء.» قالها عبد المطلب بن هاشم، وهو يشير إلى أبنائه وحفدته. لقد استهل الدكتور القمني كتابه «الحزب الهاشمي» بهذا الاقتباس؛ أعتقد بعد هذه المقالة أن الدكتور سيد القمني — إن كان هو كاتب المقال حقًّا — قد تأهل بجدارة للعودة للكتابة في مجلة روز اليوسف. أين هذا المقال مما قدمه الكاتب من فكر في روائعه ﮐ «حروب دولة الرسول» و«الحزب الهاشمي»، لا أعلم كيف يستقيم هذا المقال مع فكر الكاتب. أقول للدكتور القمني أنت مديون لقرائك بتفسير لهذه الرؤية الجديدة. (انتهى تعقيب القارئ.)

وأجيب:

بنعم، أنا مدين للقارئ بتفسير، خاصة إذا كان هذا القارئ ممن لا تتيح لهم الظروف متابعة كل ما أكتبه، فأولًا هناك ما سبق أن كتبته ونشرته وبعد سنوات من البحث والدرس أعلنت تراجعي عن بعض النتائج التي وصلت إليها، كما حدث بالنسبة لكتابي النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، وعودتي عن بعض ما وصلت إليه فيه، وإعلاني عن هذا التراجع بأدلة وقرائن جديدة تشير إلى نتائج تخالفه، وذلك في كتابي النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة.

لقد بدأت يا سيدي وأنا شديد التعلق بالفكرة الماركسية بكل ما يتضمن تحتها من عناوين، فإذا الدنيا كما ترون، وإذا بنا نعلم ما لم نكن نعلم، لأتحول عن كل ألوان الفلسفات الشمولية إلى العلمانية الليبرالية؛ لأن مبدأ «الثبات على المبدأ» قد أثبت أنه أحد وأكثر القيم بطلانًا. وهكذا حال العلم وهكذا حال طالب العلم، هو على استعداد دائم لتغيير يقينياته، بل هو في نضجه لا يعمل تحت مظلة أي يقين، ورغم ذلك فإن العلم ذاته يفرض المنهج المادي الماركسي في قراءة التاريخ كمنهج لا يزال صالحًا للاستخدام ولا يزال أحد أدواتي المعرفية.

كنت يا سيدي في مرحلة من عمري شديد العنصرية وكتبت موضوعات قاسية بل وفاشية بامتياز ضد اليهود، فقط لكونهم يهودًا، كنت أحمل لهم عداءً سحريًّا غريبًا ممزوجًا بفكرة الاستيلاء على أراضينا في فلسطين وفطير فصح صهيون المعجون بدماء أطفالنا، دون أن نراجع نحن أنفسنا وتاريخنا من هذه القضية؛ وهكذا كنت ضمن السرب أسرب مع القطيع القومي، فناقشت التراث اليهودي من منطق منحاز وعدائي سلفًا، وهو واضح بشدة في كتابي: «الأسطورة والتراث»، خاصة في باب الأساطير التوراتية. وقد أعيد طبع هذا الكتاب عدة مرات، لكني لم أعدل ولم أبدل فيما سبق ونشرت لأن هذا حق الناس والقراء، يجب أن يظل كما هو ليشير إلى مراحل تطور الكاتب دون تزويق وإعادة تبرير أو إعلان أسف، هي مرحلة تلتها مراحل واضحة فيما كتبت بعدها، لتشكل جميعًا علامات لمصلحة الكاتب أو ضده في الامتحان أمام القارئ المتابع.

وفي كتابي: الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية وكتابي حروب دولة الرسول قلت إن الجانب المادي من الدعوة كان هو إقامة دولة تجمع شتات عرب الجزيرة تحت راية الدين الإسلامي، وبريادة من قريش، وبالذات البيت الهاشمي من قريش، وسعى هذا البيت للرئاسة في مباراة مع البيت الأموي، حتى حسمها الهاشميون بإعلان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي أنه نبي من السماء.

وفي ظل هذا المعنى تابعت الدعوة من بدايتها إلى نهايتها في كتاب هو سفر ضخم «الإسلاميات» يأخذ شكل كتب السير، لكنه المتفرد باعتماد الواقع وحده محركًا للأحداث، السياسة والمجتمع والاقتصاد والعادة والتقاليد … إلخ. كانت إرادة العرب التجمع القومي في دولة، عملت قريش عليها من زمن، وقد تلاقت إرادة العرب مع إرادة السماء، لكن الواقع كان يقول شيئًا آخر، فقد ظلت هذه الدولة دولة قبائل؛ فهي تجمُّع بدائي لقبائل تنضوي تحت رئاسة قبيلة سيدة، وظل كل شيء ما عدا ذلك على حاله. الدول حتى اليوم درجات وأصناف، فهناك دولة أمريكا وهناك دولة جزر القمر وهناك دولة الصومال، فهل يستوون؟ وهناك الدولة السعودية التي أقامها ابن سعود بحلفه مع ابن عبد الوهاب والإنجليز، ولم تزل حتى اليوم تعاني من قبلية تؤخرها عن منظومة الدولة المعاصرة بالمعنى العلمي لكلمة دولة.

هذا ناهيك عن كون المطروح علينا اليوم من الفصائل الإسلامية كافة هو إقامة دولة دينية إسلامية، وهو ما يستدعي شحذ كل الردود العلمية الممكنة لترجيح كفة الدولة المدنية. ولعل أساس هذه الردود يكمن في التأكيد على أن دولة الرسول كانت دولة تليق بزمانها ومكانها، كانت دولة بالنسبة إلى حالة العرب في الجاهلية الأولى والجاهلية الثانية، دولة لم يكن لها جيش إنما كانت تُجيِّش باستدعاء القبائل لتأتي برجالها ونسائها وأطفالها وخيلها وبعيرها وسلاحها الخاص وتسير كل قبيلة تحت رايتها الخاصة، مثل هذه الدولة لا يمكن تسميتها دولة إلا قياسًا على حال جزيرة العرب آنذاك، دولة بلا شرطة ولا محاكم ولا هيئات إدارية ولا تراتب وظيفي هيكلي هرمي، دولة بلا هذا كله تسمى دولة من باب المجاز فقط قياسًا على زمانها، لكنها بمقاييس العلم هي مرحلة انتقالية من البداوة إلى الدولة لم تكتمل عناصرها حتى اليوم؛ لذلك عندما أرفضها كنموذج لدولة مطلوبة اليوم من الإسلاميين، أكون في مكاني لم أبارحه، ولم أغير رؤيتي لتتفق مع مطالب الحكومة كي تسمح لي أن أكتب في روز اليوسف مرة أخرى كما رأى القارئ الكريم، فأنا لست من موظفي روز اليوسف ولم أكن كذلك يومًا، وإنما أكتب من بيتنا لمن أشاء وأمنع عمن أشاء، وهو المنع الذي قررته مع روز اليوسف بعد موقف هيئة تحريرها الجديد مني إبان أزمة توقفي عن النشر، وليس المسألة بالعكس يا قارئي المحترم. قليل من حسن الظن بكاتبك يخلق توحدًا ليبراليًّا مطلوبًا. كنت أكتب لروز أيام كان محمد عبد المنعم رئيس تحريرها، وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا معه؛ فهو مع من يعرفه يتخلق بأخلاق اللوردات، ومن كان يكتب لرئيس تحرير لورد يصعب عليه أن يكتب لشخص في حجم وتفاهة عبد الله كمال. وها هي مجلته بعد توقفي عن الكتابة لها تعود بأعدادها سالمة من غير سوء أو «سوق» للمطبعة؛ لأن قرائي المحترمين كانوا أكثر تفهمًا وقرروا مساندتي بمقاطعة المجلة مثلما قاطعتها، دونما اتفاق ولا اجتماعات ولا لجان ولا هيئات. وشكرًا لك أيها القارئ لتنبيهك الشاك المشكك الذي أضرب عنه صفحًا احترامًا لك، فأنا أكتب لك وأستمد ما أكتبه منك، من أجل وطن أتمناه أنا وأنت، وطنًا عزيزًا يعيش فيه مواطن كريم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤