الفصل السادس

إنهم يغشون القيم

إذا كان ممكنًا كسر قيمة «الوفاء بالعهد» لأهداف سياسية ودنيوية؛ فهو أمر معتاد في الشأن السياسي والعسكري، تفعله الدنيا كلها كلما تعارضت المصالح مع العهود بتطور الأحداث بعد العهد. لكن أن يكون هذا الكسر من الدين، ويتم في سبيل الله؛ فإنه يصبح بالإمكان كسر كل القيم في سبيل الله، ومع تعدد الفرق الإسلامية والمذاهب، تتعدد الطرق لهذا السبيل، حتى يكاد يكون تفسير شخص واحد تفسيرًا للدين كله، ويمكنه تفعيل هذا التكسير للقيم من أجل مصالحه الذاتية الشخصية، بحسبانه مسلمًا الحق كله في جانبه؛ وبتفعيل ذلك وتوزيعه على مساحة الكاسرين لقيمة الوفاء بالعهد في سبيل الله، لن تجد على أرض الواقع شيئًا بالمرة اسمه الوفاء بالعهد. وعليك دومًا أن تتربص بالجميع حولك مهما كتبت من عهود؛ فالكل جاهز لنقض عهده في سبيل الله. لهذا أصبح حال الأخلاق في بلادنا ما نراه من انهيار قيمي حاد ومخيف، رغم انتشار الحجاب والنقاب واللحية والزبيبة في كل شارع وحارة، والقرآن يغمرنا والحديث يسمرنا، والشريعة بالمادة الدستورية الثانية تظللنا، والبسملة قبل كل كسر لقيمةٍ بابٌ مشروع في سبيل الله تتبعها الحوقلة. وإعمالًا لذلك، وضع فقهنا الأصول لعدم احترام العهود في بنود هي كالآتي:
  • لا تزيد مدة المصالحة على أربعة أشهر، وإذا زادت لضرورات فلا تجوز الزيادة على عشر سنوات، فلا بد أن تكون المصالحة معلومة محددة لأن تركها من غير تقدير يُفضي إلى ترك فريضة الجهاد.

  • تكون المهادنة والمصالحة لضعف طرأ على المسلمين؛ لذلك تُحدد مدتها إلى أن يزول سبب الضعف.

  • إذا كان المسلمون في حال الضعف رُخِّص لهم في الموالاة إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة المعاشرة الظاهرة، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع.

  • الدعوة إلى السلم بمعنى ترك الحرب نهائيًّا كفر بالله مُخرِج عن الملة لأن الأصل في العلاقة بين المسلمين والكافرين هو القتال، وأن الاستثناء فيه هو السلم في هدنة أو صلح مؤقت، ولا يتم اللجوء إلى هذا الاستثناء إلا لضرورة عجز أو ضعف أو نحوه.

(مالك، ١، ٢٨٩. الطبري وابن كثير والقرطبي في تفسير آية ٣٥ من سورة محمد، وآية ٥ من سورة التوبة، وآية ٢٨ من سورة آل عمران)

تعالَوا نترك الفقه القديم إلى الفقه المعاصر، نستمع إلى الرجال الهامات والعلامات ذوي القامات الأبرز في الهيئات الإسلامية المعاصرة، الذين لا شك يمثلون القيم كأفضل ما تكون النماذج. منهم مثلًا الدكتور أحمد الريسوني، الخبير بمجمع الفقه الإسلامي الدولي، الذي يرى أننا لسنا بحاجة إلى الديمقراطية، و«أن معظم الدول الإسلامية قد أصبحت لها مؤسسات شورية، إضافة للمجامع الفقهية الدولية»، هذا بينما يرى «الديمقراطية نظامًا أو تنظيمًا إداريًّا لا يمكن أن نحل به مشاكلنا، الديمقراطية فيها عيوب معروفة، لقد جُردت من الأخلاق، ونحن إذا مارسنا الديمقراطية فيجب أن نصحح الديمقراطية، فتكون ديمقراطية الأخلاق، ديمقراطية الصدق لا ديمقراطية الكذب، ديمقراطية الإخلاص لا ديمقراطية الغش، ديمقراطية الوضوح والصراحة، لا ديمقراطية التلاعب والتناور» (برنامج الشريعة والحياة، الجزيرة، حلقة رأي الأكثرية في الشريعة الإسلامية). وهو الكلام المؤدي في النهاية إلى تحريض المسلمين ضد الديمقراطية لأنها تتنافى وقيمنا وأخلاقنا!

وقيمنا (قيمنا وحدنا فيما يبدو) هي مثل الصدق والإخلاص والوضوح والصراحة … إلخ من جماليات أخلاقية راقية، نتحدث عنها لكنها غير موجودة بالفعل في أرضنا، حتى إن ناصحنا الأمين الدكتور الريسوني قد مارس في عبارته القصيرة تلك كل ما هو كذب وعدم وفاء مع انعدام تام للصراحة والوضوح، فما بالك برجل الشارع المسلم الاعتيادي إذا كان هذا شيخه الفقيه الخبير؟!

نعم لقيم المصارحة والمكاشفة والمصالحة، لكن مشايخنا لا يعنون ما يقولون. لإعادة قراءة تاريخنا قراءة علمية منصفة لا تغالي ولا تفرط ولا تبالغ ولا تبخس، تقرؤه كما كان، على أن نقرأه بعقلين؛ عقل زمانه لنحترم توافقه مع زمانه، وعقل زماننا الذي لا تصلح معه ظروف مكان وزمان سحيقين في القدم والبدائية. نعم لدرس تاريخ الإسلام، ليس بقصد اجترار وإعادة مضغ أو فخر برجال ليسوا منا بل كانوا لبلادنا فاتحين ولعرضنا منتهكين ولأموالنا ناهبين ولأوطاننا محتلين، بل لنحدد موقفنا من أنفسنا، ومن الدنيا عبر هذا التاريخ، لنعيد تأسيس حاضرنا على أعمدة راسخة تحددت فيها المفاهيم ووضحت المصطلحات من أجل فلسفة قيم تليق بزماننا الذي يحتاج إلى فعلنا ووجودنا فيه، بأدواته وأساليبه المحدثة، ليكون لنا مكان في الزمن الآتي، بعد أن أصبحنا — شئنا أم أبينا — في معظمنا شعبًا مسلمًا يتحدث العربية.

إن الوهابية السعودية عندما أعادت فتح البلدان من حولها وبخاصة مصر، جاءتنا بدين جديد لا يعرف المذاهب المتعددة والآراء المختلفة رحمة بالمسلمين، دين هو وحده المؤمن بالله دون بقية المسلمين، وهو وحده الخلف الصالح للسلف الصالح، هو إنسان وديع مسالم، هو خلف السلف الذي فتح بلادنا ليخرجنا من الظلمات إلى النور، ولا تعلم هنا هل كان من ضرورات هذا الانتقال نحو النور، ومن لوازمه، هتك أعراضنا ونكاح نسائنا وذل رجالنا واسترقاق أطفالنا ونهب أموالنا، مع القتل في شكله المفرط، ثم الاستيطان في البلاد الموطوءة بالفتح؟

المسألة هنا تتعلق بالقيم، والقيم تتفاوت بتفاوت المجتمعات على سُلم القيم؛ لأن هتك عرض المهزوم وإذلاله كان من فضائل القيم البدوية ومن مكارمها، لإرهاب من يليهم من بلدان سلفًا، اضرب المربوط يخاف السايب، استباحة دير ياسين أدت إلى هروب الفلسطينيين من بلادهم أمام اليهود، ومذبحة قريظة في الحجاز أدت إلى رعب القبائل الأخرى ووفودها للمدينة تعلن الولاء، السؤال مرة أخرى، هل كان ضروريًّا لنشر دين الله أن تُسبى جدَّاتنا لتوزع حتى وصلت سبايانا لذة لأهل اليمن، بينما كانت جيوش المسلمين لا تزال عند بلهيب بالدلتا. هل كان من لزوم نشر الدين أن تخطفوا حريم بيت جدي لتنكحوهم في أرضكم المقدسة؟ لقد كان الفتح والنهب والنكح والإفراط في القتل عوامل تمكين حقيقية للقوة الطالعة، ولم يكن الدين هو هدف هذا الفتح ولا مبتغاه.

هؤلاء القوم وأسلافهم هم سدنة البيت الأموي السني حتى اليوم، وكما فتحوا بلادنا ونهبوها وأخرجوها من دائرة الفعل الحضاري، هم وسلفهم من كانوا الحجر الكئود في حياة نبيهم ، وبعد موته ظلت النقمة على بيت النبي الهاشمي، ظل بنو أمية يرددون شعر ابن الزبعرى بلسان يزيد بن معاوية:

لعبت هاشم بالنبوة فلا
مَلَك جاء ولا وحي نزل

وعن هذا اليقين قضوا على آل بيت النبوة دون أي شعور بالإثم بل أبادوهم من الوجود حتى الصغار الرضع من البذرة الطاهرة تم ذبحهم، وسبوا نساء هذا البيت الطاهر وصادروا أموالهم ومثَّلوا بجثامينهم، وهتكوا عرض بنات الصحابة ونسائهم عندما استباحوا مدينة رسول الله، ودمروا الكعبة وحرقوها رميًا بالمنجنيق، وتخلصوا من مخطوطات القرآن العديدة التي حرص على تدوينها صحابة أجلاء كعبد الله بن أُبيٍّ وكعبد الله بن مسعود والإمام علي … إلخ، فأحرقوا صحائف القرآن ليدونوا المصحف العثماني تحت إشرافهم وحدهم، وعندما اعترض كبار الصحابة على ما يفعلون بكتاب الله العزيز نُكِّل بهم أشد التنكيل، منهم من أمر الخليفة بضرب أضلاعه بالأرض حتى تهشمت، ومنهم من ضربه الخليفة بنفسه «بالشلوت» فأصابه الفتق، والروايات كثيرة، وكلها مخجل محزن مؤسف.

هؤلاء القوم باعوا الدين مبكرين للسلطان ولا تعلم كيف يصدقهم المسلمون اليوم ويتبعونهم، في خيانة كارثية للإسلام ونبيه رغم أن الجميع يعلم بما حدث، وأن الخلف المشيخي السلطاني، أو الإمامي الخليفي، يحدثنا اليوم بلسان ذلك السلف العربي الذي ركب الإسلام، في تواطؤ فضائحي يشير إلى خلل عميق في معايير القيم لدينا. المصيبة أن هؤلاء في نظر العوام من يمثلون الإسلام، بينما يصبح قدحنا فيهم كفرًا بالإسلام. أترون إلى أين وصلوا بنا؟ حتى قبلنا الخديعة في ديننا وتواطأنا معهم ومعها، في فعل فضائحي علني، وعقد نكاح باطل غير شرعي بين المسلمين ومشايخهم، لم يقم على الكتاب والسنة، بل على خيانة الكتاب والسنة علنًا جهارًا نهارًا بيانًا، ليس فيه من الشريعة سوى الإشهار الفاضح.

يقول الرجل الصادق الدكتور الريسوني إن الشورى مثل الديمقراطية في مسألة ترجيح رأي الأغلبية على رأي الأقلية؛ لأنها «مسألة فطرية … والإسلام فطري يقبل الأمور الفطرية ويبني عليها ويؤسس شريعته». وذلك لأن «الديمقراطية جزء من الشورى … هي أداة ووسيلة تنظيمية، أما الشورى فعقيدة وخلق وسلوك وثقافة» (الحلقة نفسها).

إن محاولات تلبيس الإسلام بمفاهيم ومصطلحات بنت زماننا، كثيرًا ما تضر بالدنيا وبالدين، ناهيك عن تشكيكنا في الأغراض الحقيقية لفقهاء زماننا إذ يكذبون علينا هكذا بشديد الخفة والبساطة دون أن يرفَّ لهم جفن.

السيد الدكتور يعلم أن الإسلام على المستوى السياسي لا يعرف شيئًا اسمه أقلية أو أكثرية، أنت مسلم أو غير مسلم، وليس هناك وسط بينهما ولا درجات، والأقلية المسلمة كانت خير أمة أخرجت للناس دون الأكثرية في كل الدنيا، تاريخنا السياسي الإسلامي لا يعرف أقلية وأكثرية، لا يعرف حكومة ومعارضة، بل يعرف إجماعًا مطلقًا فقط عادة ما يلتقي بالوساطة المشيخية مع إرادة الحاكم، وعداه لا يسمى معارضة ولا أقلية، إنما ردة بالخروج على الإجماع يكفر بها صاحبها ويستحق القتل ذبحًا.

الإسلام لا يعرف منافسة سياسية على السلطة بين الأكثرية والأقلية؛ لأن الحديث المنسوب إلى النبي يقول: «من خرج يدعو لنفسه أو لغيره وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله فاقتلوه.» و«إذا بويع لخليفتين فاقتلوا أحدهما.» الحل البدوي هو القتل فهو لا يترك المهزوم معارضًا، الصراع صفري دومًا: إما أنا وإما أنت! ولا وسط! قابيل عندما رفض الرب خضرواته التي قدمها له قربانًا، واستطاب اللحم قربان أخيه هابيل، لم يحاول أن يسأل نفسه عن سبب رفض الرب لقربانه، ولم يحاول أن يطرح على نفسه وسائل أخرى قد يقبلها الرب، فيجرب ويحاول مرة تلو أخرى حتى يحقق مراده، إنما على الفور قتل ربع الإنسانية حينذاك ممثلة في أخيه هابيل، قصة بدوية صفرية الصراع، لا حل عندها للمشاكل سوى إزالة العقبات بالقتل، نتعلمها في الطفولة لتصبح لنا مثلًا ومنهجًا عند اليفوع. كل شيء أو لا شيء، أنا أو أنت!

عرب إسلامنا لم يعرفوا في جزيرتهم المتبدية شيئًا اسمه انتخابات؛ فالدكتور الريسوني يشرح لنا الفرق العظيم بين ديمقراطية الغرب وشورى الإسلام بقوله: «الشورى حسب أحد الفقهاء المالكية هي: على الأمير أو السلطان أن يستشير قادة الجند فيما يخص الحرب والقتال والسلم، وما إلى ذلك، وأن يستشير وجوه الناس في مصالح الناس، وأن يستشير الكتاب في مسائل الإدارة … إلخ» (الحلقة نفسها).

وهكذا نجد الأمير أو السلطان قد تسلطن أصلًا دون أي دور لهذا الشيء المسمى شورى في سلطنته، ومعلوم أن البيعة شقيقة الشورى في النظام السياسي الإسلامي، هي عقد إذعان وإعلان ولاء للنظام، الذي تسلطن مسبقًا وجلس يطلب من المسلمين الاعتراف بسلطانه، كذلك كانت معظم الولايات في تاريخنا تقع تحت بند خلافة المتغلب؛ أي الذي غلب الناس بسيفه وعسكره وشوكته.

وهكذا تصبح البيعة والشورى عملية إكساب شرعية لنظام غير شرعي وليست العكس، ولا علاقة لها برأي أغلبية ولا أقلية، ولا تعرف شيئًا اسمه الترشيح أو المنافسة أو الانتخاب أو حتى الاختراع العروبي الثوري المسمى استفتاء.

وبعد أن يتسلطن المتغلب ويأخذ الشرعية يسوق الناس لبيعته بالزواجير، وهو ما حدث في أخذ بيعة الإمام علي والهاشميين لأبي بكر قهرًا، «من قهر الناس بجنده وتغلب عليهم بشوكته، لا يبيت المسلم مسلمًا وهو لا يراه أميرًا له.» هذا حديث آخر منسوب إلى النبي ما أنزل الله به من سلطان لشرعنة اللاشرعية، ولكن بحجة وأد الفتنة فقط.

وبعدما يتسلطن المتغلب ويحشر الناس لبيعته، ويأخذ الشرعية بالرضا الكهنوتي، قد يستشير أهل العلم في الدين، وقادة الجند في القتال، وقد يستشير الكتاب في الإدارة. الدكتور الريسوني لكثرة ما طال به العهد وسط كتب التراث تحول هو نفسه إلى تراث مُعلَّب، ما زال أسلوب الحكم عنده هو سلطة واحدة وخليفة واحدًا يدير كل شئون الإمبراطورية، لكنه خليفة ديمقراطي يشاور وجهاء سلطنته في كل شأن.

ويبقى السؤال يحيِّرنا حول معنى لقب دكتور ولقب مستشار ولقب فقيه وكلها صفات السيد الريسوني. ووجه الحيرة قوله مع كل هذه الألقاب السنية إن الأخذ برأي الأغلبية مسألة فطرية وإن الإسلام مع هذا المبدأ لأنه دين الفطرة. بينما ما حدث في تاريخنا أن المستبد الحاكم ممثل الأغلبية بحكم شرعيته الدينية، ما كان يسمح أصلًا بظهور أقلية أو معارضة، وحتى عندما كانت تثبت تلك المعارضة وجودها، فذلك لأنها صارت في موطنها أكثرية كالمذهب الشيعي في إيران والعراق مثلًا. أو ليشير لنا الدكتور في تاريخنا عن هذه المعاني، هو يعتمد الشورى فقط، وهو شأن يعني طلب النصيحة ولا علاقة له بالديمقراطية كمنظومة سياسية حقوقية، هو شيء أقرب إلى المهلبية منه إلى الديمقراطية.

ولا يجد الفقيه الريسوني حرجًا عندما يأخذ برأي الأغلبية ليؤسس عليها شرعيته؟! أي حديث هذا؟ وأي عبث ذاك؟ إذا كان القانون الذي سيحكمنا هو الشريعة، والشريعة التي هي من عند الله، ولم يستشرنا ربنا عندما وضعها لنا ولا أخذ رأي أحد فيها ولا حتى أنبيائه، فما المعول على الأغلبية هنا؟ ماذا سيكون دورها، وكيف سيكون هذا الدور مع شريعة هي أوامر ونواهٍ لا مجال فيها لرأي ولا استفتاء ولا أقلية ولا أكثرية، فلا اجتهاد مع نص ولا إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة؛ ومن ثَم لن يبقى من الديمقراطية شيء، إنما تبقى الشورى التي تلائم ظروفنا وديننا، سيستشيروننا إن شاء الله في الشئون التي تخرج عن دائرة الدين، فإذا كانوا قبل أن يحكموا جعلوا كل شيء داخل دائرة الدين، فما هو شأنهم يوم يركبون الكراسي الكبيرة؟

والمعلوم أن الإسلام قد بدأ مع مسلمين أقلية فانحاز للأقلية مبكرًا، ودعمها وخصَّها بالخير وذم الأكثرية ودمغها بالشر؛ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ (الأنعام: ١١٦)، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ (الأنفال: ١٩)، قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (المائدة: ١٠٠)، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا (التوبة: ٢٥)، مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (المائدة: ٦٦)، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء: ٧٠)، وَقَالَا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (النمل: ١٥)، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (الحديد: ٢٦)، ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (المائدة: ٣٢)، وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ (المائدة: ٦٢)، وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ (الأنعام: ١١٩)، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ (الأعراف: ١٧٩)، إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ (التوبة: ٣٤)، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (يونس: ٩٢)، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (الروم: ٨)، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ (البقرة: ٢٤٩)، إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (البقرة: ٢٤٣)، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (الرعد: ١)، فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (الإسراء: ٨٩)، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الروم: ٣٠)، وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (المائدة: ٥٩)، نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (البقرة: ١٠٠)، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (آل عمران: ١١٠) …

ورغم تحوُّل المسلمين إلى أكثرية فيما بعد؛ فإنها ما زالت تقوم بدور الأقلية المطهرة كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وهي التي اختارها الله خير الأمم، ومهمتهم تحويل هذه الكثرة المخالفة إلى الإسلام؛ فالأقلية هي الطيبة المتسامحة التي يقع عليها الاضطهاد وعبء الدعوة والجهاد؛ لأنها الصواب المسلم. والحقيقة أنها ليست أكثرية ولا أقلية بما نفهمه منها الآن، ولا علاقة لها بمعنى الأقلية والأكثرية السياسية، هي شأن ديني طائفي خالص، وعندما كان الشأن واضحًا كشأن سياسي تمامًا زمن الرعيل الأول، لم يحدث أن تم تفعيل مبدأ الأكثرية، فقد اختار أبو بكر الحرب على أهل الردة رغم معارضة أكثرية الصحابة وعلى رأسهم عمر، واختار عمر عدم الخروج على رأس الجيوش وأناب عنه قواد الفتوح، رغم استشارته لعشرة من الصحابة فقال تسعة منهم بوجوب خروجه على رأس جيوش المسلمين، وواحد فقط (عبد الرحمن بن عوف) قال ببقائه في المدينة، فأخذ برأي الواحد، والأمثلة أكثر من الحصر.

هناك لون آخر من الكذب لا يلجأ إلى تلبيس المفاهيم، إنما هو يكذب بشكل «قارح» على نفسه وعلى تراثه وعلى المسلمين المفترض أنهم يأمنونه على دينهم وأخلاقهم.

الدكتور فيصل مولوي الأمين العام للجماعة الإسلامية الدولية، مشغول مثل كل زملائه فقهاء أو دعاة أو جماعات بإقامة دولة إسلامية معاصرة؛ فهو يؤمن بالمعارضة كحل لتخلفنا وضعفنا، لكنه لا يريد أسباب القوة المعاصرة، من عصرنا، يريدها من تراثنا، من عصر مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرنًا؛ لذلك يفرض على هذا التراث مفاهيم لم يعرفها العالم إلا قبل قرنين أو ثلاثة من الزمان، لا لشيء، إلا لحشر الإسلام في كل شيء.

يواجه مولوي هنا معضلة وجود مواطنين غير مسلمين في الدول المسماة إسلامية، وأن الإسلام يفرض عليهم الجزية، وأن الجزية انتقاص من المواطنة؛ فالمواطن يدفع ضريبة الجزية بسبب اختياره دينًا غير ما ارتضته الدولة لنفسها. وبسبيل إثبات حداثة الفكر الإسلامي السياسي، يتنكر مولوي عن قصد لمعلوم من الدين بالضرورة فيقول: «ليس هناك مبرر لأن تفرض الجزية على هؤلاء؛ لأن الجزية تفرض بعد حرب ولا تفرض بعد اتفاق، ومع ذلك حتى بعد الحرب، ربما يحصل صلح بين المسلمين وغير المسلمين ولا تكون فيه جزية، وقد حصل هذا أيام عمر بن الخطاب «رضي الله عنه» عندما أراد المسلمون أن يفتحوا بلاد النوبة ولم ينجحوا فيها، فصالحوا أهلها بغير جزية» (المواطنة في الفقه السياسي الإسلامي، الشريعة والحياة، الجزيرة).

الدكتور مولوي يقوم بدور المحلل بين المطلقين ثلاثًا في بينونة كبرى، فينكر المعلوم طوال تاريخ الإمبراطورية الإسلامية والمعلوم من الشرع والدين بالضرورة؛ لأن الجزية مقصود منها الإذلال والصَّغار «وهم صاغرون»، وهي بمفاهيم اليوم الحقوقية تعد انتقاصًا من حقوق المواطنة بسبب دين دون دين.

لو مد مولوي الحبل على استقامته وأنكر واستنكر الجزية التاريخية والشرعية، بحسبانها ما كانت تليق حتى بزمانها حتى نقبلها في زماننا، حسب المقاييس الأخلاقية، بل تتناقض مع القيم الدينية الدعوية، فإذا كان المقصود من الجهاد والفتوحات نشر الإسلام، فلماذا قبل المسلمون أخذ الجزية بغض النظر عن دين دافعها، بغض النظر عن دينه حتى لو عبد بقرة، فهل كانت الدعوة في سبيل الله أم في سبيل جمع الأموال؟

وقد أرسل النبي فيما نؤمن داعيًا لا جابيًا، وكان بإمكان الريسوني وضع الحدث في زمنه وتاريخه للخروج بأسبابه الموضوعية، والاعتراف المتواضع أنها كانت أسباب محلية لا علاقة لها بظرفنا اليوم.

لو فعل ذلك لقدرنا وفهمنا وبصمنا بالعشرة، لكنها المنطقة الملغومة التي لا يريدون لا الخوض فيها، ولا ترك غيرهم يفكك ألغامها، ويسمحون لأنفسهم بإنكار معلوم من الدين بالضرورة، ويرمون من يخاطرون بتفكيك تلك الألغام بالضلال والزندقة والكفران؛ لذلك يلجئون إلى المداورة والتضليل والتجميل في كذب مفضوح لا يليق بالدعاة الكبار.

ينكر مولوي المعلوم بالضرورة ليس بسند من حديث ولا لآيات ولا فقه ولا لحالة متكررة في التاريخ، إنما يذهب يبحث وينقب في تاريخ الغزو العربي لدول الحضارات التي شاء حظها العاثر أن تجاور جزيرة العرب، فلا يجد سوى حالة يتيمة لم يتمكن فيها العرب الغزاة من احتلال النوبة المصرية، وأصاب الإجهاد الشديد الطرفين، وسجل النوبيون بذلك بطولة غير مسبوقة لأنهم كانوا يحسنون الرمي الدقيق بما يصيب مباشرة عيون الأعداء؛ لذلك سماهم العرب «رُماة الحدق». وانتهى الموقف بشبه انتصار للعرب فرضوا بموجبه على أهل النوبة أن يرسلوا للعرب عددًا منهم سنويًّا، ليُستَعبدوا للعرب بعد أن كانوا أحرارًا في بلادهم.

هذه هي الحكاية، ويعلمها مولوي جيدًا وإلا ما رصدها وسط تاريخنا الهائل كمًّا وكيفًا ليجعل منها تكئة لتبرير محاولته كمحلل للطلاق البائن بالجزية بين المسلمين وغير المسلمين، وهي لا شك محاولة مشكورة، لكنها تلفيقية لا تحسم الأمر بقدر ما تتحايل عليه. إضافة إلى اعتمادها الكذب، فما أحوجنا لفضيلة الصدق إذن!

وهو إذ ينكر ضرورة الجزية القرآنية لم يتمكن من اقتحام العقبة الكئود العمرية (عهد الذمة أو عهد الذلة)، فإذ به يقول: «المشكلة في مصطلح أهل الذمة عند كثير من الناس، هي مشكلة الجزية، وليست مشكلة أهل الذمة؛ لأن الذمة هي عقد، والعقد يتم بالتراضي بين المسلمين وبين إنسان غير مسلم يريد أن يعيش معهم، أو هو أصلًا يعيش معهم، هم أسلموا وهو بقي على دينه، وحصل أن من أسلموا صاروا أكثرية، وأرادوا أن يحتكموا إلى شريعة الله، فهذا عقد الذمة يتم بالتراضي على كل بنوده، لكن ما حصل أن عقد الذمة عندنا يكون بعد حرب والحرب عادة يبدؤها غير المسلمين والمسلمون فيها مدافعون عندما خاضوا هذه الحروب، وانتصروا وقضوا على هؤلاء بدفع الجزية علامة خضوعهم لهذا المجتمع الجديد ليس أكثر، لذلك فالأهم في عهد الذمة هو خضوع هذا المواطن للأحكام التشريعية الدنيوية العامة للدولة، فإذا أُخذت هذه الأحكام من الشريعة الإسلامية أو غيرها، فعليه أن يخضع لها، لأن هذا هو معنى المواطنة. المسلم الآن في أوروبا يخضع للقوانين العامة، كذلك على المسيحي في بلاد المسلمين أن يخضع للقوانين العامة.»

وهكذا غرق الرجل في مستنقع الكذب بكله وكليله حتى أنفه، وهو عالم بما يفعل، فأي جلل أصابنا في مشايخنا وقاماتنا الطوال؟!

مولوي الأمين العام لمسلمي المشرقين ومسلمي المغربين، يرى أن غير المسلمين في الدولة الإسلامية المرتقبة لن يدفعوا الجزية، في مجاملة وتنازل لطيف لا يملكه لأنه منكر لمعلوم ضروري من الإسلام، لن يقره زملاؤه عليه عندما يجد الجد وينتفي الهزل، وفي مقابل هذا التنازل الباهت غير صادق النيات، على غير المسلمين أن يقبلوا عهد الذمة، ويعرفه بأنه عقد يتم بالتراضي بين المسلمين وغير المسلمين في بلد واحد. ليس هذا فقط، بل عليهم قبول تطبيق الشريعة الإسلامية وخضوعهم لها لأن الشريعة في الدولة المرتقبة ستكون قوانين عامة للدولة، وأنه كما يخضع المسلم القاطن ببلاد الغرب لقوانينهم العامة، كذلك على المسيحي في بلادنا أن يخضع لقوانينا العامة كما لو كان هؤلاء مغتربين عندنا كما بعضنا مغترب في بلاد الغرب. وبعد أن يخدعنا بكذبه أن عقد الذمة يتم بالتراضي، يعود ليعترف أن التاريخ الإسلامي كله لم يعرف أي عهود للذمة كتبت سلمًا إنما كانت دومًا إثر حروب ضروس، وبالطبع وفق شروط المنتصر، وذلك المنتصر كان الفاتح الإسلامي، وتلك الشروط مجرد تكرارها هنا مخزٍ ومحزن ومخجل، أمثلة سريعة لبعض بنود عقد الذمة العمري مع مسيحيي فلسطين: «أن يكون لهم زي خاص حتى لا يتشبهوا بالمسلمين وحتى يعرفهم المسلمون من زيهم، مع شد زنار على أوساطهم، وألا يعلوا ببنيانهم أعلى من المسلمين، ولا يسمعونا صوت نواقيسهم، ولا تلاوة كتبهم ولا قولهم في المسيح، ولا يجاهروا بالخمر والصلبان والخنازير، وأن يدفنوا موتاهم بعيدًا عن مقابر المسلمين ولا يرفعوا أصواتهم على موتاهم، ويمنعوا من ركوب الخيل لأنه مركب كريم شريف، ويسمح لهم بركوب الحمير دون برذعة إنما على الأكف (الليف الخشن) ويكون الركوب من جانب واحد، فإن صادف مسلمًا ماشيًا عليه النزول عن حماره واللجوء إلى أضيق الطريق ليفسحه للمسلم … إلخ … إلخ.»

ومع التعامي التام والتغافل المقصود عن تلك البنود يستمر مولوي يقول: «إنه من أجل المحافظة على كرامة هؤلاء سموا أهل ذمة، كلمة ذمة ليست كلمة تعني شيئًا من الإذلال، أو تعني شيئًا من تجاوز الحقوق، بالعكس، تعني أن هذا الإنسان في ذمتي، يعني أنا مسئول أمام الله أن أحافظ عليه وعلى حقوقه وعلى كرامته وعلى المساواة بينه وبين جميع الناس، ولدينا الحادثة المشهورة عن الغلام القبطي الذي ضربه ابن عمرو بن العاص، عاد وهو يشعر بالمساواة ولم يدخل في دين الله؛ لأن الإسلام تقوم شريعته أساسًا على المساواة في المواطنة.»

كان على السيد الدكتور أن يقول إن لديه عهدًا جديدًا للذمة؛ لأن ما يقول لا علاقة له بالمرة بعهد الذمة العمري المشهور، ولا بفقه الأموال والحسبة الذي يدرسه أبناؤنا في أزهرنا الميمون، كان عليه أن يقول: هذا عهد ذمة جديد نتعهد به لغير المسلمين في دولتنا الإسلامية المرتقبة، وحتى لا ينصرف الذهن لأي خديعة متربصة بنا، عليه أيضًا أن يعلن إدانته لعهد الذمة العمري وكل العهود الشبيهة به في تاريخنا الإسلامي.

الأشد سوءًا ونكاية في كل القيم، أن يكذب المحترم بفداحة ويردد كذبة تاريخية قد آن أوان مراجعتها والاعتذار التاريخي العلني الدولي عنها وإدانتها. وتوقيع عقوبة على من يقول بها، بالضبط كما فعلت دول أوروبا بعقوبة منكر الهولوكوست، كذبة يرددها المشايخ جميعًا بلا استثناء، تدين المشيخة والدين وهيبة رجل الدين.

ألا ترون الرجل الصادق المؤمن يقول: «عقد الذمة عندنا يكون بعد حرب»، وقال قبلها إنه يتم بالتراضي والقبول السلمي بين الطرفين، لكنه يعلم أن أحداث التاريخ الإسلامي لا تقول ذلك، فيبرر عقد الذمة القهري الذي تم إثر شن الحروب على البلاد المحيطة بالجزيرة، باستطراده المفزع الصادم، «والحرب عادة كان يبدؤها غير المسلمين، والمسلمون كانوا فيها مدافعين عندما خاضوا هذه الحروب، ولما انتصروا فرضوا الجزية على المهزومين علامة الخضوع.» وفي رأيه يمكن استبدال هذه العلامة (الجزية) للخضوع بعلامة حداثية متحضرة، هي الخضوع للقوانين العامة للدولة، التي هي عنده الشريعة الإسلامية، فيكونوا قد استجاروا من الرمضاء بجهنم.

هل يشير لنا الدكتور وكل الدكاترة والدعاة ذوي الوجاهة والمناصب علماء الأمة، إلى الحادثة التي اعتدت فيها مصر على الجزيرة، أو العدوان الذي ارتكبه أهل العراق أو فلسطين أو الشام أو إفريقيا حتى الأطلنطي، أو كل بلاد ستان حتى الصين وكيف كانت حملاتهم العسكرية على نجود الحجاز الفاضلة ومدنه المقدسة، ومتى حدث هذا؟ أم أن حرب الفتوح والغزو كانت حربًا استباقية قام بها العرب، لا تقوم على حشد المعلومات عن العدو، إنما تقوم على قراءة نياته العدوانية؟ ولماذا كانت نيات كل تلك البلاد المفتوحة قريبة وبعيدة هي مهاجمة المسلمين بالحجاز، وهو ما لم يحدث ولا مرة واحدة؟ فجاء العربي واحتل البلاد وأسر العباد واستعبد الأطفال ونهب الحلال ونكح النساء، كرد فعل على قراءة النيات بهجوم مفترض كانوا سيقومون به على المسلمين؟

إن هذه الرءوس والهامات لا حل لها، ولا حل لديها، ولو كان لديهم حلول لحلوا من زمان، ألف وأربعمائة سنة يحمون الدين ويجلسون على أكتافنا يبررون كل المظالم ولم يقدموا يومًا حلًّا، حتى بات العالم كله يطالبنا بالإصلاح، فهل تراهم وحالهم هذا بقادرين على إصلاح أي شيء؟

الرجل يطلب من غير المسلمين في بلادنا الخضوع للشريعة كما يخضع المسلم المهاجر في الغرب للقوانين العامة هناك؛ لأن قانوننا العام هو الشريعة؟

أترون دكتورًا يعرف بسائط المنهج العلمي يقول كلامًا مثل هذا؟ إن الدكتور يعرف يقينًا معنى القانون العام؛ فهو الذي ترتضيه كل أطياف وملل وألوان ونحل المجتمع في عقد اجتماعي سلمي؛ لذلك يعبر عن المصالح المشتركة لجميع المواطنين على ألوانهم دون أي طائفة أو دين لأنهم هم واضعوه وليس مقررًا سماويًّا لدين بعينه، بينما مولوي يضع الشريعة الإسلامية قانونًا عامًّا من عندياته باحتسابه ذلك مسلَّمة بدهية، ودون اختيارها من كل أطياف المجتمع، ودون أن تعبر عن الصالح الاجتماعي العام بقدر ما تعبر عن رؤية ومصالح طائفية دينية بحتة. أترون حجم العيب وما يستشعره الدكتور من عار فيخفي السوءات بأوهام تشف ولا تستر.

ولا ينسى مولوي في ملحمة الكذب أن يضيف الكذبة المشهورة عن المصري (ويسميه القبطي) الذي سبق ابن عمرو بن العاص فضربه، فشكا للخليفة عمر فأمر أن يقوم ابن الأذلين بضرب ابن الأكرمين قائلًا قولته المشهورة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؛ لأن ذلك الزمن كان زمن عبودية، ولا يضرب إلا الحيوان والعبد، فلما ضرب ابن عمرو المصري الذي سبقه، استفزت الحادثة الخليفة العادل عمر، لكن ليس لأن المظلوم قبطي، بل لأنه كان عربيًّا يمنيًّا، مصريًّا؛ أي حرًّا من عرب مصر، ولأنه لا يجوز أصلًا السباق بين عربي مسلم وقبطي لفداحة المسافة بينهما؛ لأن القبطي في الشرع الإسلامي أدنى درجة في الحقوق من العبد المسلم، وغير مسموح له بركوب الخيل أصلًا.

أما المساواة في المواطنة فقد قلنا وعدنا بشأنها وزدنا، فليرجع من أراد المزيد إلى أعمالنا المنشورة؛ فالإسلام والعرب لا يعرفان شيئًا اسمه المساواة، بل يقسمان الناس منازل وأنسابًا ورتبًا تختلف حقوقًا وواجبات، وأهم علومهم على الأنساب الذي هو علم عدم المساواة، الذي يكاد يكون العلم الوحيد عند العرب.

فإذا كانت هذه أخلاق الصدق لدى الرواد المشايخ الدكاترة العلماء الهامات الطوال، فهل ما نراه من تردي فضيلة الصدق في شارعنا الإسلامي هو ترديد الصدى لإسلام مشايخ الإسلام السياسي الذين استباحوا كل الفضائل في سبيل الغرض السياسي، فكانوا المثل المعلم لشعوبهم في انعدام الأخلاق والقيم؟

يبدو أننا بحاجة ماسة إلى الصدق مع أنفسنا ومع تاريخنا دون شعور بدونية ولا خجل؛ لأنه لا يصح قياس زمن الدعوة على زماننا؛ فهو ظلم لزمانهم في الفهم والفكر، حتى لا نضطر طوال الوقت إلى الكذب والتضليل، فنعتاد الكذب حتى يصبح هو حقيقتنا بينما يعلم العالم كله ويرى سوءاتنا؛ فالكذب لا يستر والوهم لا يصلح ما لا يصلح لزماننا.

وجه المصيبة هنا توافق مشايخنا على الكذب، ويبدو لنا بحكم أنهم علماء دين، أنهم على علم تام بتفاصيل ما يكذبون بشأنه على المسلمين، الذين ليس في طاقتهم تحصيل المعارف الدينية التي حصَّلها المشايخ.

إن هذا التواطؤ على الكذب يشير إلى شرعة عربية إسلامية؛ فالكذب في سبيل الله مطلوب، وفي الحديث كذب إبراهيم (النبي) ثلاث كذبات كلها في الله: عندما قال إني سقيم، وعندما قال فعلها كبيرهم هذا، وعندما قال لفرعون عن زوجته سارة إنها أخته. الكذب مطلوب تقية ومداراة إذا كان الصدق سيضر بالمسلم أو بدينه، علماء الحديث حبذوا أحاديث يعلمون أنها مختلقة مكذوبة؛ لأنها تؤدي إلى مصلحة أو تحث على فضيلة. فانظر يا مؤمن ولا تعجب من الوسيلة لبلوغ الفضيلة؟!

(١) قيمة الحق في الخطاب الفقهي المعاصر

الحق هو أبرز الأسماء الجلالية للذات العلية؛ فهو الحق مطلقًا والصدق مطلقًا والعدل مطلقًا؛ فالحق هو أبو الفضائل؛ لذلك وصف الحق تعالى به ذاته الكاملة؛ فهو حق لا يصدر عنه إلا حق ولا يحكم إلا بحق، لكن كل معاني الحق وما يترتب عليها من قيم وما تلحقها من فضائل، قد غاب عن مجتمعاتنا حتى صرنا نمارس الكذب على الذات، وعلى الآخرين وعلى الدنيا كلها. في العلم نكذب، في الاقتصاد نكذب، في وضع القوانين نكذب، وأيضًا — وهنا الكارثة — في الدين نكذب والكذب في الدين يكون كذبًا عليه وكذبًا على المؤمنين به وكذبًا على صاحب الدين جلَّ وعلا. وليس أدل عندي من انتشار وباء الكذب والانحراف عما يلازم قيمة الصدق من فضائل؛ مما نراه في شارعنا، في إعلامنا، في مساجدنا، في كنائسنا، في تعليمنا، في سياستنا، في خطابنا الديني وهنا العار الحقيقي، وهو مناط البحث هنا.

من الأسماء البوارز في سماء فقهنا المعاصر الفقيه المرجع الدكتور يوسف القرضاوي، وهو مثل كل رفاقه لا يرى حلًّا خلاصيًّا لكبوتنا بين الأمم وتخلفنا المهين سوى إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق شرع الله في كل شأن، فتنال رضا السماء، فتتدخل بقدراتها العجائبية لنصر أمتها التي أخلصت لها الدين، هذا بالطبع إن أخلصت لها الدين. والدين والإيمان شيء لا يمكن قياسه أو وزنه بأي معيار، فلا تستطيع أن تقول إن عندي عشرة كيلو إيمان، أو عشرين متر تقوى، فهذه شئون غير قابلة للقياس؛ لذلك يظل شأن الحكم بموعد التدخل الإلهي لإنقاذ أمته مرهونًا بشيء لا يمكن تحديده ولا قياسه، مما يضع تلك المساحة المطاطية رهن الحبس الاحتياطي الدائم لدى مشايخنا، حتى تأتي الطير الأبابيل أو لا تأتي.

في برنامج الشريعة والحياة، الجزيرة، حلقة الدستور ومرجعية الشريعة، يسأل المذيع الشيخ قرضاوي مستنكرًا: «ألا يتعارض القول بالشريعة الإسلامية في دولة بها مسلمون وغير مسلمين مع مبدأ المساواة في المواطنة؟!»

السؤال جد هام ومفصلي، والإجابة عنه يجب أن تكون جهيرة الوضوح والشفافية، صادقة حاسمة قاطعة، غير ملتبسة؛ لأن ما رأيناه مترتبًا على تطبيق الشريعة في بلدان بها غير مسلمين، هو ما حدث في السودان، وفي الصومال، وفي أفغانستان، وهو ما لا نرجوه لأنفسنا؛ لذلك نبحث عسانا نجد في قول فقهائنا حلًّا حقيقيًّا للمشكلة، لا يدخلنا في حرب أهلية تأكل اليابس واليابس، فلم يعد لدينا شيء أخضر لتأكله، خاصة وأن هؤلاء الفقهاء هم من يقدمون أنفسهم كضمير صادق لأمتهم، وأنهم الحافظون لدينها والأمناء عليه منذ فجر تاريخه.

لقد سبق وأجاب الشيخ في كتبه المنشورة عن هذا السؤال أكثر من مرة، لم يتبدل فيها مرة عن مرة، وحدد في إجابته مفهوم الإسلام المعتدل لمعنى الوطن والمواطنة، نسمعه إذ يقول في كتابه (الإخوان المسلمون): «لقد شجع المستعمرون النعرة الوطنية، هادفين إلى أن يحل الوطن محل الدين، وأن يكون الولاء للوطن لا لله، وأن يقسم الناس بالوطن لا بالله، يموتوا في سبيل الوطن لا في سبيل الله، حتى قال شوقي:

وجهُ الكنانة ليس يغضبُ ربكم
أنْ تجعلوه كوجهه معبودا»

ويتابع فضيلته شارحًا للمسلمين كيف كان الاستعمار الفكري وراء قيام الدولة الوطنية، فهذا الاستعمار الفكري «عمل على تنحية الشريعة من القضاء، وحصرها في الأحوال الشخصية، وفصل بين المدارس المدنية والدينية. واستطاعت السياسة الاستعمارية أن تحارب شريعة الإسلام كفلسفة حياة ونظام تعامل ودستور يرسم للأفراد حدود المساواة والحرية، لم ينادِ حزب الوفد قط بالإسلام نظامًا للحياة، لكنهم استعملوا الدين وسيلة لتوطيد زعاماتهم.»

المهم ينتهي قرضاوي في هذا الكتاب إلى أن الوطن والوطنية وفكرة الدولة ذات الحدود التاريخية، هي كلها «فلسفات علمانية دخيلة عزلت الدين عن الحياة»؛ وهكذا وبعد أن يقدم لنا سيناريو الانهيار المفزع، يبشرنا بمولد مخلص الأمة المنتظر ومبعوث العناية الإلهية، فيقول: «وفي هذا الجو الغائم والقاتم ولدت دعوة الإخوان المسلمين، لتكون دعوة للبعث والإنقاذ كما عبر عنها الإمام حسن البنا» (ص١٨: ٢٢).

وإذا ما تساءلنا عما يجمع أبناء الوطن الواحد، إذن، وماذا عن ولاء المواطن لمواطنيه ولمصالحهم المشتركة، فإن قرضاوي يعطينا إجابة بعيدة بالمرة عن كل المفاهيم السياسية؛ فهو ينبه إلى أن «الولاء لله ورسوله، ومن اتخذ الله وليًّا، فقد اتخذ عدوه عدوًّا، ودار الإسلام هي الوطن الإسلامي وهي بلا رقعة، فوطن المسلم هو دار الإسلام» (ص٧٩-٨٠ من كتابه ملامح المجتمع المسلم)، لينتهي إلى تقرير يصوغه صياغة هي ضد كل ما يعني الوطن والمواطنة، فيقول في إيجاز مرعب حقًّا: إن القومية والوطنية أو غير ذلك هي من الأوثان. (كتابه الإخوان، ص٢٤-٢٥). إذن هي الحرب الأهلية، هي الصوملة، هي السودنة، هي اللبننة، هي الأفغنة، هي القوقزة، هي حيثما حلت بركات الفكر القرضاوي ورجاله فتوارى الوطن. كل ما لمسته بركاتهم تشظى وانقسم. هذه هي إجابة السؤال عندما نضحي بالوطن من أجل الأيديولوجيا دينية أو طائفية أو عنصرية.

الأكثر تشويقًا في خطاب الشيخ المعتدل قرضاوي إعلانه أنه يسعى لإقامة دولة إسلامية تعمل بالشريعة، بحسبان «شريعة الإسلام فلسفة حياة ونظام تعامل ودستور يرسم للأفراد حدود المساواة والحرية.»

إن الشيخ يرذل الدولة الوطنية المدنية ويطلب الدولة ذات المرجعية الشرعية الإسلامية من أجل إقامة المساواة والحرية، وأول سؤال سيتبادر هنا كيف ستكون هناك مساواة بين مسلم وغير مسلم، ومثل هذه المساواة تخالف الشريعة نصًّا وروحًا، ليس أحكام الشريعة التي وضعها الفقهاء وضعًا فقط، بل تخالف آيات القرآن الصريحة والحديث الصحيح. وهو أمر له أسبابه التاريخية، حيث كان الإسلام يقيم لقبائل العرب الأشتات نظامًا سياسيًّا في شكل شبيه بالدولة الابتدائية، وما كان ممكنًا أن تقوم الدولة في مثل هذه البيئة البدوية المتبدية في قبائل متقاتلة متصارعة على خير الطبيعة الشحيح والضنين، على أساس العنصر وإلا تقاتلت العناصر حتى الفناء، لقد قرب الإسلام بينهم في صيغة تلائم ظروفهم؛ فالقبيلة كلها كانت على استعداد لأن تفنى عن بكرة أبيها من أجل فرد فيها، والفرد فيها ترس في آلة متكاملة هو جزء منها خاضع لها، لا يعرف ولا يرى في غير قرابته سوى أعداء محتملين دومًا، وما كان ممكنًا أن تخضع قبيلة لسيادة فرد من قبيلة أخرى، وهو ما فطن إليه ابن خلدون فقال: إن العرب لا يجمعهم إلا دين ونبي تخضع له أنوفهم المتكبرة، تجمعهم فكرة وأهداف مشتركة ومصالح، يخضعون لسيادة نبي لأنه لا ينسب لقومه بل للسماء التي هي فوق كل القبائل. لذلك جاءت صيغة الكونفدرالية العربية تركب أيديولوجيا دينية موحدة واحدة، تجمع كل الأشتات على قرابة واحدة، فيصبح كل العرب أبناء رجل واحد يصح لأي منهم أن يسود ويملك، فكلهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم؛ لذلك يرذل الشيخ قرضاوي الدولة بعد أربعة عشر قرنًا في مكان وزمان مختلفين عن ذلك الزمن البدائي الأول بالمرة.

من هنا أصبح المتميزون بدين الإسلام طائفة جديدة خاصة بغض النظر عن قبائلهم وألوانهم وأصبحوا أمة من دون الناس، تختلف وتتميز عن غيرها من الأمم، بل هي خير الأمم؛ لأنها المكلفة بحمل الرسالة إلى العالمين.

إذن فأولًا وأساسًا لا يتم التساوي بين المسلم وغير المسلم في الشريعة الإسلامية فلا مجال لحديث هنا عن مساواة في وطن واحد يعيش فيه مسلمون وغير مسلمين تحكمهم الشريعة الإسلامية. فالناس حسب هذه الشريعة أصناف ورتب ومنازل ودرجات وطبقات تختلف بينها الحقوق والواجبات، فهناك الأولون السابقون وهناك المبشرون بالجنة، وهناك أهل بدر الذين غُفر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، وهناك العربي العدناني والعربي القحطاني، والقرشي وغير القرشي، وداخل قريش الهاشمي والأموي وغيرهم، وهناك الرجل والمرأة، وهناك السادة والعبيد، وهناك الموالي الذين أسلموا في البلاد المفتوحة، وهناك أهل الذمة، وهناك العبد المسلم والعبد غير المسلم، ولكل من هؤلاء درجة وحقوق وواجبات تختلف عن درجة الآخر لذلك تضخمت الشريعة الإسلامية بالأحكام الكثيرة الهائلة عددًا، ترتيبًا على حقوق تلك المنازل والمراتب الاجتماعية العديدة المفرطة في تراتبيتها وأحكامها وفق هذه التراتبية.

فأي مساواة في شريعة الإسلام يتحدث عنها قرضاوي؟ إن المساواة اليوم تختلف بالمعنى وبالظرف وبالزمن بالكلية عن معناها الأولي في الشريعة، التي يجب أن نحترمها ونعترف بها وبأنها كانت تناسب ظروف زمانها، لكنها لم تعد تناسب ظروف زماننا، وليس في ذلك انتقاص منها، فقد أدت دورها في حينه وأثبتت نجاحها الذي صيغت من أجله وحققت مبتغاها فكانت صحيحة بمقاييس زمنها.

هذا ما كان عن دستور المساواة الذي يطلبه لنا قرضاوي من أعماق زمن سحيق، بل ويؤكد أن هذا الدستور هو الضامن للحرية الإنسانية.

إن الشيخ يحدثنا عن الحرية ولديه ثلاثة وعشرون آية تتحدث عن العبودية والرق وملك اليمين، ناهيك عن رتل هائل من أحاديث أحكام الرقيق، إضافة إلى ما يدرسه عيالنا في معاهد الأزهر من فقه كامل للرقيق على المذاهب الأربعة السنية، فعن أي حرية يحدثنا الشيخ؟

لقد سبق لصاحب هذا القلم أن طالب السادة المتفقهين والأزاهرة أن يعلنوا موقفًا واضحًا يتم بموجبه الإعلان عن إيقاف العمل بحدود وفقه الرقيق، بتعطيل أحكام الآيات، أسوة بصحابة وفقهاء سابقين، بعد أن عطلها تطور القيم الإنسانية في العالم، فلم تعد صالحة لكل زمان ومكان كما يوهمون بسطاء المسلمين، وإن إعلان هذا التعطيل بأيدي فقهائنا أجدى في شئون كثيرة من فرضه فرضًا علينا بقوة القوانين الدولية والضمير الإنساني.

ولم أسمع من يومها غير التكفير والتخوين والتبخيس وحرب الإشاعة غير النظيفة، كما لو كنت أطالبهم بشيء إدًّا أو مستنكرًا أو دعوة لشر، لقد كانت دعوتي هي الخير نفسه بغض النظر عن اتهامات مشايخنا عندما لا يجدون ردًّا محترمًا.

ويبقى السؤال الهام هنا، هلا يعلم الشيخ كل ما نعلم وزيادة بشأن المساواة من عدمها والحرية من عدمها في شريعة الإسلام وتاريخه؟ فإن كان يعلم ولا شك أنه يعلم فكيف نصنف ما قال؟ الإجابة واضحة لا تحتاج إلى تعليق.

أما قوله وهو يرفض المواطنة: «إن دار الإسلام هي الوطن الإسلامي، وهي بلا رقعة»، فهو ما يعني أن الشيخ ما زال يرى أن دار الإسلام هي العالم كله «بلا رقعة»؛ لأن دعوة الشيخ كما هي واضحة: الإسلام دين ودولة، والإسلام دين عالمي، فتكون النتيجة الواضحة: أن العالم هو دولة الإسلام؛ وهو ما يعني إعلان الحرب الإسلامية على العالم كله، في وقت يمثل فيه المسلمون أدنى أهل الأرض للضعف والجهل والتخلف.

أترون إلى أين يأخذنا مشايخنا يا مسلمين؟!

(٢) قيمة المواطنة

الداعية الكبير الشيخ الدكتور يوسف قرضاوي ويلقب بالفقيه المعتدل، وهو مرجعية شئنا أم أبينا لمعظم تيارات المد السلفي السياسي، ويراه بعضهم الرجل الثاني من محركات الصحوة الإسلامية، وقوتها الدافعة، بعد المغفور له سيئاته الشيخ متولي شعراوي، إضافة بالطبع إلى جماعات التربح الأخرى من عينة العلم والإيمان والدعاة الجدد ودعاة الفيديو كليب وفضائيات الفتاوى التيك أواي وبنوك التقوى وجماعات الأمر بالمعروف والجهاد والقاعدة … إلخ. كل هؤلاء يعتبرون قرضاوي مرجعية لهم؛ وهو ما يعني موافقتهم جميعًا على فكرة أن الإسلام دين ودولة، وأنه لا وطن له حدود لبلاد المسلمين فدولتهم هي العالم كله. لكن مع ذلك يبدأ الشيخ بمصر الوطن ذات الحدود التاريخية والمنظومة المدنية الحديثة، حيث سيطبق الشريعة إن شاء الله، رغم وجود مصريين غير مسلمين يعيشون في هذا البلد.

لكن المرجع الفقهي الكبير يعلم تلك العقبة الكئود، فيضع لنا حل المشكلة، فيقول في فضائيته في برنامج الشريعة والحياة، حلقة (الدستور ومرجعية الشريعة):

إذا كان بلد فيه أغلبية مسلمة وأقلية غير مسلمة، الأغلبية المسلمة فرض عليها من ربها ودينها أن تحكم شريعتها، هل مطلوب من الأقلية غير المسلمة أن تمنع الأكثرية المسلمة من الاحتكام إلى أحكام الشريعة؟ هذا معناه أن الأقلية تفرض الديكتاتورية على الأكثرية، وإذا كنا سنحكِّم منطق الديمقراطية؛ فالأغلبية هي التي قلة قليلة في بلادنا تحكم، والذين يثيرون هذه الضجة أقلية هم العلمانيون، وهم قلة قليلة في بلادنا لكن لهم ضجة كبيرة؛ لأنهم يملكون المنابر الإعلامية والأبواق الإعلامية.

يصر المحاور على ألا يروغ الشيخ منه، فيعود يسأله: «هل في مرجعية الشريعة فعلًا تمييز ضد غير المسلمين؟» يجيب الشيخ رمز الصدق والعدالة والوسطية بقوله:

لا يوجد قط في مرجعية الشريعة ما يتعارض مع عقائد هؤلاء القوم، الإنجيل لم يأتِ بتشريع إلا في عدم الطلاق، إنما يعتمد على تشريعات التوراة، المسيحيون لا يعتمدون على تشريع ديني، إنما يعتمدون على التشريعات الوضعية التي تأتيهم من أوروبا، الشريعة فريضة علينا نحن، فنحن نأخذ هذا على أنه دين. المسيحيون كالأقباط في مصر يأخذونه (أي الشرع الإسلامي) على أنه قانون، كما قبلوا قانون نابليون أو القانون المستورد من أوروبا، لماذا لا يقبلون القانون في الإسلام؟! ثم إن الأحكام الإسلامية الشرعية هي بنت بيئتنا يعني مش جايبينها من برة، هذه الأحكام صادرة من تراب هذه المنطقة، ولأنه لا يمكن أن يأتي في شريعة الإسلام ما يعارض عقائد الآخرين الدينية، فبناء عليه لا بد أن تراعي الأقلية غير المسلمة مشاعر الأكثرية المسلمة حتى لا تؤذي المشاعر وتحدث الفتن. (حلقة الدستور ومرجعية الشريعة، الجزيرة)

لو كان هذا الشيخ يؤمن حقًّا وصدقًا أن الله حق وأن الإيمان به حق، وأن من دواعي هذا الإيمان التزام الحق، ما قال ما قال، ولعل مثل هؤلاء النماذج والمثل، هم السبب لما نراه في الشارع المسلم من انهيار كارثي في القيم الأخلاقية. وتعالوا معي نرى شيخنا بهذا الحجم وهو يقول كلاما يؤاخذ عليه دينيًّا وأخلاقيًّا.

كلام قرضاوي يعني أنه علينا جميعًا أن نرفض مصر وطنًا وأمًّا وعشقًا وأملًا يجمعنا، لأن فكرة الدولة الوطنية القومية هي من أوثان الاستعمار. لقد غاب عن الشيخ أن مصر كانت دولة وطنية قومية وأمة بالمعنى العلمي التام للتعريف، قبل أن تظهر النزعات القومية الأوروبية، وقبل أن تقوم لروما أو فارس إمبراطوريات، وقبل أن تقوم للعرب إمبراطورية خلافية، وأنها قد حددت لنفسها حدودها منذ استقر فيها أولادها الأوائل، وهي هي، مصر التي تحتضن كل الملل والنحل والأعراق، وكان هذا هو سرها العميق الذي اكتشفته الولايات المتحدة الأمريكية في مقاربة تاريخية مذهلة (مع أخذ الفارق الزمني وأثره بالاعتبار بالطبع).

إن مصر ليست بانتظار الشيخ قرضاوي وإخوانه القدامى العتاقي أو الجدد الشبابي ليقيموا لها دولتها، فدولتها قائمة ماكينة شغالة مما قبل التاريخ لم تتوقف يومًا عن الوجود والأداء، جاء اليونان وهي تعمل وهي هي مصر وجاء الروم وخرجوا وهي تعمل وهي مصر، وجاء قمبيز والفرس وهي تعمل وهي مصر، وجاءها الغزو العربي وهي تعمل وهي مصر، وما دام الشيخ يتحدث عن النظم الأصلية بنت تراب المنطقة فلماذا لا يعود زيادة في الأصالة نحو ما هو أكثر أصالة واقتدارًا؟

المشكلة أن صاحب الفضيلة يرذل الوطنية والقومية بحسبانها مبتدعات الغرب الحديث الكافر فيرى الوطنية نعرة كافرة واردة مع الاستعمار الغربي وأنها والفكرة القومية هي من الأوثان (كتابه الإخوان، ص١٩)، ومع ذلك يحدثنا عن الأكثرية والأقلية، وهي مفاهيم ومصطلحات لا علاقة لها بدين من الأديان، بقدر ما هي مترتبة على الصيغة المجتمعية لعقد الدولة الحديثة القائم على المواطنة المدنية أو العلمانية. فما لقرضاوي وتلك المفاهيم وهو يرفض كل ما تنبته تربة ذلك الغرب الوثني؟! ثم متى كان للأكثرية قيمة في تاريخ قرضاوي العربي؟ لقد كان دومًا وأبدًا مع الأقلية المطهرة في مقابلة الأكثرية الآثمة: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ (الأنعام: ١١٦)، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ (الأنفال: ١٩)، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (المائدة: ٦٦)، قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ (المائدة: ١٠٠)، فلماذا لا يكون طائعًا لمحارم دينه ويقف في صف الأقلية ولو مرة؟

إن قرضاوي هو وإخوانه وميليشياته عندما يقوم بعملية تهجين لمفاهيم بدوية عتيقة بنت قرون طويلة مضت وبين مفاهيم مدنية حداثية، ليتخذوا موقفهم الرافض للمواطنة ووجوب سيادة الطائفة الإسلامية لشرائعها على بقية ملل ونحل الوطن، اعتمادًا على مبدأ الأكثرية والأقلية يصل إلى مسخ شائه لا علاقة له بوطن ولا بدين ولا بأصالة ولا بمعاصرة، يصل إلى نتائج مضللة حيث تصبح الأغلبية أغلبية بدينها الذي لم تصنعه وإنما ولدت داخله، وهو ما لا علاقة له بالأغلبية بالمعنى السياسي الذي تقوم عليه الدول، لأن الأغلبية والأقلية في المفاهيم السياسية هي نصاب سياسي، فيجوز للمواطن الانتقال بينهما وهو المستحيل بين الطوائف، ويمكن تحول الأقلية إلى أكثرية أو العكس، وهو أيضًا ما لا يتوافر في الطوائف، كذلك يمكن أن تحكم الأقلية الأكثرية إذا فاز مرشحوها وهو ما ترفضه مدرسة قرضاوي المعتدل جملة وتفصيلًا وبداية ونهاية وقولًا واحدًا. هذا بينما يجعل التعدد في العلمانية ميزة لا نقصًا هو ذلك السماح والتسامح الذي تقبله الأقلية والأكثرية بحرية انتقال المواطنين بينهما في فضاءات حرة من أي خطوط حمراء ودونما تجريم وتكفير وتخوين؛ فهي اختيارات كلها محترمة في نظر المتصارعين سلميًّا.

هذا بينما لو طبقنا تلك المفاهيم المحدثة على أي مرجعية دينية لا بد أن تكون النتائج ما يحدث في العراق، ويكون الخصام والكراهية والمذابح كما في السودان، والتمزق والحرب الضروس في أيرلندا ودويلات إفريقيا، ولا يبقى سوى صراع التعدد المدني هو الوحيد ضامن التوحد والقوة، بينما يكون صراع التعدد الطائفي مزيدًا من الدم والتخلف والاقتتال والدمار بدلًا من التلاحم تحت راية الوطن الواحد.

ترى هل ما يقوله الدكتور القرضاوي هنا هو لون من الهزل؟ بالطبع هذا لا يصح مع حجم الرجل فلا شك أنه يعني ما يقول، وأنه ليس لديه أي سوء فهم للموقف لكنه يصور نفسه وقد انحاز للمبدأ الديمقراطي، وما كانوا يفعلون ذلك، لولا أنه مبدأ يستحق الانتساب إليه عزة وكرامة، ثم يكرسون الأكثرية الطائفية أمام أقليات غير مسلمة، في سيناريو، لا فيه حق ولا معه عدل ولا هو قول صادق. هو جريمة كاملة في حق العقل المسلم الذي تمت قولبته وزُرع بفيروسات الواحدية المصمتة، فلم يعد يرى سوى أن الحق واحد وهو ما لدى المشايخ (لكنه لا يعترف بذلك وأن ذلك منطق إمبراطوريات ذلك الزمان لا يعيب الإسلام ولا يشينه). أما الفاجع فهو ألا يواجه رجل الدين رعيته بصدق وشفافية، ألا ترونه يقول بالقطع: «لا يوجد قط في مرجعية الشريعة ما يتعارض مع عقائد هؤلاء غير المسلمين.» إذن لماذا المسلمون مسلمون ولماذا المسيحيون مسيحيون؟ ولماذا السنة سنة ولماذا الشيعة شيعة؟ ولماذا لم يتحول الجميع للإسلام ما دامت الشرائع واحدة، أو لماذا لم يتحول المسلمون إلى أي دين آخر وخلاص ما دام الحكاية في بيتها وأهو يبقى زيتنا في دقيقنا؟!

إن الشيخ يعلم أن مرجعية الشريعة بشأن غير المسلمين هي القسوة المفرطة والصَّغار والإذلال، ومع ذلك يقول ما قال بشديد البساطة ويطالبهم بالخضوع للقانون الشرعي الإسلامي كما سبق وقبلوا القوانين الأوروبية؟ الشيخ يدرك الفرق الفادح بين قانون طائفي يميز في كل شأن بين أبناء طائفته والطوائف الأخرى، وبين قانون مدني نضعه بأيدينا حسب مصلحتنا العامة ونغيِّره بأيدينا عندما تجد المستجدات، بعكس القانون السماوي الثابت الواحد الذي لا يتبدل ولا يتغير.

ولا يرى الشيخ أن هناك مشكلة في تطبيق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين، المشكلة فقط في العلمانيين الذين يثيرون هذه المشكلة وهم أقلية، لكن لهم ضجة كبيرة بما يملكون من وسائل الإعلام!

تعالَوا نصدق هذا الكلام جدلًا أو خبلًا، فلماذا ينزعج قرضاوي من الأقلية والعلمانية، وقد اعتاد هو وفريقه عبر تاريخهم على عدم وجود شيء اسمه الأقلية، فالأقلية خاضعة للأغلبية في كل شأن وكل فكرة وكل ضمير حتى جعلوهم كالماعز، ثم ألم يكن المسلمون الأوائل هم الأقلية عندما فتحوا بلاد غيرهم؟ وظل المسلمون أقلية أرستقراطية حاكمة في تلك البلاد قرونًا طويلة. كانوا أقلية وتسيدوا على الأغلبية بالسيف والحديد والنار.

إن من وضع القانون يجب أن يبدأ به نفسه حتى نحترمه وحتى لا نظنه نصابًا مصابًا بالحول الفكري، وبالعمى في الضمير، وبالضلال في البصيرة.

لقد قال الشيخ وسط سيل مقولاته كلمة حق وهي أننا كعلمانيين رغم عدم امتلاكنا أي وسيلة للوصول إلى الإعلام، إلا عند دعوتنا لمحاصرة بعضنا بعضًا في الجزيرة أو غيرها، كان العلمانيون يحرزون في هذه الفلتات قصب السبق، نعم برز العلمانيون عندما كنتم تستدرجونهم لتهوِّنوا من شأنهم، برزوا رغم الحصار الظالم والتهديد بالذبح والتعتيم الإعلامي والتشنيع والتخوين والطعن في الأخلاق، مع كل هذه الحملة أصبح العلمانيون موجودين ملء السمع والبصر بعد أن أثبتوا وجودهم، ولأن لديهم شيئًا يريده الناس ليس موجودًا عندكم يا أصحاب الفضيلة، عندهم منطق متماسك وقيم محترمة ومبادئ راقية نظيفة لا ترتزق على حساب الناس ولا الوطن ولا الدين.

الناس يستمعون إلينا لأننا نحترم حقهم في الحرية وفي تفهم ما شاءوا، لا نطلب منهم سمعًا ولا طاعة بل مشاركة حوارية للجميع فيها حقوق متساوية، حرية مشاع دون تكفير وتخوين وتجريم؛ فالرأي بالرأي، والحجة بالحجة، مع ضمان حرية الاعتقاد وحماية هذا الحق لأصحابه وتحقيق الشعائر وأداء العبادات في حماية القانون. هذا ببساطة ما يريد العلمانيون الذين هم سبب مشاكل قرضاوي وفريقه.

(٣) دعوة مفتوحة لمناظرة قرضاوي

قال قرضاوي، وهو يفلسف لقيام دولة الشريعة في دولة بها ديانات أخرى، بوجوب قبول الأقليات الدينية في الدولة الإسلامية لتطبيق شريعة الإسلام، وبرر هذا الوجوب بطرافة غير معهودة لديه، بأن «الإنجيل لم يأتِ بتشريع، إنما يعتمد على تشريعات التوراة، يعتمدون على التشريعات الوضعية التي تأتيهم من أوروبا، الشريعة فريضة علينا نحن، فنحن نأخذ هذا على أنه دين، والمسيحيون كالأقباط في مصر يأخذونه على أنه قانون، كما قبلوا قانون نابليون أو القانون المستورد من أوروبا، لماذا لا يقبلون القانون من الإسلام؟ ثم إن الأحكام الشرعية هي بنت بيئتنا يعني مش جايبنها من برة، هذه الأحكام صادرة من تراب هذه المنطقة» (حلقة الدستور ومرجعية الشريعة، الجزيرة).

حيرنا الشيخ، هو مرة ضد أي فكرة عن مفهوم الوطن وتراب الأرض والمواطنة حتى إنه يصفها بالوثنية وأنها مدسوسة علينا من بلاد الغرب الكافر، ليعود ليؤكد أن شريعتنا الإسلامية تناسبنا مسلمين ومسيحيين لسبب موضوعي هو أن هذه الشريعة بنت أرضنا ونبتت في بلادنا؟ يعني فيه وطن يا شيخ؟ لكن يبدو أن وطن قرضاوي هو السعودية وليس مصر، لأن الشريعة ليست بنت مصر ولا هي فرز وادي مصر، ولا هي بنت الرافدين ولا فرز بيئتهم، ولا هي بنت الشام ولا فرز بيئتها، إنما هي جاءت إلى هذه البلاد وافدة عليها من بلاد الحجاز منذ ما قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، جزء كبير منها يعالج مشاكل محلية بدوية قبلية تتعلق بمكانها وزمانها فقط، مشاكل لم نعرفها ولم تعرفها بلاد الشام ولا بلاد العراق ولا بلاد فارس، ولا علاقة لنا بها، لاختلاف ظرف البيئات جغرافيًّا وطبوغرافيًّا وسكانيًّا ولغويًّا وتاريخيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، اختلافات كاملة المواصفات. كل شيء كان غير كل شيء، ثم تعالَ يا شيخ أفهمنا واشرح لنا: منذ متى تعتبرون المقدس فرز بيئة وظرفًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا وجغرافيًّا؟

عندما قال صاحب هذا القلم مثل هذا الكلام منذ حوالي خمسة عشر عامًا أو يزيد، قامت الدنيا ولم تقعد إلا بعد محاكمتي بتهمة ازدراء الأديان، فمالك اليوم يا شيخ وهذا السبيل الصعب الوعر، تتيه فيه فتخلط الحابل بالنابل والمقدس بالدنيوي، ناسيًا أو متناسيًا أن الشريعة سماوية وليست أرضية، وليس فيها أي أكثرية أو أقلية ويلا شورى ولا بيعة ولا ديمقراطية، فقد وضعها الله في شكل أوامر ونواهٍ، ولم يستشر أحدًا وهو يضعها ولا حتى أنبياءه، أما في العلمانية فإن الناس على اختلاف مللهم يصطلحون على ما يناسب مصالحهم من قوانين يخضع لها الجميع راغبًا لا راغمًا.

المهم أن الشيخ لا يرى الأقباط سببًا في عدم تطبيق الشريعة حتى الآن، إنما السبب هو «الذين يثيرون هذه الضجة أقلية هم العلمانيون؛ لأنهم يمتلكون المنابر الإعلامية والأبواق الإعلامية» (الحلقة نفسها).

كيف يمكنك أن ترد على قرضاوي هنا؟ إن الرجل يقولها ولا يطرف، بينما هو يعلم والجميع يعلم حجم المساحة التي يحتلها التيار الإسلامي في الإعلام أو التعليم، ويعلم والجميع يعلم أن العلمانيين مستبعدون من الإعلام ومن الوصول إلى الناس، ومع ذلك يقول دون خشية من ملامة، فقد أصبح شخصًا مقدسًا يقول ما يعنُّ له ولا يؤاخذه أحد، ولا يقول له أحد عيب يا شيخ، أو يرفع عليه قضية حسبة.

إذا كان قرضاوي صادقًا، إذن فليسمح لشخصي الضعيف المتواضع بمنازلته في لقاء حول دولته الإسلامية المرتقبة، في قناته المفضلة التي يمتلك نصفها أو في أي فضائية تناسبه، وليحشد لي ويجهز ويرتب وله الاستعانة بصديق أو بمن يريد، وسأذهب مفردًا لا أملك سوى فكرتي وحدها، ويقيني الوحيد أن الصدق منجاة والكذب مهلكة. ولنطرح الأمر أمام الناس ولن نجد قاضيًا نطمئن إليه ونحترم أفضل من هؤلاء الناس، رغم أن قرضاوي يستنكر أن يكون الناس حكمًا في مثل تلك الشئون، وهو عالم أنه يتحدث عما يمس مصالح ومصير هؤلاء الناس؛ لذلك أراهم من جانبي هم أفضل قاضٍ يمكن الاحتكام إليه في هذا الشأن. ورغم أن هؤلاء الناس قد تم تحشيدهم سلفًا ضدي وضد كل العلمانيين ملحدين ومؤمنين، إلا أني كلي ثقة بثاقب نظرة الناس؛ لأنهم يستطيعون تمييز الطيب من الخبيث والكذب من الصدق ونظافة الضمير من تشوهه، أسلحتي ستكون الحجة والبرهان وأدلتي الصدق ومبتغاي وجه البلاد والعباد، فليحاجني الشيخ إذن عيانًا بيانًا لننتهي من هذه المنطقة على الأقل، بحل نهائي يرضي كل الأطراف بهزيمة أحد الطرفين في صراع فكري محترم، حتى يمكن الانتقال بالمجتمع إلى حلول لمشاكل أخرى، فنكون منتجين منجزين فاعلين. لننتقل من المشاكل الوهمية إلى الحقيقية، بحل لا يصارع طواحين الهواء، ننتقل من الجدل البيزنطي إلى الحسم والبناء على أسس سليمة تم التوافق عليها، أو بفوز يحسمه أحد الطرفين لمصلحة قضيته ورؤيته، ولا بأس هنا من مشاركة تفاعلية من مختلف الأطياف تغني الحوار وتثريه، ولتكن بداية لطرح مشاكلنا على طاولة مفتوحة على الناس نحو توافق اجتماعي متين.

نعود نتابع إصرار الشيخ على ما يقدمه من حلول لإصلاح شأننا المتردي، فيقولها واضحة جلية قاطعة في جملة مفيدة موجزة «إن هذه المنطقة العربية لا تستكمل سيادتها واستقلالها إلا بالرجوع للشريعة الإسلامية.»

الشيخ يعود إلى المنطقة العربية التي هي من الأوثان كما سبق ووصفها ليخصصها في حديثه بحسبانها ناقصة السيادة والاستقلال، رغم أنها في مجموعها دول مستقلة عدا فلسطين، والعراق بشكل مؤقت. فينشغل بهذا الوثن دون بقية بلاد المسلمين، ولا ينشغل بالناس في تلك البلاد بقدر ما ينشغل بالوثن نفسه، بالسيادة العربية المستقلة، بغض النظر عن حال عباد الله تحت سلطان تلك السيادة العربية المستقلة. المهم أنه لا يرى سبيلًا لاستقلال الوثن العربي واستكمال سيادته الوثنية «الوطنية»، إلا بتحكيم الشريعة الإسلامية في رقاب الخلق (العرب دون بقية المسلمين في بقاع الأرض) ما علينا، المهم هو أن سبيل السيادة والقوة هو تحكيم الشريعة في أي حتة أرض ممكنة كخطوة نحو التمكين.

الشيخ وإخوانه لديهم دائمًا أداة الاستدراك «لكن» وأخواتها، فيستدرك استدراكًا مفزعًا حقًّا فيقول: «لكن على أن تصاغ الشريعة صياغة جديدة!»

(٤) لماذا يا شيخ؟

وكيف السبيل إلى ذلك وهي شريعة من عند الله وليست من عند العباد، أي أنها كلمة الله التي لا تقبل تبديلًا ولا تعديلًا كما تصر أنت على إعلانه في كل مناسبة؟ ولا مجال في الشريعة لكل أغانيكم عن الشورى والبيعة الديمقراطيتين لأن الشريعة أوامر ونواهٍ لا شورى فيها لأحد ولا رأي لمخلوق؛ لذلك تسمى حدود الله، ويبدو أنها في نظركم قد أصابها العوار والعيوب، فأصبحت ليست بحاجة للتجديد أو الترقيع أو إعادة التفسير والتأويل، إنما هي ويا لهول ما قال، بحاجة «أن تصاغ صياغة جديدة»! فأين يرى الشيخ هذه العيوب تحديدًا؟ هل هي في أحكام الرق؟ أم تُراها في أحكام الردة؟ وربما تكون في أحكام الحدود بالعقوبات البدنية كالجلد والقطع؟ أو هي في الأحكام الإسلامية بقياسها على ما نفهمه اليوم من حقوق الإنسان؟ أم هي في الخداع المسمى بنوكًا إسلامية؟ أم هي في الاقتصاد الإسلامي برمته؟

الباب مفتوح إذن لكل الاحتمالات، خاصة مع استطراده وهو يؤكد «إعادة الصياغة للشريعة» بقوله: «إنها ستكون صياغة جديدة تصوغها عقول تجعلها في شكل نظريات، ونجدد هذه الأحكام، هم فاهمين أننا نروح نجيب الأحكام القديمة كما هي ونطبقها؟! هذا لا نقوله، ولا يقول به عاقل.»

الشيخ أورد أكثر من قولة حق؛ فالشريعة الإسلامية غير مصوغة في شكل منظومة نظرية قانونية متفق عليها حتى تاريخه؛ لذلك هي في حاجة إلى عقول تجعلها في شكل نظريات. والحقيقة الأخرى هي ثبات أحكام الشريعة القديمة وتكلس مفاصلها وجمودها دون تجديد طوال العصور الماضية. حتى وصل حال الشريعة الإسلامية إلى درجة أن الشيخ وصف من يستدعيها اليوم بأنه مجنون مخبول معتوه، فهذا «لا يقول به عاقل.»

إذن …

تعظيم سلام للجدعان!

نحن مع هذا الفقيه المعتدل نجدنا بحاجة أولية وأساسية لصياغة الشريعة الإسلامية من جديد، حتى يمكن تطبيقها عند قيام دولة الإسلام في الأرض. نحن بحاجة لإعادة صنع «صياغة» الشريعة، وتلك الصياغة ستقوم بها عقول بشرية لا وجود فيها لوحي ولا مكان فيها لجبريل ولا قدسية فيها لقول ولا لرأي.

وإذا كان القول بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على حالها القديم لا يقول به عاقل، إذن فإنه في الدين كما سبق وقلت وأكرر هنا ونعيد ونزيد: إن في الإسلام ما هو صالح لكل زمان وكل مكان كالتسامح والغفران والمحبة … إلخ، ومنه ما هو صالح لمكانه وزمانه وحده، وهو قول قرضاوي نفسه ولكن من سبيل آخر.

ويبقى أن نتفق حول هذا الصالح لمكانه وزمانه فقط؟ يعني هل ضمن ذلك المحدود بزمكانه ولا يقول به اليوم عاقل: حدود العقوبات البدنية مثلًا؟ هل ضمن ذلك المحدود: الجهاد والولاء والبراء؟ إذا كان هو من فتح الباب، فكل سؤال إذن سيكون مطروحًا للبحث دون تحريم وتكفير وتجريم، إذن لماذا والحال كذلك ينزعج قرضاوي وكل المشايخ من العلمانيين الذين يحررون الخلاف بإحالته على مرجعية متوافق عليها هي أحكام العقل البشري، مع ترك القديم لزمانه. فلماذا إذن يزعجهم قولنا في وجوب استبعاد الشريعة من الدستور، واستبعاد الدين من المجال الاجتماعي العام، أليس في ذلك ترك القديم لزمانه حتى نضع شرائعنا بأيدينا بما يوافق ظروف زماننا ومصالحنا بالعقل؟

وهو ما وافقت عليه الآيات الصالحة لكل مكان حتى قالت: من شاء أن يكفر فليكفر.

هنا الكلام المفصلي الذي سيفصح عنه الشيخ في حلقة أخرى كان عنوانها: الصحوة الإسلامية ومآلاتها.

حيث يكشف لنا عن اللغز الذي حارت فيه الأفهام؛ فهو كما رأيتم يتفق مع العلمانيين في الوسائل والأهداف، لكنه على مستوى آخر يخالفهم لدرجة تكفيرهم وتخوينهم، رافضًا ما يقولون به من تشريع بشري لقوانين وضعية تراعي المصلحة العامة. هذا رغم أن الرجل قال إنه سيعيد صياغة الشريعة بالعقل لأن الشريعة على حالها الآن لا يقول بها عاقل، لكن يبدو أن الشيخ يكسب عقله وصياغته لونا من القدسية، لا يجعلها وضعية كالقوانين الوضعية البشرية في مجالس تشريعية. الشيخ يصر على تأميم القانون لمصلحة الله فيما يزعم، رغم أن الله بذلك أصبح خارج الموضوع، فإعادة صياغة بالعقل يعني أنه وضعي.

ثم ما هي حكاية وضعي هذه التي يلوكونها كلما تحدثوا عن تشريع الشعوب لنفسها، هي وصم لهذه التشريعات بالبشرية، دون أن يلتفتوا إلى أن ذلك هو نعم الوضع، وأن تلك هي نعم التشريعات، وأن الشريعة الإسلامية نفسها التي امتد وضعها زهاء الأربعة قرون متواصلة، مضافًا إليها عشرة قرون أخرى من تفسير المتون وشرح الهوامش. هي كلها من وضع البشر، هي من وضع الجعفري والحنبلي والشافعي والمالكي والحنفي والظاهري والباطني، وما اتفقوا يومًا على قول واحد رغم أنها أحكام تتعلق بمعاش الناس بل وبحياة الناس، ما بين رجم وقطع من خلاف والذبح صبرًا.

إذن يبرز الخلاف في السؤال: من الذي سيضع أو يصوغ القوانين إن لم يكن الله؟ إجابتنا نحن العلمانيين بسيطة واضحة مفرطة في يسرها (من يضعها الناس عبر مجالسهم التشريعية المنتخبة انتخابًا سليمًا سلميًّا حرًّا).

لكن قرضاوي لا يرى معنا هذه الاجابة؛ لأن لديه إجابة أخرى، يعود معها في انتكاسة شديدة ليطلب الشريعة التي كانت منذ قليل لا يقول بها عاقل، كمصدر ومرجع دستوري بقوله: «فمرجعية الشريعة هي المصادر المعصومة، مرجعية الوحي الإلهي.»

إذن هذا قرضاوي آخر يقول قولًا على النقيض التام مما قال قرضاوي الأول، هذا شيخ وذاك شيخ آخر! فأيهما قرضاوي الحقيقي وأيهما نصدق؟

إن سر الانتكاسة ولعبة البيضة والكتكوت تفصح عن مخفيها عندما تسأل الشيخ عمن سيضع القوانين، فيقول محاولًا الالتفاف على المعنى المقصود، في غير مباشرة جهيرة شفافة، «الشريعة تحتاج إلى اجتهاد واستنباط، وأهل العلم عليهم أن يعملوا عقولهم». يعود بنا إلى الشريعة مطروحة بغرفة الإنعاش تعاني نقصًا حادًّا في عوامل الحياة والوجود، تحتاج إلى محاليل من عمل عقل البشر، وحتى لا تكون غرفة الإنعاش مباحة لكل من هب ودب، فقد أوقف قرضاوي على بابها زبانية غلاظًا شدادًا، حتى لا يقوم بهذه المهمة غير رجال الدين وحدهم الذين يسميهم العلماء، والذين فيما يبدو يملكون وحدهم دون بقية المسلمين ذلك الشيء المسمى عقلًا! وهم وحدهم من يملكون الكلمة السرية لفتح المغارة والولوج إلى عالم الشريعة ومفازاته السحرية دون بقية خلق الله. يقول الشيخ: «وأهل العلم عليهم أن يعملوا اجتهاد عقولهم ليستخرجوا الحكم الشرعي من النصوص؛ لأن النصوص بعضها قاطع في دلالته، وبعضها ظني في دلالته، وبعض الأشياء ليس فيها نصوص قط، فنحن نعمل لنلحق ما لا نص فيه على ما فيه نص.»

كلهم يقولون «البُق» نفسه! الدكتور أحمد الريسوني الخبير بمجمع الفقه الإسلامي العالمي (يا أخي شوف أسماء وألقاب جامدة وكبيرة تخوف بصحيح!) يأخذ الكرة من قرضاوي فيشرح ويوضح من سيقوم بصياغة الشريعة الحديثة. فيقول: «هم من سُمُّوا زمن الصحابة بأهل الشورى، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ. هذه أمور تخصصية تحال إلى أهلها، لذلك حينما نقول إن الأكثرية مرجحة لا يعني هذا أن الأكثرية معصومة، إن العصمة عند علماء الأمة» (حلقة رأي الأكثرية في الشريعة الإسلامية).

إذن تاهت ولقيناها.

وأهل العقل موجودون والحمد لله لصياغة شريعة إسلامية جديدة ومعاصرة، هم أهل الذكر، هم أهل الشورى، هم وحدهم الصواب المطلق، ولا معنى هنا لأغلبية وشورى وكلام فارغ، العصمة ليست للأكثرية النيابية، العصمة لعلماء الأمة؟ هل تسمعون يا مسلمين؟ العصمة لم تعد لله وحده، العصمة لم تعد لله ونبيه وحدهما، العصمة لم تعد لله ونبيه والصحابة وحدهم، ولكنها أصبحت أيضًا للتابعين بإحسان إلى يوم الدين، ومن مثل مشايخنا تابعا بإحسان؟ إنهم يؤلِّهون ذواتهم ويقدِّسون قولهم دون بقية الأمة التي عطبت وهزلت وخرفت حتى لم يبقَ فيها غير أصحاب الفضيلة كبقية مقدسة من الزمن المقدس. إنهم يروننا ميراثًا لهم لا فكاك منه، وأوصياء علينا دون اختيار منا، وأوصياء على دين الله دون أن يقدموا لنا أي بيان رباني بذلك.

المشكلة أن هؤلاء المعصومين منهم الشيعي الإمامي ومنهم الشيعي الإباضي ومنهم السني الحنبلي ومنهم السني الحنفي، ولم يسبق أن التقى النقيضان مرة واحدة، فكيف سيصوغون لنا شريعتنا وهم على حالهم هذا؟

اللافت للنظر أن الناس غير موجودين في خطاب مشايخنا بالمرة، لم يسألوا عن رأي الناس، بل كانت مشكلتهم هي إذا تضارب رأي المشايخ مع رأي السلطان، انظر بذات البرنامج والقناة حلقة فقه النصر والتمكين، وكان بطلها المغوار الدكتور (علي الصلابي) إذ يعلن كما لو كان عليَّ بن أبي طالب يعلن سورة براءة من فوق الكعبة، بقرار وفرمان يقول: «ترتيب الدور الأول للعلماء الربانيين لأنهم أصحاب الفهم (يعني غيرهم بقر؟!) ولأنهم أصحاب الفكر (يعني غيرهم مخبلون)، ولهم القدرة على التأثير في الآخرين (انظروا مدى استصغارهم للجماهير التي تتبعهم مطيعة كالماعز). بعدهم يأتي دور صاحب القرار السياسي، أما إذا حارب صاحب القرار السياسي الدعاة والعلماء فسيكون عائقًا». والشيخ الصلابي كان يتحدث على التلفاز وعلى ملأ وعلى حكومات وعلى مباحث، وعلى أمن الدولة، وعلى معتقلات؛ لذلك لم يشرح للمسلمين كيفية إزالة هذا العائق؟!

هذه دولتنا الإسلامية المنتظرة، دولة حداثية سيعمل رجال الدين فيها على صياغة الشريعة بالعقل وحدهم دون غيرهم، ترى بعدما قرأنا وعلمنا هل نثق بهؤلاء القوم حتى نضع مصيرنا بين أيديهم؟ وهل هذا ما يصفونه بدولة ديمقراطية مدنية ذات مرجعية إسلامية؟ أم هو الكذب والتدليس وغش المسلمين ودين المسلمين ورب المسلمين؟

(٥) قيمنا وقيمهم؟!

ضمن سلسلة قضايا إسلامية التي تصدرها وزارة الأوقاف الإسلامية تم حشد عدد من المؤلفات تعنى بفلسفة القيم، وكالعادة لن تجد فروقًا واضحة لا في الأهداف ولا في المنطلقات بين كتاب وآخر في هذه السلسلة القيمية، ربما اختلف الأسلوب بين كاتب وزميله، لكنها في النهاية تقول شيئًا واحدًا تؤكد عليه دومًا، هو أن القيم لا تكون صحيحة وسليمة إلا إذا كانت في الأديان، ومن بين الأديان تسمو على الكل قيم الإسلام، وغير ذلك من فلسفات للقيم منذ سقراط حتى اليوم هي باطل الأباطيل وقبض الريح، إن لم تكن هي الفساد نفسه.

سأعمد هنا إلى كتاب يشكل نموذجًا مثاليًّا لكل زملائه، وقوله فيه هو تغريدة السرب كله وهو وكتاب «القيم الدينية وثقافة العولمة»، والذي دبجه الدكتور الصاوي الصاوي أحمد، لنناقش من خلاله ما يطرحه علينا حماة الإسلام ورعاة الدين ومفكروه.

كي يقدم الدكتور الصاوي فلسفة الإسلام في القيم يبدأ أولًا بإدانة كل القيم في العالم غير المسلم، فيقول: «إن القيم المادية الوضعية تنزل بصاحبها إلى درجة السقوط، وذلك يرجع إلى طبيعة مستواها المادي المحسوس، الذي يجتذب الإنسان ويحركه نحو الفساد والطغيان لا نحو الإصلاح.» ومن ثَم يبني على هذه الفرضية (أو الحقيقة من وجهة نظره) استطراده وهو يقول: «وبسبب السمو الذي تتميز به القيم الدينية؛ فإنها تفي بحق الإنسانية، وتخرج الإنسان الذي عانى بسب بعده عن الدين الصحيح، من القلق والاضطراب والتعاسة وفقدان مشاعر الأمن، وانتشار الجريمة والعنف والإدمان والأمراض النفسية والعصبية وزيادة نسبة الانتحار، والطلاق والاغتصاب والقتل وسيطرة مشاعر الاغتراب والوحشة والبؤس والرعب الذي ساد معظم دول العالم المتقدم.» وتأسيسًا على هذه الصورة البغيضة التي رسمها سيادته لمجتمعات تخلت عن القيم الدينية وانغمست في قيم مادية دنيوية شريرة بالضرورة لا يبقى سوى قوله: «إن القيم الدينية هي من أهم القيم على الإطلاق، وهي الأساس الذي تنطلق منه جميع القيم الحاوية لكل القيم النبيلة؛ فهي تفوق جميع القيم، وترجع أهميتها إلى أن الدين هو أساس القيم والوعي بها والساعي دائما إلى تدعيمها، وهي قيم روحية قادرة على هداية حقيقية لأنها من صنع الله الذي خلق النفوس وأوردها فجورها وتقواها. لقد أرست الأديان جميعًا وعلى رأسها الإسلام قيمًا منزهة عن كل منفعة شخصية» (ص٣٨ وص٣٥). تدهشك جرأة هؤلاء القوم على العلوم بكل أصنافها من الكيمياء إلى الفيزياء إلى الطب إلى الفضاء، والآن يجترئون على الفلسفة! كل ميدان صار مستباحًا لهم إلا ميدانهم هم لهم وحدهم دون غيرهم، رغم أن القرآن الكريم والسنة النبوية لم تكن تعرف شيئًا مما يقوله فقهاء أيامنا. وحسب الكتاب والسنة فإن ما يحرك الإنسان نحو الفساد والطغيان هو الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، ولم يقل لنا الله شيئًا عن القيم المادية الوضعية التي يبخسها مشايخنا كل التبخيس لكونها غير صادرة عن إسلام.

وأحيانًا لا تفهم سر حملتهم الشديدة على كل ما هو مادي موضوعي وضعي، رغم أن آدم حسب النظرية الدينية مخلوق مادي، والحجر الأسود مادة، والكعبة نفسها أحجار مادية وكذلك كسوتها، ومقام إبراهيم وإبليس، كلها أحجار مادية ومع ذلك هي عندنا أسمى المقدسات!

وبدون شعيرة الرجم المادي بالأحجار ترمى على إبليس الحجري المادي يفسد الحج من أصله. ناهيك عن كون القيم الإنسانية أو الوضعية أو بمسماها الفلسفي الإكسيولوجية «الحق والخير والجمال» تخاطب روح الإنسان لا مادته، والأمر على العكس مما يقول فقهاؤنا؛ لأن القيم الدينية تخاطب المادة قبل الروح، فقد حارب الرسول والصحابة من أجل السيطرة والسيادة والغنائم المادية البحتة، إضافة بالطبع إلى نشر الدعوة. وحارب الصدِّيق من أجل الزكاة، وحارب خالد بن الوليد وعمرو بن العاص والقعقاع وخيرة الصحابة الأجلاء من أجل الفيء والجزية، بل وتصارع كبار الأجلاء منهم على عرض الدنيا المادي، كما حدث بين الزهراء وبين الصدِّيق بشأن ميراثها، وكما حدث في حروب دموية رهيبة من أجل السيادة والجاه حتى ضرب المسلمون كعبتهم بالمنجنيق، وحتى قتلوا خليفتهم وخاضوا الفتنة الكبرى، وحتى اقتحم المسلمون مدينة رسول الله واستباحوا فروج الصحابيات بنات الصحابة، وحتى ذبح المسلمون آل بيت الرسول في عملية إفناء مخزية، وطال الاقتتال الشيعي السني حول المسلمين كميراث مادي، هل هم ميراث أولاد فاطمة وحدهم أم هم ميراث قريش على المشاع؟ حتى يومنا هذا!

فأين كانت قيم الروح والدين في كل هذا الذي حدث في تاريخنا الرهيب الملطخ بدماء الأبرياء؟ وهي مجازر لم يكن فيها مكان لحق، بعد أن زعمت كل فرفة أن حقها هو الصواب المطلق وحده وغير باطل، ولم يكن فيها أي خير بقدر ما نالت شرورها عموم الناس مسلمين وغير مسلمين، وما كان فيها أي شيء يمكنك أن تصفه بالجمال، ولم يكن فيها مكان للدين، بعد أن فرض كل فريق وجهة نظره إسلامًا يحارب به إسلامًا مارقًا لدى الفرقة الأخرى، فضاع الإسلام وبقيت الفرق المتحاربة على عرض الدنيا فرقًا إسلامية، احتاج كل منها إلى الشرعية فظهرت الأحاديث وظهر المشايخ عند كل طرف يقدم له الشرعية ودعم السماء.

المشكلة مع مثل هذا الخطاب الفقهي هو قلبه للحقائق عن قصد مبيت وسابق علم وترصد، ليصور للمسلمين حالهم وكأنهم قمة البشرية وسنامها المقدس الحافظ لكل القيم الأخلاقية؛ لذلك ينعمون بالسعادة، وأن غيرهم يعيش البؤس والشقاء والتعاسة. وهو لون من الكذب والغش والتدليس، مع صرف متعمد للناس عن واقعهم المهين الذي وصل إلى أقصى درجات تدنيه، صرفهم عن محاولة إصلاح هذا الواقع، اطمئنانًا إلى أن أهل الغرب الطاغوتي وبقية دول العالم المتقدمة الكفرية، لا تحلم بما نحن فيه من عز ورفاه وسعادة بفضل قيمنا الأرقى، وأن قيمنا الأخلاقية هي الأصح بالمطلق لأنها صيغة ربانية كاملة المواصفات سابقة التجهيز!

الأغنية نفسها ترنمها بقية المجموعة التي تناولت فلسفة القيم في سلسلة وزارة الأوقاف، كلها تندد بأخلاق المجتمعات الغربية حتى تكاد توحي إلينا بأنه مجتمع من الحيوانات أو أدنى، بل وتصرح بذلك كتب الفقه التي يدرسها أبناؤنا في مدارسنا وتؤكد «أنها مجتمعات حيوانية أقرب إلى البهيمية». إنه الأسلوب العربي ذاته في شعر الفخر والهجاء البدوي.

ولا يقولون لنا كيف أمكن لذلك المجتمع المنحل الخرب، أن يخلِّص البشرية جميعًا دون تمييز بين الناس لا بحسب الدين ولا الجنس ولا الطائفة، من أمراض الطاعون والدفتريا وشلل الأطفال والجدري والكوليرا وبقية الأمراض الوبائية الفتاكة، وهي أمراض عجزت الدنيا قبل الغرب الكافر عن مواجهتها، علمًا أن هذا التاريخ كان يضم أنبياء كانت تكفي دعوة واحد منهم لرفع هذه الأوبئة، وهو ما لم يحدث ولا مرة واحدة.

إن فقهاء زماننا لا يقولون لنا كيف تمكَّن أهل المجتمع الغربي الأنجاس الملاعين بقيمهم السفيهة من توفير الطائرات التي قصرت رحلة حجنا العسيرة إلى مكة من ثلاثة أشهر نضرب فيها أكباد الإبل، إلى ساعتين من الرفاهية والمتعة والتسلية الرفيعة والمعاملة الإنسانية الكريمة. وكيف حُوِّلت الكعبة من بناء بدائي إلى بناء غاية في الفخامة بهندسة ومواد إنشاء كلها من بلاد الطاغوت.

في النهاية من تلك المجموعة من الكتابات لا يخرج المسلم سوى بحالة من الكراهية لهذا الغرب، هي كتابات تعيش حالة تحريض مستعر غير مفهومة، لنبقى مع قيمة القناعة التي هي كنز لا يفنى بما لدينا من الفقر والجهل والمرض والتخلف، حتى بتنا القاع الذي تنتهي إليه مزابل الأمم ونفاياتها، مع الحث على التمسك بقيمنا وحمايتها من أي تأثير قد يصيبها من قيم الغرب الذي نقنع أنفسنا بأنه تعيس، ودون أن يشكو إلينا أحد في هذا الغرب أية تعاسة يعانيها.

وإذا كانت القيم الدينية وبالذات الإسلامية تفوق جميع القيم، فهل يعني ذلك أن كل الشعوب والأمم التي لم تعرف الأديان السماوية مثل «اليونان القدماء: الإغريق، والرومان والفرس والفراعنة والهنود الحمر والمايا والأنكا والهند وشرق آسيا كله» كلها كانت أممًا بلا قيم؟ فهل يمكن تصور قيام تلك الحضارات الكبرى الباقية شواهدها حتى اليوم أعلامًا للعالمين، دون نظام قيمي معتبر؟

مثل هذه الرؤية العنصرية كانت سمة أوروبا في عصورها الوسطى وما بعدها بقليل، عندما أفتى رجال الدين المسيحي بأن سكان أمريكا الأصليين ليسوا من الآدميين ولا يملكون روحًا بشرية مثلنا لأنهم ليس لديهم قيم دينية مسيحية؛ ومن ثَم سوغت الأخلاق المسيحية للمستوطنين المسيحيين إبادة هؤلاء الوثنيين.

كان يسكن تلك البلاد بشر لا يعرفون الله الذي نعرفه ولا القيم التي تحكمنا، وحكم عليهم صاوي مع من أبادوهم أنهم لم يكونوا بشرًا لأنهم لسوء حظهم لم يظهر عندهم أنبياء ليدلُّوهم على القيم الدينية.

(٦) من هو صاحب القيم الله أم الإنسان؟

للقارئ أن يتساءل هنا: هل كتب وزارة الأوقاف المصرية حول القيم الإسلامية موجهة للمسلمين وحدهم وبشكل خاص؟ أم هي موجهة إلى كل الدنيا باعتبار القيم الإسلامية والإسلام لكل الدنيا؟ وإذا كان ذلك هو الغرض فهل يقصد فقهاؤنا طرح قيم بديلة لما تعارفت عليه البشرية واعتادته الدنيا منذ زمن أفلاطون؟ وهل معنى ذلك أن مشايخنا يرون وجود تعارض بين ما لديهم من قيم دينية إسلامية وبين القيم الإنسانية، ويريدون بذلك إقناع أهل الغرب بما يجب عليهم الأخذ به كي يتقدموا ويسعدوا؟ أم أنهم يطرحون كلامهم علينا نحن المسلمين حتى نحذر القيم الإنسانية، حفاظًا علينًا من الانحدار من مستوى العالم الثالث إلى مستوى العالم الأول؟ وإذا كان الخطاب لأهل الغرب، فكيف سنقنع هؤلاء الأوغاد بالأخذ عنا وهم يرون أحوالنا في حضيض الأمم وهو ما لا يدفع أو يشجع أحدًا للأخذ عنَّا.

كلنا يعلم أن أوروبا قد أقامت جزءًا من نهضتها عما أخذته نقلًا عنَّا منذ الزمن المعروف مدرسيًّا بزمن الرشدية اللاتينية نسبة لابن رشد، لكنها نقلت ما ترجمة العرب عن اليونان موطن الحضارة القيم، وكان هذا النقل عن قناعة منهم وبحسن بصيرة وعظيم فهم، ولم يحتسبوه غزوًا ثقافيًّا، ومثل هؤلاء لن ينقلوا عنَّا اليوم ما تعافه البشرية ويزدريه العالم.

كلنا أيضًا يعلم أن الحركة العلمية العربية كانت معظمها ترجمات عن حضارات سابقة لا علاقة لها بالسماء وأديانها، فهل كان هذا العصر الذي نزهو به يتعرض لغزو ثقافي، وهل كان علماء الزمن العباسي وهم ينقلون عن الوثنيين يونانًا أو رومانًا ومصريين أو هنودًا على خطأ، وكان الصواب أن ينقلوا عن السلف وحدهم كما يفعل ويطلب مشايخنا اليوم؟ الحقيقة الناصعة هي أنه عندما انفتح المسلمون على غيرهم ونقلوا علومهم وتجاربهم رغم وثنية هذا الغير، كان ذلك هو عصرنا الزاهر، وحفظ به العباسيون للدنيا كلها أسس التحضر والتقدم بما حفظوه لنا من علوم الحضارات الوثنية القديمة.

وبين ثنايا فقههم يلقي مشايخنا بالقول تسليمًا من أنفسهم لأنفسهم بقدسية ما يقولون، دون أن تستند تلك الأقوال إلى سند من منطق أو واقع، وذلك مثل قول الدكتور الصاوي أحمد الصاوي في كتابه «القيم الدينية وثقافة العولمة» الصادر عن وزارة الأوقاف: «إن عقول العلماء والمفكرين والفلاسفة الذين يضعون أسس هذه القيم الوضعية، عاجزة مهما قويت عن الإحاطة بجميع مصالح المجتمع البشري». والمنطق البسيط يقول لنا إنه إذا كانت عقول فلاسفة الدنيا قاصرة عن الإحاطة بمصالح المجتمع، فلا ريب في المقابل أن تكون عقول فلاسفتنا أكثر عجزًا، وأن تكون عقول عوامنا أعجز وأعجز، وينطبق الشيء ذاته على الفقهاء وأيضًا على الأنبياء بصفتهم بشرًا، وبالطبع على د. صاوي، ولا تفهم بعدها لماذا دبج كتابه هذا. وهكذا تكون مصالح المجتمع المحور الذي تدور حوله قضية القيم غير مستوعبة، فكيف إذن يمكن إيجاد قيم لهذا المجهول غير المحاط به.

فالغير محاط به غير مستوعب غير مفهوم، مجهول فكيف يمكن إيجاد قيمته بينما لم يستطع ذلك العلماء والمفكِّرون والفلاسفة من خيرة المجتمع البشري الإحاطة به؟ إن ما لا يمكن الإحاطة به يلقى في القمامة لأنه شيء لا يمكن التعامل معه، سيكون مثل العنقاء والقنطروس والخل الوفي وأبو رِجل مسلوخة، لا يمكن التعامل معها لأنه لا يمكن الإحاطة بها حتى يمكن وضع قواعد سليمة للتعامل معها. وبعد أن يؤكد أن تلك المصالح المجتمعية غير مستوعبة حتى يضع لها الغرب القيم، يفاجئنا الدكتور صاوي بتوصيف وشروح بطول كتابه لتلك المصالح المجتمعية وقيمها الدينية الإسلامية، فأنكر على الجميع هذا الاستيعاب، وأصبح هو المستوعب الوحيد والراعي الرسمي للقيم، وأخذ يصف ويشرح هذا اللامستوعب، فكان كمن يصف لنا العفريت وكيف يأكل وكيف ينام وكيف يقضي حاجته؟!

إنهم وهو يسفِّهون أي شيء غربي إنساني يسقطون في مزالق مفهومية شديدة البساطة والصغر، فأحال الدكتور موضوعه كله (القيم) إلى وهم غير قابل للإدراك ومن ثَم غير موجود.

ضمن ذلك الكلام الذي يلقى في الهواء إلقاء، قول سيادته: «إن الخصائص التي تتميز بها القيم الدينية على القيم الوضعية هي التي أدت لوقوف الأغلبية في جانب القيم الدينية والتمرد على القيم الوضعية» (ص٣٨).

يقود الشيخ هنا حركة تمرد تخلق صراعًا بين القيم الإنسانية (يسميها مادية أو وضعية) وبين القيم الدينية، في حين أصحاب الأديان من أنبياء لم يخبرونا صراحةً ولا ضمنًا بوجود قيم دينية، وهو ما سنقيم عليه الدليل في هذه الدراسات على التوالي.

أما الملقى في الهواء فهو الذي يستدعي التساؤل: من هم هؤلاء الأغلبية الرافضة للقيم الإنسانية ويفضلون عليها قيمهم الدينية أو المحلية؟ هذا مع ما هو معلوم ومسلَّم به أنه لو وُجدت قيم دينية فستنحاز لدينها وطائفتها؛ فهي إن وجدت ستكون قيمًا ضد التماسك الاجتماعي والسلام الوطني والإنساني؛ لأنها ستكون طائفية عنصرية تختص بجماعة من المجتمع دون بقية الجماعات، وبأتباع دينها دون الإنسانية جمعاء، بينما الإنسانية كلها قد تواضعت على قيم عامة يقبلها جميع الفرقاء بالتصويت في الأمم المتحدة؛ فهي ترفض مثلًا ترويع الآمنين، وترفض الإكراه في الدين وترفض التكفير، وتدعم بلا حدود إطلاق حرية العبادة والتدين … إلخ.

إن ما يزعمه صاحب هذا القلم هو أنه لا يوجد شيء اسمه القيم الدينية، ولم يأتِ بها قرآن ولا أنبأنا بها رسول ولا صحابي، وأن حديث فقهاء زماننا عن القيم الدينية هو تأثر بالقيم الأخلاقية الإكسيولوجية الفلسفية المعلومة، فقاموا كعادتهم ينسبون كل تفوق إلى الإسلام، وادعوا ملكيتنا كمسلمين للقيم. علما أن فلسفة القيم الإكسيولوجية أسبق من الإسلام بألف عام، وقيم المصريين الأخلاقية أسبق من الإسلام بخمسة آلاف عام، وقيم الرافدين التي تجلت في قوانين تحميها وتحرص عليها منذ حمورابي لأكثر من ألفي عام، وكلها كانت خبرات ومعارف مكتسبة تمكن الإنسان عبر السنين من أن يستخلص منها ما له قيمة نافعة ليفرزه ويجنبه عمَّا له قيمة ضارة، سواء أكانت القيمة مادية موضوعية تتعلق بتقييم الأشياء أم قيمًا سلوكية أخلاقية؛ فالقيم معرفة مكتسبة وليست قواعد دينية.

ولأن القيم دينية فلا بد من ربطها بالإيمان لذلك يقول الصاوي إنه قد «نادى الحكماء بالعودة إلى الإيمان الذي يمثل طوق النجاة واستعادة الأمن والأمل والثقة والتفاؤل والعدل والمساواة» (ص٣٩).

وعلى هذا الكلام يترتَّب اعتراض ثم تساؤلات، والاعتراض هو على القول بأن الإيمان بالله قيمة من القيم الأخلاقية؛ لأن الإيمان بالله اعتقاد؛ لذلك تجد ملحدين ويعملون وفق مكارم الأخلاق ونبالة الإنسان لكونه إنسانًا فقط، وتجد أديانًا عديدة تؤمن كل منها بالله على طريقتها وتتضمن شرورًا مستطيرة، وبالمقارنة ستجد فروقًا واسعة بين هذه الأرباب حتى تكاد كل ثقافة تختص بإله له صفات بذاتها.

أما الإنسان فلا يوجد إلا ليصنع لنفسه قيمًا؛ لذلك فلكل البشر قيم، في حين ليس لدى كل البشر آلهة متماثلة.

إذن فبالإيمان بالله عقيدة قد توجد وقد لا توجد، لكن لا يمكن أن يوجد مجتمع دون قيم تحكمه، سواء أكان مجتمعًا مؤمنًا أم مجتمعًا ملحدًا أم وثنيًّا؛ لأننا لو قلنا إن الإيمان بالله قيمة تميز المؤمن عن غير المؤمن، فالمعنى أن الله أصبح لوحة مكتوبًا عليها بأحبار ومطابع الغرب الكافر، مثله مثل السيارة عندما أشتريها أقوم بتقدير قيمتها، أو المعزة عندما أشتريها أضع لها قيمة، وهو مالا يليق بالذات العلية، بينما الله غير متفق عليه ما بين بلد وآخر ومجتمع وآخر، فلكل ثقافة ربها بمواصفات خاصة تجعله بعيدًا جدًّا عن الآلهة الأخرى في الثقافات الأخرى، ولم يحدث أن اتفقت الأديان على مواصفات الإله، ولم يحدث إجماع على إله من بينها. بل إن هناك من لا يؤمن بأي إله وهم كثر خاصة في بلاد الغرب المتقدم.

أما القيم فمتفق عليها فلا يوجد إنسان بدون قيم منحطة أو حسنة وبدونها يكون حجرًا غير حي، لكن بإمكان الإنسان أن يكون إنسانًا بالمعنى الإيجابي للقيم الإنسانية ولا يكون مؤمنًا بأي إله؛ لأن الإيمان بإله هو عقيدة وليس قيمة. وعليه فالقول إن الإيمان قيمة إيجابية يقابلها الإلحاد كقيمة سلبية هو قول غير سليم بأي معنى من المعاني؛ لأن الإيمان مسألة قلبية لا يمكن قياس كميته بالكيلو متر أو الكيلو غرام. ومن ثَم لا يمكن تثمينه لتصنيفه على سُلَّم القيم إيجابًا أو سلبًا؛ فالقيمة كما تخبرنا الدكتورة فوزية دياب تقتضي الاختيار والإيثار الذي يقوم على الترجيح والتفضيل، وللتبسيط أضرب مثالًا بمن يذهب للشراء يحمل قيمة تختلف عن القيمة التي يحملها عندما يذهب للزواج وعن القيمة التي يحملها عندما يذهب للسياحة، وعند الشراء سيختلف حكم القيمة ما بين شراء الطعام وما بين شراء لوحة فنية أو تحفة أثرية، سُلَّم القيمة سيختلف في حالة واحدة هي الشراء فكيف يمكن تركيب الإيمان على سُلَّم القيم، إما إيمان وإما إلحاد ولا وسط بينهما لأن الإيمان في النهاية غير قابل للقياس.

ولا تفهم سبب انزعاج فقهائنا المحدثين من وجود الملاحدة في المجتمع رغم أن وجودهم ضرورة لتثبيت الإيمان، حتى قال الصاوي إن من لا يؤمن بالله ليس إنسانًا. بينما وجودهم بيننا يعود على المؤمنين بالنفع العظيم؛ لأن المسلم متوسط التقوى قليل الورع يجد نفسه عاجزًا عن أن يكون مثل عمر أو أبي بكر أو الشيخ قرضاوي أو الشاب عمرو خالد، فيصاب في إيمانه بالنقص مما قد يغويه بالمزيد من عدم التقوى والورع ما دام لا يستطيع أن يكرن مسلمًا حقيقيًّا، بينما عندما يرى الملحدين أمام عينيه فإنه يقيس نفسه عليه فيجد أنه بإيمانه المتواضع من أهل الجنة، وأن جهنم لن تسعى وراءه لتصطاده وأمامها هؤلاء المناكيد. ولا شك أنه سيطمئن باله ويهدأ ويشعر بالسعادة لا بالخوف، ولن يفكر في التطرف والتشدد لأنه سيرى نفسه في قائمة المحبوبين من الله والفائزين يوم يحشرون. ويخرج بذلك من دائرة التشدد لدائرة الإيمان السمح، ولن يكون مضطرًا للسعي المستمر للحصول على درجة أعلى فلا يجد سوى رتبة الشهيد التي سترفع أسهمه فوق كل هؤلاء المؤمنين الكبار. إن وجود حرية الكفر هو ضرورة يعلمها الله لذلك أقرها في قرآنه.

أما التساؤلات التي يستدعيها هذا الكتاب فهي: هل هذه الدعوة موجهة لنا نحن المسلمين؟ أم هي موجهة إلى الغرب الكافر؟ إن كانت موجهة إلينا فهو ما يعني أن فقهاء زماننا يروننا قد أصبحنا خارج دائرة الإيمان لذلك يدعوننا للعودة إليها، وهو ما يعني أنهم يعتبروننا قد كفرنا بعد إيمان وبحاجة للعودة إلى هذا الإيمان؟ وبالطبع لا حل لعودتنا إلى حظيرة الإيمان خرافًا مطيعة إلا بتمكين فقهائنا من السلطنة ليعيدونا إلى الإيمان؟!

أما إذا كانت هذه الدعوة موجهة إلى غيرنا حيث الغرب العاري المنحل، فلماذا البكاء على حال الكفرة الطاغوتيين؟ أم تراه يرهن رقي الغرب باتباعنا واقتناعه بقيمنا وتسليم قياده لكهنتنا، وإلا لا يمكن وصفه بالرقي والتحضر الذي صنعه لنفسه بيديه؟

إن للأديان بمختلف ألوانها ومشاربها قدسية عظيمة لدى أتباعها. والقواعد الدينية هي فروض وأوامر ونواهٍ، بينما القيم تقوم أصلًا على المفاضلة والتمييز بين أكثر من اختيار، وتترتب على سُلَّم قيمي يفاضل ويمايز ويفرز ويجنب بين قيمة وأخرى، أما القواعد الدينية فهي فروض مفروضة فرضًا على أتباعها بحيث لا يمكن مناقشتها عقليًّا بعكس القيم الإنسانية القابلة للأخذ والرد والمناقشة والمفاضلة والممايزة.

وبين تلك الأديان يحرص المسلمون على التأكد من سبق الإسلام لكل علم ومعرفة حدثت أو لم تحدث بعد، وضمن ذلك ما تفعله هنا وزارة الأوقاف بكتبها عن القيم. علما أن ربط القيم الإنسانية بالقواعد الدينية، وجعل هذه القواعد قيمًا أو مصدرًا للقيم، لا بد أن يؤدي بالضرورة إلى جمود القيم جمود القواعد الدينية.

أما ما يهولك فعلًا أن نكون في قعر العالم ومؤخرته وتتلبسنا قناعة بأننا الأميز والأكفأ والأقدر على إسعاد الآخرين، كما لو كانت حياتنا في بلادنا الكئيبة المتخلفة المعتوهة هي نموذج السعادة، ونرى من واجبنا فرض قيمنا الدينية على الإنسانية كي تحصل على ما حصلنا عليه من نعيم ورفاهية ورخاء وتقدم، اعتمادًا على اعتقاد أن الإله الخاص بنا قد أعطانا وعدًا بذلك. ودون أن يمتلك أتباع هذا الإله أي مقومات تؤهلهم لامتلاك سيادة العالمين. وواقع الأرض والأحداث بعيدًا عن التوهمات المريضة ينطق بحال كالعدم، فنحن نعيش بالمنتج التكنولوجي لهذا العالم وبإعانات من هذا العالم في كل مجالات حياتنا من الألف إلى الياء، ويبذل العالم جهدًا مشكورًا مأجورًا لإخراجنا مما نحن فيه من أسن وعفن وعطب، بينما سادتنا المشايخ يحرضون على العداء لهذا العالم العاري الماجن (لماذا لا يرون في هذا العالم سوى الأفخاذ العارية؟! هل العيب في الفخذ العاري وسط منجزات كبرى هائلة أم في العين التي لا ترى سوى الأفخاذ؟!) ويشحنون المسلمين بكراهية المتقدمين حتى نظل بجهلنا رهينة عند مشايخنا وعند السلطان.

وما زال لنا مع القيم حديث يطول، لمحاولة هدم وبناء بنقد ما نعتبره أو نظنه قيمًا إسلامية وهي ليست كذلك حقًّا، نفتح الباب نحو تأسيس ثقافة للقيم متصالحة مع زماننا ومع العالم، كتأسيس لا بد منه، تمهيدًا لأي إصلاح منتظر.

(٧) فلسفة القيم إبداع إنساني لا إلهي

بسبيل إنكار واستنكار القيم الإنسانية (الإكسيولوجية فلسفيًّا وهي: الحق والخير والجمال) إزاء القيم الدينية، يقدم الدكتور الصاوي أحمد في كتابه «القيم الدينية وثقافة العولمة» فرضية يطلب أن نسلم بها لتماسكها المنطقي، وهي الفرضية التي تؤكد من البداية استحالة قيام أية قيم إنسانية سليمة تكون من وضع البشر؛ لذلك لا مفر من اللجوء إلى القيم الإلهية. وهذا إنما يعني أن البشرية قد ظلت بلا قيم حتى جاء الإسلام؛ لأن دكاترة الأوقاف عندما يحدثوننا عن القيم الدينية يقصدون تحديدًا قيم الإسلام؛ لأن الدين عند الله الإسلام فقط. وهو أيضًا ما يعني أن جمع الأنبياء الذين ظهروا قبل الإسلام كانوا عديمي القيم، وهو أيضًا ما يعني أن شعوب العالم غير المسلم شعوب بلا قيم ولا يشرحون لنا كيف تكون متحضرًا ولا تملك قيمًا؟! بينما من يملك تلك القيم هو الغارق حتى أذنيه وعينيه في التخلف والجهل والتاريخ الآسن، وعليه يجب أن نفهم أن هناك قيمًا تصون التخلف وتبقي عليه، فيكون التخلف عائدًا للقيم التي ترعاه، وهي بذلك قيم سلبية تحتاج إلى إصلاح بشأنها، مع الأخذ في الاعتبار الكامل قيمًا تدل عليها حياة أهلها الذين يرفلون في النعيم، وهذا النوع من القيم لا يسقط على أصحابه من السماء، إنما هم من صنعوه صنعًا واخترعوه اختراعًا. فالقيم موجودة لدى الجميع، لكن مجتمعًا يحرص على ما لديه من قيم حتى لو كانت سلبية، وهو بحاجة لإعادة كنس وغسل وتطهير وتنظيف شامل للعقل وللضمير، ومعلوم أن كل شعب يمجِّد قيمه ولا يرى فيها أي سلبيات، حتى الغجر والمافيا يمجِّدان قيمهما ويعتزان بها؛ لأنها هي التي تحافظ على وجودهما وبقائهما غجرًا ومافيا. والمعنى أن القيم تكون صالحة فقط للمجتمع والزمن الذي أفرزها فإن تجاوزت ذلك قد تصبح سلبية في مجتمع آخر وزمن آخر.

لكن السيد الدكتور يقدم لنا حجة شبه منطقية للبرهان على فرضه فيقول (ص٩): «الآن القيم معايير ومقاييس من شأنها ضبط العدالة والمساواة بين البشر، فلا يجب ترك أمرها للأهواء البشرية، حتى لا تكون محلًّا للعبث والتلاعب والانتقاص، فلا يمكن أن يكون الإنسان نفسه محل الفعل والتقييم والمعايرة، وأن يكون هو أيضًا المعيار والمقياس في الوقت نفسه، ولا يمكن أن يُتَصور أن يصبح الإنسان هو الذي يجري على فعله الصواب والخطأ أو القياس والمعيار، وإلا فُتح الباب للأهواء والرغبات الذاتية، ومن ثَم للفساد والاستبداد. وفتح المجال لتسليط الإنسان على أخيه الإنسان، بسبب فقدان الميزان والمقياس والمعيار الإلهي الذي هو أساس القيم.»

إن حجة عدم تصور أن يكون الإنسان هو الذي يجري على فعله القياس والمعايرة بالصواب أو الخطأ، قد يكون صحيحًا فيما يخص الشأن الديني من طقوس وشعائر وعبادات وغيبيات، وأن الاحتجاج بعدم إمكانية جمع الإنسان بين وضع القوانين وتقييم أفعاله والحكم عليها مما يلزم عنه أن يكون هو المشرع وهو الحكم والمنفذ، وهو الأمر غير المنطقي ولا السليم عند الدكتور صاوي وجماعته؛ لذلك يرى وجوب ترك هذه المهمة للسماء وقيمها. وهو كما قلنا أمر يصح في العبادات وغيبها فقط، فليس من حقي كمثال أن أتدخل في تحديد عرض السراط، ولا عدد أجنحة جبريل، ولا أزيد من عدد الركعات أو أنقص منها، ولا أتدخل في الغيبيات كالعرش والجنة والجحيم، ولا أسأل عن أشياء إن بدت لنا مسيئة، فلا نسأل كيف ولدت الصخرة ناقة صالح وفصيلها معها، ولا الحكمة في إسراء النبي ومعراجه سرًّا لا علنًا، ولا كيف مكث يونس في بطن الحوت، هي موضوعات إيمان لا موضوعات بحث، تقوم على التسليم وعدم المناقشة. أما فيما يتعلق بالحياة الدنيا، بالمجتمعات والدول والبشر وأنشطة الإنسان اليومية، سنجد الواقع يقول شيئًا مختلفًا بالمرة عما يقول فقهاؤنا؛ فالشرق والغرب والشمال والجنوب في كل بقاع المعمورة، يجرون على فعالهم الصواب والخطأ والقياس والمعايرة، وجميعهم كما نرى أحرار ناجحون متفوقون سعداء متميزون يعيشون كل الهناء والسرور، بينما نسعى نحن لتقليدهم لكننا نرفض قيمهم وننقل عنهم فقط ما قد تسمح بمروره ذائقتنا الدينية ومجموعة فلاترنا وخطوطنا الحمراء.

وبينما يستنكر فقهاؤنا أن يكون الإنسان معيار نفسه، فإن الواقع يؤكد أنه لا بد أن يكون الإنسان نفسه هو محل الفعل والتقييم والمعايرة، بدليل أن الله لم يرسل أنبياء لا إلى استراليا ولا أمريكا ولا شرق آسيا، ورغم ذلك فإن تلك البلاد متفوقة بما لا يقارن ببلاد من يزعمون امتلاك قيم سماوية.

إذا كانت هناك قيم سماوية؛ فهي فقط للعبادات وتخص كل دين على حدة؛ لذلك لم تتفق الأديان ولم تتوحد لعدم تطابق قيمها الدينية. وثمة فارق عظيم بين قيم تعبدية تختلف بين دين وآخر، وبين القيم الإنسانية الكونية الصالحة لكل البشرية. لقد نجحت القيم الإنسانية في توحيد البشرية وتوجيهها نحو قرية واحدة، بينما لم يتمكن أي دين من ذلك، وعندما أرسل الله نوحًا وأحدث الطوفان، كان الهدف من هذا القرار الرهيب في حق الإنسانية كلها هو التخلص من الآخرين غير المؤمنين لتوحيد البشرية، ومع ذلك لم تتوحد البشرية، فجاء بعد نوح من خرجوا على الدين مرة أخرى، ولا شك أن الله كان يعلم ذلك سلفًا، ومع ذلك استجاب لدعوة نبيه ولم يُبقِ على الأرض من الكافرين ديَّارًا، أطفالًا ونساء عجائز وشيوخًا كلَّت حواسهم عن إتيان المعاصي، مع من تمت إبادتهم. بينما القيم الإنسانية هي التي أدت للإنجاز الذي يتحقق اليوم تدريجًا لتوحيد البشرية بالعولمة، دون دمار وطوفان وخراب ديار وإبادة للإنسانية على الأرض، إنما بمؤتمرات وحوارات بين الثقافات وما تقوم به اليونسكو الآن في (حوارات القرن الحادي والعشرين).

ثم إن الإنسان ليس نمطًا واحدًا، فلكل بيئة ناسها وظروفها الجغرافية والطبيعية والتاريخية، فما يتفق والنمط البدوي يختلف ويتنافر مع النمط النهري الزراعي، وما يوافق الأوروبي لا يوافق الحجازي. فإذا كانت قيم الإسلام تناسب منطقة ظهوره، فإن البشر في منطقة ظهوره كانوا من نمط يختلف عن نمط بقية البشر. بل من نمط خاص جدًّا تفاعل معه الوحي حسب فهم زمانه وناس مكانه فحدثهم بلغتهم ومعارفهم وبلسانهم، وخاطبهم على قدر عقولهم لا على قدر عقولنا.

وكما كان للصحراء قيمها كان لبيئة النهر قيمها، وقيم النهر أنشأت حضارات كبرى قبل الأديان وبعدها، والقول إن قيم الصحراء هي المثال النموذجي هو أمر يجافي حقائق الواقع على مدى التاريخ، وإلا لكانت جغرافية مهبط الأديان تحوي أقوى وأعظم الحضارات، ولكانت لها السيادة والريادة، ولما ظهرت اليوم دعوات الإصلاح لبلاد مهبط الأديان، ولقام العالم كله يسعى للتشبه بنا والنقل عنَّا لا العمل على إصلاحنا. وعليه فإن البيئة تشكل بمشاركة البشر ونتيجة تفاعلهم معها، ضميرًا جميعًا يتمثل واقعيًّا في مجموعة نظم وقواعد وعادات وتقاليد، تحكمها القيم التي توافق عليها هذا الضمير الجمعي. وهو ما يتم غرسه في الطفولة والتنشئة الاجتماعية، فتتحول القيم إلى معانٍ داخلية تصع شروط السلوك، تصبح مثل أوبريتور داخلي باطني سبق تصنيعه، مهمته تشغيل السلوك وفق ضوابط تحمي هذه القيم؛ ومن ثَم تتشكل القيم بحسب ظروف الجغرافيا والبيئة وشكل المجتمع وظروفه. وفقهاء زماننا يحرمون المسلمين من تشغيل هذا الأوبريتور باعتباره نقيضًا للقيم الدينية؛ لذلك حرَّموا الإبداع بحسبانه بدعة، بينما قام الإنسان في الغرب بتشغيل هذا الأوبريتور فأبدع وابتدع وأفاد بعلومه وقيمه الإنسانية كلها.

إذن البيئة والإنسان يصنعان معًا ما يلزم من تكنيك لإشباع الحاجات الإنسانية وفق نظام قيمي، ولحماية هذه القيم تم اكتشاف القوانين أو اختراعها اختراعًا لضمان قيم الجماعة وصيانتها. فالبيئة حكمت على مصر مبكرًا بإدارة محكمة ونظام تكافلي مقدس في مواجهة توحش النيل، للسيطرة عليه واستئناسه وتوظيفه بما يعطي أفضل منفعة؛ لذلك كانت القيم تناسب هذا الوضع الخاص، وهو وضع يختلف بالمرة عن بيئة الندرة الشحيحة الفقيرة في البوادي، حيث لا يمكن الحديث سوى عن قبائل متفرقة متقاتلة على خير البيئة الضنين، لا عن دولة مركزية إدارية.

ومثل الدكتور الصاوي فإن الشيخ الدكتور «عمر حسنة» يضع تعريفًا للقيم في ثوب يبدو مدنيًّا بالكامل، بينما يستبطن الرؤية الدينية وحدها؛ فهو يقول: «إن القيم معايير ومقاييس للفعل البشري، ومحددات للسلوك، وضابط للنشاط الإنساني ومسيرة البشرية في المجالات جميعًا» (المصدر نفسه). ولعل أول ملحوظة هي إسقاط هذا التعريف عن قصد وعمد، المشاعر والأحاسيس الإنسانية وقيمها ومعاييرها؛ مما يعني إنكار وجود أي قيم للتذوق الفني والجمالي، هو تعريف إسلامي في لغة محايدة، تعريف لا ينظر إلى الآثار المصرية أو تماثيل بوذا التي دمرتها طالبان بأنها أشياء ذات قيمة. فإن سألنا عن المعيار أحالونا إلى المعيار الإلهي. ولو ذهنا معهم إلى المعيار ذاته لوصلنا إلى نتائج مخالفة لمقدماتهم، فإذا كان هناك معيار إلهي للقيم، فلا شك أنه كان قديمًا أزليًّا سابقًا لكل الرسل، ولأن آدم هو من كان مؤهلًا لفهم القيمة والحكم عليها، وبدون وجود إنسان لا وجود لأي قيمة لأن من يعطيها القيمة هو الإنسان، إذن لا شك أن هذا المعيار الإلهي قد صاحب عملية خلق آدم؛ لأنه لن يصح القول إن الله قد خلق آدم بلا أخلاق وتركه وذريته ألوف السنين، ثم استدرك ذلك بملحق أخلاقي يحمله له الأنبياء، ناهيك عن كون آدم نفسه نبيًّا لأولاده حسب العقيدة الإسلامية. إذن لو سلمنا لفلاسفة القيم المسلمين بما يسمُّونه قيمًا إلهية لها معيار إلهي، فلا شك أن هذا المعيار هو الذي صاحب الإنسان في عصره الحجري في صورة قيم مغروسة فيه، تتناسب مع مطالب القوة البدنية للدفاع عن النفس والحصول على الغذاء في الغابات والأحراش في بيئة بدائية قاسية، وذلك للحفاظ على نوعه من الانقراض. كانت القيم تناسب الحال، كانت هي الغرائز والحاجات الأساسية والشهوات وحدها لا غير.

كان الإنسان نصف وحش نصف إنسان، كان بحاجة لما يواجه به البيئة المتوحشة، ولأن لكل مقام مقال، ولأن لكل زمن أو مكان ما يناسبه، فإننا لو قلنا معهم بقيم إلهية فستكون هي الغرائز والحاجات للسكن والطعام والجنس والأمن؛ لذلك أعطاه الله الغرائز، أعطاه حواس الإشباع لحفظ نوعه وحياته، وهي قيم كانت موجودة سواء جاء الأنبياء ليقولوا لنا عن القيم الإلهية أو لم يأتوا. كان كبقية الوحوش ينكح أخته كما في صراع هابيل وقابيل مثلًا، وحتى زمن إبراهيم الذي تزوج من أخته سارة، وحتى زمن الأسباط عندما تزوج عمران عمته يوكابد. ولو كان لدى آدم ما لدينا اليوم من قيم إنسانية لفشل وانقرض لعجزه عن التعامل مع بيئة لا ترحم ضعيفًا.

وعندما طور الإنسان بيئته طور قيمه لتناسب الجديد؛ فهو يطور البيئة فتتطور القيم لاحقًا، وهو ما يفسر لنا بقاء قيم شديدة البدائية في المجتمعات المتخلفة التي لا تخترع ولا تنتج ولا تضيف جديدًا، بينما يحاول العالم المتحضر مساعدة هذه المجتمعات للخروج من بدائيتها. وكان معنى الخير بدائيًّا ماديًّا بحتًا فالخير هو الطعام أو الإحسان بالطعام والماء، مجموعة الأفعال المسببة للذة والسعادة كانت هي قيمة الخير، كانت عند البدائي حرة عشوائية بلا قيود، يجامع كالحيوانات أمام الآخرين دون حرمات، كل شيء كان مباحًا فلو وُجدت قيود وتحريمات لاندثر وانقرض. كان هو الوحشية الطليقة غير المقيدة، يأكل ويفترس غيره ويشبع غرائزه، حتى جاء فجر الضمير مع قيام دولة مصر القديمة الموحدة، فيما وصل إليه الحبر اليهودي الأركيولوجي الأمريكي جيمس هنري برستد، وقبلها كان الظلام الدامس، قبلها كان الإنسان لا يزال حيوانًا بعد.

القاعدة الأساسية لقيمة الخير عند البدائي هي ما يخطط للإنسان حياته ونوعه، كل شيء مباح ما دام يحقق الراحة والسعادة واللذة، ومع التحضر والتطور أخذ الإنسان يهذِّب من سلوكه ويتنازل عن بعض حرياته للمجتمع، وبدأ تعريف القيم وسُنَّت لها القوانين عند حمورابي وفي القانون المصري القديم وهو قانون شديد الثراء، وعني المجتمع بأن يعرف أفراده حقوقهم وواجباتهم عبر تعليم القوانين والعقوبات في المدارس كما وصلنا من العمق البعيد لتدريبات تلاميذ المدارس في مصر القديمة.

إذن حسب الرؤية الدينية فإن المعطى الإلهي كان الغرائز الموضوعة في خلقة آدم، مع معارف أولية بسيطة ابتدائية، ومثل هذه المعارف الأولية لا تندرج تحت معنى القيم اليوم إلا بمعناها السلبي، ويبدو أن المعطى الإلهي كان به شوائب كثيرة لحكمة يعلمها الخالق سبحانه وتعالى، حتى العقل الذي هو سر التكريم الإنساني كان أيضًا ناقصًا ومعيبًا بدليل تعرضه للخداع من إبليس، وسقوطه ومعه ذريته حسبما نؤمن عن قناعة.

لم ينزل آدم إذن على محطة لمترو الأنفاق ولا أمام هوليود وناطحات السحاب، وهي مستحدثات تحتاج كل منها إلى تقييم يعطيها قيمة وقوانين تحمي هذه القيمة، حتى تسيل حركة المجتمع دون عوائق، فمثلًا عندما استحدث الإنسان السيارة وضع لها قيمة ثم وضع للقيمة قانونًا يحميها هو قانون المرور؛ وهكذا كان كل مستحدث من صنع الإنسان، يضع له القيمة الإنسان، ومن يعايره بقانون يحمي القيمة هو الإنسان؛ لذلك لا يوجد قانون مرور إسلامي مثلًا لأنها مستحدثات لم يعرفها الإنسان البدائي، بينما آدم حسب القصة الدينية ما كان محتاجًا لكل هذا، فقد نزل في برارٍ وأحراش وغابات ومفترسين ومفترسات وأرض غير مستقرة ما بين إعصار وبركان، ومع التطور ظهرت قيم الحضارة في البلاد النهرية، ومع التطور التالي ظهرت قيم عصر النهضة ومع التطور التالي ظهرت قيم زمن العولمة، وفقهاؤنا المتفلسفون يحدثوننا عن قيم زمن العولمة كما لو كانت هي القيم الإلهية، بينما قيم العولمة في زماننا هي نتيجة تطور هائل حدث للمعاني والمفاهيم القيمية لتحمل دلالات جديدة تناسب زماننا، ولم تكن في مخزونهم المعرفي أصلًا، لقد أنشا الله الغابة وأنشأ لها قيمها، وأنشأ الإنسان الحضارة وأنشأ لها قيمها.

(٨) القيم الأخلاقية والاسلام

في كتابه «الإخوان المسلمون» يشرح لنا الشيخ الدكتور يوسف قرضاوي السر وراء رفض المسلمين لقيم البلاد المتقدمة مع قبول منتجها التكنولوجي، بداية وقبل كل قول. وهو ما يعني قبول الصنعة دون الصانع ودون القيم التي أدت إلى ظهور هذه الصنعة، وما يعني أيضًا وجودنا الدائم في حال من الدونية والقزمية غير منتجين بل متطفلين على منتج الغرب المدني، عملًا بقول الشيخ شعراوي تجاوز الله عن سيئاته، إن الله منحهم العلم والعقل ليشقوا بهما كالأنعام وينتجون لنا ونحن نستهلك على الجاهز بما أعطانا من بترول أو غيره. تصور يا مواطن هم في هذه المقارنة هم الأنعام! تصور!

المهم يقول قرضاوي وهو ينعى على المدنية قيمها الأخلاقية: «إن أهم الظواهر التي لازمت تلك المدنية الإلحاد والشك في الله وإنكار الروح ونسيان الجزاء الأخروي، والإباحية والتهافت على اللذة والتفنن في الاستماع وإطلاق الغرائز. والأثرة في الأفراد فكل إنسان لا يريد إلا خير نفسه. والربا والاعتراف بشرعيته واعتباره قاعدة للتعامل، وقد أنتجت هذه المظاهر المادية البحتة في المجتمع الأوروبي، فساد النفوس وضعف الأخلاق، والتراخي في محاربة الجرائم فكثرت المشكلات وظهرت المبادئ الهدامة، وأثبتت هذه المدنية الحديثة عجزها التام عن تأمين المجتمع الإنساني، وفشلت في إسعاد الناس» (ص١٣٩، مكتبة وهبة، القاهرة).

والملحظ الأهم هنا هو بكائية الشيخ على خروج المسيحيين وغيرهم من أصحاب أديان على أديانهم بسبب المدنية والحضارة، كما لو كان معترفًا لهم بصواب أديانهم رغم «أن الدين عند الله الإسلام»، وأنهم قد خرجوا على هذه الأديان إلى الإلحاد وإنكار الروح وجزاء الآخرة، بينما الأمر عنده سواء، سواء عبدوا المسيح أو عبدوا العجل أبيس، خاصة أن قرضاوي نفسه هو الذي يتعسر على لسانه تسمية المسيحيين باسمهم نسبة للمسيح، الذي تم تأميمه لمصلحة الإسلام فكان مسلمًا والمسيحيون لا يعلمون؛ لذلك يلتوي لسانه فينسبهم إلى مدينة الناصرة الفلسطينية ويسميهم «نصارى».

أليس هذا تلبيسًا وخداعًا ونفاقًا يثير السخرية أكثر مما يدفع لاحترام القائل، بل هو يشين القائل ويقلل من قيمة ما يكتب ومصداقيته، وأن غرضه ليس الدين بحد ذاته. أما قوله بفشل المجتمع المدني الإنساني في دول الحريات في إسعاد الناس وتأمين حياتهم، فتلك والله فرضية كاذبة من العيار الثقيل، تعجب من المسلمين وهم يسمعونها من الشيخ، كيف يتابعون قولًا له بعدها أم فتوى؟ وكما لو كانت ديار الإسلام هي ديار الأمان والرفاه والرخاء والإيمان والسعادة والهنا والسرور، وكلها ألفاظ نسمعها ولا نعرف لها معنًى في واقع حياتنا. فلا أمان ولا رفاه إلا مع بترول اكتشفه لهم الغرب الكافر، ومنه يعيش الشيخ ومعظم المشايخ حياة الرفاه والسعادة ولا يعلمون عن المواطن المطحون شيئًا، نحن لا نعرف لا الرخاء ولا الإيمان الصادق الذي يطرق القلب ويصلح الضمير، بقدر ما هو إيمان سطحي ظاهري يهتم بالشكل دون المضمون، أما السعادة عندنا فهي ما نسمع عنه مثلما نسمع عن بيضة الديك ولبن العصفور وحلاب جديه.

المفارقة في كون السادة المشايخ يفاخرون الغرب بأداء ما هو مطلوب من الإنسان أداؤه من سلوكيات بحسبانه إنسانا، فليس للأب أن يفاخر بالإنفاق على عياله، ولا للأم أن تفاخر برعاية أطفالها؛ فالمفاخرة تكون عند أداء ما هو أكثر من الواجب، فرحمة القوي بالضعيف واجب لا يدعو للفخر والتباهي؛ لأنه ليس أكثر من المطلوب إنسانيًّا، والشيخ فيما يقول ليس فريدًا في بابه، وليس مبتدعًا إنما هو متبع لعادات العرب البدوية في حياتهم الضنك الجافية، وما تركه هذا الضنك حتى بعد الغنى البترودولاري من ثقافة باقية تعود لزمن أسبق، عندما كان الصراع الصفري حتى الموت على خيرات الطبيعة الشحيحة هو قاعدة البقاء حيًّا في الصحراء.

العرب تفاخروا بأدائهم الواجب؛ لأن قيم زمانهم غير قيم زماننا، فكان أداء هذا الواجب في زماننا هو أكثر من الواجب في زمانهم، وما كانوا يعرفون ما هو أكثر من الواجب، فإن قام أحدهم بأداء الواجب ملأ الدنيا صياحًا وصخبًا وشعرًا ونثرًا بمطولات ورباعيات وخماسيات، مفاخرًا بأدائه الواجب الإنساني، الذي يعجز مجتمعه عن أدائه؛ لذلك استحق الفخر والشعر وتدبيج القوافي. فالفخر العربي بالكرم والشهامة والمروءة لأنها كانت أفعالا فريدة، فحاتم الطائي واحد فقط لا غير، ولم يُشتهر بعده سوى جد النبي هاشم الذي هشم الثريد لقومه في المجاعة فسُمِّي هاشمًا بدلًا من زيد، حالات فرادى لتاريخ طويل يفضح مجتمعه بتأكيد ندرة تلك الأخلاقيات، الواجبة إنسانيًّا في مجتمعات أخرى وبيئات أخرى. الأمر نفسه يحدث اليوم وليته حادث عن ندرة أخلاقية بقدر ما هو حادث توهمي مريض، فحتى هذه الندرة الأخلاقية غابت واختفت، فنتباهى بتقليد الأمم المتحضرة بالتحدث مثلها وليس إتيان أفعال مثلها، فيشعر الواحد منَّا أنه قد حصل على جائزة نوبل في الأخلاق لتسامحه مع غيره؛ لأنها عندنا قديمًا وحديثًا نوادر يتامى؛ لذلك تستحق في بلادنا الإعلان والتباهي والتفاخر؛ لأن أحدنا قد تمكن من أداء فعل واجب إنسانيًّا.

ولمزيد من التدقيق بشأن القيم الأخلاقية، علينا أن نميِّز أولًا بين ما هو قيم ذاتية شخصية، تخص الفرد وهو حر في تفعيلها أو تعطيلها، وبين ما هو قيم موضوعية عالمية إنسانيًّا لا يكون الفرد معها حرًّا في القبول أو الرفض، مثل قيم حقوق الإنسان وقيم رفض التعصب للجنس أو اللون أو الدين، أو التفرقة بين الناس على أساس من تلك الاختلافات، هي قيم إلزامية وضعت لها البلاد المتقدمة قوانين تحميها من الكسر والتعدي عليها، تقف جميعًا ضد التعصب والتطرف وحل المشكلات بالعنف المادي.

هتلر مثلًا جعل من قيمه الذاتية قيمًا مجتمعية فجاءت عنصرية تجعل من الألمان قمة البشرية؛ مما أدى إلى حرب عالمية أكلت الحرث والنسل؛ لذلك فإن العالم من بعدها صار يجتمع على قلب واحد، عندما تخرج القيم الذاتية إلى خارج حدودها، وهو ما حدث في تحالف دولي ضد الإرهاب الإسلامي بينما الإرهاب عند المسلمين هو جهاد في سبيل الله وهو أسمى آيات الإيمان والتصديق والاستشهاد، لكنه قيمة ذاتية تخص بشرًا بعينهم دون غيرهم؛ لذلك تؤدي إلى الحروب والقتال، بعكس القيم الإنسانية لأنها شاملة يلتزم بها الناس سعيًا لأمان المجتمع البشري كله.

وكم لدينا من قيم محلية ذاتية تخص الذات المسلمة، وتعود إلى مجتمع من نوع خاص هو المجتمع البدوي الصحراوي، هو مجتمع خشن يرفض القيم الإنسانية لرقتها، بل ويعيب عليها الرقة التي هي ضد الرجولة الحقة، فنتمسك بدلالات عتيقة لمفاهيم كالرجولة والمروءة، ويُقدِم أحدهم على ذبح شقيقته أو ابنته لكسرها قواعد الشرف العربية في الكراهية ولأنها اختارت لنفسها من تحب، دون أن يُصَنَّف فعل القتل كجريمة أعظم من كل جريمة، وأن علاج الجريمة بجريمة أفدح هو خلل شديد في مقومات الضمير، بينما العالم كله قد تغير فأعطى هذه المفاهيم دلالات جديدة بالمرة.

نتمسك بسلوكيات قاسية لأنها تناسبنا، بينما حقيقتها أنها كانت تناسب زمنها وبيئتها، وخروجها خارج حدودها انتهى بحال بلاد الحضارات المفتوحة إلى ما هي عليه الآن، بعد أن اكتفينا بديننا الجديد وما جاءنا راكبًا الدين من عادات ونظم وتقاليد بلاد غير البلاد وزمان غير الزمان، وأغلقنا على ذواتنا فلم نعد نرى نماذج عليا غير قيمنا الدينية غير الموجودة أصلًا في الدين؛ لأن القيمة حتى نسميها قيمة لا بد أن تقف أمامنا في سوق عرض للأفكار، نختار بينها وبين غيرها ونفاضل، وهو الأمر غير المسموح به في الدين؛ فهو أوامر وتعليمات ونواهٍ وقرارات قادمة من خارج الإنسان، بعضها في القرآن وبعضها في الحديث ومعظمها من المشايخ والفتاوى، فأي دين وليس الإسلام فقط هو مجموعة إملاءات وشروط.

بينما كي يتمكن الإنسان من إصدار حكم قيمة فلا بد أن يملك حريته بإطلاق؛ لأنها هي التي تمكنه من إصدار حكم القيمة. ولو وقع العقل والضمير الإنسانيان تحت سيطرة سلطة خارجة عنهما تقوم بتسيير الإنسان، فإن حكم القيمة الذي سيصدره هذا الإنسان، لن يكون تعبيرًا عن رأيه، بل هو تعبير عن رأي المتسلط، فيأتي حكم القيمة معبرًا عن رأي المسيطر، أكان حاكمًا أم رجل دين أم مجتمعًا أم مذهبًا أم أيديولوجيا؛ لذلك فإن المجتمع الذي يسمح بالحرية، هو من يصل إلى أحكام قيمة سليمة.

هذا إضافة إلى أن للقيم سُلَّمًا تترتب عليه حسب الحاجة المجتمعية، وهو ما لا يمكن فعله مع ما يسمى قيمًا دينية نفاضل بينها وبين غيرها، وإذا كان من يحدد القيمة على السلم هو الفرد الحر، فإن القيم هنا تكون هي المتعلقة بحاجات الفرد المادية من مطعم ومسكن وأمن و… إلخ، وحاجاته الشخصية من أدوات وآلات؛ لأن القيم المعنوية المتعلقة بالأخلاق والمبادئ، هي محل التوافق الجمعي عليها. فإذا كان النظام السياسي فرديًّا دكتاتوريًّا فلن يقر قيمة التفكير والحرية وسيخضع الأفراد لإرهاب الدولة، وتتشكل قيم المجتمع على هوى الزعيم، وهي لا تمثل مصالح مجتمعه ولا مصلحة الإنسانية.

والتاريخ يحتشد بهذه الأمثلة، هتلر، هولاكو، القذافي، موسوليني، الترابي والبشير، ابن لادن، الزرقاوي، ميلوسوفيتش، محمد بن عبد الوهاب وآل سعود، عبد الناصر، عائلة الأسد، ستالين، صدام حسين … إلخ … إلخ، فما أكثرهم في التاريخ الإنساني؛ وهو ما يعني أن المجتمع المحكوم بسلطة الفرد لا بسلطة الناس، والمحكوم بالواحدية المصمتة، هو مجتمع لا ينتج قيمًا تمثل روح الإنسان الحر وفكره وعقله، وغياب حرية الرأي والفكر والاعتقاد هي ديكتاتورية تحول الأفراد إلى قطيع متوحش لا يضبطه إلا الراعي الديكتاتور؛ لذلك يقولون في المثل: «كل شعب يستحق حكامه»، والراعي ليس الديكتاتور كشخص إنما كمنهج، بمعنى فكر واحد واتجاه واحد ومذهب واحد، ومن يخالفه يقع تحت العقوبة؛ ومن ثَم لا يكون هناك أي مجال للحديث عن تعددية؛ لأن التعددية مساواة ومشاركة لكل المختلفين. تفسح في المجال ليقول الجميع ويفكر الجميع ويؤثر الجميع فنصل إلى محصلة تمثل الجميع بلا تسلط، ويسقط الراعي المفرد.

لنتابع الشيخ قرضاوي ونتساءل: إذا كانت القيم الأخلاقية للمدنية الحديثة بهذا السوء، فما هي القيم الأخلاقية التي يجب أن نتمسك بها حتى نكون بشرًا أسوياء؟

يقول الشيخ قرضاوي في كتابه «ملامح المجتمع المسلم»: «إن القرآن سور مكية، ومدنية، مليء بالآيات واللوحات التي تقدم لنا نماذج خلقية كريمة، تجمع المثالية والواقعية، لم تعرفها من قبل ولا من بعد شريعة ولا نظام» (ص٩٤)، وإن آداب المجتمع المسلم وتقاليده تنطق بهذه النماذج الخلقية العليا؛ فالمجتمع المسلم «لا يأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله، ولا يشرب الخمر والمسكرات ولا يقدم ذلك على موائده، وهو يأكل ويشرب باليمين ويبدأ طعامه باسم الله، ويختمه بحمد الله، ولا يأكل ولا يشرب في إناء ذهب أو فضة … ومن آداب المجتمع المسلم الإحسان على الجار وإكرام الضيف وتشميت العاطس وعيادة المريض وتشييع جنازة الميت وتعزية المصاب» (ص١٠٢، مكتبة وهبة، القاهرة).

بين هذا الحشد من الصفات الحميدة لا تجد شيئًا يتعلق بالقيم الأخلاقية، لا الأكل باليمين ولا بالشمال ولا تشميت العاطس ﺑ «يرحمكم الله» ولا «شفيتم»، هو من القيم الأخلاقية، بقدر ما هو من العادات والتقاليد، إنما تلمح بين السطور حالة شعور بفخر بالنوادر كالإحسان للجار وإكرام الضيف وهو ما لا يستحق فخرًا قدر ما هو واجب طبيعي من الإنسان تجاه أخيه الإنسان، مع ملاحظة احتساب فقهائنا أن القيم الذاتية هي قيم موضوعية لذلك يخلطونها بالعادة والتقليد، فعدم شرب الخمر أو أكل الدم أو عدم أكل الخنزير أو أكل الجراد والضب أو الحمر الأهلية هي قيم ذاتية، لا قيمة لها خارج المجتمع الإسلامي، فسواء أكل الخنزير أم التمساح، وسواء شرب الخمر أم مضغ القات، فذلك كله لا علاقة له بالقيم الأخلاقية؛ لأنها مسائل ذاتية تتعلق بالاعتياد والتذوق حسب المكان والزمان.

ثم يأخذنا الشيخ إلى المنطقة التي يصعب فيها النقاش، مقدمًا لنا القيم البديلة لقيم المدنية من آيات القرآن الكريم، وهو بذلك يقدم لنا ما يسميه القيم الإلهية وذلك مثل الآيات: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (البقرة: ١٧٧) (كتابه ملامح المجتمع المسلم، ص٩١).

إن التوجه وجهة الكعبة، والإيمان بالله والآخرة والملائكة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة … إلخ كلها فروض دينية يلتزم بها المسلم وليست قيمًا أخلاقية تسم صاحبها بأنه راقي الخلق، وللأسف الشديد فإن عكس هذا هو ما ترسخ في العقل المسلم الجمعي، الذي يرى أن الأخلاق لا تقوم إلا على تقوى دينية، ولا يصدر عمل ولا علم سليم ولا خلق كريم إلا عن الإنسان التقي دينيًّا بالمعنى الإسلامي وحده، وهو الأمر الذي يخلط الأمور المتنافرة بعضها ببعض فلا يبقى سوى فوضى القيم الذاتية، بلا علم وبلا أخلاق. بينما الشيخ يرى أن الإشارات للقيم الأخلاقية في هذه الآيات كالوفاء بالعهد وإيتاء المال للمحتاجين، عندما جاءت وسط قواعد إيمانية، جعلت من هذه القيم قواعد للإيمان، فالمسلم هو الذي يفي بالعهد ويكرم المحتاج كما يصلي ويحج ويصوم؛ لذلك نؤكد مرة أخرى أن القيم الأخلاقية هي تلك التي تعلو على الواجبات الإنسانية، وبدون الوفاء بالعهد وتكريم المحتاج لا يمكن أن يقوم أي مجتمع ولا أي لون من السياسة أو الاقتصاد في أي بلد مسلم أو غير مسلم؛ فهي ليست خاصية المسلم دون غيره من عباد الله، إنما هي خصائص إنسانية عامة تضمن تماسك المجتمعات في أي مكان وأي زمان.

(٩) التحريم بالأمر والنهي شر توقفه الحرية!

القيمة هي ناتج تفاعل الفكر الإنساني مع الأشياء المادية ومع الأفكار والمعاني، القيمة هي قدر أو رتبة أو ثمن، هي درجة تمييز تترتب تسلسليًّا على درجات، وأدوات قياس القيمة إنسانية نسبية ظرفية؛ لأنها مجموع معارفي وعلومي التي حصَّلتها في عصري. وللتبسيط غير المخل مثلًا لو أخذنا لوحة «الموناليزا» لزمن الأنبياء وطلبنا تقييمها، سيتم تقييمها على الأكثر بثلاثة دراهم، درهم للخشب ودرهم للبويا ودرهم لقطعة القماش، فقيمتها تتشكل حسب مخزونه المعرفي وخبرته وعلومه. وعصا توت عنخ آمون عند البدوي البدائي عصا كأي عصا، العلم هنا يتدخل ليمنحها قيمة لم تظهر إلا بعد كشف حجر رشيد وفك رموز الهيروغليفية، فيقول لنا: «إن هذه العصا لا تقدر بثمن فقيمتها فوق التقييم»؛ لذلك يضعها في المتاحف ليراها كل الناس كحق قيمي مشاع، ويحيطونها بكل ألوان أجهزة الإنذار حرصًا عليها وحماية لها. كذلك لو قارنَّا زمن نبي الإسلام بزماننا، فمن الجيد والجميل أن تقرأ حديث النبي عن عزل المرضى بالطاعون في رؤية ثاقبة ممتازة لزمنها، لكن زماننا قضى بالعلم البشري على الطاعون نهائيًّا بعد أن كانت مواجهته تتم بأدعية لا تستجاب.

والخبرة تزيد القيمة أو تنقص منها؛ وهكذا فإن الله لم يخلق القيم وإلا كانت ثابتة ثبات القرآن، أو لكان خلقها للكلاب والحمير وأرسل لها الأنبياء ليدلوها على قيمها وهو ما يعني أنه بدون حضارة إنسانية لا توجد قيم؛ لأن حكم القيمة سيصدر على منتج حضاري مادي أو فكري أو سلوكي، بينما آدم في الغابة كان يفعل وفق الغرائز ولم يكن بحاجة إلى نظام قيمي.

وإن إصرار فقهائنا المحدثين على شيء لم يرد في نص اسمه «القيم الإلهية، الدينية، الإسلامية بالطبع»؛ فهو ما يعني أن لله قيمًا يراها صالحة لعباده وعلى العباد التشبه بهذه القيم الربانية. هذا رغم أن آلهة جميع الأديان يفترض أنها كانت موجودة قبل وجود الإنسان، وهي بهذا المعنى ليست بحاجة لأي قيم؛ لأن الأرباب حسب العقائد الإيمانية معصومة، وليس لها بالقيم من حاجة، ليست بحاجة إلى معايير تثمِّن بها أفعالها؛ فهي ليست تحت الحساب، ولا هي تحاسب نفسها، والقيم والأخلاق تفترض ضميرًا داخليًّا بالضرورة يحاسب ويقمع ويزجر، وهو أمر لا يجوز افتراضه مع الإله الذي لا ولد له ولا مأكل ولا مشرب ولا مسكن وليس بأي حاجة لأدوات تشبع حاجاته حتى يمكن تقييمها، ليس له حاجة لأنه هو الكمال المطلق، بغير حاجة لأي قيم لأنه لا يراجع نفسه ولا أحد يراجعه، والله لا ينتج إلا الصحيح من السلوك؛ لذلك هو ليس بحاجة إلى القيم التي تفاضل بين السلوك الصحيح والسلوك الخطأ، الله صواب مطلق.

لذلك فإن الإنسان وحده هو مناط التكليف الديني والإنساني أيضًا؛ فهو الذي يمتلك حرية الاختيار ضمن خلقته؛ لذلك يكون مسئولًا عن القيم الأخلاقية أمام المجتمع الإنساني وقانونه وأمام الله أيضًا، أما الله نفسه فهو على العكس تمامًا من ذلك، إنه لا يُسأل وهم يسألون، ومن لا يسأل لا يكون بحاجة لقيم أخلاقية، وإذا كان الخلق يخضعون لقيم قررها الله عليهم، فمن العسير تصور الخالق خاضعًا لما خلقه من قيم؛ فهو لا يخضع لشروط وليس لفعله حدود؛ لذلك تكون محاولة توصيف فعال الرب وفق معايير قيمية أمرًا غير جائز لأنه يكون مُساءلة للرب، ومساواة لفعال الرب بفعال خليقته؛ لذلك فإن خلط الدين بمفاهيم هي من ابتداع الإنسان، وقيم هي خلاصة خبرات مجتمعية طويلة، يسيء إلى الدين وربه؛ لذلك لنترك الدين وربه وننصرف إلى إصلاح واقعنا القيمي بأيدينا، أما الله فهو يخلق ما يشاء وكيف يشاء وحين يشاء ولا معقب على مشيئته، وما يفعله فقهاء زماننا أنهم ينزلون الكامل من عليائه إلى رتبة مخلوقاته، بما يساوي بين الخالق والمخلوق، بتطبيق المعيار القيمي ذاته على كليهما، وهذا كله إنما يعني أن القيم مسألة إنسانية بحتة لا علاقة لها بدين من الأديان. والقيمة كي توجد لا بد أن تفترض الحرية في من يقوم بفعل المعايرة والتقييم لينتقي ما يناسبه من قيم؛ لذلك تختلف قيم الحجازي عن قيم الإنجليزي، أما فاقد الحرية كالملائكة فلا يمكن وصف فعلها بأنه خير أو شر أو ذو قيمة صحيحة أو باطلة؛ فهي لا تملك إلا الطاعة دون اختيار، كذلك النبي، مثله — مع فارق التشبيه — كمثل السلك الموصل للتيار من المصدر المولد إلى المصباح، لا يتدخل إنما يبلغ فقط؛ لذلك هو غير حر في قراراته، وليس بدوره بحاجة إلى التقييم والمعايرة.

ولا يبقى لدينا سوى الإنسان الذي يسعى لتحقيق ما يحتاج ويملك حرية الاختيار، فالقيم كلها صناعة بشرية، صنعها المجتمع الإنساني عندما ارتقى عن حيوانيته البدوية الأولى ليدير مجتمعه بما يفي بحاجاته، وطور من تلك القيم مع كل نقلة تطورية حضارية مادية، ولم ينزل الإنسان من الجنة مزودًا بنظرية فلسفية متكاملة في القيم، إنما اعتمد على المحاولة والتجربة والخطأ والصواب ليختار ما يراه صوابًا ويستبعد ما يراه خطأ، ويبقي على المفيد ويستبعد الضار.

السادة أهل الدين ينسبون إلى الدين ما لم يكن فيه؛ لأن فلسفة القيم نسبية متطورة، وما وصلت إليه اليوم لم يكن معلومًا في معارف الأقدمين، إن النظرية النسبية لم تكن معلومة قبل آينشتاين، ومشايخنا كمن يقول لنا: إن الخليفة أبا بكر قد عرف النسبية، ومثلها بالضبط: أن الصحابة قد عرفوا القيم. أهل الدين في بلادنا كل غرضهم تسفيه عالمنا المعاصر خاصة في البلاد المدنية المتقدمة، كي لا يبقى صحيحًا سوى ما نعتقد، لأننا خير أمة أخرجت للناس وبقية العالم بهائم، وكي نكون على صواب، لا بد أن تكون الدنيا كلها على خطأ، حتى لو كان الواقع على أرضنا يقول بعكس رؤيتنا بالكلية.

ولعل ما يرد على نظرية الخلق الرباني لقيم دينية كاملة منزلة من السماء، هو ذلك التطور الذي لحق بالقيم على يد الأنبياء ذاتهم، وهم أنبياء الإله ذاته، ومع ذلك جاء المسيح فنسخ شريعة موسى بنظام جديد، وجاء محمد ، فجب إسلامه كل ما سبق جبًا، والموقف المنطقي السهل البسيط هنا لا بد أن يقف عند أحد احتمالين لا يجتمعان، فإما أن نقول ونقر بأن النبي الثاني جاء بقيم من أفكاره هو وغير ربانية بدليل مخالفتها للنبي الأول، بينما الله واحد! فيكون النبي الثاني قد خان ربه! وإما أن نقول ونقر بالتطور على كل المستويات، وهو ما يستدعي الاعتراف بعدم وجود قيم دينية ثابتة لا تتغير حسب المفهوم من الدين، وهو ما يرفع الإصر عن الأنبياء.

وإن إحالة القيم إلى الدين وربه يجعلها جبرية، والجبري لا يعطي الماديات قيمتها الحقيقية، كالتسعير الجبري للسلع في الأزمات، بينما السوق الحر هو ما يعطي السلعة قيمتها الحقيقية حسب العرض والطلب؛ لذلك فإن التقييم الذي تجبرني عليه السلطة أو الدين أو الإعلام الموجه، إنما يشكل وعيًا زائفًا وقيمًا بلا معنى وبدون دلالة واقعية.

ولمزيد من التبسيط نجد الإسلام يجعل المسلم لا يعطي للذهب كوسيلة زينة أي قيمة، بل هو قيمة سلبية محرمة على الرجل المسلم، ومثله الحرير، بينما يترك للمرأة منح ذهب الزينة قيمتها، والموضوع واحد، والمصدر واحد، هنا لا يقوم الخلاف حول قيمة الذهب لارتباط القيمة بالحلال والحرام، والفارق بين الرجل والمرأة، فإذا تحدثنا عن القيم إسلاميًّا لن نجد اتفاقًا، فللذهب هنا قيمتان قيمة سلبية بالنسبة إلى الرجال، وقيمة إيجابية بالنسبة إلى النساء.

وللتمييز بين مفهوم الحرام والحلال وبين الصواب والخطأ، نجد أن من يعرف الحلال ويفرزه ويجنبه عن الحرام هو الدين، وكلاهما — الحلال والحرام — تم تبليغه للمسلمين من رب العزة، والمحاسبة عليه قد تكون في الدنيا وقد تكون آجلة بعد البعث والحساب، ويمكن العفو عن كل العقوبات بالتوبة والمغفرة وإسقاط الآثام عدا الشرك بالله، وهو شأن كله رباني لا دور فيه للبشر بالتعديل أو الإلغاء، أما مفهوم الصواب والخطأ فهو أمر دنيوي بحت يتعلق بأعمال الإنسان من فنون وإدارة وطب وهندسة، وهي مجالات لا مكان فيها لمفهوم الحلال والحرام؛ فهي لا تعرف سوى الصواب والخطأ والعلم هو من يضع لها معايير الصواب والخطأ، فحفظ المواد الغذائية في درجة حرارة معينة يكون صوابًا، وفي درجة حرارة أخرى يكون خطأ، وإن إديسون أصاب باختراعاته لكن ذلك لن يؤدي بالتأكيد إلى دخوله الجنة، والذي يخطئ في امتحان الرياضيات ويرسب لن يدخل جهنم، والموظف الذي يخطئ يعاقب طبقا للقواعد التي أعدها البشر حسب الخطأ والصواب وليس حسب الحلال والحرام.

قد تصل العقوبة إلى فصل الموظف أو حبسه، لكنها أبدًا لا تصل إلى الجلد أو الرجم أو الخلود في العذاب مهانًا، والذي يحصل على جائزة نوبل ليس بالضرورة أن يكون مكانه الأخروي هو الفردوس الأعلى، والفشل في إطلاق صاروخ لن يدخل صاحبه جهنم؛ لذلك فالقيم هي إبداع إنساني خالص لا علاقة له بدين من الأديان.

سألجأ هنا إلى تعريف القيمة كما أوردتها أستاذة علم الاجتماع الدكتورة فوزية دياب في كتابها القيم «القيم والعادات الاجتماعية»، وهي دكتورة دروشة فيما ينطق به كتابها؛ لذلك تعطينا تعريفًا واضحًا، غير ملتبس، فتقول (ص٢٩): «القيمة هي الاعتقاد أن شيئًا ما ذا قيمة وقدرة على إشباع رغبة إنسانية، والقيمة هي صفة الشيء التي تجعله ذا أهمية للفرد أو الجماعة، وهي حقيقة سيكولوجية ليست قابلة للقياس، ولا بد من تمييز القيمة تمييزًا دقيقًا عن المنفعة لأن حقيقتها تكمن في العقل البشري لا في الشيء، فالشيء ذو المنفعة الزائفة تكون له القيمة نفسها كما لو كان حقيقيًّا إلى أن يتكشف هذا الخداع.»

ولو طبقنا هذا التعريف على كلام فقهائنا سنجده يتحدث عن قيم زائفة خداعية تبدو لنا حقائق، فيكون لبول البعير قيمة مقدسة رغم قذارته وضرره الأكيد، ويكون إرهاب الآمنين وترويعهم عملًا شريفًا بل وقمة من قمم نبال الفعال بالاستشهاد لأن هذا ما يتطلبه الخير الإلهي؛ ومن ثَم تظهر القيم التي ينسبونها إلى الدين مشوشة على العقل البشري، لسبب بسيط هو أن قواعد الدين غير قابلة للنقاش أخذا وعطاء ونفيًا وإثباتًا بالعقل البشري؛ لذلك تؤدي بصاحبها إن حاول إلباسها غير ما فيها إلى أحكام خاطئة تقوم على مسلَّمات خاطئة، فتؤدي إلى نتائج كارثية لا علاقة لها بأي قيم. وللتوضيح بالمثال، فإن طقس الذبح في الحج هو قربان للإله، بينما هو في نظر القيم الإنسانية إهدار بلا ثمن لثروة حيوانية هائلة، وعملية وحشية بلا معنى تجز ملايين الخراف دون أي عائد سوى تركها لتتعفن، وظل أمرها طويلًا محل أخذ ورد حتى أمكن التصريح بتعليبها وتصنيعها. ناهيك عن رجم إبليس الحجري وتقبيل حجر نيزكي وتقديسه والطواف حول بناء حجري، كلها طقوس دينية يقبلها المؤمن ويسلم ويطيع، لا مجال فيها لمناقشة أو حوار، لذلك يجب ترك الدين دينًا، وعدم خلطه لا بعلم ولا بفلسفة؛ فهو غير قابل للمناقشة وخلطه بغيره يصيب العقل بالاضطراب، ويصيب الواقع بالكوارث، ويصيب الدين بما لا نحب ولا نشتهى.

أضف إلى ذلك لا بد أن يتبادر إلى الذهن السؤال حول قيم مثل سبي الجواري ونكاحهن في أرض المعركة كما حدث في غزوات النبي وبخاصة في خيبر، حيث فشا إتيان الحبالى بجوار الأب أو الزوج المذبوح، حتى نهى النبي عن وطء الحبالى، وحتى نهر بلال بن رباح وهو ينكح إحداهن إلى جوار أهلها القتلى، في عمليات هتك عرض جماعي علني للسبايا، وتحويل الأسرى في حروب الفتوحات من أحرار إلى عبيد يباعون في الأسواق، وكذلك مسألة ملك اليمين والجواري، وكذلك مصادرة ممتلكات الشعوب في نظام الفيء الإسلامي، كلها دين نسمع له ونطيع، لا نلتمس له تبريرًا، ولا تجميلًا؛ فهو ديننا الذي نؤمن به كما هو دون شعور بخجل أو عار، ونحبه دون حاجة لمبررات؛ لأن قيم زمانه لا علاقة لها بما نفهمه اليوم عن القيم.

لذلك تؤكد الدكتورة دياب: «إن القيمة مسألة إنسانية وشخصية وليست شيئًا مجردًا مستقلًا بذاته عن السلوك الشخصي، بل هي متغلغلة فيه لأنها تنبع من نفسه ومن رغباته لا من الشيء الخارجي؛ فالأشياء من وجهة النظر الطبيعية التجريبية حيادية؛ أي ليست في ذاتها قبيحة أو جميلة إنما هذه أحكام نصدرها عليها، هي القيم المنبثقة عن اهتمامنا» (الصفحة نفسها).

إذن فالقيم كما يتحدث عنها الفلاسفة والمفكرون وعلماء النفس والاجتماع هي شيء لا علاقة له بدين من الأديان من قريب أو بعيد وليس أدل على ما أقول هنا، أن السلف الصالح والدين نفسه لم يبحثا موضوعها كما يفعل فقهاء زماننا اليوم.

وإذا كنا كمسلمين نعتقد أن ديننا قد ولد كاملًا غير منقوص ولا يعاني قصورًا لأنه يمثل قدرة صاحبه الكامل، فإن ما يفعله فقهاء المسلمين المعاصرين من محاولات ربطه بكل كشف وكل حدث وكل علم وبكل فلسفة، يعني أنهم يشعرون مع كل جديد بنقص في دينهم لم يتوافر فيه هذا الجديد، فيقومون بمحاولة استكمال هذا النقص بالإضافة إليه والزيادة فيه، وهذا هو تعريف البدعة المكروهة في الإسلام. فالدين لا حاجة به لبشر يستكملونه لأنه قد ولد كاملًا، إما أن نؤمن به بكليته دينًا وإما لا نؤمن، لكن لا ندلس ولا نكذب كما يفعلون وهم المتحدثون باسمه، كذلك الدين ليس من صنع جيل من البشر، حتى يحق للأجيال التالية التعديل فيه بالإضافات المتكاثرة مع كل محدث.

هذا، ناهيك عن كون الدين الإسلامي لم ينتقد القيم الإنسانية الوضعية «الإكسيولوجية» بأي من أصوله قرآنًا أم سنة ولم يندد بها، رغم وجود هذه القيم قبل ظهور الإسلام بقرون متطاولة عند فلاسفة اليونان، وقد سكت عنها الإسلام وعن ذكرها وعن انتقادها إيجابًا أو سلبًا؛ لأن الله كان عالمًا بطبيعة مجتمع الرسالة الخاتمة، وعجزه عن استيعاب موضوع القيم، وترك لأجيال المسلمين اللاحقة حين تكتمل نضجًا ورُقيًّا لتدرك القيم وتسعى إليها، وهو ما فعلته في التاريخ الإسلامي عن جدارة، الدولة العباسية حتى زمن الرشيد والمأمون. ولا تعلم لماذا كل هذا الجهد من دكاترة الأزهر والأوقاف في تدبيج كتب الكراهية ومهاجمة ما لم يهاجمه الله ورسوله، ويعيبون ما كان سببًا في نهضة عباسية؛ وهي نقطة الضوء الوحيدة في تاريخنا المخيف.

وليس الإسلام وحده هو ما ننكر صلته بأي قيم بمعناها الدقيق، بل ننكرها على كل الأديان، فبينما القيم لازمة وضرورية لحياتنا العملية الدنيوية، فإن تعاليم الأديان تهمِّش الدنيا وتحقِّرها كمادة فانية، وما وجدت الدنيا إلا لتكون معبرًا نُبتَلى فيه ونمتحن، فإن الدنيا ليست سوى مصيدة تصطاد منها جهنم فرائسها، وعلى المؤمن التقي أن يستثمر وجوده في هذه الدنيا ليستزيد من العبادة وأداء الطقوس والفروض والشعائر والبكاء والزهد والتهجد والانقطاع بحيث لا يقيم لها وزنًا؛ لأنها في النهاية دنيا فانية زائلة لا أمل يرجى منها، وما المؤمن إلا عابر سبيل فيها نحو الأبدية.

هذا بينما فلسفة القيم تقوم أساسًا على حب الحياة الدنيا واحترامها والعمل على صلاح هذه الحياة وصيانتها؛ لأنها محل ممكنات فعلنا وقدراتنا؛ فالحياة الأخرى الأبدية لا دخل لنا فيها ولا ممكنات لدينا لتغييرها، فلسفة القيم تتوج الاجتماع البشري بإرساء مفاهيم كالحريات بألوانها والكرامة والمساواة والمحبة بين الناس، ورفع الظلم وإحقاق الحق وعشق الجمال وصنعه وإبداعه فنونًا ترقى بالحس والروح، ووضع القوانين اللازمة لحماية هذه القيم من التعدي عليها أو كسرها بما يتماشى ومصلحة المجتمع لا مصلحة الدين ولا مصلحة أي إله كان.

والحقيقة الواضحة أن الدين لا يعطي قيمًا لأنه لو أعطاها فستكون صارمة ثابتة، ولأن الله يعلم كما يعلم البشر أن للقيم درجات غير ثابتة ونسبية؛ لذلك لم يعطنا الله قيمًا دينية لأن الدين مجموعة أوامر وإملاءات. والدين نفسه يوظِّف حكاية إبليس توظيفًا يؤدي إلى نتيجة مفادها: «أن الأوامر والإملاءات هي السبب الأول في ظهور الشر»، فحسب القصة الإسلامية نجد أنه قبل خلق آدم كانت الملائكة، وهي مصمَّمة للتعبد والطاعة فقط؛ لذلك فعلها كله كان خيرًا، ولم يعرف الكون الشر حتى ظهر آدم، وكان أول شر هو ما ارتكبه إبليس، ومصدره (أمر وإملاء) من الخالق ليسجد إبليس لآدم، وهو ما انتقص من تصميم إبليس وتركيبه الخلقي، فداخل هذا التصميم مبدأ ثابت وهو ألا يسجد لغير الله، فأطاع تكوينه وخلقته التي هي بمعنى من المعاني مساحة حريته؛ ومن ثَم كان الأمر انتقاصًا من هذه الحرية وأمره الله بالسجود لمخلوقه بعكس الكتالوغ الموجود الذي يعتقد أنه هو كل الحرية؛ فالعبودية لله هي الحرية ذاتها لأنه لن يسجد لسواه، فكان أن رفض السجود، وكان الشر الأول في تاريخ العالم. كان رفض إبليس السجود لغير الله هو أول الشرور؛ لأنه مارس حريته المتفقة مع خلقته في عدم السجود لغير الله، واختار ضد الأمر والفرض والإملاء، وعليه، عندما صدر الأمر الأول، جاء الشر الأول! إبليس وتمسكًا منه بتوحيد الله وتنزيهه رفض السجود لغيره، خاصة وأن هذا الغير أدنى من الله مرتبة وأدنى من إبليس نفسه درجات، فعصى إبليس ربه فظهر الشر.

قصة أخرى تتضمنها الحكاية ذاتها، فمع أول أمر لآدم بعدم الأكل من ثمرة بعينها صاحبة ظهور الشر بالتمرد على الأمر؛ لأن كلا الأمرين: أحدهما أنقص من حرية إبليس ليكون حرًّا مختارًا حتى يمكن تفعيل عقيدة الحساب يوم الدين بمسئوليته عن فعاله التي اختارها بخلقته الحرة. فحدثت أول الشرور لأن الأصل في الخلق البشري هو الحرية المطلقة غير المقيدة بقيم ثوابت رواسخ لا تقبل تبديلًا على العكس تمامًا من حال إبليس. أي أنه على أي حال بين النقيضين فإن الأصل في الخلق هو الحرية، حرية إبليس في ألا يسجد إلا لله، وحرية آدم في الاختيار دون حد هذه الحرية، في درس رباني بليغ يشرح كيف جاء الشر بعصيان الرب من أعرف الخلق به وأقربهم إليه، من إبليس طاوس الملائكة، ومن آدم الذي خلق الله الدنيا كلها من أجله. فإن قالوا إن قيمة الخير غير قابلة للتعريف، نقول: إن الخير هو بشديد البساطة = الحرية.

والدرس المستفاد هنا من ترتيب ربِّ العزة للأحداث التي ما كانت تحدث إلا بإرادة منه وتصميم مسبق، أن الأصل في الخلق هو الخير والخير هو الحرية التامة، وأن الأصل في الشر هو الانتقاص من هذه الحرية بأوامر ونواهٍ تحد أو تحظر أو تمنع، الله يريد أن يبلغ أصحاب العقول منَّا أنه كلما زادت القيود والفتاوى والخطوط الحمراء، قلت الحرية، واستفحل الشر.

(١٠) لا حريات إذن لا قيم

يذهب الشيخ قرضاوي إلى آيات القرآن الكريم يستخرج لنا القيم الدينية الإلهية، كما في الآيات الكريمة القائلة: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (المؤمنون: ١–١١).

ويعقِّب فضيلة الدكتور بقوله: «في هذه اللوحة نجد الخشوع في الصلاة والفعل للزكاة هي معدودة في إطار الشعائر والعبادات جنبًا إلى جنب مع الإعراض عن اللغو وحفظ الفروج عن الحرام» (ص٩٢-٩٣، كتاب ملامح المجتمع المسلم).

بل يرى الشيخ أن هذه الأخلاق الإلهية ليست قاصرة على المسلمين فقط فهي صالحة للدنيا كلها، فيقول: «المرجعية الإسلامية من سماتها أنها عقلانية ودنيوية، عقلانية مؤمنة، ودنيوية مربوطة بالأخروية، هي أخلاقية إنسانية عالمية وسطية؛ لأنها ترجع إلى الوحي الإلهي، وما يبينه من سنة الرسول؛ لأن الإنسان هو الذي يطبق هذه الشريعة وهو الذي يفسرها ويفهمها، وهي أخلاقية لأنها تعتمد على الأخلاق أساسًا، إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وهي عالمية لأنها لم تجئ لجنس دون جنس ولا لإقليم دون إقليم، وهي وسطية دائمًا، تجدها مثالية وواقعية ربانية وإنسانية، ومادية وروحية، أرضية وسماوية، حاضرية ومستقبلية» (حلقة الدستور ومرجعية الشريعة، برنامج الشريعة والحياة، الجزيرة).

وهكذا فالمسلمون هم من تصفهم الآيات بقولها: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (الشورى: ٣٧–٤٠) (كتابه ملامح المجتمع المسلم، ص٩٤).

إذن لا شك أن أولى الناس بمعرفة القيم كما عند قرضاوي، هم السلف الصالح من الصحابة الأطهار، ورغم ذلك لا نجد بين ما تزدحم به أرفف مكتبتنا التراثية، عنوانًا واحدًا باسم القيم، ولا مبحثًا ولا حدثًا ولا حكاية حكاها السلف الصالح عن القيم.

إن مشايخ زماننا يحكون لنا حكايات وحواديت في موطن الجد، وكان المفترض ألا يحكي لنا المشايخ كلامًا نظريًّا توهميًّا عن القيم، إنما أن يستخرج لنا أحداث تاريخنا، خاصة أن المفاهيم قد تغيرت دلالاتها منذ ذلك الزمان وزماننا اليوم، فما عاد معنى الوفاء بالعهد ولا المساواة ولا الحق يحمل الدلالات القديمة ذاتها. ومشايخنا يسقطون الدلالات المعاصرة على مفاهيم قديمة تتعلق بزمنها ومكانها وحدهما. أو ليقول لنا مشايخنا إذن ماذا فعل الصحابة، وكيف قيموا الأشياء المادية وكيف قيموا المعاني الدافعة للسلوك، بدلا من أخذهم كلام ديكارت وروسو وفولتير، عند المشايخ ٧٠٠ ألف حديث المفروض أن كلها قيم لو كانوا صادقين، فأين هي هذه القيم؟

تعالوا نفترض مع مشايخنا أنه ضمن القيم الإلهية الإسلامية تقع قمة المساواة والحرية، وقررنا اختبار هذا القول بالرجوع إلى التراث الإسلامي ذاته، هناك لن تجد ما تعنيه دلالة مصطلح المساواة اليوم، فقد أعطى الإسلام للمهاجرين ميزة على الأنصار، وأعطى كليهما ميزة على بقية العرب، وأعطى للعرب المسلمين ميزة على مسلمي البلاد المفتوحة «الموالي»، وأعطى للرجل ميزة على المرأة، وأعطى للسادة ميزة على العبيد، وأعطى جميع المسلمين ميزة على أهل الذمة، وأعطى أهل بدر ميزة على بقية المسلمين فغفر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، وكل رتبة من هذه الرتب تترتب عليها حقوق وواجبات غير بقية الرتب، وهو بدلالات مفهوم المساواة اليوم، سيكون انعدام المساواة نفسها، ولا تجد عند عرب الجزيرة قبل الفتوحات شيئًا اسمه العلم غير علم واحد هو علم الأنساب، وهو علم عدم المساواة، حتى إن النبي نفسه ولأنه كان يخاطب ناس زمانه على قدر عقولهم، كان ينصح شاعره حسان بن ثابت قبل أن يقدم على هجاء الناس، أن يلجأ إلى أبي بكر الصديق لأنه عالم بأنساب الناس، ليعلم أين يخوض ويتحرى وأين يحاذر، ولا تجد أي صدى لحديث: لا فضل لعربي على أعجمي؛ لأن الفقه الذي يدرسه أبناؤنا بمصر والسعودية يؤكد على وجوب فسخ زواج الحرة المسلمة بالعبد المسلم، وزواج العفيفة بالفاجر، والعربية بالأعجمي؛ لأن ذلك عار يلحق المسلمين جميعًا (روض المربع بشرح زاد المستنقع، ص٣٨٤).

لهذا فإن تفضيل الإسلام بجعله سابقًا لكشف القيم يسيء إليه، والأكرم أن نقول إن تلك كانت طرائق زمنه وطرائق العيش فيه ونظمه المجتمعية القبلية، وإنها لا تشينه، فلا هي جميلة ولا هي قبيحة بقدر ما تعبر عن واقع مجتمعها حينذاك وأنها كانت تناسب هذا المجتمع تحديدًا، وإن صلحت له فهي مما لا يصلح بالمرة لزماننا. ومثل المساواة أيضًا مفهوم الحرية الذي لا يوجد في ديننا بالمرة وبالمطلق، ولا في مجال لأي حديث عن الحرية مع تشريعات تشرِّع الرق ونكاح ملك اليمين. ولو قلنا إن تلك التراتبية الطبقية الموغلة في طبقتيها هي المعيار القيمي الإلهي؛ فهو ما يعني أنها كانت أدنى بدرجات من المعيار الإنساني الذي اكتشفته دول حضارات المتوسط، وبخاصة اليونان والروم الذين سبقوا إلى تأسيس القيم الإكسيولوجية في التاريخ، ثم أدنى من قيم زماننا بمراحل أبعد؛ ومن ثَم لا يبقى بيدنا سوى نسبة مثل هذه المفاهيم لزمانها بدلالات زمانها، ودون إقحامها في زماننا حتى لا نهين الدين ونضل السبيل نحو الرشاد.

وإذا كانت القيم دينية إلهية، فهل كانت قابلة للنسخ كأوامر بآيات ناسخة؟ يعني هل تم نسخ قيم التسامح في الزمن المكِّي، بقيم القتال في الزمن المدني، بعد أن نسخت آيات السيف كل آيات حرية الاعتقاد والتسامح حسبما تقول لنا علوم القرآن؟

إذن صيانة للدين من عبث مشايخ آخر الزمان، علينا أن نقدم اعترافًا هادئًا متواضعًا، أن ديننا ليس هو كمال الأزمنة والأمكنة التي ذهبت والتي لم تأتِ بعد، إنما كان دينًا عاقلًا رصينًا متوافقًا مع ظرفه التاريخي، يخاطب ناس زمنه على قدر عقولهم وعاداتهم وتقاليدهم ونظمهم ومعارفهم، وأن نسلم بأن الإنسان هو الوحيد المخير بين المخلوقات؛ لذلك هو الوحيد المؤهل لصيانة القيم؛ لأنها معياره للاختيار والمفاضلة ووسيلته وأداته، أن يختار القراءة في المصحف أو أن يختار مشاهدة هيفاء وهبي تتغنج، وقيم الإنسان هي التي توجهه لاختيار أحدهما: زيارة الحسين أو زيارة الملاهي الليلية، والحرية هي الأساس الوحيد لقيام إرادة الاختيار ما بين الماء والخمر، من هنا وحتى نقول بوجود قيم حقيقية لا أوامر مفروضة، يجب أن يكون الخمر والماء في السوق، عندها يمكن القول إننا أصحاب قيم عندما نختار، وحيث لا توجد سوى سلعة واحدة، ولا توجد حرية اختيار، لا يصح الحديث عن قيم؛ لأن المجتمع حينها يصبح كالحشرات وهي كائنات اجتماعية تسلك بموجب جبر طبيعي لذلك ليس لديها شيء اسمه القيم، رغم أن النحل ينتج عسلًا والعقرب ينتج سمًّا، فإن الإنسان هو الوحيد القادر على الفرز بينهما، لذلك نجد الإنسان المجبر على أداء سلوك بعينه هو مجرد حشرة أو هو ليس أكثر من حصان بلجام. والحصان لا يملك قيمًا، ومع اللجام لا يملك تصرفه ولا قراره. القيمة تكون عند الممسك باللجام، الذي يوجِّه الحصان. ألا ترون جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تسوق الناس إلى الصلاة بالعصا؟ يسوقونهم إلى المسجد كمن يسوق الخراف إلى الزريبة، بينما الملائكة مسيَّرة للتعبد وحده وغير مخيَّرة في فعلها ونحن لسنا بملائكة، وعندما تكون القيم مفروضة لا نكون قد أصبحنا ملائكة، ولا نكون بقينا بشرًا، إنما أصبحنا حيوانات للراعي، وأدنى بالنسبة له من العبد بالنسبة للسيد، فلماذا لا يستشعر السيادة ويقرعنا بالعصا؟

عند تمييز الإنسان عن الحيوان وضع الفلاسفة تعريفات للإنسان، فقيل في المبتدأ إن الإنسان حيوان ناطق، حتى اكتشف الإنسان أن لبعض الحيوانات لغات خاصة للتفاهم فيما بينها، فقيل إن الإنسان حيوان عاقل أي يستخدم عقله في الفهم والمعرفة، حتى تأكد أن العقل قسمة بين الحيوانات؛ ومن ثَم جاءت الفلسفة الماركسية لتعرف الإنسان بأنه حيوان صانع؛ لأنه الوحيد بين الحيوانات الذي يستطيع أن يصنع شيئًا لم يكن موجودًا من قبل، حتى قيل اليوم إن الإنسان حيوان قيمي؛ فهو والحيوان يشتركان في كل التفاصيل الفسيولوجية، لكن الإنسان من بين كل المخلوقات هو الذي يتميز بأنه يصنع لنفسه ولمجتمعه قيمًا، ويصنع لهذه القيم قوانين تحميها فيتنازل بإرادته عن إشباع بعض رغباته مقابل العيش في الجماعة آمنًا.

فالحرية لا مناص عنها عندما نتحدث عن القيم؛ لأن الحرية هي ما يتيح لي القدرة على التقييم والمعايرة والمفاضلة والاختيار، وحيث لا توجد حريات، لا توجد قيم.

والقيم الأخلاقية بالتحديد وبالتخصيص هي سلوك غيري، يضع الغير نصب عينيه عند أي سلوك، وعادة ما تكون في صالح الغير ولا تنفع فاعلها وعادة ما تضره، ورغم ذلك يفعلها الإنسان لذاتها دون أن يتوقع منها نفعًا شخصيًّا. فعندما يكون التاجر أمينًا وصادقًا فهو يخسر أرباحًا أكثر لو التوى وكذب، والتزام الزوج بالوفاء للزوجة يحرمه من متع متنوعة، وعندما يحسن الإنسان بماله وجهده للفقراء؛ فهو يخسر أمواله، والامتناع عن السرقة هو حرمان من المال المفترض أن يُسرق، بينما الزوجة التي لا تخون زوجها خوف القتل أو الطلاق أو الجحيم هي لا تملك أية قيم، هي خائفة ليس أكثر، واللص الذي لا يستطيع أن يسرق في السعودية لم يصبح شريفًا وليس صاحب قيمة أخلاقية، بقدر ما هو خائف من قطع يده. والذي يحسن للناس علانية ليس لديه قيمة أخلاقية لأنه مجرد منافق، والأم التي ترعى ولدها كي يطيعها ويرعاها في كبرها هي مجرد مرابية تداين ولدها بدَين تريد استرداده.

هذا بينما الفعل المندرج تحت معنى القيم غالبًا ما يرتد على صاحبه، وهو ما وعاه المثل العامي المصري: «خيرًا تعمل، شرًّا تلقى»، لكنه هو نفسه ورغم علمه بذلك الذي قال: «إعمل الخير وارمه البحر»؛ لأن الالتزام بقيم الأخلاق يعود على المجتمع كله بالأمن والسلام والسعادة (النماذج المضروبة في الفقرة السابقة لكاتب مجهول على النت).

وإذا كان فقهاء زماننا يطلبون لنا عادات وتقاليد زمن الإسلام الأول، فإن ذلك يستلزم أولًا وجود الحكومة الإسلامية الأولى أو شبيهها، وثانيها وجود مجتمع القرن السابع الميلادي بنظمه وعاداته وتقاليده وبدائيته، وكله غير موجود اليوم، ومن ثَم فإن أحكامه وعاداته وتقاليده لم تعد موجودة، ولا شك أن قيم مجتمع يركب الدواب لا بد أن تختلف عن مجتمع يركب سيارة كاديلاك أو غيرها من أحدث الطرز، وقائد الطائرة الذي يتعامل مع الطائرة معاملة البقرة المقرونة (المربوطة من قرونها) بدعائه في الميكروفون عند الإقلاع: «الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون»؛ أي ما كنا بقادرين على تلجيمها وإمساكها من قرونها دون تسخيرها لنا من قبل ربنا، (إن المشكلة النفسية أنك تتابع بهلع أخطر لحظة للطيران، ويقول لنا الطيار: إنا لمنقلبون!) مع إن المصري في مثله الشعبي يقول: (الملافظ سعد)، طيارنا عندما يقول هذا يكون كالعربجي يقود طائرة، وعليه فإن طيارينا لا يطيرون بنا بثقافة الطائرة (الحضارة والعلم)، إنما بثقافة العربجي؛ لذلك أنا شخصيًّا لا أحجز للسفر على أي شركة طيران عربية، ويا روح ما بعدك روح!

وعادة ما يربكك مشايخنا في القول بالنقيضين في آن واحد، فهم يحدثوننا عن العفة الجنسية والطهارة الجسدية، ومع ذلك يقرون حتى اليوم بملك اليمين، ولا يحيلونها إلى زمانها توقيرًا لهذا الدين، ولا تفهم معنى العفة الجنسية وعفة الفروج، مع مبدأ استباحة الفروج في حال القتال، أو في حال الشراء أو في إعطائها الأجر، وقد تم استباحة مسلمين صحابة أجلَّاء لفروج صحابيات وبنات صحابة في أكثر من موقعة مخزية في أكثر من فتنة داخل الحرمين، تمترس كل أطرافها المتصارعين وراء الدين والقرآن والحديث. واعتبر غيره مرتدًّا، وبعدها أصبح هذا رافضيًّا وذاك من النواصب وهذا باطنيًّا وذاك خارجيًّا. هذا ناهيك عن استباحة فروج غير المسلمات في حروب الفتوحات واللائي كن بمئات الألوف.

وإذا كان فقهاء زماننا يصرون على الإبقاء على فقه كامل هائل للرقيق بدرسه أولادنا وبناتنا في مدارسنا الدينية حتى اليوم، والإبقاء على فقه الجهاد الذي يشمل السبايا والرقيق كغنائم طيبة حلال، ويريدون اليوم تطبيق هذه الشريعة، فلماذا لا يصارحون المسلمين بما يخفى عنهم في شئون دينهم بشفافية ووضوح، ويطالبون لهم بحقوقهم الشرعية في ملك اليمين، ووجوب إعادة فتح أسواق الرقيق مرة أخرى، حتى يمكن تفعيل الشريعة؟

ثم إن قيمة عدم الزنا لا شك قيمة محترمة، وحفظ الفرج قيمة محترمة بالتأكيد، لكن الخلاف هنا سيكون حول تعريف معنى الزنا. فالإسلام يعطي المسلم الحق في الزواج بأربع ويمكنه تطليقهن والزواج بغيرهن ما دام قادرًا على الإنفاق، وهو ما فعله الصحابة، فتزوج الراشدون حتى تسع نسوة، وجمعوا ملك اليمين دون تحديد، وكان الحسن بن علي منكاحًا لم يلمه أحد على زيجاته التي بلغت حوالي المئتي زيجة، وهو من هو؟! هو الحفيد النبوي العالم بشرع الله والأشبه بجده كما قال عنه النبي ، ومع كل هذه الإباحة لن يرتكب القادر ماليًّا جريمة الزنا، من سيقع في الجريمة هو الفقير الذي لا يملك مهرًا ولا ثمن جارية؛ وهو ما يعني لنا اليوم بعد تغير الأزمان أن نساء المجتمع المسلم سيكُنَّ من نصيب الأغنياء وحدهم القادرين على الزيجات العديدة وشراء الغواني من سوق الرقيق، وهو أيضًا ما يعني حرمان الفقراء من إشباع حاجتهم الطبيعية في ظل المزايدة على النساء، وهو ما يشكل بمعنى من المعاني طبقية من نوع شديد الخصوصية وشديد القسوة على المجتمع كله، الذي لا بد في هذه الحال أن يضع حلولًا لهذه المشكلة حتى لا تنتشر فيه الرذيلة وجرائم الخطف والاغتصاب، عن طريق دعم الحكومة الإسلامية المرتقبة للفقراء، ورحم الله أخي فرج فودة عندما قال بضرورة إضافة بند إلى بنود بطاقة التموين الخضراء (دعم كلي)، فيضاف إلى بنود الزيت والشاي والسكر والسمن، بند بعدد من النسوان كملك يمين، حتى لا يحدث تفكك مجتمعي وحتى لا تنتشر الرذيلة تحت ستار تطبيق الشريعة.

نعم لا شك أن الآيات الكريمة عندما تصف المؤمنين بأنهم إذا ما غضبوا هم يغفرون، فإنها تضع مبدأً رفيعًا وإنسانيًّا، لكن هل طبق المسلمون ذلك فعلًا؟ أو هل طبق صحابة الرسول هذه القيمة العظيمة حتى يحذو المسلمون حذوهم؟

أبو بكر الصديق خير عارف بالدين، عندما رفضت قبائل العرب الاعتراف ببيعته ومنعوا الزكاة تعبيرًا عن هذا الرفض ووزعوها في مضاربهم على فقراء من ذوي قرباتهم حسب الأمر الإسلامي، أمر أبو بكر بقتالهم وذبحهم وأسرهم وسبي نسائهم، فقتلوا منهم مقتلة عظمى في مذبحة تاريخية كبرى لم يسلم منها الشيوخ ولا العجائز ولا الأطفال وهي حقائق يعلمها مشايخنا وتسجلها كتبنا التراتبية بكل فخر واعتزاز ولا يخلو منها مصدر من مصادرنا حديثًا أو فقهًا أو تفسيرًا أو سيرةً أو تاريخًا.

وماذا حدث عندما سمع أهل مدينة (أُليس) جنوبي الفرات بما حدث لغيرهم على يد الغزو العربي، فقرروا المقاومة صيانة للأموال والأعراض؟ وهو ما أغضب خالد بن الوليد، فأقسم بالله أن يجري نهرهم بدمائهم، وأمر بسد مياه النهر، ثم أمر جيشه بأسر أهل أليس لا قتلهم، حتى يفي بقسمه لله، فجمع منهم سبعين ألف أسير، وأمر بذبحهم في مجرى النهر الجاف، واستمر الذبح ثلاثة أيام يأتون مصدفين بالحبال أرسالًا (أي جماعات) ليُذبحوا في مجرى النهر كي يجري بدمائهم، وحتى يبر خالد بقسمه لربه.

أين يا مولانا يمكن وضع هذه الدراما المرعبة من قيمة العفو عند المقدرة والغفران عند الغضب؟ وماذا عن قمع سعيد بن العاص لثورة مدينة طميسة، وعدد المدنيين الهائل الذي أخمده، ولم يستطع أن ينام حتى تم إسكات كل الأصوات من حوله، سواء أصوات الثكالى بقتلهن أو أصوات الجرحى بتعجيل موتهم (لا يخلو مصدر من مصادر السير والتاريخ الإسلامي من ذكر تفاصيل هذه الوقائع).

هل هذا ما يعرضه علينا مولانا عند الغضب؟ أم كان أبو بكر وخالد وغيرهما من أبطال الفتوحات يفعلون ما هو ضد قيم الإسلام؟ إما هذا وإما ذاك ويجب أن يختار مشايخنا: إما الاعتراف بحقيقة ما حدث وتسميته باسمه حتى نصدقهم ونحترمهم، وإما أن يظلوا على حالهم الهارب طوال الوقت من المناقشة العقلانية، وهو طريق وسكة بدأناها مع الصحوة الإسلامية، اسمها سكة اللي يروح ما يرجعش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤